نفحات الولایه (شرح عصری جامع لنهج البلاغه) المجلد 1

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 1/ ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء؛ اعداد عبدالرحیم الحمدانی.

مشخصات نشر:قم : مدرسه الامام علی ابن ابی طالب (ع) ، 1426ق.-= 1384.

مشخصات ظاهری:10 ج.

شابک:30000 ریال : دوره 964-813-958-X: ؛ ج. 1 964-813-907-5 : ؛ ج. 2 964-813-908-3 : ؛ ج. 3 964-813-917-2 : ؛ ج. 4 964-813-918-0 : ؛ ج.5 : 964-813-941-5 ؛ 70000 ریال: ج. 6 978-964-533-120-5 : ؛ 70000 ریال: ج. 7 978-964-533-121-2 : ؛ 70000 ریال: ج. 8 978-964-533-122-9 : ؛ 70000 ریال: ج. 9 978-964-533-123-6 : ؛ 70000 ریال: ج. 10 978-964-533-124-3 :

یادداشت:عربی.

یادداشت:ج 1- 5 ( چاپ دوم: 1384).

یادداشت:ج. 6- 10 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390).

یادداشت:کتابنامه.

مندرجات:.- ج. 6. من خطبة 151 الی 180.- ج. 7. من خطبة 181 الی 200.- ج. 8. من خطبة 201 الی 241.- ج. 9. من رسالة 1 الی 31.- ج. 10. من رسالة 32 الی 53

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق -- خطبه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- کلمات قصار

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق. -- نامه ها

موضوع:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه -- نقد و تفسیر

شناسه افزوده:حمرانی، عبدالرحیم

شناسه افزوده:علی بن ابی طالب (ع)، امام اول، 23 قبل از هجرت - 40ق . نهج البلاغه. شرح

شناسه افزوده:مدرسة الامام علی بن ابی طالب (ع)

رده بندی کنگره:BP38/02 /م7 1384

رده بندی دیویی:297/9515

شماره کتابشناسی ملی:م 84-40347

ص :1

اشارة

ص :2

نفحات الولایه: شرح عصری جامع لنهج البلاغه المجلد 1

ناصرمکارم شیرازی، بمساعده مجموعه من الفضلاء

اعداد عبدالرحیم الحمدانی

ص :3

ص :4

الدافع الرئیسی لتألیف هذا الکتاب

لم یحظ کتاب بالعنایة والرعایة - بعد القرآن الکریم - کما حظی نهج البلاغة ولم یتیسر لغیره مثل هذه المنزلة السامیة النامیة.

فما أکثر البحوث والدراسات فی تصویره الفنی وفصاحته وبلاغته وصیاغته حتی أضحی موئلاً ومنهلاً وأساساً ونبراساً للدراسات الإسلامیة ومعیناً ثرا للمعارف الإنسانیة. وهل رأینا کالنهج یرغب المؤلفون بشرحه والتعرف علیه والاقتباس منه والاستشهاد به وحفظ ولو بعض حکمه ومواعظه. إنّه کتاب المعانی الروحیة، والعدالة الاجتماعیة، والتربیة الرسالیة، والقیم الخلقیة، والاّدلة والکمال والنقاء، ونابض بکل مفید وسدید ورشید، ورافض لکل ألوان الشرور والفجور والغرور ومهما استجدت من أفکار وآراء ونظریات واکتشافات خلال هذه القرون المتطاولة فلا تزیده إلّاتسدیداً وتأییداً وتخلیداً، ولا یزداد المفکرون والباحثون نحوه إلّاانسجاماً واحتراماً، لأنّه الکتاب الزاهر بالحجج البالغة والزاخرة بالموارد السائغة والجامع بین جلال البلاغة وجمال الصیاغة، وبین إصالة المعانی وجزالة المبانی وبین دقّة التصویر ورقة التعبیر.

لقد عکفت کأغلب الأفراد الشغفین بنهج البلاغة علی مطالعة بعض أجزائه. بحسبما کانت تتطلبه الضرورة والحاجة، حتی لاحت بوادر الخامس عشر من خرداد عام 1963 م فاُلقی القبض علیَّ برفقة طائفة من کبار العلماء والمفکرین فاودعنا السجن. کانت ظروف السجن عصیبة جدّاً فی الأیام الاُولی حیث عمدت جلاوزة النظام الشاهنشاهی البائد إلی حظر أغلب الأشیاء عن الوصول إلینا، غیر أنّ الضغوط التی مارسها الرأی العام دفعت بذلک النظام

ص:5

إلی التخفیف من وطأته والتنازل عن بعض المحظورات الثقافیة؛ الأمر الذی جعلنا نطلب من أصدقائنا وذوینا إتیاننا ببعض الکتب إلی السجن. أمّا أنا فقد ناشدتهم کتاب نهج البلاغة لأستغل تلک الفرصة المناسبة وأتفرغ فیها للتأمل فی هذا الکتاب العظیم، وقد منّ اللّه علیّ ووفّقنی للتدبر والتحقیق فی دراسة القسم الثانی من هذا الکتاب والذی یشمل الرسائل والوصایا السیاسیة والأخلاقیة، آنذاک أیقنت بأنّ نهج البلاغة لأعظم وأکبر ممّا کنّا نفکر فیه ونتصوره عنه. فقد رأیت نفسی حینها أمام بحر زاخر من العلوم والمعارف التی تعالج أهم قضایا الإنسان فی کافة أبعاده المعنویة والمادیة، کما یمد الإنسان بمختلف المواهب المعنویة التی تمکنها من بلوغ شأطئ الامان فی هذه الدنیا المحفوفة بالمکاره.

آنذاک أدرکت عمق خیبة وخسران أولئک الذین ولّوا ظهورهم لهذا الکنز الفیّاض والمنهل العذب وجعلوا یسیلون لعابهم لموائد الأجانب بما یعجزون عن الإتیان بمثل قطرة من بحره المتلاطم!

من عجائب هذا الکتاب الذی اقتفی آثا رالقرآن حتی طبع بصفاته وسماته إنّه وخلافاً للمدارس الفکریة والأخلاقیة والسیاسیة التی یبلیها الزمان فانّه یحمل فی طیاته صفات العصرنة والتجدد وکأنّ خطب أمیر المؤمنین علیه السلام ومواعظه وتوجیهاته تقرع سمع المعاصر وتجعله یعیش أجواء مسجد الکوفة. وما أجدر عشاق الحق والحقیقة والمتعطشین لمعرفة العلوم الربّانیة والمتطلعین لعیش الحیاة الحرة الکریمة أن یقصدوا کل یوم ضریح هذا العالم الفذ السید الشریف الرضی (جامع نهج البلاغة) فیؤدوا له طقوس الاجلال والاکبار ویقرأوا الفاتحة علی روحه الطاهرة بفضل الجهود المضنیة التی بذلها من أجل جمع کلمات أمیرالمؤمنین علیه السلام فزود بها البشریة جمعاء فضلاً عن المجتمعات الإسلامیة.

وماذا بوسعی أن أقول بشأن نهج البلاغة الذی حار فی وصفه البلغاء وعجز عن تصویره الفصحاء وعیت عن الاحاطة بکنهه العلماء، وعلیه لا أری من جدوی فی الاستغراق فی هذا الموضوع، وأخوض فی الغرض والدافع من هذا الکتاب. فقد أقبل العلماء والاُدباء علی هذا الکتاب النفیس - نهج البلاغة - بین حافظ وناسخ وشارح، حیث بلغ عدد شرّاحه فی العصر القدیم والحدیث ما جاوز الخمسین شارحاً الذین بذلوا ما بوسعهم لسبر أغواره واستخراج

ص:6

کنوزه وجواهره حتی قدموا خدمة جلیلة لطلاب المعرفة والحکمة، إلّاأنّ الانصاف هو أنّ هذا الکتاب ما یزال یعیش مظلومیة کبری وغربة عظمی، ولیس هناک من سبیل لازالتها سوی فی تظافر الجهود وتعبئة الأفکار والطاقات من أجل إعادة النظر والاسهاب فی تفاصیل وجزئیات هذا الکتاب الثر، ولا سیما فی عصرنا الراهن الذی تشهد فیه المجتمعات الإنسانیة ذروة المشاکل والمطبات التی تعترض حیاتها الیومیة، إلی جانب ظهور المذاهب والمدارس الفکریة المختلفة والحملات الشعواء التی تمارسها الأجهزة الاستکباریة والدوائر النفعیة الغارقة فی الأهواء والشهوات وحب الدنیا والخلود إلیها ضد العقائد والأخلاق والفضیلة والتقوی بغیة تحقیق أهدافها المشؤومة فی ضمان مصالحها ونهب خیرات البشریة وتجریدها من هویتها الإنسانیة. أجل فالعصر الحاضر یجعل نهج البلاغة یتطلب جهوداً أکثر وأنشطة أوسع وأشمل من شأنها التوصل إلی الطرق والأسالیب التی تذلل الصعاب المادیة والمعنویة والفردیة والاجتماعیة، إلی جانب التصدی إلی النزعات الفکریة الهدامة التی تستهدف الدین والأخلاق. وعلی هذا الأساس وما أن فرغنا من نشاطنا القرآنی فی التفسیر الذی دوناه - التفسیر الأمثل - وکتابنا رسالة القرآن والتی حظیت باقبال المحافل العلمیة والأوساط التحقیقیة حتی آلینا علی أنفسنا أن نواصل نفس هذه الجهود وبمعونة الاخوة الفضلاء من العلماء بخصوص نهج البلاغة علی غرار الجهود والأسالیب التحقیقیة التی إعتمدناها فی التفسیر القرآنی - الأمثل - بل إنّ التجارب السابقة قد جعلت هذا الجهد المتواضع أقرب من غیره إلی الاتقان والاکمال. نعم لقد عزمنا علی مباشرة هذا العمل رغم کثرة المشاکل والعراقیل وسعة حجم المسؤولیات مستلهمین العزم والامداد من البارئ سبحانه وعبده الخالص ربیب النبی صلی الله علیه و آله أمیر المؤمنین ویعسوب الدین وقائد الغر المحجلین علی بن أبی طالب علیه السلام وبعد أن وعدنا الاخوة الذین وقفوا إلی جانبنا فی التفسیر القرآنی بتقدیم کافة أشکال الدعم والعون فی هذا المجال لکی نعد شرحا جدیداً جامعاً لهذا الکتاب من شأنه تلبیة حاجات العصر ووضع الحلول الوافیة الشافیة للمعضلات الفکریة والاجتماعیة، کما استعنا فی بعض المواقیع بما أورده المفسرون والشارحون القدماء والمعاصرون من أجل إغناء کافة جوانب المواضیع، إلی جانب اعتماد الأفکار والاطروحات الحدیثة المعاصرة.

ص:7

لقد باشرنا هذا العمل غرة الثالث عشر من شهر رجب المرجب لعام 1413 ه المیلاد المیمون لأمیر المؤمنین علیه السلام وسار بخطوات بطیئة هادئة حتی استغرق إعداد المجلد الأول - رغم الجهود الجماعیة المشترکة - ما یقارب الثلاث سنوات (ومن الطبیعی أن لا تشوب الأعمال العجلة فی بدایتها) . حتی اتسقت لنا الاُمور فأخذنا نحث السیر وننهض سریعاً بهذا العمل، رغم یقیننا بأننا مازلنا نحوم فی هذا المحیط المتلاطم والبحر العمیق؛ الأمر الذی لایبد ویسیراً قط. والأفضل ألا أخوض فی التفاصیل التی اعتمدت فی هذا الشرح وأترک ذلک للاخوة القراء، ویسرنی هنا أن أناشد کافة الاخوة الفضلاء أن یتحفونا بآرائهم بما یقرب هذا العمل من أهدافه ومقاصده، إلی جانب النظر بعین العفو والصفح إلی الخطأ والزلل.

وأخیراً أسأل اللّه أن یتفضل علینا باتمام هذا الجهد المتواضع بغیة التزود من مائدة نهج البلاغة لنا ولکافة جیاع الفکر والعقیدة، إنّه نعم المولی ونعم المجیب، وما توفیقی إلّاباللّه علیه توکلت وإلیه أنیب، وآخر دعوانا أن الحمد للّه رب العالمین.

قم - الحوزة العلمیة ناصر مکارم الشیرازی 3 ربیع الثانی 1417 ه 20 / تموز / 1996 م

ص:8

السید الرضی جامع نهج البلاغة

اشارة

هو أبو الحسن محمد بن الحسین الموسوی، ولد فی بغداد سنة تسع وخمسن وثلاثمائة للهجرة. أُمّه فاطمة بنت الحسین بن أبی محمد الحسن الاطروش بن علی بن الحسن بن علی بن عمر بن علی بن أبی طالب علیه السلام، وهی إمرأة فاضلة عرفت بالورع والتقوی والبصیرة الثاقبة، فقد قال فیها السید الرضی (ره) : لَوْ کانَ مِثلَک کلُّ اُمٍّ بَرَّةٍ غَنِیَ البَنُونَ بِها عَنِ الآباءِ

کما یتصل نسب جدّه بالإمام موسی بن جعفر الکاظم علیهما السلام وهو أبو أحمد الحسین بن موسی بن محمد بن موسی بن إبراهیم بن الإمام أبی إبراهیم موسی الکاظم علیه السلام. وقد کانت له منزلة عظیمة فی الدولة العباسیة والدولة البویهیة، حتی لقبه أبو نصر بهاء الدین بالطاهر الأوحد.

أقبل السید الرضی علی العلم والفقه والأدب حتی بات أبدع أبناء زمانه، وقد خلف أبیه عام 388 بتولی نقابة الطالبیین فی حیاته، وعهد إلیه بالنظر فی المظالم والحج بالناس. إبتدأ ینظم الشعر وله من العمر عشر سنین أ وتزید قلیلاً، حکم بعض النقاد بأنّه أشعر الطالبیین، وإلی جانب ذلک فقد کان کاتباً بلیغاً مترسلاً، امّا المرحوم العلّامة الامینی فقد صرّح بشأن السید الشریف الرضی قائلا: «وسیدنا الشریف الرضی هو مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة، وإمام العلم والحدیث والإدب، وبطل من أبطال الدین والعلم والمذهب، ومهما تشدق الکاتب فان فی البیان قصوراً عن بلوغ مداه» . (1)

أساتذة السید الرضی

لقد ذکر العلّامة الأمینی إسم أربعة عشر من أساتذة السید الرضی ومنهم:

ص:9


1- 1) الغدیر 4 /181. [1]

1 - أبو سعید الحسن بن عبداللّه بن مرزبان النحوی المعروف بالسیرافی المتوفی عام 368ه فقد درس السید الرضی علیه النحو ولما یبلغ العاشرة من عمره.

2 - النحوی المعروف أبو علی الحسن بن أحمد الفارسی المتوفی عام 377 ه.

3 - هارون بن موسی.

4 - الخطیب المشهور أبو یحیی عبد الرحیم بن محمد المعروف بابن نباتة المتوفی عام 394ه.

5 - القاضی عبد الجبار، العالم الشافعی المعتزلی.

6 - الفقیه والمحدث والمتکلم الشیعی الکبیر الشیخ المفید والذی یعدّ من أعظم أساتذة السید الرضی. وهناک قصة رائعة جدیرة بالسماع بشأن کیفیة تتلمذه وأخیه السید المرتضی علی ید الشیخ المفید. فقد قال مؤلف کتاب «الدرجات الرفیعة» : رأی المفید أبو عبد اللّه محمد بن النعمان الفقیه الإمام فی منامه، کأنّ فاطمة بنت رسول اللّه صلی الله علیه و آله دخلت علیه وهو فی مسجده بالکرخ ومعها والداها الحسن والحسین علیهما السلام صغیرین فسلمتهما إلیه، (وقالت له: علمهما الفقه) . فانتبه متعجباً من ذلک، فلمّا تعالی النهار فی صبیحة تلک اللیلة التی رأی فیها الرؤیا دخلت إلیه المسجد فاطمة بنت الناصر، وحولها جواریها وبین یدیها ابناها محمد الرضی وعلی المرتضی صغیرین، فقام إلیها وسلّم علیها. فقالت له: أیّها الشیخ هذان ولدای، قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه.

فبکی أبو عبد اللّه - الشیخ المفید - وقصّ علیها المنام وتولی تعلیمهما الفقه، وأنعم اللّه علیهما، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما فی آفاق الدنیا؛ وهو باق ما بقی الدهر «وردت هذه القصة فی شرح ابن أبی الحدید، ج 1 / 41» .

تلامذة السید الرضی

روی کبار علماء الفریقین أنّ العلّامة الأمینی ذکر تسعة من تلامذة السید الرضی، ویمکن الإشارة هنا إلی أبرز من روی عنه ومنهم شقیقه السید المرتضی وشیخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی کانت للسید الرضی همة کبیرة جعلته یؤسس مدرسة لطلاب العلوم

ص:10

الدینیة أسماها «دار العلم» ولعلها أول مدرسة یتلقی فیها الطلاب الدروس صباحاً بینما یخلدون إلی الراحة والسکن مساءً فی نفس المدرسة، وهی علی غرار مدرسة أخیه السید المرتضی، وقد کان الشیخ الطوسی والقاضی عبد العزیز بن براج من تلامیذها وسبقت مدرسته «المدرسة النظامیة» ببغداد بحوالی 80 سنة وربما کانت تقلیداً لها (1).

کتب ومؤلفات السید الرضی

ذکر العلّامة الأمینی أنّ السید الرضی خلف أکثر من تسعة عشر کتاباً، أهمها أثره الخالد نهج البلاغة الذی یضم خطب ورسائل وکلمات الإمام علی علیه السلام. ثم یورد الشیخ الأمینی أسماء واحد وثمانین کتاباً زمان السید تعرضت لشرح نهج البلاغة أ وترجمته.

ومن أهم الکتب التی ألفها السید الرضی:

1 - خصائص الأئمة، والذی أشار إلیه المؤلف فی مقدمة نهج البلاغة.

2 - مجازات الآثار النبویة، والذی طبع عام 1328 ه فی بغداد.

3 - الرسائل العلمیة فی ثلاثة مجلدات.

4 - معانی القرآن.

5 - حقائق التأویل فی متشابه التنزیل والذی عبّر عنه الکشی بحقائق التنزیل.

السید الرضی والشعر

کان السید الرضی نابغة فی الشعر، علماً أنّ الشعر لم یضف شیئاً لشخصیته العظیمة، ورغم ذلک فقد جادت قریحته الشعریة بمختلف الفنون والآداب والصنوف الشعریة التی تکشف عن مدی قدرته فی نظم الشعر. یذکر أنّ السید الرضی قد أنشد قصیدة غرّاء کشف فیها النقاب عن علو نسبه ولما یبلغ العاشرة من عمره ولذلک عدّه بعض الاُدباء أشعر شعراء قریش، وربّما رجّح شعره علی المتنبی، وهناک رسائل ومبادلات بینه وبین الصاحب بن عباد وأبی اسحاق

ص:11


1- 1) مذکرات العلّامة الشریف الرضی / 29.

الصابی، وذکر الخطیب البغدادی فی تأریخه قائلاً: سمعت محمد بن عبد اللّه الکاتب أنّه قال عند أبی الحسین بن محفوظ قال: سمعت من فریق من الاُدباء أنّهم قالوا: السید الرضی أشعر شعراء قریش. فردّ ابن محفوظ قائلاً: نعم، هذا کلام صحیح، ثم أضاف: کان هناک بعض الأفراد الذین یحسنون الشعر فی قریش إلّاأنّهم قلیلوا النظم للشعر، ولم یکن سوی السید الرضی یکثر إنشاد الشعر إلی جانب إتصافه بالعذوبة والجمال.

القابه ومناصبه

لقبه بهاء الدولة سنة 388 بالشریف الأجل، وفی سنة 392 بذی المنقبتین، وفی سنة 389 بالرضی ذی الحسبین، وفی سنة 401 أمر أن تکون مخاطباته ومکاتباته بعنوان الشریف الرضی أن المناصب والولایات کانت منکثرة علی عهد سیدنا الشریف من الوزارة التنفیذیة والتفویضیة والامارة علی البلاد بقسمیها العامة والخاصة، تولی الشریف نقابة الطالبیین وامارة الحاج والنظر فی المظالم سنة 380 وهو ابن 21 عاما علی عهد الطائع، ثم عهد إلیه فی 16 محرم سنة 403 بولایة أُمور الطالبیین فی جمیع البلاد فدعی «نقیب النقباء» . (1)

ص:12


1- 1) النقابة: موضوعة علی صیانة ذوی الأنساب الشریفة عن ولایة ولا یکافئهم فی النسب ولا یساویهم فی الشرف، لیکون علیهم أحبی وأمره فیهم أمضی وهی علی ضربین: خاصة وعامة، وأمّا الخاصة فهو أن یقتصر بنظره علی مجرد النقابة من غیر تجاوز لها إلی حکم وإقامة حد فلا یکون العلم معتبراً فی شروطها ویلزمه فی النقابة علی أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقاً: 1- حفظ أنسابهم من داخل فیها ولیس هو منها، أ وخارج عنها. 2- تمیییز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتی لا یخفی علیه منه یتوأب. 3- معرفة من ولد منهم من ذکر أوانثی فیثبته. 4- أن یأخذهم من الاداب بما یضافی شرف أنسابهم وکرم محتدهم لتکون حشمتهم فی النفوس موقورة وحرمة رسول اللّه صلی الله علیه و آله فیهم محضورة. 5- أن ینزههم عن المکاسب الدنیئة ویمنعهم من المطالب الخبیثة. 6- أن یکفّهم عن ارتکاب المآثم. 7- أن یمنعهم من التسلط علی العامة لشرفهم. 8 - أن یکون عوناً لهم فی استیفاء الحقوق. 9- أن ینوب عنهم فی المطالبة بحقوقهم العامة. 10- أن یمنع أمائهم أن یتزوجن إلّامن الأکفاء. 11- أن یقوم ذوی الهفوات منهم فیما سوی الحدود. 12- مراعاة وقوفهم بحفظ اصولها وتنمیة فروعها.

وفاة السید الرضی

توفی السید الرضی رحمه الله فی السادس من شهر محرم الحرام من سنة ست وأربعمائة - وله من العمر ما یناهز السابعة والأربعین -، وحضر جنازته الوزیر فخر الملک، وجمیع الأعیان والأشراف والقضاة والصلاة علیه، وقد أقیمت مراسم العزاء فی داره فی الکرخ.

روی أغلب المؤرخین أنّ جسده الطاهر قد حمل إلی کربلاء فدفن إلی جوار قبر جدّه، والذی یفهم من بعض النقول التأریخیة أن قبره فی مقدمة الحائر الحسینی. ومضی أخوه المرتضی من جزعه علیه إلی مشهد موسی بن جعفر علیه السلام؛ لأنّه لم یستطع أن ینظر إلی تابوته ودفنه وصلی علیه فخر الملک أبو غالب، ومضی بنفسه آخر النهار إلی أخیه المرتضی بالمشهد الشریف الکاظمی، فألزمه بالعود إلی داره. (1)

رثاه الکثیر من الأدباء والشعراء وفی مقدمتهم أخیه السید المرتضی الذی أنشده قائلاً: یا للرجال لفجعة جذمت یدی

ص:13


1- 1) أغلب ما أوردناه بالنسبة لحیاة السید الرضی قد اقتبسناه من کتاب الغدیر 4 / 181 - 211، [1] إضافة إلی شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید، [2] عبقریة الشریف الرضی، سفینة البحار [3]ومذکرات العلامة الشریف الرضی. [4]

ص:14

کلام بشأن نهج البلاغة وصاحبه

اشارة

یعد الحدیث عن علی علیه السلام أو نهج البلاغة عملاً سهلاً وفی نفس الوقت ولیس بسهل! فهو لیس بسهل بالنسبة لمن یروم الغوص فی أعماق علی علیه السلام والوقوف علی کنهه وحقیقته والاحاطة بکافة جوانبه الفکریة وسعة إیمانه وقوة صبره وعظم فضائله وملکاته، أو أن یتعرف علی نهج البلاغة کما هو فی حقیقته. ولکن من السهل الوقوف علی بعض قبسات هذین النبراسین العظیمین والقمرین الزاهرین. لا تخفی شخصیة علی علیه السلام علی مسلم، فکل من له أدنی معرفة بعلی علیه السلام وتاریخه وسیرة حیاته سیوقن بأنّه الإنسان الکامل - بعد رسول اللّه صلی الله علیه و آله - وأنّه آیة من آیات الحق جل وعلا وان کتابه نهج البلاغة لیس الّا شعاعاً من شمسه المنیرة. فنهج البلاغة بحر من العلم ومحیط من الحکمة وکنز لا ینضب وحدیقة غناء بالزهور وسماء مزینة بالنجوم ومصدر لسعادة الإنسان فی مسیرته الدنیویة.

وممّا لاشک فیه أنّ من یروم إقتحام هذا المیدان علیه أن یعدّ الکتب والمجلدات علّه یحصی بعض حقائق الاُمور، بینما لا نهدف - فی هذه المقدمة - إلّاإلی التطرق إلی بعض الإشارات المقتضبة من أجل التمهید للخوض فی شرح کلمات أمیر المؤمنین علیه السلام والتی نراها أفضل طریقة للتعریف به، وهل الجو المشمس إلّادلیل علی وجود الشمس.

وهنا أود أن ألفت إنتباه الاخوة القراء إلی أنّ عدداً کبیراً من العلماء والأدباء والزعماء - ولا سیما من غیر المسلمین - قد تناولوا بالبحث والدرس کتاب نهج البلاغة فرأوا أعظم ممّا ظنوا وتصوروا فأطلقوا عباراتهم المعروفة بشأن نهج البلاغة بما یکشف عن مدی تأثرهم والذهول الذی أصابهم فلم یتمالکوا أنفسهم ویعبروا عن أحاسیسهم ومشاعرهم وعواطفهم.

ص:15

ویبدو أن کل واحد من هؤلاء قد تأثر بجانب معین من نهج البلاغة، وربما أمکننا إیجاز هذه الجوانب فی المحاور الرئیسیة الثلاث الآتیة:

1 - فصاحة وبلاغة نهج البلاغة.

2 - المضامین العمیقة لنهج البلاغة.

3 - الجاذبیة الخارقة لنهج البلاغة.

ص:16

1- فصاحة النهج وبلاغته

لابدّ فی هذا الأمر من الاستشهاد بأقوال البلغاء والفصحاء والأدباء والشرّاح والکتّاب الذین سیروا - حسب قدرتهم - أغوار نهج البلاغة فتأثروا بما لمسوه من حلاوة وطلاوة فی فصاحته وبلاغته وسحر بیانه بما لم یعهدوه، فأطلقوا عباراتهم بشأنه ومنهم:

1 - وما أحرانا أن نتجه بادئ ذی بدء صوب جامع نهج البلاغة والذی یعتبر من جهابذة الفصاحة والبلاغة الذی احتل الصدارة من بین فصحاء العرب وبلغائها وقد أفنی عمره فی جمع خطب نهج البلاغة، ألا وهو السید الرضی الذی وصفه الکاتب المصری المعروف الدکتور «زکی مبارک» فی کتابه «عبقریة الشریف الرضی» قائلاً: «هو الیوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، یتحلی بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جمیع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبیین، ولو قلت إنّه أشعر قریش لم أبعد عن الصدق» .

یقول الشریف الرضی فی مقدمته الرائعة لنهج البلاغة: «کانَ أمیرُ الْمُؤمِنینَ علیه السلام مَشْرِعَ الْفَصاحَةِ وَمَوْرِدَها وَمَنْشَأ الْبلاغَةِ وَمَوْلِدَها وَمِنْهُ ظَهَرَ مَکْنُونُها وَعَنْهُ أخذَتْ قوانینُها وَعَلی أمْثِلَتِهِ حَذا کُلُّ قائِلٍ خَطیبٍ وَبِکلامِهِ اسْتَعانَ کُلُّ واعِظٍ بَلیغٍ وَمَعَ ذلِک فَقَدْ سَبَقَ وَقَصَّرُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ وَتَأخّرُوا» ، ثم یفسر هذا الکلام فیقول: «لأن کلامه علیه السلام الکلام الذی علیه مسحة من العلم الإلهی وفیه عبقة من الکلام النبوی» .

2 - الشارح المعروف الذی أفنی عمراً فی شرح وتفسیر نهج البلاغة وتحدث بشغف وإعجاب عن علی علیه السلام وهو عز الدین عبد الحمید ابن أبی الحدید المعتزلی الذی یعدّ من أشهر علماء العامة للقرن السابع الهجری (1).

ص:17


1- 1) یقع شرحه فی عشرین مجلداً وقد استغرق فی تألیفه أقل بقلیل من خمس سنوات وهی مدّة خلافة علی علیه السلام علی حد تعبیره.

فقد تحدث مراراً وکراراً بهذا الشأن فی شرحه وأذعن لعظمة فصاحة وبلاغة النهج. فقد قال علی سبیل المثال بشأن الخطبة 221 التی أوردها علی علیه السلام - بشأن البرزخ - «وینبغی لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة فی مجلس وتلی علیهم، أن یسجدوا له کما سجد الشعراء لقول عدی ابن الرقاع: قلم أصاب من الدواة مدادها. . . فلم قیل لهم فی ذلک قالوا إنا نعرف مواضع السجود فی الشعر کما تعرفون مواضع السجود فی القرآن» (1).

ثم قال فی موضع آخر حین عرض للمقارنة بین کلام أمیر المؤمنین علی علیه السلام وکلام «ابن نباتة» (2)الخطیب المعروف الذی عاش فی القرن الهجری الرابع: «فلیتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبیان هذا الکلام بعین الانصاف لیعلموا أنّ سطراً واحداً من کلام نهج البلاغة یساوی ألف سطر منه بل یزید ویربی علی ذلک» (3). وینقل أیضاً إحدی خطب ابن نباتة فی الجهاد والتی تمثل قمة الفصاحة وقد ضمنها عبارات أمیر المؤمنین علیه السلام الواردة فی الجهاد «ما غزی قوم فی عقر دارهم إلّاذلّوا» فیقول: «فانظر إلی هذه العبارة کیف تصیح من بین الخطبة صیاحاً وتنادی علی نفسها نداءً فصیحاً، وتعلم سامعها أنّها لیست من المعدن الذی خرج باقی الکلام منه، ولا من الخاطر الذی صدر ذلک السجح عنه، ولعمر اللّه، لقد جمّلت الخطبة وحسنتها وزانتها وما مثلها فیها إلّاکآیة من الکتاب العزیز یتمثل بها فی رسالة أو خطبة، فانّها تکون کاللؤلؤة المضیئة تزهر وتنیر، وتقوم بنفسها، وتکتسی الرسالة بها رونقاً، وتکتسب بها دیباجة» (4).

وأخیراً نختتم کلامه بما أورده فی مقدمة شرحه للنهج حیث قال: «وأمّا الفصاحة فهو علیه السلام إمام الفصحاء وسید البلغاء وفی کلامه قیل: دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقین ومنه تعلم الناس الخطابة والکتابة» (5).

3 - «جورج جرداق» الکاتب المسیحی اللبنانی المعروف الذی ألف کتابه المشهور

ص:18


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 11 / 153. [1]
2- 2) هو أبو یحیی عبد الرحیم بن محمد بن اسماعیل بن نباتة المتوفی عام 374.
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7 / 214. [2]
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2 / 84. [3]
5- 5) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 24. [4]

«الإمام علی صوت العدالة الإنسانیة» حیث أفرد فصلاً من کتابه لبیان خصائص الإمام علی علیه السلام فقال بخصوص نهج البلاغة: «أمّا فی البلاغة، فهو فوق البلاغات، کلام ضم جمیع جمالات اللغة العربیة فی الماضی والمستقبل، حتی قیل عنه: کلام دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقین» (1).

4 - «الجاحظ» الذی عاش مطلع القرن الهجری الثالث ویعدّ من أبرز أدباء العرب ونوابغهم، حیث أورد بعض کلمات أمیر المؤمنین علیه السلام فی کتابه المعروف «البیان والتبیین» فجعل یثنی علیه. ومن ذلک قال فی المجلد الأول من کتابه المذکور حین طالعته کلمته علیه السلام: «قیمة کل امرء ما یحسنه» (2)؛ لو لم تکن فی کل هذا الکتاب إلّاهذه الجملة لکفت، بل وزادت، فأفضل الحدیث ما کان قلیلاً ومفهومه ظاهر جلی ویغنیک عن الکثیر، وکأنّ اللّه کساه ثوباً من الجلال والعظمة وحجاباً من نور الحکمة بما یتناسب وطهر قائله وعلو فکره وشدة تقواه.

5 - «أمیر یحیی العلوی» مؤلف کتاب «الطراز» حیث أورد فی کتابه عبارة عن الجاحظ انّه قال: «إنّه الرجل الذی لا یجاری فی الفصاحة ولا یباری فی البلاغة، وفی کلامه قیل دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقین، ولم یطرق سمعی کلام بعد کلام اللّه ورسوله سوی کلمات أمیر المؤمنین کرم اللّه وجهه من قبیل قصار کلماته «ما هلک امرء عرف قدره» و «من عرف نفسه عرف ربه» و «المرء عدو ما جهل» و «استغن عمن شئت تکن نظیره واحسن إلی من شئت تکن أمیره واحتج إلی من شئت تکن أسیره» . وعلیه فلیس من العبث أن یعرب هذا الأدیب الزیدی «صاحب کتاب الطراز» عن دهشته لاستناد کبار علماء المعانی والبیان بدواوین شعراء العرب وأدبائهم بغیة السبیل إلی الفصاحة والبلاغة بعد کلام اللّه وکلام النبی صلی الله علیه و آله وولوا ظهورهم لکلمات الإمام علی علیه السلام، بینما کانوا یعلمون أنّه یمثل قمة الفصاحة والبلاغة وفی کتاب نهج البلاغة کل ما یریدون من فنون أدبیة من قبیل الاستعارة والتمثیل والکنایة والمجاز والمعانی و. . .» (3).

ص:19


1- 1) علی صوت العدالة الإنسانی 1 / 47.
2- 2) نهج البلاغة، قصار الکلمات 81.
3- 3) الطراز 1 / 165 - 168.

6 - الکاتب المشهور «محمد الغزالی» الذی نقل فی کتابه «نظرات فی القرآن» عن الیازجی أنه أوصی ولده قائلاً: «إذا شئت أن تفوق أقرانک فی العلم والأدب وصناعة الانشاء فعلیک بحفظ القرآن ونهج البلاغة» . (1)

7 - المفسر المعروف «شهاب الدین الآلوسی» الذی قال - حین بلغ اسم نهج البلاغة -: «إنّ انتخاب هذا الاسم لهذا الکتاب نابع من کونه یشتمل علی کلام فوق کلام المخلوق ودون کلام الخالق المتعال، وهو کلام یقترب من الاعجاز یضم البدائع فی الحقیقة والمجاز» (2)

8 - الاستاذ «محمد محیی الدین عبد الحمید» الذی قال فی وصفه لنهج البلاغة: «کلّ هذه المزایا مجتمعة، وتلک الصفات متآزرة متناصرة؛ وما صاحبها من نفح إلهی وإفهام قدسی، مکنت للإمام علیّ من وجوه البیان، وملکته أعنّة الکلام، وألهمته أسمی المعانی وأکرمها، وهیأت له أشرف المواقف وأعزها، فجرت علی لسانه الخطب الرائعة والرسائل الجامعة والوصایا النافعة» . (3)

9 - أحد شرّاح نهج البلاغة «الشیخ محمد عبده» إمام العامة والکاتب العربی المعروف، الذی قال بشأن النهج فی مقدمته علیه - بعد أن إعترف بأنّه تعرف مصادفة علی هذا الکتاب الشریف - ویبدو أنّ هذه قضیة جدیرة بالتأمل -: «حین تصفحت نهج البلاغة وتأملت موضوعاته بدا لی وکأنّ هذا الکتاب عبارة عن معارک عظیمة، الحکومة فیها للبلاغة والقوّة للفصاحة وقد حملت من کل حدب وصوب علی جنود الظنون الباطلة وسلاحها الأدلة القویّة والبراهین الساطعة» .

10 - «السبط بن الجوزی» أحد أبرز الخطباء والمؤرخین والمفسرین المعروفین العامة، الذی صرّح فی «تذکرة الخواص» قائلاً: «وقد جمع اللّه له بین الحلاوة والملاحة والطلاوة والفصاحة لم یسقط منه کلمة ولا بادت له حجة، أعجز الناطقین وحاز قصب السبق فی السابقین الفاظ یشرق علیها نور النبوة ویحیر الافهام والألباب» . (4)

ص:20


1- 1) نظرات فی القرآن / 154، طبق نهج البلاغة 1 / 91.
2- 2) نقلاً عن کتاب (الجریدة الغیبیة) عن مصادر نهج البلاغة / 1. [1]
3- 3) مصادر نهج البلاغة 1/96.
4- 4) تذکرة الخواص، الباب السادس / 128. [2]

11 و12 - ونختتم هذا الفصل بقولین لأدیب مسیحی معروف وهو الکاتب والمفکر العربی المشهور «میخائیل نعیمة» الذی قال: لو کان علی مقتصراً علی الإسلام لم یتعرض شخص مسیحی (یشیر إلی الکاتب والمفکر المسیحی اللبنانی جورج جرداق صاحب کتاب الإمام علی صوت العدالة الإنسانیة) لسیرته وحیاته ویتابع الأحداث التی واجهته فیترنم بشجاعته التی أصابته بالدهشة والذهول؛ ولم تقتصر شجاعة الإمام وبسالته علی میدان الحرب، فقد کان رائداً فی البلاغة وسحر البیان والاخلاق الفاضلة وعلو الهمّة وعمق الإیمان ونصرة المظلومین واتباع الحق وبسط العدل. ثم قال فی موضع آخر بأن ما قاله وفعله هذا النابغة ما لم تره عین وتسمعه أذن، وأنّه لأعظم من أن یسع المؤرخ بیانه بقلمه ولسانه. وأخیراً فقد قال فیه ابن أبی الحدید: وأمّا الشجاعة فانه أنسی الناس فیها ذکر من کان قبله، ومحا اسم من یأتی بعده، ومقاماته فی الحرب مشهورة یضرب بها الأمثال إلی یوم القیامة؛ وهو الشجاع الذی مافرّ قط، ولا ارتاع من کتیبة، ولا بارز أحداً إلّاقتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولی إلی ثانیة، وأمّا السخاء والجود ففیه یضرب المثل فیهما، فکان یصوم ویطوی ویؤثر بزاده، وقال الشعبی: کان أسخی الناس؛ کان علی الخلق الذی یحبه اللّه: السخاء والجود، ما قال (لا) لسائل قط. وأمّا الحلم والصفح: فکان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسیء؛ وقد ظهر صحة ما قلناه یوم الجمل حیث ظفر بمروان بن الحکم - وکان أعدی الناس له وأشدّهم بغضا - فصفح عنه، وأمّا الفصاحة فهو علیه السلام إمام الفصحاء وسید البلغاء، ومنه تعلم الناس الخطابة والکتابة، ولما قال محفن بن أبی محفن لمعاویة: جئتک من عند أعیا الناس، قال له: ویحک! کیف یکون أعیا الناس! فو اللّه ماسن الفصاحة لقریش غیره.

ص:21

ص:22

2- المضامین الرصینة الشاملة لنهج البلاغة

اشارة

من الممیزات التی یتصف بها نهج البلاغة التی تلفت انتباه القارئ إذا ما أقبل علیه إنّما تکمن فی شمولیته وتنوع مضامینه الرصینة، بحیث «تجعله یصدق أنّ هذه الأقوال المتقنة الدقیقة التی تعالج اُمور شتی تصل إلی حدِّ التضارب إنّما تصدر من عین واحدة، ومن المسلم به أنّ هذا الأمر لا یصدر إلّامن أمیر المؤمنین علی علیه السلام الذی أودع قلباً حافظاً وروحاً سامیة تفیض علوماً ومعارفاً إلهیة حقة وأسراراً جمة لا یسعها سوی ذلک القلب. ویسرنا هنا أن نستشهد بالإقوال التی ساقها کبار العلماء والمفکرین بهذا الخصوص.»

1 - ونستهل ذلک بما أروده العالم المعروف «محمد عبده» إمام العامة، فقد رسم صورة رائعة عن حاله وهو یطالع لأول مرة نهج البلاغة وما اشتمل علیه من خطب ورسائل وکلمات قصار عجزت العقول أن تجود بمثلها فصاحة وصیاغة وبلاغة، فقال: «وکان لطیف الحِسّ، نقیّ الجوهر، وضاء النَّفس؛ سلیمَ الذّوق، مستقیم الرأی، حتسنَ الطریقة سریع البدیهة، حاضر الخاطر؛ حوّلاً قلبًا؛ عارفاً بمهمّات الاُمور إصداراً وإیراداً.»

3 - نقل «الشیخ البهائی» فی «کشکوله» عن کتاب «الجواهر» ان «أبو عبیدة» قال: قال علی علیه السلام تسع جمل عجزت بلغاء العرب عن الإتیان بواحدة منها؛ ثلاث فی المناجاة، وثلاث فی العلوم، وثلاث فی الادب. (1)ثم خاض فی شرح هذه العبارات التی وردت ضمن کلماته فی نهج البلاغة وسائر أحادیثه.

4 - الدکتور «زکی مبارک» الذی صرّح فی کتابه «عبقریة الشریف الرضی» قائلاً: «أعتقد أنّ دراسة نهج البلاغة تمنح الإنسان المروءة والشهامة وسمو الروح، ولا عجب فهو ینبع من نفس عظیمة واجهت الوقائع والحوادث بشجاعة الأسود» (2).

ص:23


1- 1) کشکول الشیخ البهائی 3 / 397.
2- 2) عبقریة الشریف الرضی 1 / 396.

فالکلام هنا لا یتناول سعة المعلومات وکسب المعارف والعلوم، بل قصره علی استشعار الهمة والمروءة وسمو النفس فی ظل التمعن بالنهج.

5 - «ابن أبی الحدید» هو الآخر أعطی الکلام حقّه فقال: ولم تحصل العدالة الکاملة لأحد من البشر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله إلّالهذا الرجل، ومن أنصف علم صحة ذلک، فان شجاعته وجوده وعفته وقناعته وزهده یضرب بها الأمثال. وأمّا الحکمة والبحث فی الاُمور الإلهیة، فلم یکن من فن أحد من العرب، وهذا فن کانت الیونان وأوائل الحکماء وأساطین الحکمة ینفر دون به، وأول من خاض فیه من العرب علی علیه السلام ولهذا تجد المباحث الدقیقة فی العدل والتوحید مبثوثة عنه فی فرش کلامه وخطبه، ولا تجد فی کلام أحد من الصحابة والتابعین کلمة واحدة من ذلک. (1)

6 - أورد «المرحوم السید الرضی» بعض العبارات المقتضبة العمیقة المعنی فی کتابه الشریف بشأن مضامین نهج البلاغة، وهی جدیرة بالتأمل والاهتمام، من ذلک ما ذکره ذیل الخطبة «21» حیث قال:

«إنّ هذا الکلام لو وزن بعد کلام اللّه سبحانه وبعد کلام رسول اللّه صلی الله علیه و آله بکل کلام لمال به راجحاً وبرز علیه سابقاً» . أمّا الخطبة «21» فهی:

«فإنّ الغایة أمامکم وإنّ وراءکم الساعة تحدوکم، تخففوا تلحقوا فانّما ینتظر بأولکم آخرکم» . کما أورد مثل هذا المعنی ذیل الحکمة «81» من کلماته القصار فقال: «وهی الکلمة التی لا تصاب لها قیمة ولا توزن بها حکمة، ولا تقرن إلیها کلمة» .

7 - ونطلق الحدیث هنا للکاتب المصری المعروف «عباس محمود العقاد» الذی یعدّ من کبار الأدباء المعاصرین لنری مدی اعجابه بنهج البلاغة، فقد أورد بعض العبارات الجزیلة فی مواضع من کتاب «عبقریة الإمام علی علیه السلام» والتی تبیّن عمق معرفته بشخصیة الإمام ومدی تأثره بکلماته، فقد قال: «إن نهج البلاغة عین متدفقة بآیات التوحید والحکمة الإلهیة التی توسع معارف الباحثین فی العقائد والتوحید والمعارف الإلهیة» (2).

ص:24


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 16/146. [1]
2- 2) العبقریات 2/138 (طبعة دارالکتاب اللبنانی.

وقال فی موضع آخر: «إنّ کل نموذج من کلماته شهادة؟

علی قدرته الإلهیة بیان الحقائق، أنّه لا شک من أبناء آدم الذی علم الأسماء، فهو

مصداق لقوله تعالی: «اوتوا الکتاب» «فصل الخطاب» .

(1)

وقال أیضاً: «إنّ کلماته علیه السلام تمثل قمة الحکمة والفصاحة والبلاغة، وقد قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «علماء أمتی کأنبیاء بنی اسرائیل» . فهذا الحدیث یصدق علی علی علیه السلام قبل غیره، فکلماته الحکیمة فی مصاف کلمات الأنبیاء علیهم السلام (2).

8 - وقال الکاتب والأدیب المعاصر «محمد أمین النووی» یصف نهج البلاغة: «إنّه الکتاب الذی جعله الله حجة واضحة وقد ضمنه علی علیه السلام الأمثال القرآنیة والحکم الربانیة بفصاحة وبلاغة قل نظیرها» . (3)

9 - وهذا الأدیب المصری المعروف «طه حسین» الذی یعتبر عمید الأدب العربی، فقد قال بعد أن تعرض لردّ علی علیه السلام علی السائل الذی کان شاکاً فی حرب الجمل: «إنی لم أر ولم أعرف جواباً بعد الوحی وکلام اللّه أعظم وأروع من هذا الجواب» . (4)

10 - المرحوم «ثقة الإسلام الکلینی» الذی نقل فی الجلد الأول من کتابه الکافی إحدی خطبه علیه السلام فی التوحید، فقال: «هذه من خطبه المعروفة ولو اجتمعت الانس والجن لبیان حقائق التوحید لعجزت عمّا بینه علی علیه السلام ولولاه لما عرف الناس سبیل الوحدانیة» . (5)

11 - ونختتم البحث بما أورده العلّامة الفقیة آیة اللّه الخوئی، إذ قال: «حین یرد الإمام علیه السلام بحثاً فی خطبه من نهج البلاغة فانه لا یترک مجالاً بعده للحدیث حتی یخیل لاُولئک الذین لا علم لهم بسیرة أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قضی عمره فی ذلک الموضوع» (6).

ص:25


1- 1) العبقریات 2 / 144.
2- 2) العبقریات 2 / 145.
3- 3) مصادر نهج البلاغة 1 / 90.
4- 4) جولة فی نهج البلاغة / 18 و 19.
5- 5) أصول الکافی 1/136.
6- 6) البیان / 90. [1]

ص:26

3- جاذبة نهج البلاغة الخارقة

اشارة

لقد شعر جمیع من تعامل مع نهج البلاغة - من قبل أشیاع علی علیه السلام أو سائر العلماء والاُدباء المسلمین ومن سائر الأدیان - دون استثناء بوجود قوة کامنة تشدهم إلیه وتجعلهم یتأثرون به ویتکهربون بأجوائه.

والحق إنّ مثل هذه الجاذبة التی اتسمت بها کافة خطبه ورسائله وکلماته هی التی دفعت بفریق من العلماء لتناول هذا الکتاب النفیس بالشرح والتفسیر وتدوین المقالات والأبحاث والاستغراق فی مختلف جوانب شخصیة الإمام علی علیه السلام. بدورنا نری أن هذه الجاذبة تختزن عدّة دوافع، یمکن إیجاز أهمها فی ما یلی:

1 - لقد شحن نهج البلاغة بالأقوال التی تصرح بمواساة الطبقات المحرومة والمستضعفة، إلی جانب الحدیث عن مجابهة الظلم والطغیان ومقارعة حکام الجور والطواغیت. فقد تعرض فی عهده الذی عهده إلی مالک الأشتر حین ولاه مصر إلی الخطط والبرامج التی ینبغی اعتمادها فی کیفیة إدارة شؤون البلاد. یتحدث علیه السلام فی هذا العهد عن حقوق ووظائف الطبقات الاجتماعیة السبع، حتی إذا بلغ الطبقة المحرومة من الناس أفصح عن مکنوبات نفسه وسیرته فی التعامل معها فیوصی عامله قائلاً له: «اللّه اللّه فی الطبقة السفلی من الذین لا حیلة لهم من المساکین والمحتاجین وأهل البؤسی والزمنی. . .» ، ثم یؤکد علیه: «فلا یشغلنک عنهم بطر فانّک لا تعذر بتضییعک التافه لاحکامه الکثیر المهم. فلا تشخص همک عنهم، ولا تصعر خدک لهم، وتفقد اُمور من لا یصل إلیک منهم ممن تقتحمه العیون، وتحقره الرجال» ولم تقتصر وصایاه علیه السلام بهذا المجال فی هذا العهد فحسب، بل لم ینفک یؤکد ذلک فی کل خطبة من خطبه وموعظة من مواعظه لعماله وولاته.

2 - لقد سلک نهج البلاغة سبیل تحریر الإنسان من أسر الهوی والشهوات التی تؤدی به

ص:27

إلی البؤس والشقاء، وکذلک تحریره من قیود الطواغیت والظلمة، فهو یستفید من کل فرصة لتحقیق هذا الهدف المقدس، إلی جانب تأکیده علی أنّه ما جاع فقیر إلّابما متع به غنی، وأن تراکم الثروة یفید تضییع الحقوق وعدم العمل بالأحکام الشرعیة. (1)

ویصرح الإمام علیه السلام: «أمّا والذی فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقیت حبلها علی غاربها، ولسقیت آخرها بکأس أولها، ولألقیتم دنیاکم هذه أزهد عندی من عفطة عنز» ! فهو یؤکد علی شدة تنمره فی إعادة روح الحریة والعدالة والمساواة التی لا یعرف المهادنة فیها، بل أبعد من ذلک فی أنّه لا یری الامرة والحکومة سوی وسیلة ووظیفة لتحقیق هذه الاهداف (2). ویخطیء کل من یظن أنّ علیاً علیه السلام یمکنه أن یتهاون فی هذا الأمر، ولم یعرف عمق شخصیة علی؛ الأمر الذی أکده فی رسالته إلی عثمان بن حنیف (3).

3 - النفحات العرفانیة التی ینبض بها نهج البلاغة إنّما تناغم الأرواح المتعطشة للحکمة فتسقیها الشراب الطهور الذی یسکرها بالعلم والمعرفة!

فلا یری القارئ لخطبه فی اللّه وصفاته الجمالیة والجلالیة سوی أنّه یحلق مع الملائکة لیخترق حجب المعرفة والکمال (4)امّا إذا تحدث عن أهوال القیامة وسکرات الموت والعاقبة التی تنتظر الإنسان فلا تراه إلّاوکأنّه أمسک بقبضة الغافلین وأخذ یسوقهم نحو المصیر الذی منه یهربون والعاقبة التی عنها لاهون. (5)

4 - قوة الجاذبیة الاُخری التی یختزنها نهج البلاغة والتی أشرنا إلیها سابقاً أنّه علیه السلام أمیر الکلام فی کل موضوع یطرقه بما یجعلک تتصور أنّه بارع فی هذا الموضوع وقد أفنی عمره فی بیان عناصره ومقوماته وسائر جوانبه، ولا یحسن شیئاً آخر سواه وسرعان ما یتبدد هذا التصور حین تطالعه وقد تحدث فی موضوع آخر - فاذا تناول - علی سبیل المثال - قضیة

ص:28


1- 1) الإمام علی صوت العدالة الإنسانیة 3/177.
2- 2) الخطبة الشقشقیة (الخطبة 3) .
3- 3) الرسالة رقم 45.
4- 4) الخطبة الاولی وخطبة الأشباح / 91 وسائر الخطب بهذا الشأن.
5- 5) الخطب 109 - 111 - 113 وما شابهها.

التوحید وشرح أسماء اللّه وصفات الجلال، خیل إلیک أنّه فیلسوف ربانی سبر أغوار التوحید وانهمک فیه لسنوات متمادیة ولیس له مثل هذا العمق فیما سواه؛ فلیس للتجسم من سبیل إلی حدیثه، ولا من سبیل إلی سلبه الصفات، بل یقدم صورة عن التوحید تجعل الإنسان یری ربّه ببصیرته فی کافة السموات والأرضین حاضر فیها وفی نفسه فیمتلئ قلبه حبّاً للّه ومعرفة به. بینما لا تکاد العین تقع علی خطبته فی الجهاد، حتی لا تغیب عنها صورته کآمر شجاع ومقاتل باسل مغوار قد ارتدی بزته العسکریة وأخذ یستعرض أسالیب الحرب وفنون القتال وستراتیجیة الدفاع والهجوم، وکأنّه أفنی عمره فی میادین الوغی وساحات القتال ولم تدعه یفکر فی ما سواها.

فاذا تصفحنا نهج البلاغة وطالعتنا خطبه ووصایاه لعماله وولاته حین أخذ بزمام الاُمور وتزعم قیادة الاُمّة، رأیناه یکشف النقاب عن عناصر تألق الحضارات وازدهارها وأسباب سقوطها وانهیارها، إلی جانب استعراض مصیر الأقوام الظالمة والاُمم المستبدة بالاضافة إلی الاسس والمبادئ التی من شأنها ضمان سلامة الأنظمة الاجتماعیة والسیاسیة الحاکمة، بما یجعلک تظن بأنّه عکف عمراً علی هذه الاُمور ویختص بها دون الاهتمام بسائر میادین الحیاة ونواحیها. ثم نقلب صفحات النهج لنراه زعیماً أخلاقیاً هادیاً البشریة نحو تهذیب النفس ومکارم الأخلاق. یلتقیه أحد الأصفیاء من أصحابه ویدعی «همام» الذی یسأله أن یصف له المتقین. فیعدد له علیه السلام ما یقارب المئة من صفاتهم بعبارات أحکم صیاغتها وبلاغتها کأنّه جلس عمراً لدروس الأخلاق والتهذیب وتربیة النفوس حتی یصعق همام صعقة کانت نفسه فیها. حقاً إنّ هذه الأبحاث العمیقة الفریدة المتنوعة التی شحن بها نهج البلاغة تعدّ من الخصائص والممیزات التی اتصف بها هذا الکتاب العجیب.

أقوال العظماء بشأن جاذبیة نهج البلاغة

الأقوال التی ساقها کبار جهابذة العلماء بخصوص الجاذبیة الکامنة فی نهج البلاغة تعتبر من الشواهد التی تعزز ما أوردناه سابقاً بهذا الشأن:

فالسید الرضی جامع نهج البلاغة الرائد الذی یعدّ من مشاهیر الاُدباء العرب یصرح

ص:29

أحیاناً حین نقله لبعض الخطب ببعض العبارات التی تکشف عن عمق افتتانه بما یورد وعدم تمالکه لنفسه تجاه قوة سبک عبارات صاحب النهج. ومن ذلک أنّه قال إثر نقله للخطبة رقم «83» من نهج البلاغة «وفی الخبر أنّه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت له الجلود وبکت العیون ورجفت القلوب» ونقرأ فی خطبة المتقین - حین سأله ذلک العارف «همام» عن صفات المتقین - أنّه حین بلغ ذلک الموضع من الخطبة، صعق همام صعقة کانت نفسه فیها، فقال أمیرالمؤمنین علیه السلام: «امّا واللّه لقد خفتها علیه، هکذا تفعل المواعظ البالغة فی أهلها» .

کما علق السید الرضی علی الخطبة رقم «28» لیعرب عن عمق أثرها فی روحه وعقله فقال: «إنّه لو کان کلام یأخذ بالاعناق إلی الزهد فی الدنیا، ویضطر إلی عمل الآخرة لکان هذا الکلام، وکفی به قاطعاً لعلائق الآمال، وقادحاً زناد الاتعاظ والازدجار. . .» وأضاف: «ومن أعجبه قوله علیه السلام: «ألا إنّ الیوم المضمار وغدا السباق، والسبقة الجنّة والغایة النار» فان فیه مع فخامة اللفظ، وعظم قدر المعنی، وصادق التمثیل وواقع التشبیه سراً عجیباً ومعنی لطیفاً. . . فتأمل ذلک فان باطن کلامه عجیب، وغوره بعید لطیف، وکذلک أکثر کلامه علیه السلام» .

وقال ذیل الخطبة «16» : «إنّ فی هذا الکلام الأدنی من مواقع الاحسان مالا تبلغه مواقع الاستحسان، وان حظ العجب منه أکثر من حظ العجب به» . وفیه - مع الحال التی وصفنا - زوائد من الفصاحة لا یقوم بها لسان، ولا یطلع فجها إنسان، ولا یعرف ما أقول إلّا من ضرب فی هذه الصناعة بحق، وجری فیها علی عرق «وما یعقلها إلّاالعالمون» .

وهکذا نقل ما أورده المفسر والمحدث المعروف «ابن عباس» حین ألقی الإمام خطبته الشقشقیة حین قام إلیه رجل من أهل السواد فناوله کتاباً، فأقبل ینظر فیه، فقال له: یا أمیر المؤمنین، لو أطردت خطبتک من حیث أفضیت. فقال: «هیهات یابن عباس! تلک شقشقة هدرت ثم قرت» . قال ابن عباس: «فو اللّه ما أسفت علی کلام قط کأسفی علی هذا الکلام ألا یکون أمیر المؤمنین علیه السلام بلغ منه حیث أراد» .

فقد قال ابن أبی الحدید: «هو سید المجاهدین وأبلغ الواعظین ورئیس الفقهاء والمفسرین وإمام أهل العدل والموحدین» . (1)

ص:30


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7/202. (بتلخیص)

أسناد نهج البلاغة

مامن شک فی أنّ خطب ورسائل نهج البلاغة وکلماته القصار وردت (علی ضوء جمعها من قبل المرحوم السید الرضی) علی نحو الروایات المرسلة؛ أی لم تذکر أسانیدها بما یجعلها متصلة بالمعصومین، وقد أدی هذه بدوره إلی تشکیک البعض أحیاناً، ولا سیما بالنسبة لاُولئک الذین ظنوا بأن نهج البلاغة وبفضل مضامینه العظیمة قد یکون سنداً لاثبات حقانیة مذهب الشیعة وأفضلیة علی علیه السلام علی جمیع الصحابة؛ فاتخذوا ذلک ذریعة لفرض طوق من العزلة علی هذا الکتاب فی أوساط الرأی العام الإسلامی. وإن کانت هذه الزوبعة - ولحسن الحظ - لم یکن لها أدنی تأثیر فی أفکار علماء وأدباء الفریقین الذین کسروا حاجز الصمت وکالوا له المدیح والثناء وخاضوا فی شرحه وتفسیره، وقد مرت علینا نماذج من ذلک، مع ذلک نری من الضروری الخوض فی قضیة أسناد النهج بغیة إزالة الشک وإماطة اللثام عن حقیقة هذا الکتاب وهنا لابدّ من الالتفات إلی أمرین:

1 - أنّ أغلب خطب نهج البلاغة ورسائله وکلماته القصار - إذا لم نقل جمیعها سوی معشاره - إنّما هی من قبیل المطالب المستدلة المبرهنة أو ذات الاستدلال المنطقی، بعبارة اُخری من قبیل «القضایا التی قیاساتها معها» . وعلیه فهی لیست بحاجة إلی سلسلة السند بصفتها مباحث تعبدیة، فالأعم الأغلب من المضامین وردت بشأن المعارف العقائدیة من قبیل: المبدأ والمعاد والصفات وأدلة عظمة القرآن ونبی الإسلام صلی الله علیه و آله وما شاکل ذلک. کما وردت بعض المضامین کمواعظ ونصائح ودروس وعبر بشأن حیاة الاُمم السابقة ونظم إدارة شؤون البلاد والحیاة الاجتماعیة والآداب ومسائل الجهاد وما إلی ذلک من المباحث المنطقیة الاستدلالیة الخاضعة للدلیل والبرهان.

ولما کانت نتاجات کبار الفلاسفة وعلماء العلوم المختلفة وحتی النتاجات الأدبیة الشعریة

ص:31

لفطاحل الشعراء تؤخذ دون الحاجة إلی سلسلة الأسانید، فان هذا الأمر یجری علی مضامین نهج البلاغة بما یجعله غنیاً عن تلک السلسلة، وحقیقة الأمر أنّها تحمل أدلتها معها «قضایا قیاساتها معها» . نعم هناک محور صغیر فی النهج قد عنی ببعض الأحکام الفرعیة التعبدیة، فان کان من حدیث عن السند، أمکن إقتصاره علی هذا المحور والذی لا یشکل قطعاً عشر کتاب نهج البلاغة. ونخلص من هذا إلی عدم جدوی هذه الضجة المفتعلة بشأن أسانید النهج، وهی زوبعة جوفاء عدیمة الأثر.

2 - بغض النظر عمّا سبق، فاننا لا نری من عقبة فی هذا الأمر حتی وإن اعتمدنا المعاییر المتعارفة لحجیة السند بالنسبة لنهج البلاغة؛ وذلک لأنّ المعیار الأصلی لقبول الحدیث والروایة - علی ضوء ما فرغ منه فی علم الاُصول وبرهن فی محله - إنّما یتأتی الوثوق بها من طرق مختلفة؛ فأحیاناً یحصل الوثوق بالروایة من خلال سلسلة السند وثقة الرواة، کما یحصل أحیاناً اُخری مثل هذا الوثوق بواسطة کثرة الرواة - وفی الکتب المشهورة والمعتبرة -، وأخیراً قد یکون مضمون الروایة علی درجة من العمق والرصانة علی أنّه إنّما صدر من النبی صلی الله علیه و آله أو الإمام المعصوم؛ الأمر الذی یجعلنا نثق بهذه الروایة وهذا ما ذکروه بالنسبة لزبور آل محمد صلی الله علیه و آله الصحیفة السجادیة (إلی جانب الاسناد المعتبرة التی أوردها بهذا الشأن) ، بفضلها ضمت أدعیة رفیعة سامیة ذات مضامین عمیقة صدرت عن الإمام السجاد علی بن الحسین زین العابدین علیه السلام. ولا شبهة ولا ریب أن من یتمعن فی خطب نهج البلاغة ویتدبر مضامینها ویتأمل أسرارها، فانّه لا یملک سوی الاذعان بأنّ مثل هذه الکلمات محالة الصدور عن الإنسان العادی وأنّها لم تصدر سوی عن النبی صلی الله علیه و آله أو امتداده الإمام المعصوم علیه السلام.

وعلی حد تعبیر کبار علماء الفریقین: «إنّ کلامه فوق کلام المخلوقین ودون کلام الخالق» .

وبناءً علی هذا وعلی ضوء بزوغ الشمس دلیل علی وجودها، فان مضمون نهج البلاغة دلیل علی اعتبار سنده وصدوره عن المعصوم علیه السلام، واننا لنوقن بذلک علی أنّه لم ینسب لمعصوم سوی لعلی علیه السلام. فمن ذا الذی یحتمل أنّه صدر من فرد عادی ثم نسبه لعلی علیه السلام؟ ! إذا کان مثل هذا الابداع أو حتی عشر من أعشاره فلم لا ینسبه لنفسه ویفوز بهذا الشرف؟ وناهیک عمّا تقدم وعلی ضوء ما نعرفه عن شخصیة «السید الرضی» ووثاقته وعلو مقامه، فاننا نقطع بأنّه لم

ص:32

ینسبه إلی علی علیه السلام مالم یکن قد رأی مصادره المعتبرة، فهو لا یقول روی عن أمیر المؤمنین علی علیه السلام أنّه قال کذا، بل اعتاد القول «ومن خطبة علیه السلام ومن رسائله ومن کلماته القصار» . فکیف وأنی لهذا العملاق أن یتحدث بهذه الثقة والقطع وینسب الکلمات لإمامه المعصوم دون أن یستند إلی أسناد معتبرة وردت بهذا الشأن؟ ! . أضف إلی ذلک فقد دونت عدّة مصنفات قبل «السید الرضی» ضمت أغلب خطب ورسائل نهج البلاغة والکلمات القصار؛ الأمر الذی یثبت أنّ هذه الکلمات کانت متداولة أیضاً - قبل السید الرضی - ومعروفة بین العلماء والمحدثین والرواة وأحیاناً بین عوام الناس.

ومن شأن هذه الشهرة أن تغنینا عن الاسناد. بل ذهب بعض کبار المؤرخین أنّ الخطب التی اشتهرت بین الناس کانت أکثر بکثیر من هذا المقدار الذی جمعه «السید الرضی» فی نهج البلاغة، والواقع هو أنّ النهج عبقات من تلک الخطب. ومنهم المؤرخ المعروف «المسعودی» الذی عاش لقرن قبل «السید الرضی» ، الذی صرّح فی کتابه «مروج الذهب» بشأن خطب الإمام علی علیه السلام قائلاً: «والذی حفظ الناس عنه من خطبه فی سائر مقاماته أربع مائة ونیف وثمانون خطبة» (1)، والحال لا یضم النهج أکثر من مئتین وأربعین خطبة. ونقل العالم المعروف «السبط بن الجوزی» فی کتابه «تذکرة الخواص» عن «السید المرتضی» انّه قال: «بلغتنی أربعمة خطبة من خطب الإمام علی» (2). وقال صاحب «البیان والتبیین» العالم المعروف: «کانت خطب الإمام علی علیه السلام مدونه ومحفوظة ومشهورة» (3). وقال «ابن واضح» فی کتابه «مشاکلة الناس لزمانهم» : «لقد حفظ الناس الکثیر من خطب الإمام علی علیه السلام، فقد ألقی أربعمئة خطبة حفظها الناس، وهی هذه الخطب المتداولة بیننا» (4).

وهنا لابدّ من القول بأن جمعاً من العلماء المعاصرین والفضلاء ألقوا کتباً کمصادر وأسناد لنهج البلاغة، حیث استخرجوا أسانید الخطب من الکتب التی صنفت قبل «السید الرضی» وصرحوا بها فی کتبهم، من قبیل کتاب «مصادر نهج البلاغة وأسانیده» تألیف العالم المحقق

ص:33


1- 1) مروج الذهب 2 / 419، طبعة دار [1]الهجرة قم.
2- 2) تذکرة الخواص / 128. [2]
3- 3) البیان والتبیین 1 / 83.
4- 4) مشاکلة الناس لزمانهم / 15. [3]

«السید عبد الزهراء الحسینی الخطیب» الذی یجعل الباحث یقف علی هذه الحقیقة، وهی أنّ السید الرضی لم ینفرد قط بنقله لهذه الخطب.

یذکر أنّ هذا الکتاب یفید بأنّ نهج البلاغة قد جمع من مئة وأربعة عشر کتاباً، وأنّ أکثر من عشرین منها قد دونت من قبل علماء کانوا یعیشون قبل السید الرضی. ومن أراد المزید فلیراجع الکتاب المذکور حیث لا نری المقام یسع للاستغراق أکثر من هذه العجالة. والذی تجدر الإشارة إلیه هنا أنّ السید الرضی قد استفاد من خمسة عشر کتاباً - ذکرها خلال بعض تعلیقاته علی کلمات نهج البلاغة - فی جمعه لنهج البلاغة. (1)

ونستنتج ممّا مرّ معنا خواء الشکوک التی نشأت من عدم وجود الأسانید.

شروح نهج البلاغة

حدیثنا الأخیر فی هذه المقدمة، کلام مختصر بشأن الشروح والتراجم التی أوردها علماء المسلمین بخصوص هذا الکتاب منذ عصر السید الرضی حتی عصرنا الحاضر، ویبدو أن هذه الشروح إنّما تتضاعف وتزداد کلما ابتعدنا أکثر عن عصر السید الرضی، والسبب فی ذلک یعود إلی تنامی المعرفة بهذا الکنز النفیس کل یوم، وما هذه المؤتمرات والندوات التی أقیمت وما

ص:34


1- 1) 1 - البیان والتبیین للجاحظ. 2 - تأریخ الطبری. 3 - الجمل للواقدی. 4 - المغازی لسعید بن یحیی الاموی. 5 - المقامات لأبی جعفر الاسکافی. 6 - المقتضب للمبرد. 7 - حکایة أبی جعفر محمد بن علی الباقر علیه السلام. 8 - حکایة ثعلب عن ابن الاعرأبی. 9 - خبر ضرار الضبابی. 10 - روایة أبی جحیفة. 11 - روایة کمیل بن زیاد النخعی. 12 - روایة مسعدة بن صدقة لخطبة الاشباح عن الصادق جعفر بن محمد. 13 - روایة نوف البکالی. 14 - ماذکره أبو عبید القاسم بن سلام من غریب الحدیث. 15 - ماوجد بخط هشام بن الکلبی.

زالت تقام بخصوص نهج البلاغة إلّاشهادة حیة اُخری علی صحة ما أوردناه. فقد أشار المرحوم العلّامة الأمینی فی المجلد الرابع من کتابه الغدیر فی ترجمته لحیاة المرحوم السید الرضی إلی هذه المسألة وقال: «لقد کتب أکثر من خمسین شرحاً علی نهج البلاغة منذ عصر المرحوم السید الرضی لحد الآن. . .» ثم خاض فی ذکر هذه الشروح، إلی جانب ذکر مؤلفیها وتأریخ وفاتهم، وباضافة التراجم التی ظهرت فی هذه الأواخر، فقد أحصی ما یقارب الحادی والثمانین ترجمة وشرحاً» (1)وبالطبع فان کل شرح من هذه الشروح (کتفاسیر القرآن) قد سلط الضوء علی جانب من جوانب نهج البلاغة، فقد خاض البعض فی جانبه الأدبی بینما تناول البعض الآخر أبعاده التأریخیة أو الفلسفیة أو القضایا التربویة والاجتماعیة وما إلی ذلک.

هذا وقد ذکر مؤلف کتاب «مصادر نهج البلاغة» أکثر من مئة وعشرة شروح وتفاسیر لنهج البلاغة، بینما ذکر بعض الفضلاء فی کتبهم أسماء ثلاثمائة وسبعین کتاباً ألفت فی شرح نهج البلاغة وترجمته وتفسیره (2). وبالرغم من ذلک لابدّ من الاعتراف بأن هذا الکتاب ما زال لم یظفر ببغیته من سبر أغواره والغوص فی أعماقه من أجل استخراج کنه معانیه لتعالج متطلبات العصر والزمان وأنین البشریة، کیف لا وأبعاده کأبعاد شخصیة علی علیه السلام التی لا یحیطها الکلام ولا یلم بتفاصیلها القلم والبیان. وهنا لابدّ من القول بأن الشروح والتراجم المذکورة لیست واسعة کاملة، وأنّ بعضها قد اکتفی بمحور من محاور نهج البلاغة، ولم یشذ منها سوی النزر القلیل من الشروح التی تعاملت بشمولیة مع النهج ومنها:

1 - «أعلام نهج البلاغة» والذی اعتبره العلّامة الامینی من أقدم شروح نهج البلاغة، ومؤلفه «علی بن الناصر» من معاصری المرحوم السید الرضی.

2 - «منهاج البراعة» لمؤلفه سعید الدین هبة اللّه القطب الراوندی، وهو من أعلامالقرن الهجری السادس.

3 - شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید المعتزلی - من أعلام القرن السابع الهجری - وهو

ص:35


1- 1) الغدیر 4 / 186 - 193.
2- 2) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة / 10 (جدیر ذکره أن عدد الشروح التی وردت فی مصادر نهج البلاغة مئة وواحد لا مئة وعشرة) .

من الشروح المشهورة ویقع فی عشرین مجلداً.

4 - شرح ابن میثم البحرانی - من علماء القرن السابع - وهو من الشروح الواسعة الرائعة.

5 - منهاج البراعة للمرحوم الحاج المیرزا حبیب اللّه الموسوی الخوئی، والمعروف بشرح الخوئی، وهو من علماء القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجری.

6 - شرح «الشیخ محمد عبدة» من مشاهیر علماء العامة الذی عاش فی القرن الثالث عشر الهجری.

وأخیراً لا یسعنا المقال لأن نذکر أسماء طائفة من الفضلاء المعاصرین الذین صنّفوا شروحاً عظیمة لهذا الکتاب النفیس. وما یجدر ذکره هو أنّ صاحب کتاب «الذریعة» الفاضل المرحوم المحدث الطهرانی قد ذکر مئة وأربعین شرحاً للنهج أوردها علماء الشیعة، بینما أحصی ستة عشر شرحاً لعلماء العامة، یعدّ أقدمها شرح الفخر الرازی المتوفی عام 606 ه» . (1)

ص:36


1- 1) الذریعة 14 / 111 - 160. [1]

مقدمة السید الشریف الرضی رحمه الله

لماذا جمعت نهج البلاغة

أمّا بعد حمد اللّه الذی جعل الحمد ثمناً لنعمائه، ومعاذاً من بلائه، وسبیلاً إلی جنانه، وسبباً لزیادة إحسانه، والصلاة علی رسوله نبی الرحمة، وإمام الأئمة، وسراج الأمة، المنتخب من طینة الکرم، وسلالة المجد الأقدم، ومغرس الفخار المعرق، وفرع العلاء المثمر المورق. وعلی أهل بیته مصابیح الظلم، وعصم الامم، ومنار الدین الواضحة، ومثاقیل الفضل الراجحة صلی اللّه علیهم أجمعین، صلاة تکون إزاء لفضلهم، ومکافأة لعملهم، وکفاء لطیب قرعهم وأصلهم، ما أنار فجر ساطع، وخوی نجم طالع، فانی کنت فی عنفوان السن، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتألیف کتاب فی خصائص الأئمة علیهم السلام: یشتمل علی محاسن أخبارهم وجواهر کلامهم، حدانی علیه غرض ذکرته فی صدر الکتاب، وجعلته أمام الکلام، وفرغت من الخصائص التی تخص أمیر المؤمنین علیاً علیه السلام، وعاقت عن إتمام بقیة الکتاب محاجزات الأیام، ومماطلات الزمان. وکنت قد بوّبتُ ما خرج من ذلک أبوباً، وفصّلته فصولاً، فجاء فی آخرها فصل یتضمن محاسن ما نقل عنه علیه السلام من الکلام القصیر فی المواعظ والحکم والأمثال والآداب؛ دون الخطب الطویلة، والکتب المبسوطة. فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل علیه الفصلُ المقدم ذکره معجبین ببدائعه، ومتعجبین من نواصحه، وسألونی عند ذلک أن أبتدیء بتألیف کتاب یحتوی علی مختار کلام مولانا أمیر المؤمنین علیه السلام فی جمیع فنونه، ومتشعبّات غصونه: من خطب، وکتب، ومواعظ، وأدب. علماً أنّ ذلک یتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربیة، وثواقب الکلم الدینیة والدنیویة، ما لا یوجد مجتمعاً فی کلام، ولا مجموع الأطراف فی کتاب؛ إذ کان أمیرالمؤمنین علیه السلام مشرع الفصاحة

ص:37

وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها؛ ومنه علیه السلام ظهر مکنونها، وعنه أخذت قوانینها؛ وعلی أمثلته حذا کل قائل خطیب، وبکلامه استعان کل واعظ بلیغ. ومع ذلک فقد سبق وقصروا وقد تقدم وتأخروا، لأن کلامه علیه السلام الکلام الذی علیه مسحة من العلم الإلهی وفیه عبقة من الکلام النبوی، فأجبتهم إلی الابتداء بذلک عالماً بما فیه من عظیم النفع، ومنشور الذکر، ومذخور الأجر. اعتمدت به أن أبین عن عظیم قدر أمیرالمؤمنین علیه السلام فی هذه الفضیلة، مضافةً إلی المحاسن الدثرة، والفضائل الجمة. وأنّه علیه السلام انفرد ببلوغ غایتها عن جمیع السلف الأولین الذین إنّما یؤثر عنهم منها القلیل النادر، والشاذ الشارد فأما کلامه فهو البحر الذی لا یُساجل والجم الذی لا یحافل وأردت أن یسوغ لی التمثل فی الافتخار به علیه السلام بقول الفرزدق: أولئک آبائی فجئنی بمثلهم إذا جمعتنا یا جریر المجامع

ورأیت کلامه علیه السلام یدور علی أقطاب ثلاثة: أولها: الخطب والأوامر، وثانیها: الکتب والرسائل، وثالثها: الحکم والمواعظ؛ فأجمعت بتوفیق الله تعالی علی الابتداء باختبار محاسن الخطب، ثم محاسن الکتب، ثم محاسن الحکم والأدب. مفرداً لکل صنف من ذلک باباً، ومفصّلاً فیه أوراقاً، لتکون مقدمة لاستدراک ما عساه یشذ عنّی عاجلاً، ویقع إلیّ آجلاً. وإذا جاء شیء من کلامه علیه السلام الخارج فی أثناء حوار، أو جواب سؤال، أو غرض آخر من الأغراض به، وأشدها ملامحة لغرضه. وربما جاء فیما أختاره من ذلک فصول غیر متسقة، ومحاسن کلم غیر منتظمة؛ لأنّی أورد النکت واللمع، ولا أقصد التتالی والنسق.

ومن عجائبه، علیه السلام، التی انفرد بها، وأمن المشارکة فیها، أنّ کلامه الوارد فی الزهد والمواعظ، والتذکیر والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفکر فیه المتفکر، وخلع من قلبه أنّه کلام مثله ممن عظم قدره، ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملکه، لم یعترضه الشک فی أنّه کلام من لاحظ له فی غیر الزّهادة، ولا شغل له بغیر العبادة، قد قبع فی کسر بیت. أو انقطع إلی سفح جبل، لا یسمع إلّاحسّه، ولا یری إلّانفسه، ولا یکاد یوقن بأنّه کلام من ینغمس فی الحرب مصلتاً سیفه، فیقطّ الرقاب، ویجدل الأبطال، ویعود به ینطف دماً، ویقطر مهجاً. وهو مع تلک الحال زاهد الزهاد، وبدل الأبدال وهذه من فضائله العجیبة، وخصائصه اللطیفة، التی جمع بها

ص:38

بین الأضداد، وألف بین الأشتات، وکثیراً ما أذاکر الإخوان بها، وأستخرج عجبهم منها، وهی موضع للعبرة بها، والفکرة بها.

وربما جاء فی أثناء هذا الاختیار اللفظُ المردد، والمعنی المکرر؛ والعذر فی ذلک أنّ روایات کلامه تختلف اختلافاً شدیداً: فربما اتفق الکلام المختار فی روایة فنقل علی وجه، ثم وجد بعد ذلک فی روایة اُخری موضوعاً غیر موضعه الأول: إمّا بزیادة مختارة، أو لفظ أحسن عبارة فتقضی الحال أن یعاد، استظهاراً للاختیار، وغیرةً علی عقائل الکلام. وربما بعد العهد أیضا بما اختیر أولاً فأعید بعضه سهواً أو نسیاناً، لا قصداً واعتماداً. ورأیت من بعد تسمیة هذا الکتاب ب «نهج البلاغة» إذ کان یفتح للناظر فیه أبوابها، ویقرّب علیه طلابها، فیه حاجة العالم والمتعلم، وبغیة البلیغ والزاهد، ویمضی فی أثنائه من عجیب الکلام فی التوحید والعدل، وتنزیه الله سبحانه وتعالی عن شبه الخلق، ما هو بلال کل غلَّة، وشفاء کل علة، وجلاء کل شبهة.

ومن الله سبحانه أستمد التوفیق والعصمة، وأتنجّزُ التسدید والمعونة، وأستعیذه من خطأ الجنان، قبل خطأ اللسان، ومن زلة الکلم، قبل زلة القدم؛ وهو حسبی ونعم الوکیل.

ص:39

ص:40

الخطبة الاولی

اشارة

(1) ومن خطبة له علیه السلام

نظرة إلی الخطبة

تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلاغة، وما تصدرها النهج إلّادلالة واضحة علی براعة السید الرضی فی الاختیار. فالخطبة تتضمن الرؤیة الإسلامیة للصفات الکمالیة والجمالیة، ثم تشیر إلی قضیة خلق العالم بصورة عامة ومن ثم خلق السموات والأرض والملائکة، کما تخوض فی خلق آدم علیه السلام وتتعرض لقصة سجود الملائکة وإعتراض إبلیس وهبوط آدم علیه السلام إلی الأرض. ثم یتطرق علیه السلام إلی فلسفة بعثة الأنبیاء ولا سیما خاتمهم نبی الإسلام صلی الله علیه و آله إلی جانب التحدث عن عظمة القرآن الکریم وأهمیة سنّة النبی صلی الله علیه و آله، کما یتوقف عند مسألة الحج من بین الأحکام الإسلامیة کفرع من فروع الدین بصفته فریضة إلهیة کبری تختزن بعض الأسرار واللطائف، بالشکل الذی یمد المتتبع لهذه الخطبة برؤیة شمولیة لأهم القضایا الإسلامیة، من شأنها تقدیم الحلول لکافة المصاعب التی تنطوی علیها والتی تعترض سبیلها.

ص:41


1- 1) وردت هذه الخطبة (لیست بصورة کاملة بل بعضها) فی عدة کتب قبل السید الرضی (ره) و بعده. وکان ممن رواها قبله: 1- المرحوم الصدوق فی کتاب التوحید 2- المرحوم ابن شعبة الحرانی فی کتاب تحف العقول. أما من نقلها بعده: 1- الواسطی فی کتاب عیون الحکمة والمواعظ 2- المرحوم الطبرسی فی الاحتجاج 3- ابن طلحة فی کتاب مطالب السؤال 4- القاضی القضاعی فی دستور معالم الحکم 5- الفخر الرازی فی التفسیر الکبیر 6- الزمخشری فی ربیع الأبرار 7- القطب الراوندی فی منهاج البراعة 8- المرحوم العلامة المجلسی فی ج 4، 11، 18، 57، 77، 92 و 99 من بحارالانوار. طبعاً هناک تفاوت بین العبارات التی وردت فی الکتب المذکورة مع ما ورد فی نهج البلاغة.

وأخیراً فالخطبة من وجهة نظر بمثابة فاتحة الکتاب، حیث تقدم صورة کلیة عن المسائل التی درج علیها نهج البلاغة والتی وردت فی المحاور الرئیسیة لخطبه ورسائله وکلماته القصار.

وقد قسمنا هذه الخطبة إلی خمسة عشر قسماً تناولنا کل قسم منه بالبحث بصورة مستقلة لنخلص إلی النتائج الکلیة التی یمکن التوصل إلیها من الخطبة کوحدة کاملة.

ص:42

القسم الأول: بعد العقول عن معرفة الذات الإلهیة!

ومن خطبة له علیه السلام

یذکر فیها ابتداءً خلق السماء والأرض وخلق آدم وفیها ذکر الحج وتحتوی علی حمد اللّه وخلق العالم وخلق الملائکة واختیار الأنبیاء ومبعث النبی والقرآن والأحکام الشرعیة: «الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لا یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقائِلُونَ وَلا یُحْصِی نَعْماءَهُ الْعادُّونَ وَلا یُؤَدِّی حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ، الَّذِی لا یُدْرِکُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ وَلا یَنالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِی لَیْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَلا نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَلا وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلا أَجَلٌ مَمْدُودٌ، فَطَرَ الْخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَنَشَرَ الرِّیاحَ بِرَحْمَتِهِ وَوَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَیَدانَ أَرْضِهِ» .

الشرح والتفسیر إنّ نظرة عابرة إلی مضامین هذه الخطبة تفید إشارة الإمام علی علیه السلام إلی إثنتی عشرة صفة من الصفات الإلهیة بتصویر فنی رائع ونظم شاهق:

ففی المرحلة الاولی یشیر إلی کیفیة عجز العباد عن إظهار المدح والثناء وأداء حق الشکر الإلهی (أشیر فی هذه المرحلة إلی ثلاثة أوصاف) ویبین فی المرحلة الثانیة عجز البشریة من الناحیة الفکریة عن إدراک عظمة اللّه وکنه ذاته المقدسة (إشارة إلی وصفین فی هذه المرحلة) وفی المرحلة الثالثة یورد الدلیل علی ما أشار إلیه سابقاً والذی یکمن فی خروج هذه الذات

ص:43

عن الحدود وعدم تناهی نعمه وآلائه؛ الأمر الذی یستبطن ویعلل عجزنا عن إدراک ذاته القدسیة واستحالة أداء حقّه فی الشکر والحمد (وهو یشیر فی هذه المرحلة إلی أربعة أوصاف) وأخیراً یشیر علیه السلام فی المرحلة الرابعة إلی خلق العالم والکائنات، وکأنه أراد أن یکشف النقاب عن هذه الحقیقة وهی أن معرفة الذات الإلهیة إنّما تقتصر علی هذا السبیل، والذی یمثل منتهی قدرتنا واستطاعتنا (ویشیر فی هذه المرحلة إلی ثلاث من صفاته الفعلیة) .

ویفید هذا الأمر أنّ الدقة والنظام هی الأسس التی استندت إلیها هذه العبارات الرفیعة التی تضمنتها الخطبة التی أوردها هذا المعلم الربانی.

الآن وبعد هذه النظرة العامة نعود إلی بحث وتفسیر هذه الأوصاف الاثنی عشر التی اشتملت علیها الخطبة:

فقد استهل الإمام علیه السلام خطبته بحمد اللّه والثناء علیه مع التصریح بالعجز عن أداء حق الحمد، فقال علیه السلام: «الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لا یَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقائِلُونَ» . (1)

وذلک لأنّ أوصافه «الکمالیة» و «الجمالیة» لا تعرف الحدود، فما یؤدیه الملائکة والناس من حمد ومدح إنّما یتوقف علی مقدار معرفتهم بالذات المطلقة لا بمقدار کمالاته جل وعلا. وأنی لسائر الأفراد بزعم المعرفة وهذا النبی الکریم الذی یمثل أعظم أنبیاء اللّه یظهر عجزه عن معرفة الخالق المتعال فیصرح قائلاً: «ما عرفناک حق معرفتک» (2). فاذا عجز الإنسان عن معرفته فکیف یسعه حمده ومدحه؟ وعلیه فان ذروة حمدنا، ما أورده الإمام علیه السلام؛ أی إظهار العجز عن حمده وثنائه والاعتراف باستحالة بلوغ هذه الدرجة علی جمیع مخلوقاته سبحانه.

فقد ورد فی الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام أنّ اللّه أوحی إلی نبیّه موسی علیه السلام أن اشکرنی

ص:44


1- 1) کثر الکلام بین اللغوین ومفسری القرآن ونهج البلاغة [1]بشأن معنی الحمد والمدح والشکر، غیر أنّ المشهور بینهم أنّ الحمد هو کل مدح إزاء الإعمال الحسنة الاختیاریة؛ بینما ینطوی المدح علی مفهوم أوسع یشمل الإعمال الاختیاریة وغیر الاختیاریة، أمّا الشکر فأخص من المدح ویقتصر علی إیصال أحدهم نعمة إلی آخر فیشکره علی تلک النعمة. (من أراد المزید فلیراجع مجمع البحرین، لسان العرب، المفردات، شرح ابن الهیثم وشرح العلّامة الخوئی) . بینما صرّح بعض مفسری القرآن ونهج البلاغة [2]کالزمخشری فی الکشاف وابن أبی الحدید فی شرحه أن «الحمد والمدح أخوان، لا فرق بینهما) ، ویبدو أن التفسیر الأول أصح.
2- 2) أورد العلّامة المجلسی ضمن توضیحه لبعض الأخبار فی البحار، تعلیقاً علی کلام المحقق الطوسی هذا الحدیث «ما عبدناک حق عبادتک وما عرفناک حق معرفتک» دون ذکر سنده. بحار الانوار 68 /23. [3]

حق شکری. قال علیه السلام: إلهی! کیف أؤدی حق شکرک، وشکرک نعمة تحتاج إلی شکر (وهکذا یکون التوفیق إلی الشکر نعمة اخری تستحق الشکر) . فقال: «یا موسی الآن شکرتنی حین علمت أنّ ذلک مِنِّی» (1).

وهنا لابدّ من القول بأنّ الإنسان إذا ما قال: الحمد للّه، فانه أتی به کاملاً دون نقیصة، إلّاأن یکون فی حق اللّه، ولذلک جاء فی الخبر أنّ الإمام الصادق علیه السلام خرج من المسجد ولم یظفر بدابته، فقال علیه السلام، إن أعادها لی اللّه شکرته حق شکره، فلم تمض مدّة حتی أتی بها إلیه فقال علیه السلام: الحمد للّه. فقیل له: جعلت فداک ألم تقل أشکره حق شکره؟ فقال علیه السلام: ألم تسمع قولی الحمدللّه. (2)

أمّا فی الوصف الثانی فقد قال: «ولا یحصی نعمائه العادون» . وذلک لأنّ نعمه المادیة والمعنویة والظاهریة والباطنیة والفردیة والجماعیة لأکثر وأعظم من أن تعدّ وتحصی. فبدن الإنسان - علی سبیل المثال - مؤلف ممّا لا یحصی من الخلایا والأنسجة (یبلغ متوسطها عشرة ملیارات) التی تشکل کل وحدة منها کائناً حیاً ومرکباً معقداً ونعمة من نعمه سبحانه والتی یتعذر إحصاء عددها فی عشرات الاَلوف من السنین، فاذا عجز الإنسان عن إحصاء نعم اللّه فی هذا الجانب الیسیر فقط، فکیف یسعه أن یحصی جمیع هذه النعم والآلاء علی المستویات المادیة أو المعنویة؟ فی الواقع لیس لدینا من علم بکافة نعمه لیتسنی لنا عدّها أو إحصائها. فأغلب نعمه قد أغرقت کیاننا وأحاطت بوجودنا، وحیث لم نسلبها قط فقد غفلنا عنها ولم نحط بها (فلا یشعر بالنعمة إلّابعد فقدانها) ، أضف إلی ذلک فان ظفر الإنسان بالنعم والآلاء إنّما یتناسب طردیاً واتساع مدی علمه ومعرفته؛ الأمر الذی یؤدی إلی الاذعان - وکما قال أمیرالمؤمنین علیه السلام - بهذه الحقیقة «ولا یحصی نعمائه العادون» . ویمکن لهذه العبارة أن تکون علة للعبارة السابقة «لا یبلغ مدحته القائلون» إذ کیف یمکن حمد اللّه والثناء علیه فی ظل العجز عن إحصاء نعمه! ویبدون أنّ هذه النعم ما زالت لا تعرف الحدود رغم الحالة المؤسفة فی قیام بعض الظلمة والفئات النفعیة باحتکار أغلب النعم أو تضییعها من خلال البذخ

ص:45


1- 1) اصول الکافی 2 / 98، ح 27. [1]
2- 2) المصدر السابق / 97، ح 18. [2]

والاسراف والتبذیر، وتعریض طبقات المجتمع للتعب والارهاق. ویقول علیه السلام فی الوصف الثالث: «ولا یؤدی حقّه المجتهدون» . وهذه الجملة فی الحقیقة استنتاج ترتب علی العبارة السابقة، فاذا تعذر إحصاء النعم فکیف یمکن أداء حقها؟ بعبارة اُخری فإن حقّه بقدر عظمة ذاته القدسیة، فی حین شکرنا وحمدنا بقدر قدرتنا الزهیدة، فأین هذا الحمد من ذلک الحق! ولا یقتصر هذا المدح والثناء وأداء الحق علی العجز فی الجانب العملی فحسب بل هو قائم حتی من الناحیة الفکریة.

ولذلک أردف علیه السلام - وفی إطار بیانه لوصفین آخرین - قائلاً: «الذی لا یدرکه بعد الهمم ولا یناله غوص الفطن (1)» . وکأنّ التعبیر ببعد الهمم وغوص الفطن إشارة إلی حقیقة مؤداها أنّ الأفکار الخارقة مهما انطلقت فی قوس الصعود والفطن المتوهجة فی قوس النزول فأنها تبقی عاجزة عن إدراک کنه ذاته المقدسة. ولا یترک الإمام الاقرار بهذا العجز دون تقدیم الدلیل، فیقول: «الذی لیس لصفته حد محدود، ولا نعت (2)موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود» .

أی أنی لنا الاحاطة بکنه ذاته، والحال أن فکرنا بل جمیع کیاننا محدوداً لا یحسن سوی إدراک الأشیاء المحدودة، بینما لا تعرف الذات الإلهیة من حدود من جمیع النواحی، فلیس هنالک من حد أو وصف قابل للإدراک لصفاته المطلقة من الازل إلی الأبد والتی تأبی الاولیة والاخرویة والبدایة والنهایة. ولا یقتصر هذا الأمر علی الذات، فصفاته هی الاُخری لیس لها من حدود، فعلمه لا یعرف الحدود، وقدرته لا متناهیة، ولا غرو فصفاته عین ذاته التی لیس لها حد محدود.

بعبارة اُخری فانّ اللّه وجود مطلق لیس له أی قید وشرط، ولو کان لقید أو شرط وحد من الحدود من سبیل إلی ذاته لأصبح مرکبا، فی حین نعلم بأن المرکب - کما یقول الفلاسفة -

ص:46


1- 1) «همم» جمع همة تعنی فی الأصل الذویان والجریان والحرکة ولهذا یطلق الهم حیث بسبب ذویان الجسم الإنسان وروحه، ثم أطلق علی کل أمر مهم أو ما یشغل فکر الإنسان (ورد شبه ذلک فی المفردات) . «غوص» تعنی فی الأصل الغمس فی الماء، ثم أطلقت علی الدخول فی کل عمل مهم. «فطن» جمع فطنة علی وزن فتنة الفهم و الذکاء حسب لسان العرب.
2- 2) «الأجل» بمعنی انتهاء الشیء کعمر الإنسان وما إلی ذلک کالعقود والعهود.

ممکن الوجود لا واجب الوجود - وعلیه فواجب الوجود ذات مطلقة غیر محدودة فی کافة أبعادها، ولذلک کان سبحانه وتراً واحداً لیس له کفؤاً ولا شبیهاً، لاستحالة قیام وجودین مطلقین من جمیع الجهات، وذلک لأنّ هذا التناقض إنّما یؤدی إلی محدودیة الطرفین، فهذا فاقد لوجود ذلک، وذاک أیضاً فاقد لوجود هذا (تأمل هذا الموضوع) .

وبعد أن تعرض الإمام علیه السلام لصفات الجمال والجلال (الصفات الثبوتیة والسلبیة) ، أشار علیه السلام إلی جانب من صفاته الفعلیة سبحانه، فقال: «فطر (1)الخلائق بقدرته، ونشر الریاح برحمته، ووتد (2)بالصخور (3)میدان (4)أرضه» . لقد استوحیت هذه التعبیرات من بعض الآیات القرآنیة، فالعبارة «فطر الخلائق بقدرته» مستوحاة من الآیة الشریفة «فاطِرِ السَّمواتِ وَالأَرضِ» التی وردت فی عدّة سور قرآنیة من قبیل: سورة یوسف / 101 وسورة إبراهیم / 100 وسورة فاطر / 35 وسائر السور المبارکة.

والعبارة «نشر الریاح برحمته» من الآیة الشریفة «وَهُوَ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیاحَ بُشْراً بَیْنَ یَدَیْ رَحْمَتِهِ» . (5)

والعبارة «ووتد بالصخور میدان أرضه» من الآیة 15 من سورة النمل «وَأَلْقی فِی الأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ» . (6)

وبالالتفات إلی ما ذکرنا من معنی «فطر» فانه شبه الخلق بشق الحجاب الظلمانی للعدم؛ الحجاب المتسق والمنسجم الذی لا شق فیه، غیر أن قدرته المطلقة تشقه وتخرج منه المخلوقات، ولیس من شأن أیة قدرة سوی قدرته أن تفعل هذا. فقد اتفقت کلمة الفلاسفة والمفکرین علی استحالة استحداثنا لشیء من العدم، أو تحویلنا من وجود إلی عدم، وکل

ص:47


1- 1) «فطر» من مادة «فطر» علی وزن بمعنی شق الشیء من الطول ومنه الافطار فی الصوم
2- 2) «وتد» من مادة «وند» (علی وزن وقت) بمعنی إثبات الشیء ولذلک یطلق الوتد علی المسمار الذی یثبت فی الأشیاء ویمنحها الثبات أیضاً، وأحیاناً یطلق «الوتد» علی وزن «الوقت» .
3- 3) «الصخور» جمع «صخرة» ، وقال صاحب لسان العرب تعنی الحجر الکبیر الصلب.
4- 4) «میدان» من مادة «مید» علی وزن (صید) بمعنی الحرکة والاضطراب ومیدان علی وزن (ضربان) بهذا المعنی أیضاً و «میدان» علی وزن (حیران) وجمعه میادین بمعنی الفضاء الواسع.
5- 5) سورة الأعراف /57. [1]
6- 6) سورة النحل / 15. [2]

مامن شأن قدرتنا فعله هوتغییر شکل الموجودات من شکل إلی آخر ولا غیر!

أمّا التعبیر بالرحمة عن حرکة الریاح فهو تعبیر عذب رائع ینسجم ولطافة النسیم وهبوب الریاح وآثاره المختلفة من قبیل حرکة السحب والغیوم نحو الأراضی القفار وتلقیح الأزهار ونمو النباتات واعتدال الجو وحرکة السفن والفلک فی البحر وانخفاض درجات الحرارة وسائر الخیرات والبرکات المکنونة فی هذه الحرکة. امّا عن کیفیة توتید الأرض بهذه الجبال والصخور، فالحق لا یمکن الآن قبول النظریات والاطروحات التی أوردها قدماء العلماء بهذا الشأن إثر قولهم بسکون الأرض وعدم حرکتها، حتی جاءت النظریات الحدیثة التی تنسجم مع الحقائق العلمیة من جهة وتتفق والآیات القرآنیة والروایات الواردة بهذا الخصوص من جهة اُخری، وذلک لأنه:

1 - أنّ وجود الجبال علی سطح الکرة الأرضیة یؤدی إلی الحد من آثار ظاهرة المد والجزر التی تشهدها الیابسة بفعل جاذبیة الشمس والقمر. فلو اجتاحت الأراضی الرخوة سطح الأرض لأصبح المد والجزر کالبحار والأنهار بما یجعل من المتعذر العیش علی هذه الأرض.

2 - أنّ جذور الجبال متصلة مع بعضها تحت القشرة الأرضیة وکأنّها درع قد أحاط بالأرض، ولولاها لماجت الأرض وعاشت الحرکة باستمرار وفقدت استقرارها بفعل الضغط الداخلی الذی تفرزه الغازات الداخلیة والمواد المذابة. وما الزلازل التی تقع إلّانتیجة طبیعیة لمثل هذا الضغط الذی یتجاوز الحدود المعینة، ولولا هذه الجبال لتواصلت هذه الزلزلة دون انقطاع.

وبناءً علی ما تقدم فان هذه الصخور (الجبال) إنّما توتد الأرض وتحول دون فقدانها لاستقرارها، وناهیک عمّا تقدم فانّ الجبال تعدّ من أهم مصادر الحیاة الجوفیة للإنسان، وأنّ کافة العیون والأنهار إنّما تنبع من مصادر الجبال الجوفیة وتلک التی علی سطح الأرض.

ویتّضح ممّا ذکرنا سابقاً بشأن الدور الحیوی الذی تلعبه الریاح والجبال فی حیاة الإنسان وسائر الکائنات الحیة، علة تأکید الإمام علی علیه السلام هذین الأمرین بعید الإشارة إلی مسألة الخلق والخلیقة.

ص:48

القسم الثانی: توحید الذات والصفات

«أَوَّلُ الدِّینِ مَعْرِفَتُهُ وَکَمالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِیقُ بِهِ وَکَمالُ التَّصْدِیقِ بِهِ تَوْحِیدُهُ وَکَمالُ تَوْحِیدِهِ الْإِخْلاصُ لَهُ وَکَمالُ الْإِخْلاصِ لَهُ نَفْیُ الصِّفاتِ عَنْهُ لِشَهادَةِ کُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَیْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهادَةِ کُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَیْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللّه سُبْحانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنّاهُ وَمَنْ ثَنّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَمَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشارَ إِلَیْهِ وَمَنْ أَشارَ إِلَیْهِ فَقَدْ عَدَّهُ» .

الشرح والتفسیر

تمثل هذه العبارات دورة تربویة تامة فی المعرفة الإلهیة. فقد اعتمد أمیر المؤمنین علیه السلام عبارات مقتضبة عمیقة المعنی بحیث قدم صورة عن الحق تبارک وتعالی لا یمکن الإتیان بأحسن منها حتی ولو جمعنا کافة دروس التوحید والمعارف إلیها وجعلنا بعضها إلی جانب البعض الآخر، فانّها تعجز عن رسم مثل تلک الصورة.

فقد ذکر علیه السلام فی هذا الجانب من خطبته خمسة مراحل لمعرفة اللّه یمکن ایجازها فی مایلی:

1 - المعرفة الإجمالیة والناقصة

2 - المعرفة التفصیلیة

3 - توحید الذات والصفات

4 - الاخلاص

5 - نفی التشبیه

فقد قال علیه السلام مبتدأ «أول الدین معرفته» . لا شک أنّ الدین هنا یعنی مجموعة العقائد

ص:49

والواجبات والوظائف والأخلاق، ومن المعلوم أنّ دعامتها الأساسیة هی «معرفة اللّه» ، وعلیه فمعرفة اللّه تمثل الخطوة الاولی علی الطریق من جانب والمحور الرئیسی لکافة أصول الدین وفروعه، ولیس لهذا الدین من حیویة دون هذه المعرفة - أمّا أولئک الذین یعتقدون بأنّ هناک شیئاً آخر قبل معرفة اللّه، إلّاوهو النظر فی طریق معرفة اللّه والتحقیق بشأن الدین ووجوب المطالعة، فهم علی خطأ کبیر. وذلک لأنّ وجوب التحقیق یمثل أول الواجبات، بینما تمثل معرفة اللّه أول دعامة للدین، أو بعبارة أُخری فان التحقیق مقدمة ومعرفة اللّه أولی مراحل ذی المقدمة. (1)

والنقطة الاُخری المفروغ منها هی أنّ المعرفة الإجمالیة قد أودعت فطرة الإنسان ولا تتطلب أدنی تبلیغ بهذا الشأن، وإنما بعث الأنبیاء لاستبدال هذه المعرفة الإجمالیة بتلک المعرفة التفصیلیة الکاملة المتقنة وإغناء جوانبها وتطهیر الفکر البشری من أدران الشرک وأرجاسه.

ثم قال علیه السلام: «وکمال معرفته التصدیق به» . هنالک عدّة تفاسیر للفارق بین التصدیق والمعرفة. بادئ ذی بدء المراد هنا بالمعرفة هی المعرفة الفطریة، والمقصود بالتصدیق المعرفة العلمیة والاستدلالیة. أو أنّ المراد بالمعرفة هنا المعرفة الإجمالیة، والمقصود بالتصدیق المعرفة التفصیلیة. أو أنّ المعرفة تشیر إلی العلم باللّه، والتصدیق یشیر إلی الإیمان، لأنّ العلم لا یفارق الإیمان، فالإنسان قد یوقن بشیء إلّاأنّه لا یؤمن به قلبیاً - بمعنی التسلیم له والاذعان به قلبیاً، أو بتعبیر آخر الاعتقاد به -. وأحیاناً یضرب الفضلاء مثلاً لانفصال هذین الأمرین عن بعضهما، فیقولون: إنّ أغلب الأفراد یشعرون بالهلع ولا سیما فی اللیلة المظلمة حین البقاء إلی جانب میت فی غرفة خالیة، رغم علمهم بانه میت، لکن کأن العلم لم ینفذ إلی أعماقهم ویتسلل إلی قلوبهم، فلم یحصل ذلک الإیمان المطلوب وبالتالی فقد تمخض عن هذا الهلع والخشیة.

وبعبارة اُخری فانّ العلم هو تلک المعرفة القطعیة بالشیء، إلّاأنّها قد تکتسب صبغة

ص:50


1- 1) لقد ذهب المرحوم العلّامة المعروف «محمد جواد مغنیة» فی کتابه «فی ظلال نهج البلاغة» إلی أنّ هذه المعرفة تعنی الطاعة والانقیاد لأوامر اللّه ونواهیه، وهذا هو المعنی الذی اختاره من قبله الشارح الخوئی - رضوان اللّه علیه، فان کان مرادهما الطاعة بالمعنی الشامل للکلمة بما فیها الاُمور العقائدیة صح ذلک، وإن اقتصر علی الجوانب العملیة فقط یرد علیهما ما أوردناه سابقاً.

سطحیة فلا تنفذ إلی أعماق وجود الإنسان وروحه، فاذا نفذت إلی أعماقه وبلغت مرحلة الیقین بحیث أذعن الإنسان بذلک قلبیاً، فان ذلک العلم یکتسب صفة الإیمان. ثم قال علیه السلام فی المرحلة الثالثة «وکمال التصدیق به توحیده» . فمما لاشک فیه أنّ الإنسان لم یبلغ مرحلة التوحید الکامل علی أساس معرفته التفصیلیة للّه أو بتعبیر آخر بالمعرفة القائمة علی أساس الدلیل والبرهان. فالتوحید التام فی أن ینزه الذات الإلهیة عن کل شبه ومثیل ونظیر. وذلک لأنّ من جعل له شبیه وصنو لم یعرفه، فاللّه وجود مطلق غنی بالذات عمّا سواه ولیس کمثله شیء، ومن طبیعة الاشیاء التی لها أشباه وأمثال أن تکون محدودة، لأنّ أی من الشبیهین منفصل عن الآخر وفاقد لکمالاته.

إذن فالإنسان لا یبلغ مرحلة الکمال إلّابالتصدیق بذاته المنزهة فی أنّه واحد؛ واحد لا عن عدد، بل واحد بمعنی خلوه من الشبیه والمثیل.

ثم ینتقل الإمام علیه السلام إلی المرحلة الرابعة وهی مرحلة الاخلاص فیقول: «وکمال توحیده الاخلاص له» . والاخلاص من مادة الخلوص بمعنی تصفیة الشیء عن الغیر، بمعنی التصفیة والتنزه. وهناک خلاف بین مفسری نهج البلاغة بشأن هذا الاخلاص، وهل المراد به الاخلاص العملی أم القلبی أم العقائدی. والمراد بالاخلاص العملی هو أن یعیش الفرد ذروة التوحید الإلهی فلا یسأل سواه ولا یری غیره فیما یقوم به من أفعال وأعمال. وهو الأمر الذی تناوله الفقهاء فی بحث الاخلاص فی العبادة، وقد أورد «الشارح الخوئی» (ره) هذا التفسیر بصفته أحد الأقوال دون أن یذکر من قال به. (1)

أمّا الاخلاص القلبی والذی عبر عنه «الشارح البحرانی ابن میثم» بالزهد الحقیقی فهو یعنی توجه القلب إلی اللّه وعدم التفکیر بما سواه، والانشغال بغیره (2). إلّاأننا نری أنّ الاخلاص

ص:51


1- 1) منهاج البراعة 1 / 321. وقد نقل الشارح الخوئی بأنّ لصدر الدین الشیرازی مثل هذا الاعتقاد فی شرح الکافی.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن میثم 1 / 122.

مفهوم عظیم وسامی لا ینسجم وما أورده الشرّاح فی هذه العبارات، ومن المستبعد أن یکون هذا هو المراد به. أمّا المفهوم الوحید الذی یناسبه هو تنزیه الاعتقاد باللّه تبارک وتعالی؛ أی تنزیهه فی وحدته عن کل شبیه ومثیل، إلی جانب تقدیسه عن الترکیب من الأجزاء.

وقد أشار الإمام علیه السلام إلی هذا المعنی فی المرحلة الخامسة حین قال: «وکمال الاخلاص له نفی الصفات عنه» . وبعبارة اخری فان الحدیث فی المرحلة السابقة قد تناول الاخلاص علی نحو الإجمال، فلما بلغ الاخلاص هنا مرحلة الکمال غاص فی التفاصیل، لیتضح من ذلک أنّ الاخلاص فی التوحید یتطلب تنزیهه عن کافة الصفات التی یتصف بها المخلوق، سواء کانت هذه الصفات بمعنی الترکب من الأجزاء أم غیرها، وذلک لأننا نعلم بأنّ جمیع الممکنات بما فیها العقول والنفوس المجردة هی فی الواقع مرکبة (علی الأقل مرکبة من الوجود والماهیة) وحتی المجردات؛ أی الموجودات الخارجة عن المادة هی الاُخری لیست مستثناة من هذا الترکب، أمّا الموجودات المادیة فکلها مترکبة من الأجزاء الخارجیة، لکن الذات الإلهیة المقدسة لا تشتمل علی الأجزاء الخارجیة ولا الأجزاء العقلیة، لایمکن تجزأته فی الخارج ولا فی إدراکنا وفهمنا. وکل من غفل عن هذه الحقیقة لم یظفر بالتوحید الخالص، ومن هنا یتضح بأنّ مراده علیه السلام بقوله «کمال توحیده نفی الصفات عنه» لیس الصفات الکمالیة؛ لأنّ کافة الصفات الکمالیة من قبیل العلم والقدرة والحیاة وما إلی ذلک من الصفات ثابتة له، بل المراد الصفات التی ألفناها وتعرفنا علیها وهی صفات المخلوقین المشوبة بالنقص. فالمخلوقات لها حظ من علم وقدرة، غیر أنّ علمها وقدرتها محدودة ناقصة مشوبة بالجهل والضعف والعجز، بینما الذات الإلهیة منزهة عن مثل هذا العلم والقدرة وأفضل دلیل علی ذلک ما أورده الإمام علیه السلام فی ذیل هذه الخطبة بشأن الملائکة فوصفهم بقوله: «لا یتوهمون ربهم بالتصویر ولا یجرون علیه صفات المصنوعین» . أضف إلی ذلک فان صفات المخلوقات منفصلة دائماً عن ذواتها، أو بعبارة اُخری فانّ صفاتها زائدة علی ذواتها. فالإنسان شیء وعلمه وقدرته آخر، وبناءً علی هذا فوجوده مرکب من هذین الشیئین، والحال أنّ صفات اللّه عین ذاته ولیس هنالک من سبیل لهذا الترکب. والواقع أنّ أعظم عقبة تعترض مسیرة التوحید إنّما تکمن فی قضیة

ص:52

«القیاس» ؛ أی قیاس صفات اللّه بصفات المخلوقات المفعمة بأنواع النقص والعیب، أو الاعتقاد بالصفات الزائدة علی الذات؛ الورطة التی وقعت فیها الأشاعرة «فرقة من المسلمین» . (1)

ولذلک أردف الإمام علیه السلام قائلاً: «لشهادة کل صفة - من الممکنات - أنّها غیر الموصوف وشهادة کل موصوف - من الممکنات - أنّه غیر الصفة» .

فکلامه علیه السلام دلیل واضح وجلی فی أنّ الصفات الزائدة علی الذات تشهد بلسان حالها أنّها غیر الموصوف، وکل موصوف یشهد بأنّه لیس من الصفات، اللّهم إلاّ أن نقول بأنّ صفاته عین ذاته، ونؤمن بأنّ اللّه ذات جمیعها علم وجمیعها قدرة وجمیعها حیاة وأزلیة وأبدیة، وإن کان إدراک مثل هذا الاعتقاد متعذر علینا نحن المخلوقات الذین أنسنا بصفات المخلوق فقط ونری أنّ الإنسان شیء وعلمه وقدرته شیئاً مضافاً للذات زائداً علیها، لأننا نلد من أمهاتنا ولیس لنا من علم وقدرة ثم نحصل علیها لاحقاً.

ثم یواصل الإمام علیه السلام خطبته ویردفها بعبارة قصیرة إلّاأنّها عمیقة المعنی فیقول: «فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله» .

فالواقع أنّ کلام الإمام علیه السلام یفید أن اثبات الصفات التی تتصف بها المخلوقات للّه یستلزم الترکب فی وجوده سبحانه؛ أی کما أنّ المخلوق - الإنسان - مرکب من الذات والصفات فان اللّه مرکب کذلک؛ بینما لا ینسجم هذا المعنی وواجب الوجود، لأنّ کل مرکب یحتاج إلی أجزائه والحاجة تتناقض والغنی المطلق لواجب الوجود.

ص:53


1- 1) الأشاعرة هم أتباع «أبو الحسن الأشعری» الذین یؤمنون بالمعانی، والمراد بالمعانی هو أن مفهوم الصفات من قبیل العالمیة والغالبیة و. . . کالذات الإلهیة قدیمة أزلیة، کما أنّها فی نفس الوقت غیر الذات الإلهیة، وعلیه فهم یعتقدون بأزلیة بعض الأشیاء، بعبارة اُخری یقولون بتعدد القدماء، وهی العقیدة التی تتنافی تماماً والوحدانیة الخالصة، ولذلک ینفی أتباع أهل البیت علیهم السلام - علی ضوء ما تلقوه عنهم من تعالیم کالذی جاء فی هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة وکلمات أئمة العصمة علیهم السلام - هذه المعانی التی تمثل الصفات الزائدة علی الذات، وقد أشارت العبارة «لا شریک له ولا معانی» لهذا الأمر.

وهناک تفسیران آخران ذکرا لهذه العبارة:

الأول: أننا إذا اعتبرنا صفاته سبحانه غیر ذاته، فانّ ذاته ستکون مرکبة، لأنّ الذات والصفات علی فرض التناقض ستشتملان علی جهات مشترکة ومتمایزة والذی یعبّر عنه «ما به الاشتراک» و «ما به الامتیاز» . لأنّ کلیهما مشترک فی الوجود وفی نفس الوقت متمایزان عن بعضهما، وفی هذه الحالة لابدّ أن نعتبر ذاته مرکبة من جهتین مختلفتین أیضاً.

الثانی: أن نؤمن بوحدة الذات الإلهیة، ولا نعنی بها الوحدة العددیة، بل یعنی مفهوم الوحدة بالنسبة للذات الإلهیة أنّها منزهة عن الشبیه والمثیل والنظیر. وبشکل عام فانّ الوجود المطلق من کل الجهات یأبی أن یکون له شبیه ومثیل، فان قلنا بأنّ صفات اللّه کذاته أزلیة وأبدیة ومطلقة، نکون قد حددناه سبحانه من جانب وقلنا بشبیه له من جانب آخر (لابدّ من التأمل فی هذا الکلام) وهذا هو المعنی الذی کشف عنه الإمام علیه السلام فی إطار توضیحه للاخلاص، فقال «فمن وصف اللّه سبحانه» أی وصفه بصفات المخلوقین «فقد قرنه» بالأشیاء الاُخری «ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزاه ومن جزاه فقد جهله» لأنّه حین جزاه بمعنی جعل ذاته مترکبة من أجزاء وحقاً لم یعرف اللّه من اعتقد بترکب ذاته؛ وذلک لأنّه تصور کائناً علی شاکلته - من حیث الترکیب والمحدودیة - وأسماه اللّه.

ثم یقول علیه السلام: «ومن جهله فقد أشار إلیه، ومن أشار إلیه فقد حده، ومن حده فقد عده» . ویوجد احتمالان بشأن قوله علیه السلام: «ومن أشار إلیه» الأول أن یکون المراد بها الإشارة العقلیة، والثانی أن یکون المراد بها الإشارة العقلیة والحسیة. وتوضیح ذلک أنّ الإنسان إذا لم یعرف اللّه بتلک الحقیقة المطلقة اللامتناهیة فانّه سیمتلک فی ذهنه مفهوماً محدوداً وخاصاً عنه سبحانه، أو بتعبیر آخر فانّه سیشیر إلیه بالإشارة العقلیة، وبالطبع سیکون محدوداً فی هذه الحالة تصوراً، وذلک لتعذر إدراک وتصور اللامحدود واللامتناهی علی الإنسان المحدود والمتناهی. فالإنسان إنّما یدرک ما یحیط به من أشیاء یسعه تجسیمها فی فکره المحدود، وبالطبع فان مثل هذه الموجودات محدودة. وعلی هذا الضوء فان اللّه سیکون فی مصاف المعدودات والأشیاء القابلة للعدد، لأنّ من لوازم المحدود هو إمکان تصور موجود آخر فی موضع آخر مثله.

ص:54

والأول الوحید الذی لیس له ثان من کان غیر محدود من جمیع الجهات ولا یسعه العدد. وعلی هذا الأساس فان مولی الموحدین - علی بن أبی طالب علیه السلام - قد عکس حقیقة التوحید فی هذه العبارة القصیرة ذات المعنی العمیق، فوصف البارئ سبحانه بما یفوق الخیال والقیاس والظن والوهم. وهی ذات الحقیقة التی کشف النقاب عنها الإمام الباقر علیه السلام حین قال: «کل ما میزتموه باوهامکم فی أدق معانیه مخلوق مصنوع مثلکم مردود إلیکم» (1).

والاحتمال الآخر مازال قائماً بأن یکون المراد «بالإشارة» الإشارة العقلیة والإشارة الحسیة أیضاً؛ وذلک لأنّ اللّه لیس بجسم ولا عرض والاعتقاد بجسمیة اللّه جهل محض، ونتیجة ذلک کون الذات الإلهیة محدودة لأنّ کل مشار إلیه فهو محدود، فالمشار إلیه لابدّ أن یکون فی جهة مخصوصة، وکل ما هو فی جهة فله حد وحدود.

سؤال

هنا یبرز سؤال یطرح نفسه: إذا تعذرت حتی الإشارة العقلانیة للّه، فانّ معنی ذلک تعطیل معرفة اللّه وإغلاق أبواب المعرفة بوجه الإنسان وبالتالی سوف لن یکون هناک من مفهوم لمعرفة اللّه. وذلک لأننا کلما حاولنا التوجه إلی تلک الذات المقدسة ارتطمنا بمخلوق من نسج أفکارنا، کلما أردنا الاقتراب منه لم نزدد إلّابعداً عنه، فما أحرانا والحالة هذه الا نقتحم میدان المعرفة بغیة عدم الابتلاء بالشرک.

الجواب

إنّ الجواب علی هذا السؤال یتضح من خلال الإلتفات إلی نقطة مهمّة - من شأنها أن تحل المشکلة هنا وفی سائر الموارد - وهی أنّ المعرفة علی نوعین: معرفة إجمالیة ومعرفة تفصیلیة، أو بتعبیر آخر معرفة کنه الذات ومعرفة مبدأ الأفعال. فاننا حین نتأمل عالم الوجود بما یضم من العجائب والغرائب والکائنات بتلک الروعة والجمال والعظمة، بما فی ذلک وجودنا نحن الأفراد لنشعر بأنّ هنالک خالقاً ومدبراً لهذا الکون وهذا هو العلم الإجمالی الذی یمثل ذروة معرفة الإنسان باللّه (غایة مافی الأمر أننا کلما تعرفنا أکثر علی أسرار الوجود وقفنا بصورة

ص:55


1- 1) بحار الأنوار 66 / 293. [1]

أعمق علی عظمته وتعززت به معرفتنا الإجمالیة أکثر فأکثر) إلّاأننا حین نعود بالسؤال لأنفسنا عن ماهیته وکیفیته ونحاول الاقتراب من حقیقة ذاته المقدسة لا نحظی سوی بالحیرة والغموض؛ الأمر الذی یجعلنا نقول بأنّ السبیل إلیه مفتوح علی مصراعیه وفی نفس الوقت مؤصد ومغلق تماماً.

وهنا یمکننا إیضاح هذه المسألة بمثال بسیط. فالکل یعلم بوجود قوة الجاذبیة؛ لأنّ کل جسم یترک فی الهواء یسقط إلی الأرض بفعل جاذبیتها، ولولا هذه الجاذبیة لانعدم استقرار الأجسام علی سطح الکرة الأرضیة. ولا تقتصر معرفة الجاذبیة والعلم بوجودها علی العلماء، بل یدرکها حتی الصبیة والأطفال؛ ولکن ماهی حقیقة الجاذبیة، هل هی أمواج لا مرأیة أم ذرات مجهولة أم قوة اُخری؟ والعجیب أنّ قوة الجاذبیة وخلافاً لکل ما نعرفه من قوانین عالم المادة، یبدو أنّها لا تحتاج من زمان للانتقال من نقطة إلی اُخری، بل علی خلاف الضوء الذی یمثل أسرع حرکة فی عالم المادة، فی حین قد یحتاج إلی مدّة زمانیة تصل إلی ملایین السنین الضوئیة للانتقال فی الفضاء من نقطة معینة إلی نقطة اُخری. إمّا قوة الجذب فتنتقل فی لحظة من أیة نقطة فی العالم إلی اُخری، أو أنّها تمتلک حد أقل من السرعة یفوق ما سمعناه لحد الآن. فما هذه القوة التی تمتلک مثل هذه الآثار؟ وما حقیقة کنه هذه القوة؟ لیس هنالک من یسعه تقدیم جواب شاف لهذه الاسئلة. فاذا کان علمنا ومعرفتنا بشأن القوة الجاذبة - التی تعتبر أحد المخلوقات - تقتصر علی المعرفة الإجمالیة دون المعرفة التفصیلیة، فأنی لنا توقع المعرفة بکنه الذات المقدسة لخالق عالم المادة وما ورائها من وجودات لا متناهیة؟ ! لکن مع ذلک فاننا نراه حاضراً وناظراً فی کل مکان ومقارناً لکل وجود فی العالم. امّا العبارة «ومن حده فقد عده» فهی إشارة إلی أمر مهم یتضح من الکلام السابق وهو أنّ من حد اللّه وجب علیه أن یراه معدوداً، وبعبارة اُخری فانه یعتقد بإمکانیة وجود الشریک له. لأنّ المطلق من جمیع الجهات فقط هو الذی یأبی الشبیه والمثیل والشریک؛ بینما إن کان محدوداً (مهما کانت عظمته وقدرته) کان له شبیهاً ومثیلاً خارج ذاته، وبتعبیر آخر فلیس هناک من ضیر فی تصور موجودین محدودین أو أکثر (مهما بلغ کبرهما) ، بینما یستحیل تصور وجود ثان للمطلق من کل الجهات؛ وذلک لأنّ کل ما یتصور إنّما یعود إلی ذاته.

ص:56

القسم الثالث: لیس کمثله شیء

اشارة

«وَ مَنْ قالَ «فِیمَ» فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قالَ «عَلامَ» ؟ فَقَدْ أَخْلَی مِنْهُ. کائِنٌ لا عَنْ حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ کُلِّ شیء لا بِمُقارَنَةٍ، وَغَیْرُ کُلِّ شَیْءٍ لا بِمُزایَلَةٍ، فاعِلٌ لا بِمَعْنَی الْحَرَکاتِ وَالْآلَةِ، بَصِیرٌ إِذْ لا مَنْظُورَ إِلَیْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إِذْ لا سَکَنَ یَسْتَأْنِسُ بِهِ وَلا یَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ» .

الشرح والتفسیر لقد تعرض الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة إلی عدّة نقاط حساسة ودقیقة بشأن مباحث التوحید بکلمات قلیلة ومعان عمیقة یمکن إیجازها فی خمس:

1 - کون الذات الإلهیة المطلقة منزهة عن المکان، فقد قال علیه السلام: «ومن قال فیم؟ فقد ضمنه» . فالکلمة (فی) إنّما تستعمل بشأن المکان الذی یحوی الشیء ویحیط به، من قبیل قولنا فلان فی الدار، والورد فی البستان وما إلی ذلک، ونتیجة ما تقدم هو محدودیة ذاته سبحانه، بینما أشرنا سابقاً إلی أنّ کافة أدلة التوحید تفید کون الذات المقدسة مطلقة من جمیع الجهات.

وهکذا من سأل «علام» بشأن اللّه؟ (علی العرش، علی الکرسی، علی السموات) فقد حده لأنه أخلی منه سائر المواضع «ومن قال علام؟ فقد أخلی منه) . فمثل هذه الأسئلة تستلزم کون الذات القدسیة محدودة، وهذا مالا ینسجم وکونه واجب الوجود. وبناءً علی هذا فکل من تصوره علی العرش أو علی السموات أو أی مکان آخر فقد جرد نفسه من التوحید الخالص، وفی الواقع فانّه یعبد مخلوقاً من نسج خیاله الفکری ویسمیه اللّه. فقد ذهب بعض الجهال إلی

ص:57

أنّ الشریفة «الرَّحْمنُ عَلی العَرْشِ اسْتَوی» (1)دلیل علی جسمیة اللّه وأنّه علی العرش، بینما تفید کلمة «استوی» معنی السیطرة علی الشیء ولا تقتصر علی معنی التربع علی الشیء أو الاستقرار علیه، بل هناک تعبیر کنائی معروف ومتداول بشأن تزعم الاُمور والأخذ بزمامها فی مقابل اعتزال السلطة وانفلات القدرة، فیقال «اسْتَوی عَلی العَرْشِ» فی مقابل «ثل عرشه» ولا یراد کسر عرش السلطة أو التربع علیه. وعلیه فالذی تفیده الآیة الکریمة «اسْتَوی عَلی العَرْشِ» هو استقرار حکومته وسلطته سبحانه علی العرش. علی کل حال یبدو من السذاجة والسخریة الاستدلال بهذه الآیة علی جسمیته سبحانه.

2 - یشرح الإمام علیه السلام فی هذه العبارة «کائن لا عن حدث» أزلیته سبحانه وکون ذاته غنیة عن الحدود من ناحیة الزمان، ثم یقول علیه السلام: «موجود لا عن عدم» وهذا هو الفارق بینه وبین جمیع المخلوقات المسبوقة بالعدم والحدوث، بینما لم تسبق الذات الإلهیة بمثل ذلک العدم والحدوث. بل لا یمکن وصفه بصفتی «الکائن» و «الموجود» دون تنقیة مفهومها من صفات المخلوقات المسبوقة بالعدم. (2)

3 - العبارة الاُخری تضمنت إشارة رائعة إلی کیفیة الرابطة السائدة بین المخلوقات والخالق والممکنات بواجب الوجود، حیث قال علیه السلام: «مع کل شیء لا بمقارنة وغیر کل شیء لا بمزایلة» . لقد ذهب أغلب الناس وحتی أغلب الفلاسفة والعلماء إلی أنّ الرابطة التی

ص:58


1- 1) سورة طه / 5. [1]
2- 2) لقد ذهب بعض شرّاح النهج إلی أنّ العبارتین المذکورتین إنّما تبینان موضوعاً واحداً، بینما اعتبر البعض الآخر - مثل ابن أبی الحدید - أن قوله علیه السلام: «کائن لا عن حدث» إشارة إلی الحدوث الزمانی فی العبارة الاولی، ولم ینف حدوثه الذاتی الا فی کلمته الثانیة بغض النظر عن الزمان لأنّه واجب الوجود. (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 79) . [2] فی حین ذهب آخرون إلی عکس ذلک ففسروا العبارة الاولی بنفی الحدوث الذاتی أو الذاتی والزمانی، والعبارة الثانیة بنفی الحدوث الزمانی. (شرح نهج البلاغة لابن میثم، 1 / 127) . [3] ولکن لم یقم دلیل واضح علی أی من هذا التفاوت، لأن مفردة الحدوث عادة ما تطلق علی الحدوث الزمانی، کما یمکن حملها علی الحدوث الذاتی أیضاً، وهکذا یمکن إطلاق نقطة العدم علی العدم الذاتی والتی غالباً ما تطلق علی العدم الزمانی. وعلیه تبدو هاتان العبارتان متأکدتان فی معناهما وهو نفی الحدوث الزمانی والذاتی؛ علی أنّهما تنفیان أی حدوث وعدم عن الذات الإلهیة سواءً بالنسبة للذات والزمان.

تسود المخلوقات باللّه، هی رابطة بین وجودین مستقلین فی أنّ أحدهما مخلوق للآخر، کوجود الشعلة العظیمة والشمعة الصغیرة التی نوقدها من تلک الشعلة، فی حین الحقیقة شیء آخر تماماً. فالفارق بین المخلوق والخالق هو لیس من قبیل الفارق بین وجود ضعیف وقوی قط، بل الفارق هو فارق بین وجود مستقل من جمیع الجهات ووجود تابع. فعالم الوجود برمته تابع له ویتغذی فی کل آن من نور وجوده علیه. فاللّه سبحانه لیس منفصلاً عن عالم الوجودکما أنّه لیس عین الموجودات (کما ذهب إلی ذلک الصوفیة التی تقول بوحدة الوجود والموجود) ، وأنّ التوحید الواقعی إنّما یتوقف علی إدراک هذه الحقیقة. ویمکن إیضاح هذه الحقیقة بهذا المثال (رغم النقص الذی یشوب مثل هذه الأمثلة) . فشعاع الشمس رغم وجوده وکونه غیر قرص الشمس، إلّاأنّه متصل بها تابع لها، هو غیرها لکن لا علی نحو المغایرة وبمعنی الانفصال والاستقلال، ومعها ولکن لیس بمعنی الالتحام والاتحاد. وهما لاشک فیه أن ارتباط موجودات هذا العالم بالذات الإلهیة المقدسة أکثر قرباً وتبعیة ممّا صدره هذا المثال، والحق لا یمکن العثور علی مثال دقیق فی هذا العالم لتصویر عمق هذه التبعیة والوحدة وفی نفس الوقت الثنائیة (أی الوحدة فی الکثرة) . رغم أنّ الأمثلة ومنها المثال المذکور - أو کالتصورات الذهنیة للإنسان التابعة من روحه وغیر المنفصلة عنها وفی نفس الوقت تابعة لها ولیس لها من مفهوم دونها - یمکنها أن توضح إلی حد ما هذا الموضوع.

4 - تناول الإمام علیه السلام صفة اُخری من صفات الذات الإلهیة المقدسة، فقد قال علیه السلام: «فاعل لا بمعنی الحرکات والآلة» . لقد جرت المحاورات الیومیة عادة علی الاصطلاح بالفاعل علی الفرد الذی یقوم ببعض الأعمال من خلال حرکات الید والرجل أو الرأس والرقبة وسائر الأعضاء، ولما کانت قدرة الإنسان وسائر الکائنات محدودة وتعذر الإتیان بکافة الأفعال والأعمال علی هذه الأعضاء، فانّه یستعین ببعض الوسائل والأدوات لیسد بها ذلک النقص الذی یشوب قدرته، فهو یستعین بالمطرقة لدق المسمار، وبالمنشار لنشر الخشب وبالمکائن والآلات الضخمة لنقل الأحمال الثقلیة من مکان إلی آخر، وکل هذه الاُمور هی من آثار الأجسام والجسمانیات.

ولما کان اللّه منزهاً عن الجسمیة، وقدرته غنیة مطلقة خارجة عن الحد والحدود فان فاعلیته لا تعنی القیام بالحرکات أبداً، کما أنّ قدرته المطلقة أغنته عن الاستعانة بالأدوات والآلات. فاللّه سبحانه فاعل قبل أن تخلق الآلة ولو کان محتاجاً للآلة لعجز عن خلقه لاولی

ص:59

الأشیاء، وبعبارة اُخری فان فعله إبداع. نعم فهو قادر علی خلق عالم الوجود أو اعدامه فی طرفة عین أو أقرب بإرادته وقوله (کن) ، کما له خلقه تدریجیاً أو فی أیة مدّة نبتغیها إرادته. والذی یجدر الالتفات إلیه هنا هو أننا حین نصفه سبحانه بأنّه فاعل فلا ینبغی أن نقارن فاعلیته بذواتنا وأنّها تستعین بالادوات والآلات. وبالطبع فانّ هذا الکلام لا یعنی أن لیس للّه من ملائکة تتولی تدبیر الأمر والتی وصفها القرآن «. . . فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» .

فقد جرت عادته علی ایجاد الحوادث عن طریق الأسباب، لان إرادته شاءت ذلک لامحتاج لها.

5 - ثم قال الإمام علیه السلام: «بصیر إذ لا منظور إلیه من خلقه» .

صحیح أن مفردة بصیر مشتقة من مادة البصر، إلّاأنّها تطلق بالمعنی المجازی علی اللّه سبحانه لا الحقیقی. فکونه بصیراً یعنی علیماً بجمیع الأشیاء القابلة للرؤیة وحتی الأشیاء التی تری ولم تخلق بعد. وبناءً علی هذا فان بصیرته تعود إلی علمه اللامتناهی، حیث نعلم جمیعاً بأنّ علمه أزلی. وأخیراً فقد تحدث الإمام علیه السلام عن وحدانیته سبحانه فی غناه عن الأنیس فقال: «متوحد إذ لا سکن یستأنس به ولا یستوحش لفقده» (1)

وتوضیح ذلک هو أنّ الناس وسائر الکائنات الحیة وبحکم کون قدرتها محدودة فی نیل المنافع ودفع الاضرار فانّها مضطرة للاستعانة ببنی جنسها ومن غیرها لتشعر بالأمن تجاه بعض الأخطار التی تهددها. وهنا یتفاقم شعور الإنسان بالاستیحاش لوحدته، بینما یأنس بوجود سائر الأفراد إلی جانبه ولاسیما أثناء تعرضه للأخطار والآفات والبلایا والأمراض والأوبئة. وأحیاناً یندفع الإنسان الضیق النظر لیقارن اللّه بنفسه فیشعر بالدهشة والذهول کیف یکون اللّه وحیداً قبل ایجاده لهذه المخلوقات، وکیف لا یکون له من أنیس یسکن إلیه، وأخیراً کیف یشعر بالاستئناس بهذه الوحدة؟ ! غافلاً عن أنّه وجود مطلق لا یحتاج الاستعانة

ص:60


1- 1) هناک احتمالان بشأن «إذ» الواردة فی العبارة؛ الاحتمال الأول: هل هی ظرفیة تشیر إلی عدم وجود شیء خلق فی الأزل ولم تکن سوی ذاته المقدسة لیأنس بها ویستوحش لفقدها؟ أم إن «إذ» هنا بمقام التعلیل، یعنی کان وما زال واحداً لأنّه لم یکن هناک من وجود، حیث لا یحتاج إلی أحد؟ یبدو أنّ الاحتمال الثانی هو الأقوی. کما إن «لا» فی قوله «لا یستوحش» زائدة وردت للتأکید، بینما ذهب البعض إلی أنّها جملة استئنافیة.

بأحد، ولیس له من خشیة لعدو لیستعین علیه بظهیر، کما لیس له من صنو یستأنس به. ولذلک کان وسیکون متوحداً.

ویتضح ممّا ذکرنا سابقاً أن لمفردة «المتوحد» مفهوم یختلف عن مفهوم «الواحد» و «الأحد» .

تأمّلات

اشارة

لقد تضمنت هذه العبارات العمیقة المعانی والعظیمة المضامین عدّة معطیات ودروس قیمة من شأنها حل أغلب المشاکل العقائدیة علی مستوی «معرفة اللّه وأسمائه وصفاته» ومنها:

1 - علاقة الخلق بالخالق ومسألة «وحدة الوجود» !

لقد کثر الکلام فی أوساط الفلاسفة والعلماء بشأن کیفیة الرابطة بین الخالق والمخلوق، فقد أفرط البعض منهم حتی اعتقد بأنّ الخالق هو عین المخلوق إثر رؤیتهم القائمة علی أساس وحدة الوجود والموجود. فهم یقولون لیس هنالک أثر من وجود شخصی واحد فی عالم الوجود وکل ماسواه ترشحات من ذاته، أو بتعبیر آخر: هناک شیء واحد فقط أمّا الکثرة والتعدد فهی خیالات وظنون وسراب یحسبه الظمآن ماء. أحیاناً یستعیضون عن الوحدة والاتحاد بقولهم بالحلول علی أنّه ذات حلت فی کافة الأشیاء وتتخذ لها شکلاً فی کل وقت بینما یشعر الجهال بالازدواج والحال لیس الکل إلّاشیء واحد لا غیر. (1)وزبدة القول أنّهم یرون عالم الوجود بمثابة بحر وقطراته سائر الموجودات. وبعبارة اُخری فان أی ازدواجیة فی هذا العالم لیست سوی ضرباً من الخیال والوهم. بل یعتقد البعض منهم أنّ الفرد لا یعدّ صوفیاً

ص:61


1- 1) هذه هی عقیدة أغلب المتصوفة، وشاهد ذلک العبارة المشهورة التی یطلقها زعماء هذه الفرقة «إنی أنا اللّه» وأعظم من ذلک ما یرددوه من قولهم «سبحانی ما أعظم شأنی» ، امّا البعض الآخر فقد نظم أبیاتاً من الشعر وصرح فیها بقوله «أن الصنمیة والوثنیة هی ذات العبودیة» ! کما ورد فی الأشعار الطائشة للمولوی التی تصور اللّه بشکل صنم عیّار (وهو عبارة عن موجود مشکوک) یتلبس یوماً بهیئة آدم! ویوماً بهیئة نوح وآخر موسی وعیسی! وأخیراً بشکل محمد صلی الله علیه و آله کما یتلبس بهیئة علی وسیفه ذو الفقار! وبالتالی بشکل منصور الذی اعتلی أعواد المشنقة! (نقلاً بتلخیص عن العارف الصوفی وماذا یقولان / 117) .

حقیقیاً مالم یؤمن بوحدة الوجود والموجود، وذلک لأنّ وحدة الوجود تشکل الرکیزة الأصلیة لقضیة التصوف!

وبالطبع فانّ بعض کلماتهم یمکن حملها علی المعانی الصحیحة والصائبة من قبیل أنّ الوجود الحقیقی القائم بالذات فی العالم واحد وکل ما سواه تابع له مستمد وجوده منه (کما أوردنا ذلک سابقاً فی التشبیه بالمعانی الأسمیة والحرفیة) أو کل ما عدا الذات الإلهیة المقدسة - الوجود المطلق من جمیع الجهات - یمثل موجودات صغیرة ضئیلة لیس لها شأناً یذکر ولکن لا یعنی ذلک أنّها لا تمتلک وجوداً واقعیاً حقیقیاً. ولکن الذی لا شک فیه هو أنّ بعض أقوالهم وعقائدهم لا یمکن تبریرها والتماس التفسیر الصائب لها، فهم یصرحون بأن لیس فی عالم الوجود أکثر من وجود واحد وکل ما سواه سراب وخیال، وأبعد من ذلک تصریحهم بأنّ الوثنیة وعبادة الأصنام لو خرجت عن شکلها المحدود فهی عین عبادة اللّه، لأنّ کل العالم هو، وهو کل العالم. فهذا الکلام یستتبع لوازم فاسدة لیست بخافیة علی أحد علی ضوء العقائد والتعالیم الإسلامیة، ناهیک عن تعارضها والوجدان بل البدیهیات وانکارها للعلة والمعلول والخالق والمخلوق والعابد والمعبود، وذلک لأنّه لم یعدّ هناک من مفهوم للفارق بین المعبود والعبد والشارع والمکلف، بل حتی الجنّة والنار وأهلهما، فکلها واحدة وکلها عین ذاته وما هذه الکثرة والتعدد الا وهم وخیال ولو أزیلت هذه الغشاوة عن أبصارنا فسوف لا نری إلّا وجوده سبحانه! إلی جانب ذلک فان من لوازم ذلک القول بجسمیة اللّه والحلول وما إلی ذلک. وعلیه فعقائدهم لا تنسجم مع الوجدانیات والأدلة العقلیة ولا تتفق مع العقائد الإسلامیة وتعالیم القرآن الکریم، ومن هنا انبری المرحوم المحقق الیزدی (ره) - الفقیه المعروف - لیکتب فی عروته الوثقی فی مبحث الکفار: «لا إشکال فی نجاسة الغلاة (1)والخوارج والنواصب وأمّا المجسِّمة والمجبِّرة والقائلین بوحدة الوجود من الصوفیة إذا التزموا بأحکام الإسلام فالأقوی عدم نجاستهم إلّامع العلم بالتزامهم بلوازم مذهبهم من المفاسد» (2).

ص:62


1- 1) «الغلاة» هم المغالون فی الأئمة علیهم السلام ولا سیما علی علیه السلام فعدوه هو اللّه أو أنّه اتحد به. و «الخوارج» هم أصحاب النهروان الذین أسماهم النبی صلی الله علیه و آله بالمارقین وقد قتلهم الإمام شر قتلة فی النهروان. وأمّا «النواصب» فهم أعداء أهل البیت علیهم السلام.
2- 2) العروة الوثقی، [1] بحث نجاسة الکافر، المسألة 2.

وتتضمن المسألة أمرین مهمین یجدر الإلتفات إلیهما: أحدهما عطف أصحاب عقیدة وحدة الوجود علی المجبرة والمجسمة وجعل الجمیع بمنزلة واحدة، والآخر بان عقائدهم تنطوی علی مفاسد دینیة إذا التزموا بها خرجوا من ربقة الإسلام وإن لم یلتزموا بها فهم مسلمون. فالکلام یفید بما لا یقبل الشک أنّ مذهب هؤلاء یتصف ببعض المفاسد التی یؤدی الالتزام بها إلی الخروج عن صف المسلمین. أمّا الجدیر بالذکر هو أنّ کافة العلماء الذین کتبوا حاشیة علی العروة الوثقی - حیث جرت عادة العلماء الکشف عن اجتهادهم وقدرة استنباطهم للأحکام الشرعیة من مصادرها المقررة علی کتابة تعلیقة علی العروة الوثقی - قد أقروا بما أورده صاحب العروة أو أضافوا لما ذکره بعض القیود (من قبیل قولهم بما لا یوجب إنکار التوحید والرسالة) (1).

وللوقوف علی عمق المفاسد التی انطوت علیها هذه المسألة، نری من الضروری هنا الإشارة إلی نموذج ورد فی الدفتر الرابع للشاعر المثنوی حین نقل قصة طویلة بشأن قول «بایزید» سبحانی ما أعظم شأنی، فقد واجه اعتراضاً من صحبه، فقال لهم: «لا إله إلّاأنا فاعبدون» فقالوا له ما تقول؟ ! قال: سأقول ذلک ثانیة فاحملوا السکاکین واطعنونی بها. فشهر صحبه سکاکینهم وجعلوا یطعنونه، إلّاأنّهم شعروا بأن کل طعنة کانت تمزق أجسادهم لا جسده. فهذه الاسطورة الخرافیة من شأنها الإشارة إلی مدی الاندفاع والتیه الذی بلغه أصحاب هذا المسلک.

وأخیراً نختتم هذا الموضوع بما أورده أحد المعاصرین من شرّاح نهج البلاغة إذ قال بهذا الخصوص: انّ هذا المذهب (القائل بوحدة الوجود بمعنی وحدة الموجود) إنّما یتنکر لکافة القوانین العقلیة والاُسس الوجدانیة وروح الأدیان الإلهیة، ویرفع من شأن عالم الوجود لیبلغ به المرتبة الوجودیة الإلهیة أو ینزل بالوجود الإلهی إلی الحضیض فیسویه بسائر مخلوقاته، ویبدو أن مثل هذا المذهب إلی الأذهان والأذواق والهروب من الإشکالات أقرب منه إلی التعقل والالمام بالواقعیات. (2)

ص:63


1- 1) للوقف علی المزید راجع الکتاب مصباح الهدی 1/410 للمرحوم آیة الله الشیخ محمد تقی الآملی (الفقیه والفیلسوف المعروف) و کذلک تقریرات المرحوم تقریرات المرحوم آیة الله الخوئی 3/81-82.
2- 2) ترجمة و تفسیر نهج البلاغة، الاستاذ الجعفری 2/64.
2 - انحراف الجهال عن حقیقة صفات اللّه

لو تأملنا بدقّة وأجلنا الفکر فی کلماته علیه السلام لاکتشفنا مدی قطعه الطریق أمام أی انحراف عن مبدأ التوحید وحقیقة صفات اللّه، واتضح لدینا المفهوم الحقیقی لقوله سبحانه وتعالی «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَیْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِیدِ» (1)و «وَهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَما کُنْتُمْ» (2)و «وَما یَکُونُ مِنْ نَجْوی ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ» (3)و «اللّهُ نُورُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ» (4)و «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ یَحُولُ بَیْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ» (5)وما إلی ذلک من المضامین القرآنیة الشریفة.

فهذه المسألة وإضافة لاکمالها الأبحاث المتعلقة بوحدة الوجود - بمعناها الصحیح - من شأنها أن تقف حائلاً أمام أی انحراف فی فهم الصفات الإلهیة. إلّاأنّ أصحاب الضلالة قد وطأوا وادیاً لا یجر علیهم سوی الخجل والخیبة، ومنهم طائفة «المجسمة» التی أضفت صفات الممکنات علی اللّه تبارک وتعالی فصوروه کجسم من الأجسام وقد انطوی علی بعض الأعضاء من قبیل الجسم والید والرجل والشعر المجعد ومن باب أولی أن یحدوه بالمکان والزمان فذهب البعض إلی إمکانیة رؤیته سبحانه فی الدنیا، بینما اقتصر بها البعض الآخر علی الآخرة.

فقد قال المحقق الدوانی - من مشاهیر الفلاسفة - طبق نقل بحار الأنوار - أنّ: «المشبهة منهم من قال: إنّه جسم حقیقة، ثم افترقوا فقال بعضهم: إنّه مرکب من لحم ودم وقال بعضهم: هو نور متلألیء کالسبیکة البیضاء، طوله سبعة أشبار بشبر نفسه، ومنهم من قال: إنّه علی صورة إنسان، فمنهم من یقول: إنّه شاب أمرد جعد قطط، ومنهم من قال: إنّه شیخ أشمط الرأس» . (6)

والأدهی من ذلک أنّهم قالوا ببعض الصفات الجسمیة للّه سبحانه من خلال ما نقلوه من

ص:64


1- 1) سورة ق / 16. [1]
2- 2) سورة الحدید / 4. [2]
3- 3) سورة المجادلة / 7. [3]
4- 4) سورة النور / 36. [4]
5- 5) سورة الانفال / 24. [5]
6- 6) بحارالأنوار 3/289. [6]

روایات عن النبی صلی الله علیه و آله - وهی روایات موضوعة بالطبع - وصحیحه. ومن ذلک أنّه سئل ابن عباس: هل رأی محمد صلی الله علیه و آله ربّه؟ قال: بلی، فسئل: کیف رآه؟ قال: رآه علی کرسی ذهبی مفروش بالذهب ویحمله أربعة من الملائکة فی حدیقة خضراء (1).

وبغض النظر عمّا سبق فقد شحن «صحیح البخاری» و «سنن ابن ماجة» وغیرها بالروایات التی صرّحت بأنّ اللّه سیری فی یوم القیامة (2)، حتی أنّ بعض الروایات صرّحت بأنّ أهل الجنّة سیرونه کما یری القمر بدراً (3)والحق أنّ مثل هذه الروایات دفعت بالکثیر من علماء العامة للاعتقاد برؤیة اللّه یوم القیامة والاستماتة فی الدفاع عن هذه العقیدة. بینما هذا القرآن یهتف آناء اللیل والنهار «لا تُدْرِکُهُ الأَبْصارُ» (4)وقد خاطب سبحانه کلیمه موسی علیه السلام قائلاً «لَنْ تَرانِی» (5)ونعلم بأن «لن» نافیه أبدیة. وقد تصدی الإمام علی علیه السلام لبیان هذه المسألة فی خطبة الأشباح، فقال علیه السلام: «والرادع أناسی الأبصار عن أن تناله أو تدرکه أو تبصره» (6). کما قال علیه السلام فی خطبة اُخری ببلاغته وفصاحته الجلیة: «الحمد للّه الذی لا تدرکه الشواهد ولا تحویه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر» (7). وناهیک عمّا تقدم فان هذه العقائد تمثل مخالفة صریحة لما یحکم به العقل؛ وذلک لأنّ الرؤیة لو کانت جائزة علی اللّه لکان جسماً له مکان وجهة، الأمر الذی یعنی محدویته وتغیره وبالتالی سلبه وجوب الوجود وجعله من ممکناته. وهنا یأتی دور عبارات أمیر المؤمنین الإمام علی علیه السلام ومنها العبارة السابقة لتکون کالشمس فی رابعة النهار فتمیط اللثام عن الحقائق وتسحق العقائد الباطلة والخرافیة وتستعرض الدروس القیمة فی التوحید ومعرفة الصفات الإلهیة. ولما جرت العادة أن یقابل

ص:65


1- 1) توحید ابن خزیمة / 217 ( [1]طبق نقل بحوث فی الملل والنحل) 1 / 145.
2- 2) صحیح البخاری 6 / 56. تفسیر سورة النساء؛ سنن ابن ماجة ج 1 مقدمة الباب 13 ح 177.
3- 3) للوقوف علی هذه الروایات الموضوعة یقیناً وکذلک تفنید هذه الروایات واستعراض الأدلة التی تضمنتها الآیات والروایات المعتبرة التی صرّحت باستحالة رؤیة اللّه فی الدنیا والآخرة، راجع من التفسیر الموضوعی للقرآن نفحات القرآن 4/241 - 251. [2]
4- 4) سورة الانعام / 103. [3]
5- 5) سورة الاعراف / 143. [4]
6- 6) نهج البلاغة، الخطبة 91. [5]
7- 7) نهج البلاغة، الخطبة 185. [6]

کل إفراط بتفریط فقد انبرت طائفة بوجه المجسمة التی نزلت باللّه سبحانه إلی مرتبة الجسم فاعتمدت عقیدة التعطیل لتقول باستحالة معرفة اللّه لا علی مستوی کنه ذاته ولا أوصافه، ولا تحسن سوی المفاهیم السلبیة من صفات اللّه، فکل ما نفهمه من قولنا أنّه عالم هو أنّه لیس بجاهل، امّا عالمیته المطلقة فهی خافیة علینا تماماً، وعلیه فمن مواضع فخر الإنسان أن یودع مسألة معرفة اللّه بوتقة النسیان ولا یقترب من هذا الوادی الذی ینطوی علی ظلمات دامسة ویتناقض والتعالیم القرآنیة المسلمة التی تقودنا إلی معرفة اللّه.

ونختتم بحثنا بعبارات اُخری أوردها الإمام علیه السلام فی نهج البلاغة بهذا الخصوص فقال: «لم یطلع العقول علی تحدید صفته ولم یحجبها عن واجب معرفته فهو الذی تشهد له أعلام الوجود علی إقرار قلب ذی الجحود تعالی اللّه عمّا یقول المشبهون به والجاحدون له علواً کبیراً» (1).

فالحق أنّ هذا التعبیر هو الخط المعتدل الفاصل بین الإفراط والتفریط (المشبهة والمعطلة) فی معرفة اللّه. هذا وقد شحن نهج البلاغة بالکلمات البلیغة الرائعة التی تضمنتها خطبه علیه السلام بشأن صفات اللّه والسبیل الصحیح لتوحیده سبحانه، وسنتعرض فی أبحاثنا القادمة لخطبه علیه السلام بهذا الخصوص.

3 - نفی الحدوث الذاتی والزمانی للذات القدسیة

تفید عباراته علیه السلام بهذا الشأن أنّ الذات الإلهیة منزهة عن الحدوث الذاتی والحدوث الزمانی. والمراد بالحدوث الزمانی هو وجود الشیء فی الزمان، أو بتعبیر آخر مرور المدّة الزمانیة علی شیء لم یکن موجوداً ثم یوجد. وهذا هو المعنی المتصور بعد خلقه عالم المادة؛ لانّ الزمان انبثق من خلال خلقة العالم المادی بحیث أصبح هناک مفهوم للحدوث والعدم الزمانی. أمّا الحدوث الذاتی فالمراد به الشیء الحادث فی ذاته بغض النظر عن ظهور عالم المادة، أو

ص:66


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 49. [1]

بتعبیر آخر لا یترشح وجوده من باطن ذاته، بل یکون تابعاً ومعلولاً لوجود آخر، ومن المسلم به أن لیس من سبیل لهذین الحدوثین إلی الذات المقدسة الواجبة الوجود فی الماضی والمستقبل، بل وجوده هو الوجود الاصلی (علیک بالدقة والتأمل) .

4 - هل یصح اطلاق لفظ «الموجود» علی اللّه؟

هل یمکن اطلاق لفظ «الموجود» علی اللّه؟ یبدو من تعبیره علیه السلام: «موجود لا عن عدم» إمکانیة اطلاق هذا اللفظ علی الذات الإلهیة المقدسة، ولکن من المسلم به أن المفهوم الأصلی لهذا اللفظ الذی ورد بصیغة اسم المفعول والذی یعنی أن الآخر هو الذی منحه الوجود، لا یصدق علی ذاته المقدسة، فالموجود هنا یشتمل علی مفهوم آخر وهو یتضمن معنی ذی الوجود؛ وهو المعنی الذی صرّح به فی بعض شروح نهج البلاغة، بحیث یطلق الموجود تارة علی الماهیات الممکنة التی اتصفت بالوجود، کما یطلق تارة اُخری ویراد به أصل الوجود (1). وقد ورد هذا التعبیر (الموجود) فی بعض روایات أصول الکافی أیضاً. (2)

ص:67


1- 1) مفتاح السعادة فی شرح نهج البلاغة 1 / 139. [1]
2- 2) أصول الکافی /1 باب أدنی المعرفة، ح 1؛ أیضا 1، باب النهی عن الصفة، ح 1؛ أیضاً 1، باب جوامع التوحید، ح 4.

ص:68

القسم الرابع: تصدر الکلام بشأن خلق العالم

اشارة

«أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلا رَوِیَّةٍ أَجَالَهَا وَلا تَجْرِبَةٍ اسْتَفادَها وَلا حَرَکَةٍ أَحْدَثَها وَلا هَمامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِیها أَحالَ الْأَشْیاءَ لِأَوْقاتِها وَلاََمَ بَیْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدائِها مُحِیطاً بِحُدُودِها وَانْتِهائِها عارِفاً بِقَرائِنِها وَأَحْنائِها» .

الشرح والتفسیر لقد تضمنت بدایة هذه الخطبة المهمة إشارات دقیقة عمیقة المعانی إلی معرفة اللّه وصفاته والتی تمثل أولی مراحل المعرفة الإنسانیة، ثم طرق علیه السلام بعد ذلک إلی خلق العالم وکیفیة ابتداء الخلق والعجائب التی انطوت علیها السماء والأرض، وإن کانت مکملة للأبحاث السابقة بشأن صفات اللّه. فقد قال علیه السلام: «أنشأ (1)الخلق إنشاءً وابتدأه ابتداءً بلا رویة (2)أجالها (3)ولا تجربة استفادها ولا حرکة أحدثه ولا همامة (4)نفس اضطرب فیها.

ص:69


1- 1) «أنشأ» من مادة «إنشاء» بمعنی الایجاد وان ذکروا لها عدّة معان.
2- 2) «رویة» بمعنی الری من الماء کما ورد فی مقاییس اللغة، الا انّها تستعمل بمعنی التفکیر المصحوب بالدقة. وکأنه یروی فکره بشأن تلک المسألة، أو ری تلک المسألة بفکره واداء حق التفکیر.
3- 3) «أجال» من مادة جولان بمعنی الحرکة والتجوال.
4- 4) «همامة» : لقد ذکر شرّاح ومفسروا نهج البلاغة [1]لهذه المفردة عدّة معان. فقد عناها البعض بالرغبة القطعیة الباطنیة بالشیء بحیث ینزعج لفقدانها (شرح ابن میثم البحرانی 1 / 132) . [2] بینما ذهب البعض الآخر إلی أنها تعنی التردید فی القیام بعمل (منهاج البراعة 1 / 51) . [3] وقال آخرون انّها تعنی الاهتمام بالشیء (شرح مغنیة1/27) . [4] وقال ابن أبی الحدید فی شرحه المعروف لنهج البلاغة: وقوله علیه السلام: «ولا همامة نفس اضطرب فیها» فیه رد علی المجوس والثنویة القائلین بالهمامة الذین یعتقدون بأنّ النورالأعظم حین هم بمجابهة الظلمة بدا علیه الشک والتردید فخرج من ذاته بشیء یسمی بالهمامة. أمّا فی اللغة - کما ورد فی لسان العرب - فالهمامة تعنی الضعف والوهن والفتور ولذلک یطلق علی کل رجل أو امرأة عجوز اسم «هِم» و «هِمة» . ویبدو ممّا ذکر أن «الهمامة» الواردة فی العبارة إنّما تعنی الضعف والعجز فی العزم والإرادة بحیث یتعذر علی الشخص اتخاذ القرار، أو أنّه یتخذ القرار بصعوبة.

فالإمام علیه السلام یبین البون الشاسع بین الخلق الإلهی والأعمال والأفعال التی تصدر عن المخلوقات. فالإنسان مثلاً إذا أراد أن یقوم بعمل ولم یکن لهذا العمل من سابقة وظن فکره وتأمله لینطلق إلیه، وإن کان له سابقة احتذی بتجربته وتجارب الآخرین کما یعمد إلی خزینه الذهنی والفکری بشأن ترتیب مقدمات العمل بغیة التوصل إلی نتائجه وکیفیة أدائه، وأحیاناً یتیه فی تردیده وحیرته بحیث یحکم رأیه ویقوم بالعمل علی أساسه. ولیس هنالک من سبیل لأی من هذه الحالات والاحتمالات للذات الإلهیة المقدسة، فما من حاجة إلی الفکر والتأمل ولا إلی التجارب السابقة ولا الحرکة الفکریة استناداً إلی ترتیب المقدمات والحصول علی النتائج ولا التردید والاضطراب فی الأعمال والقرارات. فلیس وجود الشیء إلّاإرادته «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَیْئاً أَنْ یَقُولَ لَهُ کُنْ فَیَکُونُ» (1). بعبارة اخری فان هذه الاحتمالات الأربع إنّما تتعلق بحصیلة أعمال الأفراد الذین له حظ محدود من العلم والقدرة، ولازمة ذلک الحاجة وأفکار الآخرین وتجاربهم والشعور بالاضطراب والقلق. ولا سبیل لهذه الحالات إلی من خرج علمه وقدرته عن الحدود حین الخلق.

ویتّضح بجلاء ممّا قیل أنّ المراد بالحرکة فی العبارة المذکورة إنّما هی حرکة الفکر فی باطن النفس. ولکن هناک معنی آخر ساقه بعض المفسرون للحرکة علی أنّ المراد بها الحرکة الجسمیة الخارجیة التی تعدّ من لوازم الأجسام واللّه أعظم وأجل وأسمی من الجسم والجسمانیات. ویبدو أن المعنی الأول أنسب من الثانی؛ لأنّ الحالات الثلاث الاُخری التی وردت قبل وبعد العبارة المذکورة کلها مرتبطة باتخاذ القرار والتفکر والتأمل قبل الإتیان بالعمل.

وزبدة الکلام أنّ أفعال اللّه لیست من جنس أفعال العباد وتختلف عنها تماماً، وذلک لأنّ

ص:70


1- 1) سورة یس / 82. [1]

أفعاله سبحانه تستند إلی علمه المطلق بمصالح الأشیاء ومفاسدها ومعرفته الکاملة بالنظام الأحسن للخلقة والقدرة التامة علی جمیع الأشیاء، وإرادته قاطعة تامة لا لبس فیها ولا تردید ولا تأمل وتفکیر فی إفاضة الوجود علی الموجودات، وإرادته کانت وما زالت نافذة فی الخلق.

ثم أشار علیه السلام إلی کیفیة خلق الموجودات والتدبیر الإلهی فی ظهور الأشیاء طبق الخطط والبرامج المنظمة فقال علیه السلام: «أحال الأشیاء لأوقاتها» أی أنّ اللّه جعل لخلق کل موجود وقتاً معیناً (وذلک لأنّ خلقه قائم علی أساس التدریج والتخطیط الزمانی بغیة إیضاح عظمة تدبیره وقدرته الفریدة الفائقة) . فلما فرغ من الإشارة إلی التصنیف الزمانی لخلقه الموجودات، تطرق علیه السلام إلی نظامها الخاص الداخلی والترکیبی فقال علیه السلام: «ولام (1)بین مختلفاتها» . وهذا من عجائب عالم الخلقة، فقد ألف اللّه سبحانه بین مختلف الموجودات لتبدو متسقة وکأنّها شیء واحد، فقد لائم بین البارد والحار والظلمة والنور والموت والحیاة والماء والنار. لقد خلق النار من الشجر الأخضر وخلق الإنسان والحیوان والنبات مرکباً من مواد تامة الاختلاف ذات طبائع متنوعة.

وأبعد من ذلک فقد أوجد رابطة عمیقة محکمة بین الروح والجسم وهما ینتمیان إلی عالمین مختلفین تماماً؛ أحدهما مجرّد ونورانی وشفاف للغایة والآخر مادی وظلمانی وخشن للغایة. ثم قال علیه السلام: «وغرز (2)غرائزها» .

فقد أودعها اللّه سبحانه طبائعها ثم جعل لکل موجود طبیعته والهمه غریزته. وهذا فی الحقیقة من الحکمة الإلهیة البالغة التی أودعت کل موجود صورته الطبیعیة المنبعثة منه دون الحاجة إلی محرک خارجی، ولولا الدوافع الذاتیة لهذه الموجودات لانقطعت استمراریة

ص:71


1- 1) «لام» و «لائم» من مادة «لأم» بمعنی الجمع والإصلاح وضم شیء إلی شیء آخر والملائمة بینهما، ومن هنا اطلق علی الدرع اسم «لأمة» علی وزن «رحمة» لالتحام حلقاتها وتداخلها مع بعضها.
2- 2) «غرّز» من مادة «غرز» علی وزن «قرص» تعنی فی الأصل غرس الاُبرة أو الجعل والادخال، ثم اطلقت فیما بعد علی الطبائع التی أودعت الإنسان أو سائر الکائنات الحیة، وکأنّ هذه الطبائع بمثابة البذور التی غرست فی أرض الوجود الإنسانی.

الأشیاء ولسادها الاضطراب والفوضی. وهناک الیوم تعبیران مختلفان بشأن هذه الدوافع الذاتیة فی الإنسان أو سائر الموجودات، فأحیاناً یطلق علیها اسم الفطرة وأنّ معرفة اللّه مودعة فی الفطرة الإنسانیة. . وأحیاناً اُخری یعبر عنها بالغریزة. فمثلاً یقولون أنّ للإنسان غریزة جنسیة، أو یقولون بأن لحرکات الحیوانات عموماً صبغة غریزیة. وهذا فی الواقع اصطلاح استعمله العلماء بهذا الشأن. أحدهما بشأن الدوافع التی تتسم بالبعد الفکری (الفطرة) والآخر بخصوص تلک التی لیس لها بعداً فکریاً أو لها بعد عاطفی (الغریزة) . إلّاأنّ کلیهما یعنی الخلقة علی أساس المعنی اللغوی.

ثم قال علیه السلام: «والزمها (1)أشباحها» . وقد تضاربت أقوال المفسرین - لنهج البلاغة - بشأن هذه العبارة، فذهب البعض ومنهم ابن أبی الحدید الذی قال ان الضمیر المنصوب فی «الزمها» عائد إلی الغرائز؛ أی ألزم الغرائز أشباحها، أی أشخاصها لأنّ کلا مطبوع علی غریزة لازمة، وبالنتیجة فان العبارة تأکید علی ثبوت غرائز الموجودات. بینما ذهب البعض الآخر إلی أنّ المراد بالعبارة وجود التشخصات الخاصة لکل موجود، أی أنّ اللّه سبحانه قد وهب کل موجود بعض الخصائص والممیزات، وبعد أن کان لها بعداً کلیاً فی علم اللّه فقد تبلورت فی الخارج علی هیئة جزئیات وأشخاص وعلی ضوء هذا التفسیر فان الضمیر فی ألزمها یعود إلی (الإشیاء) کما ذکر البعض کلا التفسیرین علی نحو الاحتمال. ولکن لما کان التفسیر الأول لا یتضمن انسجام الضمیر وما ذهب إلیه، إضافة إلی کون العبارة تتخذ طابع التأکید لا بیان موضوع جدید، فانّ الذی یبدو أنّ التفسیر الثانی أصح وأصوب من التفسیر الأول. وتوضیح ذلک أن اللّه تبارک وتعالی قد وهب کل موجود نوعین من الخصائص. الخصائص التی أودعت باطن ذاتها والتی عبر عنها الإمام علیه السلام بالغرائز، والخصائص فی الجوانب الظاهریة من قبیل الزمان والمکان وسائر الجزئیات والتی عبر عنها الإمام علیه السلام بقوله «ألزمها أشباحها» وعلی هذا

ص:72


1- 1) «أشباح» جمع «شبح» طبق ما أورده أغلب أرباب اللغة بمعنی الشخص فی الأصل، کما وردت بمعنی ظهور الشیء واتضاحه، ومن هنا یطلق الشبح الیوم علی الموجود الذی یتراءی ظله ثم یظهر فجأة.

الأساس یکون الحق واستناداً لحکمته البالغة فی افاضته للخصائص الباطنیة والظاهریة لکل موجود لیقوم بوظائفه الخاصة به علی ما یرام ویتمیز عن سائر الموجودات.

تنبیه

الهدایة الفطریة والتکوینیة لکافة موجودات العالم

لقد تضمنت عبارته علیه السلام إشارة لنقطة مهمّة طالما ورد التأکید علیها کراراً فی القرآن: وهی أنّ لکافة موجودات عالم الخلقة والمادة تصنیف زمانی خاص وفی نفس الوقت الذی یحکمها التضاد والاختلاف إلّاأنّها منسجمة مع بعضها البعض ومکملة لها وأنّها مهدیة علی الدوام طبق نظمها الذاتی الباطنی والظاهری وأنّها تنطلق کقافلة منتظمة ومنسجمة نحو هدفها النهائی دون أی تعثر وانحراف، بل تسیر إلیه علی نحو الدقة دون أن تخطأه. فتفتح الزهور وتحمل أوراق الأشجار للفاکهة والثمار فی فصلی الربیع، ذبولهاوجفافها وتساقطها فی فصلی الخریف والشتاء، حرکة الشمس فی الابراج الاثنی عشر، تعاقب اللیل والنهار، دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وما اودع الإنسان من قوی باطنیة وظاهریة کلها شواهد علی الهدایة التکوینیة الإلهیة، والتی صرّح بها القرآن علی لسان موسی علیه السلام: «رَبُّنا الَّذِی أَعْطی کُلَّ شَیءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدی» (1)وقال: «فِطْرَةَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النّاسَ عَلَیْها» (2)و «وَ إِنْ مِنْ شَیءٍ إِلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» . (3)

وهذا فی الحقیقة یمثل آیة من آیاته سبحانه فی عالم الوجود التی تجعل الإنسان أکثر معرفة بالهدایة التکوینیة والنظم والتصنیف الزمانی والتألیف بین الاضداد والمختلفات کلما تعمق فی التفکیر بهذا العالم.

ص:73


1- 1) سورة طه / 50. [1]
2- 2) سورة الروم / 30. [2]
3- 3) سورة الحجر / 21. [3]

ثم قال علیه السلام: «عالماً بها قبل ابتدائها محیطاً بحدودها وانتهائها عارفاً بقرائنها (1)وأحنائها (2)» (3).

والواقع أنّ هذه العبارات الثلاث قد جاءت بمثابة دلیل أو إیضاح للعبارات السابقة، وذلک لأنّ من أراد أن یخلق موجوداً فی وقته المناسب ویلائم بین الأشیاء المختلفة ویودعها غرائزها الباطنیة ولوازمها الظاهریة فانه یحتاج إلی علم جامع کامل من جانب وإلی إحاطة وقدرة تامة وشاملة من جانب آخر. ولذلک قال علیه السلام: «عالماً بها قبل ابتدائها. . .» ولا یقتصر علمه علی ابتدائها وانتهائها فحسب، بل هو عالم محیط بلوازمها وعللها وآثارها أیضاً. ومن المفروغ منه أن من کان عالماً بهذه الاُمور قادراً علی الإتیان بها، فان له أن یضع کل شیء فی موضعه ومکانه ویفیض علی کل منها لوازمه ویسوقه فی مسیرته الوجودیة إلی کماله المنشود.

تأمّلان

1 - هل یصطلح بالعارف علی اللّه؟

لقد تحفظ بعض مفسری نهج البلاغة علی وصف اللّه سبحانه بالعارف. ویبدو أنّ هذا التردید ینبع من أمرین: الأول ما أورده «الراغب» فی «المفردات» من أنّ المعرفة والعرفان تعنی إدراک الشیء من خلال التفکر والتأمل والتدبر فی آثاره، أو بتعبیر آخر إنّما یطلق اسم المعرفة علی العلم المحدود الذی یتأتی عن طریق التفکیر، ومن المسلم به أنّ العلم الإلهی لیس کذلک. والثانی الحدیث الذی روی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أنّ له (تعالی) تسعة وتسعین

ص:74


1- 1) «قرائن» جمع «قرینة» بمعنی المصاحب والرفیق، ولذلک یقال لزوجة الرجل قرینته (الصحاح والقاموس وسائر الکتب اللغویة) ، بینما ذهب بعض شراح نهج البلاغة [1]کابن أبی الحدید إلی أنّ القرائن جمع قرونة (علی وزن معونة) وهی النفس ولکن یبدو المعنی الأول أنسب بالاستناد إلی التعبیرات التی وردت فی الجملة.
2- 2) «أحناء» جمع «حِنْو» علی وزن فعل «وحنو» علی وزن حرف وتطلق علی کل شیء فیه اعوجاج وانحناء - علی ضوء ماورد فی المقاییس ولسان العرب - کعظم الفک والاضلاع. ثم وردت بمعنی الجوانب أیضاً (وذلک لأن جوانب وأطراف الأشیاء غالباً ما تشتمل علی انحناءات) .
3- 3) لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ الضمائر التی وردت فی هذه العبارات إنّما تعود إلی الأشیاء لا الغرائز کما صرح بذلک بعض شرّاح نهج البلاغة؛ [2] وذلک لعدم وجود الانسجام بین الاحتمال الثانی ومضمون الجملة.

اسماً من أحصاها دخل الجنة» حیث یجمع العلماء علی أنّ اسم العارف لم تکن واردة ضمن هذه التسعة والتسعین إسماً (1)إلّاأن الدراسة الإجمالیة تفید أنّ هذا الوصف قد اطلق کراراً علی اللّه فی الروایات الإسلامیة، وبالاضافة إلی نهج البلاغة الذی تعرض هنا لهذا الأمر بصورة وصفیة وفی موضع آخر بصورة فعلیة، فقد ورد هذا الوصف کثیراً فی الروایات التی نقلها أصول الکافی. (2)

ویشیر هذا الأمر إلی أنّ مفردة المعرفة وان کانت فی الأصل تعنی المحدودیة أو الحاجة إلی التفکر والتدبر، غیر أنّها اتسعت أثر کثرة الاستعمال حتی صارت تطلق علی کل نوع من العلم والمعرفة، وإن لم تکن ولیدة الفکر والتدبر.

أمّا بشأن الروایات المرتبطة بالتسع وتسعین اسماً للّه، فینبغی القول أنّ هذه الروایة لا تقصر الأسماء علی تسعة وتسعین أبداً، بل هی تشیر فی الحقیقة إلی صفات اللّه وأسمائه الحسنی، ولذلک صرّحت بعض الروایات بألف اسم للبارئ سبحانه، وأخیراً أی دلیل أعظم من أن یستفید الإمام علی علیه السلام فی نهج البلاغة من هذا الاسم أو مشتقاته بالنسبة للّه وهو الأعرف والأعلم أکثر من غیره بخصوص أسماء اللّه وصفاته.

2 - کیفیة علم اللّه بالموجودات قبل ایجادها

إنّ أحد أعقد المباحث الفلسفیة والعقائدیة هو بحث «علم اللّه بالموجودات قبل ایجادها» . فاننا نعلم بأنّ اللّه سبحانه عالم بالحوادث التی ستقع، وهذا ما ورد التأکید علیه فی الآیات القرآنیة الشریفة، وهو ما ورد فی العبارة المذکورة، ومن جانب آخر فان علم اللّه لیس من قبیل «العلم الحصولی» ؛ أی لیس هنالک من انعکاس للصورة الذهنیة للأشیاء فی ذاته؛ وذلک لأنّه لیس له من «ذهن» کالمخلوقات، فعلمه لا یتأتی من خلال انعکاس صور الموجودات، بل

ص:75


1- 1) لقد أورد ابن میثم هذا الموضوع بصیغة اشکال ثم أجاب عنه بان أسماء اللّه أکثر من هذا العدد وقد ذکر عدّة شواهد علی مدعاه (شرح نهج البلاغة، لابن میثم 1 / 137) . جدیر بالذکر ان هذا الحدیث قد ورد فی الدر المنثور عن صحیح البخاری وصحیح مسلم ومسند أحمد وسنن الترمذی وسائر المصادر الروائیة 3 / 147 (نفحات القرآن 4 / 46) .
2- 2) أصول الکافی 1 / 91، باب النسبة، ح 2 وص 113، باب حدوث الأسماء، ح 2.

علمه «علم حضوری» ؛ أی أنّ المخلوقات حاضرة عنده، ونعلم أن لیس هناک من معنی للعلم الحضوری بشأن الأشیاء التی لم تظهر للوجود؛ بل هذا الإشکال وارد حتی بخصوص الموجودات التی زالت وانعدمت فی الماضی؛ فان کان لنا من علم بها بفضل صورها الذهنیة التی تبلورت فی أعماقنا وأفکارنا. ولکن کیف لمن لیس له ذهن وصور باطنیة ولیس من سبیل للحوادث إلی ذاته المقدسة أن یحیط بها؟ ! علی سبیل المثال: لقد زالت صورة فرعون ورهطه وانقطع تأریخهم، ولیس لنا سوی استحضار صورتهم فی أذهاننا، ولکن ما کیفیة علم اللّه به وهو لیس من قبیل علمنا؟ فهل یمکن القول بأنّه لیس عالماً بالماضی؟ أم لیس له من علم بالمستقبل؟ أبداً لا یمکن ذلک! إذن إن کان علیماً فما کیفیة هذا العلم؟

لقد أثارت هذه المسألة الجدل فی أوساط الفلاسفة والعلماء فقدموا عدّة أجوبة بهذا الشأن، سنقتصر هنا علی الإشارة إلی بعضها:

1 - إنّ الله کان ومازال عالماً بکافة الأشیاء بذاته التی تعتبر علة لجمیعها، وبعبارة اُخری فانّ لذاته أعظم الحضور لدی لذاته، وهذا العلم بذاته هو علم إجمالی بکافة حوادث العالم وموجوداته قبل الایجاد وبعده. وتوضیح ذلک أننا لو علمنا علی نحو الدقة بعلة الأشیاء فان مثل هذا العلم سیقود بالنتیجة إلی العلم بنتائجها ومعلولاتها؛ وذلک لأنّ کل علة تشتمل علی کافة کمالات المعلول وزیادة، ولما کان اللّه علة جمیع الأشیاء ویعلمها بذاته ویحیط بها، وفی الواقع فان هذا نوع من الکشف التفصیلی تجاه جمیع الأشیاء من خلال العلم الاجمالی. ویمکن توضیح هذا الکلام بالقول: إنّ الحوادث الماضیة لم تنعدم بالمرة أبداً وإنما لها وجود وحضور فی عمق حادث الحاضر. کما أنّ الحوادث المستقبلیة لیست معزولة عن الحوادث الحاضرة فهی مرتبطة بها ونابعة منها. وعلی هذا الأساس فانّ الماضی والحاضر والمستقبل إنّما یوجد سلسلة من العلل والمعالیل بحیث أنّ العلم باحدی حلقاتها انّما یعنی العلم بما قبلها وما بعدها من حلقات. علی سبیل المثال لو علمنا بدقّة الأوضاع الجویة للکرة الأرضیة والعوامل المؤدیة لظهور الأجواء الفعلیة وأحطنا بکافة جزئیات وروابط عللها ومعالیلها، فاننا سنستطیع التعرف بدقة علی أوضاع الأجواء لما قبل أو بعد آلاف السنین؛ وذلک لأنّ ملف حوادث الماضی والمستقبل موجودة فی الحاضر. فالیوم یحمل انعکاساً دقیقاً عن الأمس،

ص:76

والغد عن الیوم والعلم التام بجزئیات الیوم بمعنی العلم التام بالحوادث الماضیة والمستقبلیة. فاذا التفتنا إلی هذه الحقیقة وهو أنّ اللّه سبحاه المصدر الأصلی لجمیع حوادث الأمس والیوم والغد وأنّ له العلم بذاته المقدسة، فان علینا أن نقر بأنّه عالم أیضاً بحوادث المستقبل والحاضر والماضی. وبالطبع فانّ آثار کل موجود مهما کان إنّما تتبع إرادة اللّه وأمره، إلّاأنّ سنته جرت فی منح الموجودات القدرة علی القیام بفعالیتها، فاذا شاء جردها منها. (1)

2 - الإجابة الثانیة التی یمکن إیرادها فی هذا المجال أنّه یمکن لعلمنا تصور الأمس والیوم والغد، وذلک لأننا موجودات محدودة. أمّا بالنسبة للّه الذی لا حدد لذاته فلیس هنالک من مفهوم للأمس والیوم والغد لدیه، بل إنّ کافة الأشیاء والحوادث حاضرة عنده بجمیع جزئیاتها وخصوصیاتها.

ویمکننا الاستشهاد بمثال علی هذا الکلام:

افرض أنّ هناک فرداً فی زنزانة مظلمة لیس لها سوی نافذة صغیرة علی الخارج. فاذا مرت قافلة من الجمال من هذه النافذة فانه سیشاهد فی بدایة الأمر رأس وعنق جمل واحد ثم یری رجلیه وذنبه ومن ثم سائر الجمال فی هذه القافلة. فصغر النافذة هو الذی یشکل السبب الذی یجعله یعیش حالة من الماضی والحاضر والمستقبل، بینما یختلف هذا الموضوع تماماً بالنسبة لذلک الفرد الواقف علی سطح فی محیط مکشوف خارج تلک الزنزانة وینظر إلی الصحراء، فهو یری قافلة الجمال معاً خلال حرکتها.

ص:77


1- 1) إنّ من أورد هذا الجواب لحل الإشکال المذکور قد واجه هذا السؤال: وهو أنّ لازمة هذا الکلام أنّ لیس للّه من علم بکثرة الموجودات بوصف الکثرة قبل وجودها، لأنّه لیس هنالک من کثرة فی ذاته، أو بتعبیر آخر، أنّ علمه متفاوت بالموجودات قبل وجودها وبعده: فقد کان سابقاً علی نحو العلم الإجمالی، ولاحقاً علی نحو العلم التفصیلی، والعجیب أنّ بعضهم قد اعترف بهذا التفاوت.

ص:78

القسم الخامس: کیفیة بدایة خلقة العالم

اشارة

«ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ وَشَقَّ الْأَرْجَاءِ وَسَکَائِک الْهَوَاءِ» .

الشرح والتفسیر لقد تناول الإمام علیه السلام بدایة انبثاق الخلق فقال علیه السلام: «ثم أنشأ سبحانه فتق (1)الأجواء (2)» وهو یشیر إلی شق الطبقات الجویة، ثم فتح جوانبها وأطرافها «وشق (3)الأرجاء (4)» وأوجد الفضاء والهواء «وسکائک (5)الهواء (6)» . فقد أشیر إلی فتق الأجواء ثم ایجاد أطرافها وجوانبها

ص:79


1- 1) «فتق» علی وزن مشق بمعنی الشق والضجوة بین شیئین وهی ضد الرتق (کما أورد ذلک الراغب فی مفرداته) . ویقال للصبح «فتیق» ، لأنّه یشق الافق ویظهر، وقال صاحب لسان العرب انّه یطلق «فتیق اللسان» علی الفرد الخطیب والفصیح اللسان، لأنّه یتحلی بلسان طلق ذرب.
2- 2) «أجواء» جمع «جو» بمعنی - حسب قول المفردات ولسان العرب - الفضاء الحاصل بین السماء والأرض.
3- 3) «شق» بمعنی الفتحة فی الشیء، ومن هنا اطلق الشقاق علی الاختلاف الذی یحدث بین الناس ویفصلهم عن بعضهم البعض الآخر.
4- 4) «أرجاء» جمع «رجا» (دون همزة» تعنی حسب «مقاییس اللغة» أطراف البئر أو أطراف أی شیء آخر، الرجاء بالهمزة فیعنی الأمل. بینما یعتقد البعض من قبیل کاتب «التحقیق» أنّ معناها الأصلی الشیء الذی یرجی وقوعه فی الجوانب الأطراف، ولذلک یطلق علی هذه الجوانب والأطراف المرجوة «رجا» دون همزة.
5- 5) «سکائک» جمع «سکاکة» علی وزن خلاصة، قال صاحب لسان العرب أنّها تعنی الفضاء الواقع بین السماء الأرض، وقال ابن أبی الحدید هی أعلی الفضاء.
6- 6) «الهواء» بمعنی الخالی والساقط، ولذلک یطلق لفظ الهواء علی کل شیء خالٍ، ومن ذلک الفضاء بین السماء والأرض. وأمّا سبب إطلاق لفظة «الهوی» علی الشهوات والنزوات النفسیة فهی أنّها تشکل مصدر سقوط الإنسان فی الدنیا والآخرة (مقاییس اللغة، مفردات الراغب، لسان العرب) . ویبدو ان اطلاق هذه المفردة علی الغاز اللامرئی المرکب من الاوکسجین والاوزون إنّما هو من الاستعمالات الجدیدة والذی یناسب أیضاً المعنی الأصلی، لأنّه یبدو موضعاً خالیاً (و إن ورد بهذا المعنی فی بعض الروایات أیضاً) .

ومن ثم طبقاتها. وتشیر العبارة بأجمعها إلی أنّ الخلق الأول فی عالم المادة کان خلق فضاء العالم، الفضاء الذی یسعه استیعاب الکرات السماویة والمنظومات وما إلی ذلک، بالضبط کالصفحة الورقیة التی یعدها الرسام الماهر مسبقاً لرسم ما یشاء. ومن هنا یتضح أنّ کلمة «ثم» فی العبارة لا تفید معنی الترتیب التکوینی، بل تفید الترتیب والتأخیر البیانی؛ لأنّه قد أشیر فی العبارات السابقة إلی خلق أنواع الموجودات والکائنات، ومن المتیقن ألا تکون قد أعقبت بخلق الفضاء ثم کریات السماء والأرض. وفی الواقع فقد تضمنت العبارات السابقة أبحاثاً بشأن خلق الموجودات بینما تکفلت هذه العبارة شرح تلک الأبحاث وتفصیلها. علی کل حال فانّ ظاهر هذه العبارة تفید أن الفضاء أول مخلوق فی عالم المادة، غیر أنّ هناک تردید لدی بعض الفلاسفة والمتکلمین بشأن الفضاء فی أنّه أمر وجودی أم عدمی؟ فهناک من یعتقد کما أنّ الزمان قد ظهر بعد انبثاق الموجودات وحرکتها (لأنّ الزمان هو وحدة الحرکة) فان المکان هوالآخر قد حصل بعد ظهور الأجسام المختلفة ومقارنتها مع بعضها. والحال یتعذر علینا تصور عدم وجود مکان مطلق إثر ظهور أول جسم إلی الوجود. فلو أردنا أن نبنی عمارة ذات عدّة طبقات فاننا نحتاج إلی فضاء تشغله تلک العمارة کحاجتنا إلی مکان علی الأرض نبنیها علیه، وإذا أردنا أن نبنی عمارة أکبر فانّها ستحتاج إلی فضاء أوسع. والخلاصة فاننا نؤمن بما أورده الإمام علیه السلام بقوله «ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء وشق الأرجاء وسکائک الهواء» ونوکل الاستغراق فی هذا البحث إلی محله.

تأمّل: هل العالم المادی حادث؟

هناک کلام کثیر یدور بین الفلاسفة والعلماء بشأن العالم فهل العالم المادی حادث أم قدیم أزلی؟ فالبعض یری أنّه قدیم وأزلی بینما یعتقد الأعم الأغلب أنّه حادث. امّا دلیل القائلین بالأزلیة والقدم فانما یستند إلی الذات الإلهیة المقدسة القدیمة وکل ما سواها فهو حادث ومخلوق وتابع لذاته المقدسة. وأمّا أنصار عقیدة حدوث العالم فأحیاناً یستدلون بالأدلة الفلسفیة علی مدعاهم وأحیاناً اُخری بالادلة العلمیة. فبرهان الحرکة والسکون من الأدلة

ص:80

الفلسفیة المعروفة التی تقول بأن عالم المادة دائماً فی حالة حرکة وسکون، والحرکة والسکون من «الاُمور الحادثة» وما کان معروضاً للحرکة والسکون فهو حادث أیضاً. ویمکن ایراد هذا الدلیل بتعبیر أوسع وأشمل وهو أنّ عالم المادة دائماً فی حالة تغییر، والتغییر والتبدل علامة علی الحدوث، لأنّه لو کان أزلیاً وهو مسرح علی الدوام للتغیر والتبدل فان ذلک سیکون جمع بین الحدوث والقدم، أی لابدّ أن نری التغییرات وهی من الاُمور الحادثة أزلیة، وهذا تناقض صریح. ویتضح هنا أکثر فأکثر اقرار هذا الدلیل للحرکة الجوهریة التی تقول بأنّ الحرکة کامنة فی ذات الأشیاء، بل هی عین ذاتها؛ لأنّ وجود الحرکة هذا الأمر الحادث فی الأزل لا معنی له. ونترک دراسة وتحلیل هذا الدلیل إلی الأبحاث الفلسفیة الواردة بهذا الشأن. الدلیل العلمی فهو الدلیل الذی یقول بأنّ العالم فی حالة تآکل دائمیة وقد قامت الأدلة والبراهین العلمیة التی تثبت ذلک، ویصدق هذا الأمر علی التیارات والثوابت والأرض وما کان علی سطحها. فالتآکل المستمر دلیل علی أن هناک نهایة وخاتمة لعالم المادة. لأنّ التآکل لا یمکن أن یستمر إلی ما لا نهایة، فاذا قبلنا أنّ للعالم المادی نهایة، یجب أن نذعن بأن له بدایة. لأن الشیء لا یکون أزلیاً مالم یکن أبدیاً. فالأبدیة تعنی اللانهایة، والشیء اللامنتهی لیس بمحدود، وإذا کان لیس بمحدود فلا بدایة له، وعلیه فالشیء إذا لم یکن أبدیاً سوف لن یکون أزلیاً. ویمکن ایراد هذه الکلمة بصیغة اُخری وهی أنّ العالم لو کان أزلیاً وفی حالة تآکل، فلابدّ أن یکون هذا التآکل قد أنهی عمر العالم لأنّ تناهی التآکل یساوی العدم. وبتعبیر آخر علی ضوء آخر النظریات العلمیة أنّ العالم المادی یسیر نحو الروتینیة. فالذرات تتلاشی تدریجیاً وتتحول إلی طاقة، والطاقة تسیر نحو الروتینیة (بالضبط کشعلة النار التی توقدها فی غرفة فتتحول مادة النار إلی حرارة فتنتشر هذه الحرارة تدریجیاً فی وسط الغرفة حتی تکون بالتالی شیئاً روتینیاً لا أثر له) . وکلما مرت لا نهایة الزمان علی العالم ستحصل هذه الحالة؛ أی تحول کافة المواد إلی طاقة وبالتالی تتحول هذه الطاقة الفعالة إلی طاقة روتینیة وباهتة.

لکن لا یعنی هذا الکلام أنّ زماناً قد مرّ ولم یکن للّه من خلق وأنّ ذاته الفیاضة قد توقفت عن هذا الفیض، بل بالعکس فان عملیة الخلق مستمرة، إلّاأنّ المخلوقات کانت دائماً تشهد حالة التغیر والتبدل وأنّ جمیع هذه المخلوقات تابعة لذاته المقدسة، أو بتعبیر آخر کان له

ص:81

حدوثاً ذاتیاً لا زمانیاً. وذلک لعدم إمکانیة تصور الحدوث الزمانی للجمیع. وما ورد فی الروایة التی قالت: «کان اللّه ولا شیء معه» (1)إنّما یراد بها أنّه لم یکن شیء مصاحباً لذاته بل مخلوقاً لها (لابدّ من التأمل) .

ص:82


1- 1) توحید الصدوق / 66، کما ورد شبیه هذا المضمون فی / 145 - 226.

القسم السادس: الماء کان أول مخلوق

«فَأَجْرَی فِیهَا ماءً مُتَلاطِماً تَیّارُهُ مُتَراکِماً زَخّارُهُ، حَمَلَهُ عَلَی مَتْنِ الرِّیحِ الْعاصِفَةِ وَالزَّعْزَعِ الْقاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ، وَسَلَّطَهَا عَلَی شَدِّهِ، وَقَرَنَهَا إِلَی حَدِّهِ، الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِها فَتِیقٌ وَالْماءُ مِنْ فَوْقِها دَفِیقٌ» .

الشرح والتفسیر ما یستفاد من کلمات أمیر المؤمنین علی علیه السلام ولاسیما فی هذه العبارات وما سیتبعها فی توضیح کیفیة خلق العالم هو أنّ اللّه سبحانه قد خلق ابتداءً الماء - أو بتعبیر آخر - مائعاً یشبه الماء ثم حمله علی ریح عاتیة شدیدة، وقد أمرت هذه الریح أن تحفظ هذا المائع وتحول دون تشتته وتفرقه. ثم هبت ریح شدیدة اُخری بهدف ایجاد أمواج فی ذلک المائع العظیم والواسع فجعلت الریح تلک الأمواج أعظم وأشد ثم دکتها علی بعضها، ثم تموج ذلک المائع تمویجاً شدیداً حتی ارتفع فی الفضاء، فخلق منه السموات السبع. جدیر بالذکر أنّ الماء والریح والعاصفة وما شابه ذلک - فی ذلک الوقت الذی لم یکن فیه ماء ولا ریح ولا عاصفة - کنایة عن موجودات شبیهة بما نراه الیوم من ماء وریح وهواء، وذلک لأنّ واضعی المفردات قد جعلوا هذه الکلمات لمثل هذه الاُمور، فلم یضعوا أیة مفردة لما حدث أوائل خلقة العالم. وان أدنی تأمل یجعل من الممکن تفسیر ما ورد من عباراته علیه السلام علی ضوء آخر الفرضیات والنظریات التی طرحها العلماء المعاصرون بهذا الشأن، ولا نقول إنّ هذا هو مراد الإمام علیه السلام علی سبیل القطع، بل نحتمل أن یکون تفسیره کذلک.

فآخر الفرضیات التی توصل إلیها العلماء بشأن بدایة ظهور العالم، هو أنّ العالم برمته فی

ص:83

البدایة کان بهیئة کتلة غازیة عظیمة شبیهة بالمائع، کما یمکن الاصطلاح علیها باسم «الدخان» ، أو بتعبیر آخر کانت الطبقات العلیا من العالم دخاناً، وکان هذا الدخان یتخذ شکل المائع بفعل حالة الضغط کلما إقترب من مرکز العالم.

أمّا الشیء الذی تکفل بحفظ تلک الکتلة العظیمة للغایة إنّما تمثل بالجاذبیة التی تحکم جمیع ذرات العالم، وقد سلطت هذه الجاذبیة علی ذلک الغاز المائع فشدته وحالت دون خروجه من حدوده. ثم ابتدأت هذه الکتلة العظیمة بالدوران حول نفسها (أو أنّها کانت تدور حول نفسها منذ البدایة) وهنا ظهرت قوة الطرد المرکزیة. (1)وقد أدت قوة الطرد المرکزیة هذه بتلک الکتلة العظیمة من ذلک الغاز المضغوط أن تقذف فی الفضاء الخالی، وعلی حد تعبیر نهج البلاغة کما سیأتی فی العبارات التالیة من هذه الخطبة «فأمرها بتصفیق الماء الزخار وإثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء وعصفت به عصفها بالفضاء» ثم ظهرت منها المنظومات والکواکب والکرات الصغیرة والکبیرة للعالم؛ الأمر الذی نعته القرآن ونهج البلاغة بالسموات السبع. طبعاً کل ما نرید أن نقوله - دون الاصرار علی هذا الموضوع - هو الانسجام القائم بین عبارته علیه السلام والفرضیات والنظریات العلمیة الواردة بذات الشأن، حیث یمکن استیعاب کلام الإمام علی علیه السلام علی ضوء النظریات والاطروحات العلمیة المعاصرة بخصوص ظهور السموات والارضین والکواکب والاجرام السماویة وسائر الکرات. وننتقل الآن إلی أصل عبارته، فقد قال الإمام علیه السلام: «فاجری فیها ماء متلاطماً (2)تیاره (3)» .

«التلاطم» بمعنی اصدام الأمواج ببعضها، والتیار یعنی الموج، ولا سیما الأمواج التی یقذفها الماء خارجاً، أفلیس هذا الماء المتلاطم والمتدفق هو تلک الغازات الأولیة المضغوطة التی تمثل المادة الأولیة للعالم علی ضوء نظریات العلماء واطروحاتهم؟ ثم أکد الإمام علی علیه السلام علی شدة

ص:84


1- 1) کل شیء یدور حول نفسه انّما یتعرض إلی قوة تحاول طرده من المرکز، کالشعلة التی ندورها بایدینا فاذا ترکناها فجأة قذفت إلی نقطة بعیدة، وما هذا إلّالوجود قوة الطرد المرکزیة، وکلما تضاعفت هذه القوة فان شدة القذف خارجاً تتناسب طردیاً وازدیاد تلک القوة.
2- 2) «متلاطم» من مادة «لطم» علی وزن ختم بمعنی صفع الوجه بالید، ثم استخدمت هذه المفردة لاحقاً بمعنی اصطدام الأمواج مع بعضها.
3- 3) «التیار» بمعنی أمواج البحر التی یقذف بها الماء، وقد أطلقها البعض (مقاییس اللغة ولسان العرب) علی کل نوع من الأمواج.

تدفق ذلک الماء وعظم تلاطمه فقال: «متراکم (1)زخاره (2)» .

ثم أضاف علیه السلام: «حمله علی متن الریح العاصفة (3)والزعزعة (4)القاصفة (5)» .

فالعاصف بمعنی الضاربة والکاسرة والزعزع بمعنی الضطربة والشدیدة الهبوب وکذلک القاصفة التی تهلک الناس بشدة هبوبها، وکأنّ کل هذه المفردات تأکیدات متتالیة لبیان قوة تلک الریح وسعتها وشمولیتها. ثم اُمرت هذه العاصفة العظیمة المرعبة بحفظ أجزاء الماء مع بعضها البعض ضمن حدودها «فأمرها برده، وسلطها علی شدة (6)، وقرنا إلی حده» . أو لیست هذه العاصفة العظیمة والشدیدة إشارة إلی أمواج الجاذبیة التی سلطها اللّه علی جمیع ذرات عالم المادة والتی کانت سبباً لتماسک أجزائها وعدم تشتتها وتناثرها، وتقییدها بالحرکة فی إطار حدودها؟ فهل هناک من تعبیر أروع وأدق من الریح العاصفة القاصفة لتبیین الأمواج العظیمة للجاذبیة فی ظل تلک الأجواء.

وقد حصلت کل هذه الاُمور و «الهواء من تحتها فتیق (7)والماء من فوقها دفیق (8)» والفتیق من مادة فتق بمعنی المفتوق؛ المفتوح، ودفیق من مادة دفق بمعنی الحرکة السریعة.

ص:85


1- 1) «متراکم» من مادة «رکم» علی وزن رزم بمعنی تراکم شیء والقاء بعضه علی بعض، وتطلق علی الغیوم والرمال والمیاه وحتی الجموع الغفیرة من الناس التی تتجمع فی موضع (المفردات، لسان العرب ومقاییس اللغة) .
2- 2) «زخار» من مادة «زخر» و «زخور» بمعنی الامتداد والارتفاع، کما یطلق علی امتلاء البحر وتلاطمه.
3- 3) «عاصفة» من مادة «عصف» علی وزن عصر بمعنی الخفة والسرعة، ومن هنا یطلق العصف علی قشور الحبوب التی تکسر بسرعة، کما یقال «عاصف» و «معصف» للشیء الذی یحطم سائر الأشیاء وینعمها (المفردات، لسان العرب ومقاییس اللغة) .
4- 4) «زعزع» علی وزن زمزم بمعنی الحرکة والاضطراب والاهتزاز، کما تستعمل بمعنی الشدید (مقاییس اللغة ولسان العرب) .
5- 5) «قاصفة» من مادة «قصف» علی وزن حذف بمعنی کسر الشیء، ومن هنا یطلق القاصف علی العواصف الشدیدة التی تکسر السفن فی البحار وکذلک الرعد والبرق الشدید الکاسر (المفردات، لسان العرب ومقاییس اللغة) .
6- 6) «شدّ» علی وزن مدّ بمعنی قوة الشیء وقدرته، ولذلک یصطلح بالشدید علی الفرد القوی (ولا سیما القوی فی الحرب) . کما تستعمل هذه المفردة بمعنی ربط العقدة وأحکام وثاقها (سواء کانت فی البدن أو فی القوی الباطنیة والروحیة أو فی المصیبة والعذاب) . (لسان العرب، المفردات ومقاییس اللغة) .
7- 7) «فتیق» من مادة «فتق» ذکرناها سابقاً.
8- 8) «دفیق» من مادة «دفق» علی وزن دفن بمعنی دفع الشیء إلی الإمام، کما تستعمل بمعنی السرعة. ولذلک یطلق «الادفق» علی الناقة السریعة.

نعم إنّ هذه الأمواج المتدفقة انّما تحد بواسطة تلک الریح العاصفة، فتحول دنها ودون تجاوزها لحدودها - وهنا یبرز هذا السؤال: کیف تظهر تلک الأمواج المتدفقة علی سطح الماء رغم وجود تلک الریح العاصفة الحائلة والمانعة، فالمعروف أنّ تلک الأمواج عادة ما تظهر بفعل حرکة الریاح والعواصف، رغم أنّ الریاح هنا تلعب دور المانع والحائل لتلک الأمواج، إذن ما العامل الذی یقف وراء حرکة الأمواج.

یبدو أنّ العامل الذی یقف وراء ظهور هذه الأمواج هو شیء کامن فی باطنها بحیث یجعله یتلاطم علی الدوام. ولکن لیست لدینا رؤیة واضحة لماهیة هذا العامل، إلّاأنّه ینسجم تماماً والنظریات التی أوردها العلماء المعاصرون بهذا الشأن، فهم یقولون أن انفجارات نوویة متواصلة وقعت فی جوف الغازات الاولی ذات الطبیعة المائعیة، وهی هذه الانفجارات التی تحدث الیوم فی الشمس. فهذه الانفجارات العظیمة قضت علی سکون واستقرار هذه الغازات المائعیة وأوجدت تلک التلاطمات فی أمواجها المتدفقة.

ولابد لنا من متابعة المقطع الآخر لاکمال هذا القسم فنقف علی الصورة الدقیقة التی رسمها الإمام علیه السلام لإنبثاق الخلیقة.

ص:86

القسم السابع: دور العواصف فی انبثاق الخلقة

اشارة

«ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِیحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّها وَأَدامَ مُرَبَّها وَأَعْصَفَ مَجْراها وَأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِیقِ الْماءِ الزَّخّارِ وَإِثارَةِ مَوْجِ الْبِحارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقاءِ وعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَها بِالْفَضاءِ. تَرُدُّ أَوَّلَهُ إِلَی آخِرِهِ وَساجِیَهُ إِلَی مائِرِهِ حَتَّی عَبَّ عُبابُهُ ورَمَی بِالزَّبَدِ رُکامُهُ فَرَفَعَهُ فِی هَواءٍ مُنْفَتِقٍ وَجَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّی مِنْهُ سَبْعَ سَمَواتٍ جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجاً مَکْفُوفاً وعُلْیاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَسَمْکاً مَرْفُوعاً بِغَیْرِ عَمَدٍ یَدْعَمُها وَلا دِسارٍ یَنْظِمُها ثُمَّ زَیَّنَها بِزِینَةِ الْکَواکِبِ وضِیاءِ الثَّواقِبِ وَأَجْرَی فِیها سِراجاً مُسْتَطِیراً وَقَمَراً مُنِیراً فِی فَلَکٍ دائِرٍ وَسَقْفٍ سائِرٍ وَرَقِیمٍ مائِرٍ» .

الشرح والتفسیر کما أوردنا فانّ هذه الکلمات امتداد لعباراته السابقة ونتجه بادئ ذی بدء إلی فهم التعبیرات الدقیقة والعمیقة فی کلام الإمام علیه السلام دون اصدار حکم بشأنها، ثم نتحدث بعد ذلک عن مدی انسجامها مع آراء ونظریات العلماء المعاصرین بخصوص مسألة خلق العالم. فالإمام یشیر فی کلامه إلی عدّة مراحل. فقال علیه السلام: «ثم أنشأ سبحانه ریحاً اعتقم (1)مهبها (2)» .

فالریح العقیم هی الریح الخالیة من السحب التی تؤدی إلی نزول المطر، وبالتالی فهی لا

ص:87


1- 1) «اعتقم» من مادة «عُقم» علی وزن قفل بمعنی الجفاف المانع من قبول الأثر، ویطلق العقیم علی المرأة التی لا تتقبل نطفة الرجل، کما تأتی بمعنی الضیق أیضاً کما ورد فی المفردات ولسان العرب ومقاییس اللغة.
2- 2) مهبها من الهبوب علی وزن السجود الحرکة بالنسبة للسیف والاضطراب ومن هنا تطلق علی هبوب الریاح.

تلقح سحاباً ولا شجراً. ثم وصفها علیه السلام بملازمتها للماء وعدم انفصالها عنه فقال: «وأدام مربّها (1)» خلافاً للریاح العادیة التی تهب أحیاناً وتسکن أحیاناً اُخری؛ ریح شدیدة عاتیة (تختلف کلیاً عن الریاح والعواصف الاعتیادیة) فقال علیه السلام: «وأعصف (2)مجریها» . وهی ریح تهب من مکان سحیق ولیست علی غرار الریح الاعتیادیة التی تنطلق من أماکن قریبة (وأبعد منشاها) .

ثم أشار فی المرحلة الثانیة إلی مهمّة هذه الریاح «فامرها بتصفیق (3)الماء الزخار، واثارة موج البحار» فقامت هذه الریح العاتیة العظیمة بمخض الماء کقراب السقّاء «فمخضته (4)مخض السقاء» . «وعصفت به عصفها بالفضاء» ثم قال علیه السلام: «ترد أوله إلی آخره وساجیه (5)إلی مائره (6)» .

وقال علیه السلام فی المرحلة الثالثة بشأن تراکم المیاه وارتفاعها «حتی عب عبا (7)» بمعنی ارتفع أعلاه «ورمی بالزبد رکامه (8)» . ثم قال علیه السلام فی المرحلة الرابعة: «فرفعه فی هواء منفتق وجو منفهق (9)» فخلق منها تبارک وتعالی السموات السبع «فسوی منه سبع سموات» حیث جعل الأقسام السفلی، کالأمواج المکفوفة الممسوکة والطبقات العلیا کالسقف المحفوظ «جعل

ص:88


1- 1) «مرب» من مادة «ربّ» التی تعنی فی الأصل التربیة، وتطلق الرب علی المربی والمالک والخالق (وهو مصدر له معنی الفاعلیة) ویفید معنی الاستمرار والملازمة إذا جاء من باب الأفعال (إرباب) لأنّ التربیة متعذرة دون الاستمرار) . وبناءً علی هذا فانّ «مربّ» مصدر میمی بمعنی الدوام والبقاء.
2- 2) «أعصف» من مادة «عصف» علی وزن عصر، بمعنی السرعة والحرکة والشدة کما ذکرنا.
3- 3) «تصفیق» من مادة «صفق» علی وزن سقف بمعنی تقلیب الشیء بعضه علی بعض بحیث یصاحبه الصوت، ومن هنا اطلق التصفیق علی ضرب الکفین - وهی هنا بمعنی تحریک المیاه وتقلیبها علی بعضها (لسان العرب، مقاییس اللغة، شرح محمد عبدة) .
4- 4) «مَخَضَ» من مادة «مخض» علی وزن قرض بمعنی تحریک الموائع فی ظروفها، ولذلک یستعمل هذا التعبیر أثناء تحریک اللبن فی القربة لفصل الزبدة عنه.
5- 5) «ساجی» من مادة «سجو» علی وزن سهو بمعنی السکون والهدوء.
6- 6) «مائر» من مادة «مور» علی وزن فور بمعنی الحرکة السریعة، وتطلق هذه المفردة علی الجادة أیضاً لأن الناس یتحرکون علیها ذهاباً وإیاباً.
7- 7) «عباب» من مادة «عب» بمعنی شرب الماء سریعاً دون تریث، ومن هنا اطلق العباب علی الماء الکثیر والمطر الغزیر والسیل العظیم، وهی هنا بمعنی تراکم المیاه علی بعضها.
8- 8) «رکام» أشرنا إلی معناها سابقاً (ما تراکم منه بعضه علی بعض) .
9- 9) «منفهق» من مادة «فهق» علی وزن فرق بمعنی المفتوح الواسع، ولذلک یصطلح بالمنفهق علی الجزء الواسع من الوادی والوعاء المملوء بالماء.

سفلاهن موجاً مکفوفاً (1)وعلیاهن سقفا محفوظاً وسمکاً (2)مرفوعاً» .

ثم أشار علیه السلام إلی عدم وجود الأعمدة التی تحملها ولا المسامیر التی تحکم وثاقها فقال: «بغیر عمد (3)یدعمها (4)ولا دسار ینظمها (5)» وأخیراً تأتی المرحلة الأخیرة - الخامسة - «ثم زینها بزینة الکواکب وضیاء الثواقب (6)» . ثم أشار علیه السلام إلی القمر والشمس وتحرک کل منهما ضمن مداره «واجری فیها سراجاً مستطیرا (7)وقمراً منیراً فی فلک دائر وسقف سائر ورقیم (8)مائر» .

تأمّلات

1 - دراسة العبارة علی ضوء الفرضیات المعاصرة

للعلماء المعاصرین نظریات متعددة لا تتجاوز حدود الفرضیات بشأن خلق العالم؛ حیث لم یکن هناک مخلوق قبل ملیارات السنین لیشهد کیفیة ظهور العالم، مع ذلک هناک بعض الشواهد والقرائن التی تؤید صحة بعض هذه الفرضیات. امّا العبارات التی ساقها الإمام علیه السلام فهی تنطبق تماماً علی بعض الفرضیات المعروفة، سنتعرض لها الآن دون الاصرار علی أنّ الإمام علیه السلام إنّما أراد هذه الفرضیات. فکما أسلفنا فی الأبحاث السابقة أن العالم کان فی البدایة کتلة ضخمة من الغازات المتراکمة الکثیرة الشبه بالمائعات بحیث یصح نعتها بالماء، کما یصح

ص:89


1- 1) «مکفوف» من مادة «کف» علی وزن سد بمعنی قبض الشیء وجمعه، ولذلک اطلق علی راحة الید الکف لأنّها سبب قبض الید، کما یطلق المکفوف علی الأعمی لقبض بصره.
2- 2) «سمک» بمعنی الارتفاع ولهذا یسمی السقف بالسمک لارتفاعه.
3- 3) «عمد» علی وزن سبد وعُمُد کلاهما جمع «عمود» بمعنی الدعامة.
4- 4) «یدعم» من مادة «دعم» علی وزن فهم بمعنی دعامة الشیء ودعام ودعامة بمعنی الخشب الذی یحمل الأشیاء ویشدها، وتطلق علی الشیء والشخص الداعم.
5- 5) «دسار» بمعنی المسمار والحبل الذی یربط به الشیء.
6- 6) «ثواقب» من مادة «ثقب» علی وزن سقف بمعنی الشیء؛ ثقب الشیء واختراقه ومن هنا اطلق الثواقب علی الکواکب المضیئة المنیرة، فکأنّ نورها یثقب البصر وینفذ فیه، أو أنّ نورها یخترق السماء لیصلنا.
7- 7) «مستطیر» من مادة «طیر» بمعنی انتشار الشیء فی الهواء، ثم استعمل کل شیء سریع وکذلک الطیور. ومستطیر بمعنی واسع ومنتشر. ومن هنا یقال استطار الفجر، أی انتشر ضوءه.
8- 8) «رقیم» من مادة «رقم» بمعنی الخط والکتابة، کما وردت هذه المفردة بمعنی الکتاب. وهو اسم من أسماء الفلک وسمی به لأنّه مرقوم بالکواکب.

الاصطلاح علیها بالدخان علی ضوء التصریحات القرآنیة. وقد سلط خالق العالم علیه قوتین عظیمتین، حیث عبر عنهما فی العبارة المذکورة بالریح:

قوة الجاذبیة التی حفظته متماسکاً وحالة دون تشتته وزواله، والقوة الدافعة التی تدفعه إلی الخارج إثر الحرکة الدورانیة حول نفسه وبفعل قوة الطرد المرکزیة، وهذه هی الریح والعاصفة الثانیة. فاذا أقررنا بالحرکة الدورانیة للعالم الأول علی أنّها کانت متذبذبة تشتد أحیاناً وتنخفض أحیاناً اُخری فمن الطبیعی أن تکون قد ظهرت تلک الأمواج العظیمة فی تلک الکتلة الغازیة العظیمة الشبیهة بالمائع بحث تراکمت تلک الأمواج علی الدوام ثم أخذت بالتساقط. وفی الختام فان الطبقات الأکثر خفة والأقل وزناً - والتی ورد التعبیر عنها بالزبد من قبل الإمام علیه السلام - قد قذف بها نحو الفضاء الخارجی (أنّ مفردة «الزبد» تطلق علی ما یطفو من الماء، وکذلک علی الزبدة التی تطفو لخفتها علی سطح محتویات القربة) .

وبهذا فقد اشتدت الحرکة الدورانیة، فانفصلت أجزاء کبیرة من هذه الکتلة العظیمة وانطلقت إلی الفضاء، فما کان منها أکثر شدة بلغ نقاطاً مرتفعة وأمّا ما کان منها أقل شدة فقد بلغ نقاطاً أوطئ. لکن الأجزاء التی بلغت نقاطاً مرتفعة أصبحت علی هیئة سقف محفوظ وذلک بفعل قوة الجاذبیة التی لم تدعها تفلت تماماً، بینما أصبحت الأجزاء السفلی الأقل ضغطاً موجاً مکفوفاً حسب تعبیر الإمام علیه السلام.

ثم ظهرت فی ذلک الفضاء المترامی السموات السبع (التی سنتناولها بالحدیث لاحقاً) دون أن تکون هناک عمد ترفعها ومسامیر تنظمها وتحکم وثاقها، ولم تستقر فی مواقعها وتتزن فی حرکتها ضمن مداراتها سوی من خلال تعادل القوتین الجاذبة والدافعة. کان الفضاء آنذاک مملوءاً بالکرات الصغیرة والکبیرة، فانطلقت قطع متناثرة من هذه الأمواج إلی الخارج، وقد انجذبت القطع الصغیرة تدریجیاً نحو الکرات الکبیرة بحکم الجاذبیة فأصبح الفضاء وأضاءت النجوم وزینت بالکواکب وأشرقت الشمس واضیء القمر وأخذت الأجرام تتحرک ضمن أغلفتها ومداراتها.

لقد ورد فی بعض الفرضیات بشأن ظهور العالم أنّ العامل الذی أدی إلی انفصال المنظومات والکرات السماویة عن الکتلة الاولی إنّما یعزی إلی الانفجار الداخلی العظیم والذی

ص:90

ظل سببه مجهولاً غامضاً لحد الآن. فالقی الانفجار المذکور بأجزاء عظیمة من الکتلة الغازیة الاولی الشبیهة بالمائع إلی الفضاء وکون الکرات والمنظومات ولعل قوله علیه السلام: «ثم انشأ سبحانه ریحاً اعتقم مهبها وأدام مربها وأعصف مجراها وأبعد منشأها فامرها بتصفیق الماء الزخار. . .» إشارة إلی هذا الانفجار العظیم الذی انطلق من أعماق المادة الاولی. لکن وکما قلنا سابقاً فان الهدف من هذا الکلام هو ایضاح مدی انسجام عبارات الخطبة مع الفرضیات الواردة بشأن ظهور العالم ولا یمثل إصدار حکم بهذا الشأن أبداً.

2 - کیفیة ظهور العالم

تعد مسألة کیفیة ظهور العالم من أعقد المسائل التی واجهها العلماء والمفکرون. فالمسألة المذکورة تعود إلی ماقبل ملیاردات السنوات، ولعلها القضیة التی لم تطرق فکر أحد؛ الأمر الذی حیر کبار العلماء والمفکرین رغم الجهود المفنیة والتحقیقات والفرضیات الضخمة التی توصلوا إلیها فی هذا المجال وبالتالی لم یکن أمامهم سوی الاعتراف بالعجز عن سیر تحور هذه المسألة. إلّاأنّ روح حب الاستطلاع والتعرف علی المجهول التی تسود الفکر البشری لم تدعه یقف مکتوف الایدی حیال هذه القضیة والصمت إزائها. فالواقع أنّ لسان حال العلماء هو إننا وإن عجزنا عن بلوغ کنه هذا الموضوع، غیر أننا نرغب برسم صورة فی أذهاننا من شأنها إشباع حب تطلعنا واقتحامنا لهذا الأمر. وبالطبع فانّ الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیه قد اکتفت بإشارات مقتضیة بالنسبة لهذا الموضوع؛ الأمر الذی لا یؤدی إلّاإلی رسم صورة باهتة فی الذهن لا ترقی إلی إماطة اللثام عن طبیعتها وکنه حقیقتها. علی کل حال فان العبارات الواردة فی هذه الخطبة انّما تتناغم وما ورد فی خطبته رقم 211 التی قال فیها علیه السلام: «وکان من اقتدار جبروته وبدیع لطائف صنعته أن جعل من ماء البحر الزاخر المتراکم المتقاصف یبساً جامداً ثم فطر منه اطباقا ففتقها سبع سموات، بعد ارتتاقها» .

من جانب آخر فقد شحنت الروایات الإسلامیة بعدة أبحاث بهذا الشأن، والواضح أنّ أغلب هذه الروایات تنسجم وخطب نهج البلاغة الواردة بهذا الخصوص مع فارق جاء فی

ص:91

أغلبها وهو تصریحها بأنّ الزبد أول شیء ظهر علی الماء ثم انبعث منه البخار أو الدخان الذی کوّن السموات. (1)

ولکن وکما أوردنا آنفاً فانه لیس هنالک من تضارب بین هذه العبارات، لأنّ المادة الاولی علی الأقوی کانت عبارة عن غازات مائعیة مضغوطة یصدق علیها وصف الماء والبخار والدخان بالنظر لمراحلها المختلفة. والجدیر بالکذر هنا هو أنّه لیس هناک من تضاد بین الروایات التی صرّحت بأنّ أول ما خلق اللّه الماء، أو الشیء الأول الذی خلقه اللّه کان نور النبی صلی الله علیه و آله أو العقل؛ وذلک لأنّ بعض الروایات تحدثت عن خلق عالم المادة بینما تحدث البعض الآخر عن خلق عالم المجردات والأرواح. کما یتبیّن عدم وجود التناقض بین ما أوردناه من مضامین الروایات وما صرّحت به الآیة 11 من سورة فصلت التی قالت: «ثم استوی إلی السماء وهی دخان» .

3 - الفرضیات السائدة بشأن العالم أبان نزول القرآن

الطریف أنّه کانت هناک نظریتین بشأن ظهور العالم فی الوسط الذی نزل فیه القرآن - أو بعبارة أدق فی العصر الذی نزل فیه القرآن -: الاولی نظریة «بطلیموس» التی سادت المحافل العلمیة لخمسة عشر قرناً واستمرت حتی أواخر القرون الوسطی. وعلی ضوء هذه النظریة فانّ الأرض کانت مرکز العالم وتدور حولها تسعة أفلاک؛ وهی أفلاک تشبه الأغطیة البصلیة وشفافة وبلوریة ومتراکمة بعضها، وکان کل کوکب سیّار (عطارد، الزهرة، المریخ، المشتری وزحل) فی فلک، کما کان لکل من الشمس والقمر فلکهما. واضافة إلی هذه الأفلاک السبع، هناک فلک یرتبط بالکواکب الثابتة (المراد بالکواکب الثابتة هی تلک الکواکب التی تطلع معاً وتغرب معاً دون أن تغیر مواقعها فی السماء بخلاف الکواکب الخمس التی ذکرناها) . وبعد الفلک الثامن؛ أی فلک الثوابت هناک فلک الاطلس الذی لیس له أی کوکب، امّا مهمته فهی

ص:92


1- 1) للوقوف علی هذه الروایات، انظر 3 / 10 و57 من بحار الأنوار، طبعة بیروت. وردت أغلب الأحادیث فی ج 57.

سوق العالم العلوی للدوران حول الأرض، وهو الفلک الذی یسمی أیضاً بفلک الأفلاک.

أمّا الفرضیة الاُخری فهی الفرضیة التی تستمد قوتها من فرضیة بطلیموس بشأن العالم وتفسره علی أساس العقول العشرة.

وعلی ضوء هذه النظریة التی طرحها جمع من الفلاسفة الیونانیین فان اللّه لم یخلق بادئ ذی بدء سوی شیء واحد هو العقل (الملک أو الروح العظیمة والمجردة التی اصطلح علیها بالعقل) . وقد خلق هذا العقل شیئین هما العقل الثانی والفلک التاسع، ثم خلق العقل الثانی العقل الثالث والفلک الثامن، وهکذا خلق عشرة عقول وتسعة أفلاک، ثم قام العقل العاشر بخلق موجودات هذا العالم. والواقع لیس هنالک من دلیل علی هذه السلسلة من الفرضیات، وهکذا هو الحال بالنسبة لفرضیة بطلیموس رغم ذلک فقد کانت هذه الفرضیات هی السائدة لقرون. أمّا القرآن والروایات الإسلامیة فقد رفضت الفرضیة الاولی - فرضیة بطلیموس - کما رفضت الفرضیة الثانیة - فرضیة العقول العشرة -؛ وذلک لأننا لم نر أثر لهما فی الآیات والروایات المعروفة - ولا سیما فی نهج البلاغة -، وهذا بدوره یمثل أحد الأدلة والشواهد علی استقلالیة القرآن وعظمة الأخبار الإسلامیة واستنادها إلی الوحی لا إلی الأفکار البشریة، وإلّا لاصطبغت بصبغتها. (1)

وقد رأینا الانسجام التام بین کلام أمیر المؤمنین علیه السلام وسائر الروایات الإسلامیة بشأن ظهور العالم. فالمحور الأصلی فی الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة إنّما کان الحدیث عن السموات السبع لا الأفلاک التسع ولا العقول العشرة، وسنتناول لاحقاً تفسیر السموات السبع.

لکن من المؤسف أنّ قدماء شرّاح نهج البلاغة - ممن تأثروا بفرضیة العقول العشرة ونظریة بطلیموس بشأن ظهور العالم - قد سحبوا هذه الفرضیات علی شرح نهج البلاغة

ص:93


1- 1) لقد أشارت بعض الآیات القرآنیة إلی حرکة الأرض من قبیل الآیة 88 من سورة النمل « [1]وتری الجبال تحسبها جامدة وهی تمر مر السحاب صنع اللّه الذی اتقن کل شیء» والآیة 25 من سورة المرسلات « [2]الم نجعل الأرض کفاتا» . (وطبق بعض التفاسیر فان الآیة 40 من سورة یس « [3]لا الشمس ینبغی لها أن تدرک القمر ولا اللیل سابق النهار وکل فی فلک یسبحون» تدل علی أنّ الشمس والقمر یسبحان فی الفضاء العلوی. للوقوف أکثر علی التفاصیل. انظر تفسیر الأمثل. [4]

فسعوا جاهدین لحمل الخطبة المذکورة علیها دونما أیة ضرورة أو حاجة إلی ذلک؛ فهی لم تکن سوی فرضیات وقد ثبت بطلانها الیوم.

فقد أثبتت التحقیقات والمشاهدات العلمیة وتجارب علماء الفلک عدم وجود فلک بالمعنی الذی ذهب إلیه بطلیموس، وأنّ الکواکب الثابتة والسیارة والتی یفوق عددها بکثیر ممّا ظنه القدماء وأنّها تدور فی فضاء خال (وَ أنّ السیارات إنّما تدور حول الشمس لا حول الأرض والثوابت علی المحاور الأخری) وأنّ الأرض لیت مرکزاً للعالم فحسب، بل هی سیارة صغیرة من سیارات المنظومة الشمسیة وهذه الاُخری منظومة صغیرة من بین ملایین بل ملیارات منظومات العالم العلوی. أمّا أنصار فرضیة العقول العشرة ورغم تأثرها بفرضیة بطلیموس - التی سلم الیوم ببطلانها - إلّاأنّهم یستندون إلی قاعدّة من القواعد العقلیة «والتی تصرح بان الواحد لا یصدر منه إلّاواحد» لإثبات صحة فرضیتهم ولا نری هنا من ضرورة للاستغراق فی شرح هذه القاعدّة.

ولما کانت هذه القاعدّة تفتقر إلی الدلیل من وجهة نظر أغلب العلماء، فانّ أسسها تعتبر جوفاء لا قیمة لها. (1)

4 - ما المراد بالسموات السبع؟

لم یقتصر الحدیث عن السموات السبع علی نهج البلاغة - فی هذه الخطبة والخطبة 211 - فحسب بل سبقه القرآن الکریم للحدیث عن هذا الموضوع (2).

وهناک عدّة تفاسیر أوردها العلماء القدماء بشأن السموات السبع، ولا نروح الخوض فیها

ص:94


1- 1) لقد أشار المرحوم «الخواجة نصیر الدین الطوسی» فی کتابه «تجرید الاعتقاد» إلی الأدلة الخمسة لفرضیة العقول العشرة فیفندها جمیعاً ویقول فی عبارة قصیرة «وأدلة وجوده مدخولة» . وللوقوف أکثر علی هذا الموضوع راجع کلام الخواجة والعلّامة الحلی بهذا الشأن.
2- 2) الطریف أنّ القرآن أشار إلی السموات السبع فی سبع من آیاته، وهی الآیة 29 من سورة البقرة، 44 من سورة الاسراء، الآیة 86 من سورة المؤمنون، الآیة 12 من سورة فصلت، الآیة 12 من سورة الطلاق، الآیة 3 من سورة الملک والآیة 15 من سورة نوح. کما وردت بعض الآیات التی أشارت بعبارات اُخری إلی هذا الأمر.

جمیعاً؛ الا ان التفسیر الوحید الذی یبدو صحیحاً من بینها هو ذلک الذی قال بأنّ المراد بالسموات السبع هو المعنی الواقعی لهذه الکلمة؛ فالسماء هی مجموعة من الکواکب والنجوم فی العالم العلوی، والسبع هو العدد سبعة المعروف ولا یراد به الکثرة، غایة مافی الأمر أنّ الذی نفهمه من الآیات القرآنیة هو أن ما نشاهده من کواکب وسیارات ثابتة ومتحرکة کلها مرتبطة بالسماء الاولی. وبناءً علی هذا فان وراء هذه السماء العظیمة ستة سموات عظیمة أخر لم یتسنی لحد الآن للعلم البشری التوصل إلی معرفتها.

والآیة السادسة من سورة الصافات تؤید هذا المعنی: «إِنّا زَیَّنّا السَّماءَ الدُّنْیا بِزِینَةٍ الْکَواکِبِ» ، کما ورد هذا المعنی فی الآیة 12 من سورة فصلت «وَزَیَّنّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ» ، وجاء فی الآیة الخامسة من سورة الملک «وَلَقَدْ زَیَّنّا السَّماءَ الدُّنْیا بِمَصابِیحَ» . والطریف فی الأمر أنّ المرحوم العلّامة المجلسی قد ذکر هذا التفسیر - فی بحار الانوار - علی أنّه إحتمال اقتدح فی ذهنه، أو استنتاجه من الآیات والروایات کما یعبر عن ذلک الیوم. (1)

وهنا لابدّ من القول بأنّ الأجهزة العلمیة لم تتمکن حتی الیوم من إماطة اللثام عن هذه العوالم الست، إلّاانّ الدلیل لم یقم علی نفیها علمیاً، ولعل العلم یکشف أسرار هذا الموضوع مستقبلاً، بل أفادت کشوف العلماء الفلکیین أنّ هناک أشباحاً تری من بعید تفید وجود عوالم اُخری، علی سبیل أوردت بعض المجلات الفضائیة نقلاً عن المراصد الجویة المعروفة «بالومار» قولها: لقد تمکن ناظور مرصد بالومار من کشف ملایین المجرات التی یبعد بعضها عنا ألف ملیون سنة ضوئیة. لکن هناک فضاء عظیم ومهیب مظلم بعد تلک المسافة البالغة ألف ملیون سنة ضوئیة، غیر أنّه یتعذر رؤیة مافیه من أشیاء. ومما لاشک فیه أنّ ذلک الفضاء المهیب والمظلم یضم مئات الملایین من المجرات بحیث تکفلت جاذبیتها بحفظ البسیطة التی نعیش علی وجهها. وما هذه الدنیا العظیمة التی تغص بمئات آلاف الملایین من المجرات إلّاذرة تافهة لا قیمة لها مقارنة بدنیا أعظم وأوسع ولسنا متأکدین لحد الآن من وجود دنیا اُخری

ص:95


1- 1) بحار الأنوار 55 / 78. [1]

عظیمة فیما وراء هذه الدنیا. (1)ونخلص ممّا سبق إلی أنّ العوالم التی تمّ کشفها من قبل البشریة ورغم عظمتها وما تنطوی علیه من أسرار وأعاجیب لیست إلّاجزءاً ضئیلاً من عالم ضخم عملاق، ولعل المستقبل سیکشف النقاب عن العوالم الست الاُخری.

5 - کیفیة علم الإمام علیه السلام بهذه الاُمور

ما تجدر الإشارة إلیه هنا هو أنّ عبارات الإمام علیه السلام بشأن ظهور العالم لم ترد بصیغة فرضیة واحتمال أبداً، بل صورها علیه السلام وکأنّه یشهد ذلک الظهور، وهذا دلیل علی استناد علمه إلی خزانة علم الغیب الإلهی أو تعلیمات النبی صلی الله علیه و آله - التی تستند إلی الوحی حتی تحدث ابن أبی الحدید بهذا الشأن فقال: «إنّ أمیر المؤمنین علی علیه السلام کان یعرف آراء المتقدمین والمتأخرین، ویعلم العلوم کلها ولیس ذلک ببعید من فضائله ومناقبه علیه السلام (2)» . وکیف لا یکون الإمام علیه السلام کذلک وهو القائل: «أنا بطرق السماء أعلم منّی بطرق الأرض» . (3)

ص:96


1- 1) مجلة الفضاء 56 / آذار عام 1972 م.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 80. [1]
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 189. [2]

القسم الثامن: عالم الملائکة

اشارة

«ثُمَّ فَتَقَ ما بَیْنَ السَّمَواتِ الْعُلا فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلائِکَتِهِ، مِنْهُمْ سُجُودٌ لا یَرْکَعُونَ، وَرُکُوعٌ لا یَنْتَصِبُونَ، وَصافُّونَ لا یَتَزایَلُونَ، وَمُسَبِّحُونَ لا یَسْأَمُونَ، لا یَغْشاهُمْ نَوْمُ الْعُیُونِ، وَلا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلا فَتْرَةُ الْأَبْدانِ وَلا غَفْلَةُ النِّسْیانِ وَمِنْهُمْ أُمَناءُ عَلَی وَحْیِهِ، وَأَلْسِنَةٌ إِلَی رُسُلِهِ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وَأَمْرِهِ، وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبادِهِ وَالسَّدَنَةُ لِأَبْوابِ جِنانِهِ، وَمِنْهُمُ الثّابِتَةُ فِی الْأَرَضِینَ السُّفْلَی أَقْدامُهُمْ، وَالْمارِقَةُ مِنَ السَّماءِ الْعُلْیا أَعْناقُهُمْ وَالْخارِجَةُ مِنَ الْأَقْطارِ أَرْکانُهُمْ، وَالْمُناسِبَةُ لِقَوائِمِ الْعَرْشِ أَکْتافُهُمْ ناکِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَیْنَهُمْ وَبَیْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَأَسْتارُ الْقُدْرَةِ، لا یَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِیرِ وَلا یُجْرُونَ عَلَیْهِ صِفاتِ الْمَصْنُوعِینَ وَلا یَحُدُّونَهُ بِالْأَماکِنِ وَلا یُشِیرُونَ إِلَیْهِ بِالنَّظائِرِ» .

الشرح والتفسیر یواصل الإمام علیه السلام خطبته التی تطرق فیها إلی خلق السموات وکیفیة ظهور العالم، فیتحدث عن خلق الموجودات السماویة وملائکة العالم العلوی فیشیر بعبارات قصیرة بلیغة إلی أصناف الملائکة وصفاتهم وخصائصهم وطبیعة أنشطتهم ومهامهم وعظم خلقتهم ومدی علو معرفتهم، فالواقع هو أنّ هذا القسم من الخطبة یختص بالتعریف بالملائکة. فاستهل کلامه

ص:97

قائلاً: «ثم فتق مابین السموات العلا» (1)فالذی یستفاد من هذا التعبیر أنّه کانت هناک فواصل بین السموات وقد التحمت فی البدایة ثم ما لبثت أن انفصلت، وهذا بالضبط علی الخلاف ممّا تضمنته نظریة بطلیموس فی أن السموات کأغطیة البصل متراکمة علی بعضها دون وجود أیة فجوة. ثم قال الإمام علیه السلام: «فملأهن أطواراً (2)من ملائکته (3)» . وقد ورد نظیر هذه العبارة فی الخطبة رقم 91 المعروفة بخطبة الأشباح حیث قال: «وملأ بهم فروج فجاجها وحشا بهم فتوق أجوائها» کما ورد فی موضع آخر من هذه الخطبة قوله: «ولیس فی أطباق السماء موضع اهاب إلّاوعلیه ملک ساجد أو ساع حافد» .

ثم یتطرق علیه السلام إلی أصناف، أو بعبارة أدق أطوار الملائکة فیقسمهم إلی أربعة أقسام:

القسم الأول: أرباب العبادة، ثم یقسم هؤلاء إلی أقسام، فمنهم من هو ساجد أبداً لم یقم من سجوده لیرکع «منهم سجود (4)لا یرکعون» ، ومنهم من هو راکع أبداً لم ینتصب قط «ورکوع لا ینتصبون» ومنهم الصافون فی الصلاة بین یدی خالقهم لا یتزایلون «وصافون (5)لا یتزایلون» . ذهب البعض إلی أنّ «صافون» هنا بمعنی الصف فی العبادة، بینما ذهب البعض الآخر إلی انّ معناها فتح أجنحتهم فی السماء بدلیل الآیة القرآنیة القائلة: «أَوَ لَمْ یَرَوْا إِلی الطَّیْرِ فَوْقَهُمْ صافّاتٍ» (6). وهناک إحتمال آخر أن یکون المراد بها الوقوف فی صفوف منظمة والاستعداد لطاعة أوامر اللّه وامتثالها.

إلّا انّ الاحتمال الأول أکثر انسجاماً مع الجمل السابقة واللاحقة، والواقع أنّهم یمارسون الحالات الثلاث لعبادتنا فی القیام والرکوع والسجود. فالتعبیر بصافین إمّا أنّه إشارة للصفوف

ص:98


1- 1) «العلا» جمع «علیا» بمعنی الأعلی والأشرف.
2- 2) «أطوار» جمع «طور» علی وزن قول بمعنی الصنف، کما تعنی الحد والحالة أیضاً.
3- 3) ان الضمیر «هن» فی العبارة کما یشیر ظاهرها یعود إلی السموات، إلّاأنّ المراد الفواصل بین السموات بدلیل قوله «ثم فتق. . .» وفاء التفریع فی «فملأهن» .
4- 4) «سجود» جمع «ساجد» ، کالرکوع جمع راکع.
5- 5) «صافون» جمع «صاف» علی وزن حاد من مادة «صف» بمعنی المساواة وقد اقتبست فی الأصل من «صفصف» بمعنی الأرض المستویة.
6- 6) سورة الملک / 19. [1]

المنظمة للملائکة، أو القیام المنظم لکل منها. وهذا عین ما ورد فی خطبته علیه السلام فی وصف المتقین لهمام «أمّا اللیل فصافون أقدامهم تالین لاجزاء القرآن» (1). وأخیراً المسبحون الذین لا یملون التسبیح والتحمید له سبحانه «ومسبحون لا یسأمون» . فظاهر هذه الجملة یفید أنّ هؤلاء طائفة اُخری غیر الطوائف الثلاث القائمة والراکعة والساجدة (و ان ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المسبحین هم الطوائف المذکورة سابقاً، حیث یمکن الاستشهاد ببعض الروایات التی تؤید ماذهبوا إلیه. فقد روی أنّه سئل النبی صلی الله علیه و آله: کیف صلاة الملائکة؟ فأطرق رسول اللّه صلی الله علیه و آله حتی نزل علیه جبرئیل علیه السلام فقال له: «أنّ أهل السماء الدنیا سجود إلی یوم القیامة یقولون سبحان ذی الملک والملکوت وأهل السماء الثانیة رکوع إلی یوم القیامة یقولون سبحانه ذی العزة وأهل الجبروت وأهل السماء الثالثة قیام إلی یوم القیامة یقولون سبحان الحی الذی لا یموت» (2).

لکن هل المراد بهذا السجود والرکوع والقیام ذات أعمالنا فی السجود والرکوع والقیام أم إشارة إلی درجات خضوع الملائکة وعبادتهم حسب مراتبهم ومقاماتهم، المسألة محل بحث ونقاش. فاذا اعتبرنا الملائکة أجساماً لطیفة ولهم أیدی وأرجل ووجوه وجبهات فان المعنی الأول أنسب، وإن نفینا عنهم الأجسام، أو أقررنا بأن لهم جسم غیر أنّه لیس علی غرار أجسامنا فان المعنی الثانی هو الأنسب (وسنتحدث فی الأبحاث القادمة عن هذا الأمر) .

علی کل حال فانّ هذه المجموعة من الملائکة منهمکة فی عبادة اللّه وتسبیحه وتقدیسه وکأن مهمتهم مقتصرة علی العبادة فقط. والواقع هو أنّ هذه آیة بیّنة من آیاته سبحانه وعظمة مقامه وعلو شأنه وعدم حاجته إلی عبادة العباد، وبعبارة اُخری فانّ المحتمل أنّ فلسفة خلقة هؤلاء الملائکة هو عدم اغترار العباد من الناس بعبادتهم ولیعلموا علی فرض المحال أنّه لو کان بحاجة إلی العبادة فانّ هناک الملائکة المنهمکین بالعبادة فلا ینبغی أن یتصور عباد اللّه فی الأرض ان عبادتهم أو عدمها لیست لها أدنی تأثیر علی کبریاء اللّه وعظمته، ولو کفروا جمیعاً لما ضره ذلک ذرة «إِنْ تَکْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنْکُمْ» (3). ثم أشار علیه السلام إلی صفات هؤلاء الملائکة

ص:99


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 193. [1]
2- 2) بحار الانوار 59 / 198. [2]
3- 3) سورة الزمر / 7. [3]

فقال علیه السلام: «لا یغشاهم نوم العیون ولا سهو العقول ولا فترة الأبدان ولا غفلة النسیان» . علی العکس من الناس الذین یشعرون تدریجیاً بالفتور من جراء تکرار العبادة فیخالطهم النعاس فیصاب الجسم بالوهن والضعف ویعرض لهم السهو والنسیان.

إلّا أنّ الملائکة بعیدون کل البعد عن هذه الحالات والعوارض. فهم علی درجة من العشق للعبادة والاستغراق فی المناجاة والتسبیح بحیث لا یعرض علیهم النوم والغفلة والفتور قط. وبعبارة اُخری فان الفتور فی إداء الوظائف إنّما یستند إلی اُمور لیست لها من سبیل إلی الملائکة أبداً. فأحیاناً تتمثل تلک الاُمور بالتعب وغفو العین وسهو العقول وضعف البدن وأحیاناً اُخری بالغفلة والنسیان ولما کانت أی من هذه الاُمور لیست لها من سبیل إلی الملائکة، فانّهم لا یفترو فی عبادتهم قط.

ثم یعرض علیه السلام إلی القسم الثانی من الملائکة وهم السفراء بینه تعالی وبین المکلفین من البشر بتحمل الوحی الإلهی إلی الرسل «ومنهم اُمناء علی وحیه والسنة إلی رسله ومختلفون بقضائه وأمره» فهم فی الواقع الواسطة بین اللّه والأنبیاء. ونفهم من هذه العبارة أنّ السفارة الإلهی لا تقتصر علی جبرئیل علیه السلام، بل هو فی الحقیقة زعیم سفراء اللّه، القرآن بدوره أشار إلی هذا الصنف من الملائکة: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِنْ رَبِّکَ بِالحَقِّ» (1)، وقال فی آیة اُخری: «قُلْ مَنْ کانَ عَدُوّاً لِجِبْرِیلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلی قَلْبِکَ بِإِذنِ اللّهِ» (2)، کما أشار أحیاناً إلی الملائکة من حملة الوحی فقال: «یُنَزِّلُ المَلائِکَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلی مَنْ یَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (3).

کما أشارت بعض الروایات الإسلامیة وسائر خطب نهج البلاغة إلی هذا المعنی أیضاً. وهنا لابدّ من الإشارة إلی أنّ المراد بالقضاء والأمر الإلهی الوارد فی العبارة التی نخوض فیها هو الأحکام والأوامر الدینیة الشرعیة، لا القضاء والأوامر التکوینیة التی احتملها البعض

ص:100


1- 1) سورة النحل / 102. [1]
2- 2) سورة البقرة / 97. [2]
3- 3) سورة النحل / 2. [3]

من شارحی نهج البلاغة؛ وذلک لعدم انسجام هذا الاحتمال والعبارات السابقة - التی طرحت مسألة اُمناء الوحی -، امّا مختلفون هنا فقد جاءت من مادة الاختلاف بمعنی الذهاب والایاب والتردد علی الأماکن.

ثم أشار علیه السلام إلی القسم الثالث من الملائکة «ومنهم الحفظة لعباده والسدنة (1)لأبواب جنانه» . «حفظة» جمع حافظ بمعنی الحارس، ویمکن أن یکون لها هنا معنیان: أحدهما حفظهما للعباد بمراقبة أعمالهم واحصائها وتسجیلها، کما أشارت إلی ذلک الآیة الرابعة من سورة الطارق القائلة «وَ إِنَّ عَلَیْکُمْ لَحافِظِینَ * کِراماً کاتِبِینَ» وضرب آخر من هؤلاء الملائکة الذین یحفظون البشر من المهالک والورطات والبلاء، ولولا ذلک لکان الإنسان مسرحاً للفناء والزوال والاعطاب، وهذا ما صرّحت به الآیة الحادیة عشرة من سورة الرعد: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ یَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ» .

ولکن یبدو أنّ المعنی الأول أنسب بالالتفات إلی العبارات السابقة التی تحدثت عن الوحی والتکالیف الشرعیة، والعبارة اللاحقة التی أشارت إلی الجنّة وجزاء الأعمال، وإن لم یستبعد الجمع بین المعنیین عن مفهوم العبارة.

أمّا مفردة سدنة فهی جمع سادن بمعنی البواب، وجنان علی وزن کتاب واحدها جنة، والذی یستفاد من هذه العبارة إنّ للّه عدّة جنان، ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّها ثمانیة کما وصفها القرآن وهی «جنّة النعیم، جنّة الفردوس، جنةالخلد، جنّة المأوی، جنّة عدن، دار السلام، دار القرار وجنّة عرضها السموات والأرض» (2).

أمّا فائدة وجود الملائکة الذین یحفظون أعمال العباد، فقد قیل بأنّ الإنسان یشعر بالمسؤولیة أکثر لوجودهم ویکون أعظم مراقبة لنفسه وأحرص فی سلوکه وتعامله، وذلک لأنّ الهدف الأسمی هو تربیة الإنسان وتهذیبه وإبعاده عن الرذیلة والانحراف.

وأمّا القسم الرابع من الملائکة فهم حملة العرش، الذین وصفهم علیه السلام بقوله «ومنهم الثابتة

ص:101


1- 1) «سدنة» جمع «سادن» بمعنی الخادم والبواب.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن میثم 1 / 158 وشرح نهج البلاغة للمرحوم المیرزا حبیب اللّه الخوئی 2 / 26.

فی الأرضین السفلی أقدامهم والمارقة من السماء العیا أعناقهم والخارجة من الأقطار أرکانهم والمناسبة لقوائم العرش أکتافهم ناکسة (1)دونه أبصارهم متلفعون (2)تحته بأجنحتهم مضروبة بینهم وبین من دونهم حجب العزة وأستار القدرة» ثم یستغرق علیه السلام أکثر فی التعرض لصفاتهم فیقول: «لا یتوهمون ربّهم بالتصویر ولا یجرون علیه صفات المصنوعین ولا یحدونه بالاماکن ولا یشیرون إلیه بالنظائر» (3). أجل فقدرتهم لیست قدرة جسمانیة، بل یتمتعون بقدرة روحانیة خارقة متعذرة علی الإنسان، ومن هنا أوکلت لهم مهمّة حمل العرش. والواقع أنّهم بلغوا أعظم مقامات التوحید بحیث أصبحوا قدوة فی التوحید لکافة عباد اللّه ولا سیما أولیاء اللّه البارزین من الناس. فهم لا یرون من مثیل وشبیه ونظیر للّه قط، کما لا یرون من حدود لذاته وصفاته سبحانه، حتی أنّهم یرونه أعظم من الخیال والقیاس والظن والوهم؛ وذلک لأنّ کل ما یتصوره الإنسان أو الملک إنّما هو مخلوق للّه واللّه أعظم من أن یکون مخلوقاً. أمّا المراد بالعرش وحملة العرش وماهیة وظائفهم والمفاهیم التی وردت فی هذه العبارات، فهذا ما سنتناوله فی هذه الأبحاث.

تأمّلات

1 - ماهیة الملائکة!

هنالک عدّة أبحاث تضمنتها الآیات القرآنیة بشأن الملائکة وصفاتهم وخصائصهم وأفعالهم والمهام المختلفة الموکلة إلیهم. کما شحنت الروایات الإسلامیة بالأخبار التی تتحدث عن الملائکة ومقاماتهم وصفاتهم وأعمالهم، غیر انّه لم یرد البحث فی التحدث عن ماهیتهم، ومن هنا کثر الکلام بین العلماء والمتکلمین بهذا الشأن. فیری علماء الکلام، بل أغلب علماء الإسلام أنّ الملائکة موجودات ذات أجسام لطیفة.

ص:102


1- 1) «ناکسة» من مادة «نکس» علی وزن عکس بمعنی الانقلاب رأساً علی عقب ولذلک یطلق المنکوس علی الولید الذی یسقط علی رجلیه.
2- 2) «متلفعون» من مادة «لفع» علی وزن نفع بمعنی الاشتمال علی الشیء والالتفاف به، ومن هنا یقال للمرأة حین تلف علیها عباءها «تلفعت المرأة» .
3- 3) «نظائر» جمع «نظیر» بمعنی المثل.

کما وردت بعض العبارات التی أشارت إلی النور علی أنّه المادة الأصلیة لخلقة الملائکة، فقد وردت العبارة المعروفة بشأنهم فی أغلب المصادر الإسلامیة التی وصفتهم قائلة: «الملک جسم نوری. . .» . أمّا المرحوم العلّامة المجلسی فقد قال: «تری الإمامیة بل جمیع المسلمین سوی طائفة قلیلة من الفلاسفة أنّ الملائکة هم أجسام لطیفة نورانیة ولها أن تأتی بأشکال مختلفة. . . وانّ الأنبیاء والأوصیاء العصومین کانوا یرونهم» (1). وبعبارة اُخری فانّ الملائکة أجسام نوریة والجن أجسام ناریة والانس أجسام کثیفة. امّا ما علیه جمع من الفلاسفة فهو أنّ الملائکة مجردون من الجسم والجسمانیات وأنّ لهم أوصاف لا یستوعبها الجسم. وقد نقل المرحوم «الشارح الخوئی» فی «منهاج البراعة» عدّة أقوال بهذا الخصوص بلغت ستة أقوال، إلّاأنّ أصحاب هذه الأقوال هم قلة قلیلة جداً.

لاشک أنّ وجود الملائکة - ولا سیما بالالتفات إلی تلک الصفات والمقامات والأعمال التی ذکرها القرآن - لمن الاُمور الغیبیة التی لا یمکن إثباتها وبتلک الخصائص والصفات إلّامن خلال الأدلة النقلیة.

فالقرآن یصف خصائصهم علی أنّهم:

1 - موجودات عاقلة ذات شعور.

2 - لا یعصون اللّه وهم بأمره یعملون.

3 - إنّ اللّه قد أوکل لهم عدّة وظائف ومهام. فمنهم حملة العرش، ومدبرات الأمر، والمأمورة بقبض الأرواح، حفظة أعمال البشر، حفظة الإنسان من المهالک والأخطار، المدد الإلهی لنصرة المؤمنین فی المعارک، عذاب الأقوام الظالمة والطاغیة ومبلغی الوحی إلی الأنبیاء.

4 - اختلاف مقامات الملائکة وتفاوتهم فی الدرجات.

5 - المداومة علی تسبیح اللّه وتقدیسه وتمجیده.

6 - تمثلهم أحیاناً بهیئة البشر وما شاکل ذلک للأنبیاء وبعض العباد الصالحین کمریم علیها السلام.

وما إلی ذلک من أوصاف یتعذر إحصائها فی هذا البحث. وبحث ماهیة الملائکة فی أنّها

ص:103


1- 1) بحار الأنوار 56 / 202 (باب حقیقة الملائکة) . [1]

مجردة عن الجسم أو غیر مجردة لیس من ورائه طائل، إلّاأنّ ظاهر الآیات والروایات - إذا لم نطرح لها توجیها وتفسیراً خاصاً - هو أنّ الملائکة لیس من قبیل المواد الکثیفة والعناصر الخشنة، مع ذلک فهم لیسوا مجردات مطلقة، لتضافر الروایات والآیات التی صرّحت بعروض الزمان والمکان والأوصاف الاُخری الملازمة للأجسام علیهم. وهذا ما تؤکده عبارات الإمام علیه السلام فی هذا القسم من خطبته وکذلک ما ورد فی خطبته المعروفة بالأشباح. ولکن علی کل حال فانّ الإیمان بالملائکة علی نحو الإجمال لمن الاُمور التی أکد علیها القرآن الکریم، فقد ورد فی الآیة 285 من سورة البقرة قوله تعالی: «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِکَتِهِ وَکُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» . (1)

الجدیر بالذکر هنا هو أنّ بعض المغفلین وارضاءً لاُولئک الذین ینکرون عوالم الغیب فقد عمدوا إلی تفسیر الملائکة بالقوی والطاقات التی تختزنها الطبیعة الإنسانیة وسائر الموجودات والکائنات، والحال أنّ أدنی تأمل ونظرة إجمالیة للآیات القرآنیة تفید رفض هذه الفکرة تماماً؛ کیف لا وقد ثبتت بعض الصفات للملائکة من قبیل العقل والشعور والإیمان والاخلاص والعصمة.

2 - أصناف الملائکة

الملائکة علی أصناف وأقسام عدیدة علی ضوء ما أشارت الآیات والروایات، وقد وردت فی هذه الخطبة الأصناف الأربعة الرئیسیة منهم «أرباب العبادة والسفراء وحفظة العباد کالکرام الکاتبین ومنهم سدنة الجنان وحملة العرش» . ولکن وکما ذکرنا سابقاً فانّ الآیات القرآنیة قد أشارت إلی الأصناف الاُخری من الملائکة، ومنهم الموکلون بعذاب الاممّ الطاغیة الظالمة، والموکلون بالامدادات الغیبیة ونصرة المؤمنین ومدبرات الأمر وقبضة الأرواح، غیر أنّه یمکن اختصار جمیع هذه الطوائف فی مدبرات الأمر التی تتولی إدارة شؤون

ص:104


1- 1) سورة بقرة / 285. [1]

العالم. فقد اقتضت السنة الإلهیة وجرت بغیة اظهار قدرته وعظمته وتحقق أهدافه وأغراضه أن تسند إدارة شؤون العالم إلی الملائکة المأتمرین بأوامر اللّه والبعیدین کل البعد عن الوهن والضعف والفتور والسهو والنسیان والتباطؤ فی الطاعة ولکل صنف من أصناف الملائکة وظیفته المختصة به.

والحق أنّ الإنسان إذا تأمل أقسام وأصناف الملائکة وسعة وعظمة الوظائف الموکلة إلیها یشعر بالتصاغر والحقارة ویتساءل من أکون فی خضم هذا العالم الواسع الملیء بعمال اللّه وجنوده الذین لا یفترون عن عبادته وطاعته وامتثال أوامره؟ واین تکون عبادتی وطاعتی من هذه العبادة والطاعة التی تؤدیها الملائکة؟ وما قیمة قوتی وقدرتی مقارنة بقوة الملائکة وقدرتها؟ والخلاصة فانه یقف علی عظمة هذا العالم والأعظم منه خالقه من جانب وحقارته ودنو موضعه من جانب آخر، وهذه إحدی حکم وفلسفة وجود الملائکة.

3 - العرش وحملته

لقد أشارت الآیات القرآنیة عشرین مرة إلی العرش الإلهی، کما کثرت الأبحاث التی تضمنتها الروایات الإسلامیة الواردة بهذا الشأن، وعلی ضوء بعض هذه الروایات فانّ عظمة العرش متعذرة علی التصور البشری، حتی قیل بهذا الخصوص: ما السموات والأرضین وما فیها مقابل العرش إلّاحلقة فی صحراء عظیمة.

کما صرّحت بعض الروایات بأنّ أعظم ملائکة اللّه یعجزون عن بلوغ ساق العرش وانّ أسرعوا فی تحلیقهم إلی یوم القیامة. کا جاء فی الخبر أنّ اللّه خلق للعرش ألف لسان وضمنه صورة جمیع مخلوقاته فی الصحاری والبحار.

کما روی أنّ اللّه حین خلق العرش، أمر الملائکة بحمله، فما استطاعوا أن یحملوه، فخلق ملائکة، فعجزوا عن حمله، فحمله اللّه بقدرته، ثم أمر سبحانه ثمان من الملائکة المأمورین بحمل العرش أن احملوه.

فقالوا: وهل یسعنا حمله وقد عجزت الملائکة. فأمروا بذکر اللّه والقول «لاحول ولا قوّة

ص:105

إلّا باللّه العلی العظیم» والصلوات علی محمد وآله، فلما فعلوا سهل علیهم حمله. (1)

وتشیر کل هذه الکنایات إلی عظمة عرشه سبحانه، أمّا ماهیة العرش، فهی من الاُمور التی کثر البحث فیها بین العلماء، ونری ان الاستغراق فی شرح هذا الأمر إنّما یبعدنا عن الهدف الأصلی، ولذلک نکتفی بإشارة مختصرة إلی هذا الموضوع:

فقد کان للملوک والسلاطین عرشان، أحدهما منخفض یعتلونه فی الأیام الاعتیادیة ویسیرون شؤون الحکم ودفة اُمور البلاد، وآخر مرتفع یرتقونه فی الأیام الخاصة والمرام المهمة والکبیرة. وقد اصطلحت الآداب العربیة علی الأول بالکرسی والثانی بالعرش، وقد درجت هذه الآداب علی التعبیر بالعرش کنایة عن القدرة والسلطة وإن افتقر العرش للدعامات المرتفعة، کما هناک المعنی الکنائی الآخر الذی یشیر إلی فقدان السلطة والذی جسدته العبارة المشهورة «ثل عرشه» . وللّه هذان العرشان فی الامرة والحکومة کونه سلطان عالم الوجود (وبالطبع لما کان اللّه لیس بجسم ولا فی زمرة الجسمانیات فالمفهوم الکنائی هو المراد هنا من العرش والکرسی) .

علی کل حال یبرز هذا السؤال: ما کنه هذا العرش الإلهی؟ ومن التفاسیر التی یمکن ایرادها بهذا الشأن هو أنّ عالم المادة والسموات والأرضین والمنظومات والمجرات کلها بمثابة الکرسی وعرشه المنخفض کما أشار إلی ذلک القرآن الکریم بقوله: «وَسِعَ کُرْسِیُّهُ السَّمواتِ وَالأَرْضَ» ، والمراد بالعرش هو العالم الکامن وراء عالم المادة (المادة الکثیفة والغلیظة) ، التی لا تحیط بعالم المادة فحسب، بل لیس عالم المادة أمامه سوی مقدار تافه لا أهمیه له. امّا حملة العرش فمما لاشک فیه انهم لیسوا ملائکة غلاظ الهیکل وأقویاء الجسم والبنیة بحیث یحملون علی أکتافهم دعائم العرش الذی استوی علیه الرحمن؛ لأنّ للعرش - کما أشرنا سابقاً - معنی کنائی والقرائن العقلیة التی تفید تنزه اللّه عن الجسم والجسمانیة إنّما تؤید صحة هذا المعنی، وعلیه فحملة العرش ملائکة عظام ذوی مقامات رفیعة ولیس لهم من شبیه أو نظیر ولهم تدبیر عالم ما وراء الطبیعة وتنفیذ أوامره سبحانه فی کل مکان، امّا التعبیرات

ص:106


1- 1) منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة 2 / 32 - 35، وقد أورد المرحوم العلّامة المجلسی الروایات المرتبطة بالعرش والکرسی فی المجلد 55 من بحار الأنوار، ومنها الروایات السابقة فی ص 5، 17 و 55.

التی ساقها الإمام فی أوصافهم بقوله «الثابتة فی الأرضین السفلی أقدامهم، والمارقة من السماء العلیا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أرکانهم، والمناسبة لقوائم العرش أکتافهم» فکل هذه تفید مدی قدرتهم فی تدبیر شؤون العالم. طبعاً یجب علینا أن نحمل الألفاظ أینما وردت علی معانیها الحقیقیة، إلّاأنّه یتعذر علینا ذلک الحمل ولا یبقی أمامنا سوی المعنی الکنائی کالذی أوردناه بشأن الآیة القرآنیة المبارکة «یَدُ اللّهِ فَوْقَ أَیْدِیهِمْ» إذا کانت هناک القرائن العقلیة المسلمة. نعم لقد نهض هؤلاء الملائکة بالقیام بهذه الاُمور بالاستناد إلی قوتهم وقدرتهم، بل بحول اللّه وقوته، کما ینهمکون بالتسبیح والتقدیس وعدم الفتور عن ذکر اللّه، وهذا ما صورته الآیة السابعة من سورة المؤمن التی أکدت إلی جانب ذلک علی دعائهم واستغفارهم للمؤمنین «الَّذِینَ یَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ یُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَیُؤْمِنُونَ بِهِ وَیَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِینَ آمَنُوا» .

4 - عصمة الملائکة

یتمتع الملائکة بصفات جمّة وقد تکفلت عباراته المذکورة (الواردة بشأن الطائفة من الملائکة المشغولة بالعبادة) ببیان بعض هذه الصفات: «لا یغشاهم نوم العیون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان» . کما أشار القرآن إلی تنزههم عن الذنوب والمعاصی «بَلْ عِبادٌ مُکْرَمُونَ * لایَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ یَعْمَلُونَ» (1)، ووصف الموکلین بالعذاب منهم «لا یَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ» (2).

طبعاً یتصور البعض أنّه لیس هنالک من مفهوم لعصمة الملائکة من عدمها، إلّاأنّ هذا التصور لا یبدو صحیحاً؛ صحیح أنّ الملائکة لا تنطوی علی دوافع الذنب والمعصیة من قبیل الشهوة والغضب (أو أنّها ضعیفة جداً فیهم) ، ولکن لا ینبغی الغفلة عن أنّهم فاعلون ومختارون ولهم القدرة علی ارتکاب المخالفة، بل إنّ الآیات القرآنیة تصرح بمدی خشیتهم من

ص:107


1- 1) سورة الأنبیاء / 26 - 27. [1]
2- 2) سورة التحریم / 6. [2]

العقاب الإلهی «وَهُمْ مِنْ خَشْیَتِهِ مُشْفِقُونَ» (1)، فالآیة الشریفة تکشف عن عصمتهم وطهارتهم من المعاصی فی ذات الوقت الذی یسعهم ارتکابها. ومن هنا تتضح مغازی بعض الروایات التی صرّحت بتباطؤ بعض الملائکة فی امتثال أوامر الحق وعقابهم علی هذا التباطؤ بصفته یمثل ترک الاولی الذی یصدق علی الأنبیاء، ونعلم جمیعاً بأنّ ترک الاولی لا یعدّ ذنباً قط، بل قد یکون عملاً مستحباً، إلّاأنّه یعتبر ترک الاولی مقارنة بعمل یفوقه، ونوکل الخوض فی تفاصیل هذا الموضوع إلی أبحاثه المختصة به.

5 - مقام معرفة حملة العرش

یفهم من العبارات الواردة بهذا الشأن أنّ العامل الذی جعل حملة العرش مؤهلین للقیام بهذه المسؤولیة الخطیرة لا یقتصر علی قوتهم وقدرتهم، بل یمتد ذلک إلی سعة وسمو مستوی معرفتهم باللّه تبارک وتعالی. فقد بلغوا أعظم مقامات التوحید ونفی کافة أشکال الشرک والشبیه والمثیل للحق تعالی، ومن هنا استحقوا أهلیة تحمل تلک المهمّة العظیمة؛ الأمر الذی یعتبر درساً لابدّ أن یتعلمه العباد وذوی المعرفة باللّه.

ص:108


1- 1) سورة الأنبیاء / 28. [1]

القسم التاسع: خلق آدم علیه السلام

اشارة

«ثُمَّ جَمَعَ سُبْحانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَسَهْلِها، وَعَذْبِها وَسَبَخِها، تُرْبَةً سَنَّها بِالْماءِ حَتَّی خَلَصَتْ، وَلاطَها بِالْبَلَّةِ حَتَّی لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْها صُورَةً ذاتَ أَحْناءٍ وَوُصُولٍ، وَأَعْضاءٍ وَفُصُولٍ، أَجْمَدَها حَتَّی اسْتَمْسَکَتْ، وَأَصْلَدَها حَتَّی صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ، وَأَمَدٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فِیها مِنْ رُوحِهِ، فَمَثُلَتْ إِنْساناً ذا أَذْهانٍ یُجِیلُها، وَفِکَرٍ یَتَصَرَّفُ بِها، وَجَوارِحَ یَخْتَدِمُها وَأَدَواتٍ یُقَلِّبُها وَمَعْرِفَةٍ یَفْرُقُ بِها بَیْنَ الْحَقِّ وَالْباطِلِ وَالْأَذْواقِ وَالْمَشامِّ وَالْأَلْوانِ وَالْأَجْناسِ، مَعْجُوناً بِطِینَةِ الْأَلْوانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْأَشْباهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَالْأَضْدادِ الْمُتَعادِیَةِ، وَالْأَخْلاطِ الْمُتَبایِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْبَلَّةِ وَالْجُمُودِ» .

الشرح والتفسیر بعد الإشارات البلیغة التی وردت فی الأقسام السابقة من هذه الخطبة العمیقة المضامین بشأن خلق العالم والسموات والأرض تناولت خطبة الإمام علیه السلام هنا خلق العالم والسموات ثم عرجت هنا إلی سائر مخلوقات هذا العالم ومن بینها خلق الإنسان ومراحله المختلفة والتی قسمها علیه السلام إلی خمس مراحل تکتنف تمام مسیرة حیاته وهی:

1 - خلقة آدم من ناحیة الجسم والروح (یعنی فی مرحلتین) .

2 - سجود الملائکة لآدم وتمرد ابلیس.

3 - إسکان آدم الجنّة ثم بیان ترک الاولی الذی صدر من آدم علیه السلام وندمه وتوبته وأخیراً قبول توبته واخراجه من الجنّة والهبوط إلی الأرض.

ص:109

4 - لقد أصبح لآدم ذریة ثم تکاثرت هذه الذریة فکونت المجتمعات البشریة ثم بعث اللّه أنبیائه علیهم السلام بکتبه السماویة المقدسة من أجل هدایة الناس وتنظیم شؤون المجتمعات البشریة والأخذ بأیدیها إلی حیث السمو الروحی والرفعة والکمال.

5 - المجتمعات البشریة من جانبها خطت خطوات عریضة نحو التکامل حتی تأهلت لتقبل الدین الخاتم حیث اصطفی اللّه رسوله محمد صلی الله علیه و آله فبعثه بالقرآن الکریم لهدایة الإنسانیة وانقاذها من خلال اطروحته التی تتضمن السعادة والفلاح، ثم تحدث الإمام علیه السلام عن القرآن.

مراحل خلقة آدم علیه السلام من الناحیة الجسمیة والروحیة

قال الإمام علیه السلام بشأن خلق جسم آدم علیه السلام: «ثم جمع سبحانه من حزن (1)الأرض وسهلها وعذبها (2)وسبخها (3)تربة» . فالعبارة تشیر إلی خلق الإنسان من التراب من جهة، کما تشیر من جهة اُخری أن ذلک التراب مرکب من جمیع المواد المختلفة علی وجه الأرض لتنطوی علی مختلف الاستعدادات وتشمل التنوعات والتقلبات التی تحتاجها المجتمعات البشریة فی مختلف مجالات حیاتها، ثم أشارت إلی مادة اُخری هی الماء والتی اختلطت بالتراب فقال علیه السلام بهذا الشأن «سنها (4)بالماء حتی خلصت ولاطها (5)بالبلة حتی لزبت (6)» .

فالواقع أنّ دور الماء هو خلط تلک الأجزاء المختلفة مع بعضها وتخلیصها من شوائبها وارساء الوشیجة والرابطة بین هذه الأجزاء. ثم أشار علیه السلام إلی مسألة تبلور خلقة الإنسان من ذلک التراب والطین فقال علیه السلام: «فجبل منها صورة ذات أحناء (7)ووصول وأعضاء وفصول» . فی الواقع «أحنا» جمع «حنو» إشارة إلی انحناءات البدن من قبیل انحناء الأضلاع

ص:110


1- 1) «حزْن» علی وزن «وزن» بمعنی المواضع الوعرة علی الأرض، کما یطلق الحُزن أو الحَزَن علی الهم والغم، لأنه نوع وعورة فی روح الإنسان.
2- 2) «عذب» علی وزن «جذب» بمعنی الماء الطاهر والحلو الصالح للشرب.
3- 3) «سبخ» وجمعها سباخ بمعنی ما ملح من الأرض.
4- 4) «سنّ» من مادة «سن» علی وزن ظن بمعنی صب الماء علی شیء، کما تأتی بمعنی نعومة الشیء.
5- 5) «لاط» من مادة «لوط» علی وزن صوت بمعنی خلط الشیء وعجنه.
6- 6) «لزبت» من مادة «لزوب» علی وزن سکوت بمعنی التصق وثبت واشتد.
7- 7) «أحنا» جمع «حنو» علی وزن حرص بمعنی الانحناء والجوانب والأطراف.

والفک العلوی والسفلی وراحة القدم بحیث یتکیف البدن للقیام بمختلف الأعمال والفعالیات، وذلک لتعذر قیامه بمثل هذه الأفعال التی یمارسها الیوم لو کان البدن علی هیئة جسم هندسی مکعب أو ما شابه ذلک. أمّا العبارة «وأعضاء وفصول» فهی تشیر إلی الأعضاء المختلفة التی ترتبط مع بعضها من خلال المفاصل؛ الأمر الذی أکسب البدن القدرة العملیة علی ممارسة مختلف الانشطة فلو کانت ید الإنسان علی سبیل المثال مستویة ذات عضو واحد وعظم واحدلا تقوی علی أداء الفعالیات التی تؤدیها الآن، بینما نعلم أنّ البارئ سبحانه جعلها عدّة عظام وغضاریف وعدّة أعضاء متصلة مع بعضها البعض الآخر؛ الأمر الذی جعل کل اصبع بل کل سلامیة من أصابعه واضافة للید تتمتع بعملیة خاصة وهذه بدورها تعدّ آیة من آیات حکمته وعظمته سبحانه. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی مرحلة لاحقة فقال: «اجمدها حتی استمسکت واصلدها (1)حتی صلصلت (2)» وبذلک فقد أعد الإنسان إعداداً تاماً من الناحة البدنیة بحیث یسیر إلی الغایة المعینة المرسومة له «لوقت معدود وأجل معلوم (3)» . فقد روی فی بعض الروایات عن الإمام الباقر علیه السلام أن هذه الحالة دامت أربعین سنة، فکان جسد آدم ملقی فی موضع والملائکة تمر به وتقول لأی أمر خلقت؟ (4)

ولعل هذه المدّة الزمانیة - کما صرّح بذلک بعض المحققین - کانت اختباراً للملائکة أو إرشاداً وتعلیماً للناس بالتأنی فی الاُمور وعدم الاستعجال فیها. وهنا جاءت المرحلة الثانیة؛ مرحلة نفخ الروح فی الجسد لیتحول إلی هذه الطبیعة الإنسانیة التی زود فیها الإنسان بقوی العقل والإدراک التی تسوقه لممارسة الأعمال: «ثم نفخ فیها من روحه فمثلت (5)إنساناً ذا أذهان یجیلها» (6). العبارة «ذا أذهان یجیلها» إشارة إلی مختلف القوی العقلیة والذهنیة التی

ص:111


1- 1) «أصلد» من مادة «صلد» علی وزن صبر بمعنی أحکم وجعل الشیء صلباً أصلتاً.
2- 2) «صلصل» من مادة «صلصلة» بمعنی الیبوسة والجفاف بحیث تخرج منها الأصوات بمجرّد ملامستها لشیء، کما وردت بمعنی الجاف والمحکم.
3- 3) اللام فی «لوقت معدود» بمعنی إلی. ذهب البعض إلی أنّها لام التعلیل، بینما احتمل البعض أنّ المراد بهذه العبارة هو أنّ هذا الوضع سیستمر إلی قیام الساعة ثم تتفکک بعد ذلک أعضاء البدن تماماً، إلّاانّ هذا الاحتمال یبدو مستبعداً للغایة، لأنّه من المراحل المختلفة لخلق الإنسان ولم تطرح لحد الآن قضیة نفخ الروح.
4- 4) «فبقی أربعین سنة ملقی تمر به الملائکة فتقول لأمر ما خلقت؟» . منهاج البراعة 2 / 44.
5- 5) «مثلت» من مادة «مثول» علی وزن حصول بمعنی استوت وقامت.
6- 6) «یجیل» من مادة «اجالة» (مصدر باب أفعال من جول وجولان بمعنی یدور) .

زود بها الإنسان ویوظف کلاً منها فی مجال من مجالات حیاته بحیث یلائم بینها جمیعاً فی مسیرته نحو الهدف المنشود (والقوی المذکورة عبارة عن قوة الإدراک وقوة الحفظ وقوة الخیال و. . .) . وهنا لابدّ من الالتفات إلی أنّ الذهن فی الأصل یعنی القوة، ثم استعمل بمعنی العقل والفهم والدرایة وسائر القوی العقلانیة، فالعبارة تشیر إلی أنّ الإمام علیه السلام قد عنی مختلف هذه القوی معتبراً کل واحدة منها نعمة وعنایة من العنایات الإلهیة ثم قال علیه السلام: «وفکر یتصرف بها» . قد یتصور أحیاناً أنّ هذا التعبیر من قبیل العطف التفسیری والتعبیر الآخر لمفهوم العبارة السابقة، غیر أنّ الظاهر هو أنّ کل عبارة من العبارتین تشیر إلی حقیقة: فالعبارة «ذا أذهان یجیلها» إشارة إلی مراحل المعرفة والتصور والتصدیق وفهم وإدراک الحقائق، وأمّا العبارة «وفکر یتصرف بها» فهی إشارة إلی الأفکار التی تخضع لمرحلة التطبیق ویتصرف الإنسان بواسطتها فی مختلف الأشیاء (لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ الفکر فی الأصل یعنی الحرکة الفکریة وتوظیف الذهن) . علی کل حال فقد جاءت مفردة «فکر» بصیغة الجمع (کالأذهان بصیغة الجمع) لتفیدان القوی العقلیة والأفکار الإنسانیة کثیرة للغایة ومتنوعة، وهذه نقطة مهمّة أکدها کبار الفلاسفة والمفکرین وعلماء النفس، وإلیها تعزی الفوارق فی الاستعدادات الفکریة لافراد البشریة. فربما کان هناک الأفراد الأقوی فی قسم منها وأضعف فی القسم الآخر بینما هنالک العکس، فالمسألة تنطوی علی أسرار ورموز عجیبة للغایة، وکلما غاص الإنسان فی کنهها تعرف أکثر علی عظمة الحق خالق هذه القوی الذهنیة والفکریة. ثم یتطرق علیه السلام بعد ذلک إلی شیئین یسهمان فی ایصال الإنسان إلی هدفه المطلوب وهما الجوارح والأدوات التی زوده بها اللّه سبحانه لتسه له تحقیق ما یصبو إلیه «وجوارح یختدمها (1)وأدوات یقلبها» . فالواقع هو أنّه یجتاز أربع مراحل لبلوغ الهدف: تمثلت المرحلة الاولی بالمعرفة والإدراک والتصور والتصدیق ومرحلة الفکر ومن ثم ائتمار الأعضاء والجوارح، وأخیراً الاستعانة بالأدوات المختلفة التی خلقها اللّه فی هذا العالم حین لا تجدی الأعضاء والجوارح بمفردها نفعاً، کما أنّ کل مرحلة من هذه المراحل الأربع متنوعة تتفرع منها عدّة فروع. ولما

ص:112


1- 1) «یختدم» من مادة «اختدام» بمعنی الاستخدام.

کان بلوغ الأهداف المرسومة یتطلب تشخیصاً وتمییزاً للحق من الباطل والصواب من عدمه وکافة المحسوسات المختلفة، فانّه یتحدث عن إحدی قوی النفس المهمّة والتی تعتبر فی الواقع المرحلة الخامسة، ألا وهی قوة التمییز ولا یراد بها سوی المعرفة «ومعرفة یفرق بها بین الحق والباطل» . کما یتمکن بواسطة هذه القوة من تمییز المحسوسات من قبیل الأطعمة والأذواق و. . . «والأذواق والمشام والألوان والأجناس» (1). والواقع ان قدرة التمییز والتشخیص والمعرفة لمن أهم قوی الإنسان العقلیة التی تشمل الاُمور المعنویة کالحق والباطل کما تشمل الاُمور المادیة المحسوسة کالألوان والمشام والأذواق. فهل قوّة التمییز هذه هی قوة مستقلة، أم داخلة فی مفهوم الذهن والفکر فی العبارة السابقة؟ یبدو من کلامه علیه السلام أنّها قوّة مستقلة، جدیر بالذکر أنّ الحدیث تطرق لأربعة أصناف من الاُمور المادیة والمحسوسة وهی: الأذواق، المشام، الألوان والأجناس التی تشیر هنا إلی مختلف أنواع الموجودات (2). من قبیل مختلف أنواع النباتات، الطیور والحیوانات وما إلی ذلک، امّا عدم الإشارة إلی المسموعات (الأصوات) والملموسات فلأن بیان الأقسام الثلاث کان علی نحو المثال، فذهن کل مستمع سینتقل إلی بقیة ذلک من خلال الأقسام الثلاث المذکورة. ثم ینتقل الإمام علی علیه السلام لیشیر إلی أهمّ خصائص الإنسان التی تشکل المصدر الرئیسی لأغلب ظواهر حیاته فیقول: «معجوناً (3)بطینة الألوان المختلفة» . ولعل هذه العبارة إشارة إلی اختلاف ألوان الناس وأعراقهم المتفاوتة، أو اختلاف لون أجزاء البدن حیث إنّ بعضها تام البیاض (کبیاض العین والعظام) والآخر تام السواد (کالشعر) وسائر الألوان التی یکسبه خلطها جمالاً خاصاً، کما یمکن أن یکون المراد بها معنی أوسع بحیث یشمل سائر الاستعدادات والغرائز المختلفة. ثم أضاف الإمام علیه السلام قائلاً: «والأشباه المؤتلفة» من قبیل الأوردة والشرایین والأعصاب

ص:113


1- 1) أنّ العبارة «والأذواق والمشام والألوان والأجناس» هی عطف علی عبارة الحق والباطل، بینما عدها البعض عطفاً علی المعرفة. فی حین یفید التأمل فی کلامه علیه السلام أن المعنی الأول هو الأنسب. وعلی ضوء المعنی الأول فان قوّة التمییز المعرفة ستشمل کل هذه الاُمور، امّا علی أساس المعنی الثانی فانّ المعرفة تعدّ من النعم الإلهیة، کما أن قوّة الشامة والباصرة والذائقة هی نعمة اُخری (لابدّ من التأمل هنا) .
2- 2) «الجنس» فی اللغة بمعنی الأقسام والأنواع المختلفة، وهناک القرائن الواردة فی خطب نهج البلاغة التی تدل علی هذا المعنی ومنها الخطبة رقم 91.
3- 3) «معجوناً» حال للإنسان الذی ورد فی العبارة السابقة.

والعظام التی تشبه إلی حدّ بعید بضها البعض الآخر، وفی نفس الوقت تقوم بعدة وظائف ومهام. وأخیراً قال علیه السلام: «والاضداد المتعادیة والأخلاط المتباینة من الحر والبرد والبلة والجمود» (1). والعبارة إشارة إلی الطبائع الرباعیة المعروفة فی الطب التقلیدی، والأطباء المعاصرون وأن تنکروا لهذه الطبائع لفظاً، غیر أنّهم اوردوها بتعابیر اُخری من قبیل الاستعاضة عن الحرارة والبرودة بارتفاع ضغط الدم وانخفاضه، کما یصطلحون بزیادة ماء الجسم وقلته بدلاً من البلة والجمود.

علی کل حال فان عبارات الإمام علیه السلام آنفة الذکر إنّما تشیر إلی قضیة مهمّة فی أنّ اللّه سبحانه قد خلق جسم الإنسان (بل جسمه وروحه) مرکباً من مواد مختلفة وکیفیات متنوعة واستعدادات وغرائز متباینة، وأنّ هذه الفوارق والتباینات شکلت أساس التفاوت فی أسالیب التفکیر لدی أفراد الجنس البشری؛ الأمر الذی أدی فی خاتمة المطاف إلی تلبیة مختلف حاجات الجماعات البشریة واشغال المناصب الاجتماعیة علی ضوء تلک الاستعدادات بحیث تنتظم الاُمور ویوضع کل شیء فی موضعه فیتسق النظام العام، ولا یسع المقام الخوض أکثر فی تفاصیل هذا الموضوع.

تأمّلات

1 - خلق آدم علیه السلام

نفهم من العبارات التی تضمنتها خطبة الإمام علیه السلام أنّ خلق آدم علیه السلام قد تمّ بصورة مستقلة متکاملة علی هذه الصورة التی نحن علیها الیوم دون أن یطوی مراحل النشوء والارتقاء من الکائنات الحیة المتسافلة؛ الأمر الذی أکده القرآن کراراً علی لسان آیاته الشریفة. طبعاً کلنا نعلم بأن «القرآن الکریم» وکذلک «نهج البلاغة» لیسا من قبیل کتب العلوم الطبیعیة، بل هما کتابان تکفلا بهدایة الإنسان وتهذیبه بالدرجة الأساس إلی جانب الإشارة حسب المقام وما

ص:114


1- 1) یمکن أن تکون جملة «من الحر والبرد» بیاناً للاخلاط المتباینة، أو للأضداد والأخلاط معاً.

یتناسب وأبحاثه العقائدیة والتربویة إلی بعض مسائل العلوم الطبیعیة. امّا النظریة السائدة الیوم فی الأوساط العلمیة بشأن خلق الإنسان فهی نظریة «تکامل الأنواع» . ویری أنصار هذه النظریة أنّ کافة أنواع الکائنات الحیة لم تکن سابقاً کما هی علیه الیوم، بل کانت موجودات بسیطة أحادیة الخلیة ثم تکاملت بعد أن سبحت فی میاه المحیطات وغاصت فی أعماق البحار لتتکامل تدریجیاً فتغیرت من نوع إلی آخر من خلال تغییرها لأشکالها فانتقلت من البحار إلی الصحاری. والإنسان هو أحد هذه الکائنات الذی قطع مسیرته التکاملیة بعد أن اجتاز تلک المرحلة التی کان فیها قرداً بشکل إنسان، وعلیه فقد انحدر الإنسان من تلک الکائنات المتسافلة. وبالطبع فان أنصار هذه الفرضیة قد انقسموا إلی عدّة طوائف، فمنها اتباع «لامارک» و «داروین» و «الداروینیة الحدیثة» وطائفة «موتاسیون» (نظریة الطفرة) وما إلی ذلک من الطوائف التی تقدم کل منها أدلتها علی صحة نظریتها بهذا الشأن.

ویقف مقابل هؤلاء، أتباع ثبوت الأنواع حیث یقولون بأنّ أنواع الکائنات الحیة قد ظهر کل منها بصورة منفصلة منذ البدایة بهذه الهیئة الحاضرة، کما أقاموا أدلتهم وبراهینهم التی تعرض بالنقد للأدلة التی اعتمدتها نظریة التطور والتکامل، ولا یسعنا الخوض فی تفاصیل هذه النظریة. ونکتفی هنا بالإشارة بصورة مقتضبة للمواضیع التالیة:

1 - یستفاد من القرآن الکریم وکذلک خطب نهج البلاغة مسألة ثبوت الأنواع علی الأقل بالنسبة للإنسان، بینما لم ترد مثل هذه التصریحات بشأن سائر أنواع الکائنات - رغم أنّ بعض أنصار فرضیة التطور والتکامل التی تشمل الإنسان بشکل عام یصرون علی توجیه الآیات القرآنیة وعبارات خطب نهج البلاغة بحیث تنسجم ونظریة النشوء والارتقاء، حتی ذهبوا إلی أنّ هذه الآیات والخطب أدلة علی مزاعمهم. إلّاأنّ المتتبع المحاید یذعن بأنّ هذه المزاعم تنطوی علی تکلفات وحرج لا یمکن قبولها إلّامن خلاله.

2 - إنّ قضیة التکامل والارتقاء أو ثبوت الأنواع لیست من قبیل القضایا التی یمکن إثباتها من خلال التجربة والأدلة الحسیة والعقلیة، وذلک لأنّ جذورها قد امتدت لملایین السنین السابقة، وعلیه فان کل ما یورده أنصارها أو مخالفوها إنّما هی فرضیات وأدلتها لیست سوی

ص:115

أدلة ظنیة، وبناءً علی ماتقوم فانه یتعذر القول بنفی آیات خلقة الإنسان وعبارات نهج البلاغة وفقاً لأقوال هؤلاء.

وبعبارة اُخری: ان العلوم تجد سبیلها وتعتمد معاییرها فی مثل هذه الفرضیات دون أن تقدح فی التعالیم الدینیة، ومن هنا کانت الفرضیات العلمیة تشهد التغییر والتحول علی الدوام، فلعل الغد یفرز کشف قرائن جدیدة بحیث تحظی فرضیة ثبوت الأنواع بأنصار أکثر. علی سبیل المثال فقد طالعتنا الصحافة فی هذه الأواخر بخبر یفید العثور علی جماجم بشریة تعود لما قبل ملیونی سنة وهی لا تفرق کثیراً مع الإنسان المعاصر؛ الأمر الذی زعزع مرتکزات فرضیة التکامل، وذلک لأنّ أصحاب هذه الفرضیة یزعمون أنّ الإنسان الذی کان یعیش قبل مئات الآلاف من السنین لم یکن بهذه الصورة التی علیها الإنسان الیوم أبداً. فالنتیجة التی یمکن أن نخلص إلیها ممّا سبق أنّ هذه الفرضیات لیس لها من صمود واستقرار وغالباً ما تتزلزل أسسها ودعائمها بفعل الاکتشافات والاختراعات الحدیثة، ولکن حیث لیس من سبیل سوی هذا فی العلوم الطبیعیة بصفته دعامة یعتمد علیها حتی تأتی فرضیة اُخری فتطرد سابقتها وتقتحم المیدان. والخلاصة فانّ التعامل مع الفرضیات یختلف عنه تماماً مع المسائل العلمیة القطعیة؛ فالمسائل العلمیة القطعیة من قبیل ترکب الماء من ذرتین أوکسجین وذرة هیدروجین هی من اُمور الحس والتجربة والتی یمکن البرهنة علیها من خلال الأدلة القطعیة، امّا الفرضیات فهی حدسیات تبرهن بسلسلة من القرائن الظنیة، وهی تحظی بالقبول والتأیید مالم تقم القرائن العلمیة المخالفة لها، دون أن یدعی أحد قطعیتها (1).

2 - الترکیب المزدوج للجسم والروح

یستفاد ممّا مرّ معنا فی هذه الخطبة المسنجمة والآیات القرآنیة أنّ الإنسان خلق من عنصرین: العنصر المادی المرکب من الماء والتراب (أبسط مواد العالم) والعنصر الآخر هو الروح الإلهیة السامیة، وهذا هو سر التضاد الباطنی للإنسان حیث تتنازعه الدوافع التی

ص:116


1- 1) راجع من أجل الوقوف بصورة أعمق کتاب «الداروینیة وآخر فرضیات التکامل» . کما استعرضنا ذلک بصورة مقتضبة فی تفسیرنا الأمثل 11 / الآیة ذیل الآیات 26 حتی 44 من سورة الحجر.

تسوقه إلی العالم المادی وتلک التی تدفعه إلی العالم الملائکی. فهو یتصف بالخلق والطبیعة الحیوانیة من جانب ویتحلی بالطبیعة الملکوتیة والروحانیة من جانب آخر. ولهذا أیضاً فهو یتمتع بقوس صعودی ونزولی تکاملی غایة فی العظمة بحیث زود بالملکات والاستعدادات التی تبلغ به فی قوس الصعود درجة «أعلی علیین» بینما یهبط فی النزول والانحطاط إلی «أسفل السافلین» ولیت هناک مثل هذه المیزة فی الکائنات سوی للإنسان ولا تمنح سوی للمطهرین من الأفراد فتکسبهم قیمة ومنزلة رفیعة، ولا غرو فقد تماسک وحفظ نفسه مقابل جمیع عوامل الانحطاط وعناصر التسافل والانسیاق نحو المادة والمادیة وقد اجتاز کافة العقبات والمطبات. ولعل الملائکة عجزت عن إدراک ذلک الأمر قبل خلق آدم فظنت التکرار فی هذا الخلق دون حصول جدید، فحسبوا أنّ هذه الخلقة تحصیل حاصل من خلال تسبیحهم وتقدیسهم. والمهم فی الأمر هو أنّ اللّه سبحانه قد نسب الروح التی نفخها فی آدم إلیه سبحانه فقال: «وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی» (1). ونعرف علی نحو البداهة أن لیس للّه من جسم ولا روح، وأنّه یهدف إلی بیان عظمة الأشیاء التی یضیفها إلی نفسه من قبیل «بیت اللّه» و «شهر اللّه» فالهدف هو أن هذه الروح الآدمیة تتمتع بآثار من صفات اللّه کالعلم والقدرة والخلاقیة والابداع. والواقع هو أنّ اللّه قد نفخ فی آدم أشرف وأفضل روح، ولذلک نعت نفسه سبحانه بأحسن الخالقین فقال: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَکَ اللّهُ أَحْسَنُ الخالِقِینَ» (2)ویالها من مصیبة ألیمة ومفجعة أن یحث الإنسان الخطی نحو السقوط بحیث یتحول إلی ما یجعله أسوأ من الانعام «أُولئِک َ کَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» (3)فی حین یمتلک مثل هذه الاستعدادات والقدرات والإمکانات التی تبلغ به الکمال والمقام الذی ینتظره ویؤهله لأن یتمیز علی کافة المخلوقات فیرتدی التاج العظیم الذی یکرمه علی من سواه «وَلَقَدْ کَرَّمْنا. . .» .

3 - الإنسان، اُعجوبة عالم الکون

یعتبر الإنسان - فی الحقیقة - من أعجب ظواهر عالم الوجود، وقد تضمن کلام الإمام علیه السلام

ص:117


1- 1) سورة الحجر / 29. [1]
2- 2) سورة المؤمنون / 14. [2]
3- 3) سورة الأعراف / 179. [3]

إشارة إلی غیض من فیض أسرار الوجود: الاشتمال علی الجوارح والأعضاء المتنوعة والقوی المختلفة والقدرات المتفاوتة، والترکیب من العناصر المتضادة والتشکل من عدّة عوامل عجنت بصورة بالغة التعقید بحیث جمع فیه کل شیء، حتی أصبح فی الواقع نموذج مصغر لجمیع عالم الوجود، وعالم صغیر یضاهی العالم الکبیر. أتزعم أنّک جرم صغیر وفیک انطوی العالم الأکبر

فهذه المیزة التی یتحلی بها الإنسان تجعلنا نتعرف بصورة أعمق علی أهمیة خلقه من جانب، کما تلفت انتباهنا إلی مدی عظمة خالقه من جانب آخر، فمراد الإمام علیه السلام من هذه المیزة الفریدة للإنسان إنّما یکمن فی الإشارة إلی عظمة الخالق وعظمة المخلوق.

ص:118

القسم العاشر: بدایة انحراف ابلیس

اشارة

«وَ اسْتَأْدَی اللّه سُبْحَانَهُ الْمَلائِکَةَ وَدِیعَتَهُ لَدَیْهِمْ وَعَهْدَ وَصِیَّتِهِ إِلَیْهِمْ فِی الْإِذْعانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَالْخُنُوعِ لِتَکْرِمَتِهِ فَقالَ سُبْحانَهُ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِیسَ اعْتَرَتْهُ الْحَمِیَّةُ وَغَلَبَتْ عَلَیْهِ الشِّقْوَةُ وَتَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ النّارِ وَاسْتَوْهَنَ خَلْقَ الصَّلْصالِ فَأَعْطَاهُ اللّه النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ وَاسْتِتْماماً لِلْبَلِیَّةِ وَإِنْجازاً لِلْعِدَةِ فَقالَ فَإِنَّک مِنَ الْمُنْظَرِینَ إِلی یَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» .

الشرح والتفسیر ما أن فرغ الإمام علیه السلام من بیانه لقضیة خلق آدم حتی تطرق إلی موضوع آخر ذا صلة وثیقة به مستخلصاً منه الدروس والعبر التی یمکن أن تحتذیها البشریة جمعاء فی مسیرتها إلی اللّه، فقال علیه السلام: «واستأدی اللّه سبحانه الملائکة ودیعته لدیهم وعهد وصیته إلیهم فی الاذعان بالسجود له والخنوع (1)لتکرمته فقال سبحان اسجدوا لآدم فسجدوا الّا إبلیس» فالذی تفیده العبارة أنّ اللّه قد أخذ عهد الملائکة مسبقاً بالسجود لآدم حین خلقه؛ الأمر الذی وردت الإشارات إلیه فی القرآن الکریم ومنها الآیة 70 و71 من سورة ص: «إِذ قالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ * فَإِذا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ ساجِدِینَ» . (2)فقد کانت الملائکة تدرک أنّ الوفاء بذلک العهد إنّما یحصل حین خلق آدم وتکامله بهذه

ص:119


1- 1) «خنوع» بمعنی الخضوع والتواضع حسب «المقاییس» وأورد الآخرون ما یشبه هذا المعنی أیضاً.
2- 2) سورة ص / 70 -71. [1]

الصورة الإنسانیة، ولذلک أمرهم اللّه سبحانه لما أتم خلقه بالسجود «اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلّا إِبْلِیسَ» (1).

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ هذا الأمر قد یکون مستغرباً لدی الملائکة ویثیر اندهاشهم ولعلهم یتساهلون فی امتثاله لولا تلک المقدمة بذلک العهد الذی أخذ علیهم، ولذلک أعدهم اللّه سبحانه لهذا الأمر مسبقاً لیعلم أنّ مثل هذه المقدمات ضروریة فی الأوامر المهمّة. ثم یتطرق علیه السلام إلی الدوافع التی وقفت وراء تمرد ابلیس فقال علیه السلام: «اعترته الحمیة (2)وغلبت علیه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن خلق الصلصال» . فالواقع أنّ العامل الأصلی لتمرده إنّما کان تلوثه الباطنی والذی عبر عنه بالشقوة إلی جانب الکبر والغرور والحمیة والأنانیة التی تفرزها طبیعة ذلک الدنس الباطنی والذی غلب علی فکره وأعمی بصیرته لیصده عن رؤیة الواقع فیغتر بخلقة النار ویراها أعظم شأناً من خلقة الطین والتراب؛ التراب الذی یعتبر مصدر جمیع الخیرات والبرکات والمنافع والفوائد، بالتالی حسب أن علمه ومعرفته إنّما تفوق حکمة اللّه - طبعاً لا یبدو هذا الحکم غریباً من الأفراد الذین یغرقون فی مثل هذا الحجب؛ فالإنسان الأنانی المضروب علیه بحجاب الغرور قد یری القبة حبة والحبة قبة أحیاناً، فعباقرة الفکر وجهابذة العلم إذا ما ابتلوا بالغرور والأنانیة وحب الذات ربما یرتکبون أفضع الأخطاء والزلات. فالمراد بالشقاوة هنا تلک الموانع الباطنیة والصفات الرذیلة التی کانت لدی الشیطان، وهی الموانع والصفات الاختیاریة النابعة من أفعاله السابقة وهی لیست شقوة ذاتیة وغیر اختیاریة؛ لأنّ الشقاوة تقابل السعادة. وتعنی السعادة توفیر الإمکانات وتمهید السبیل من أجل الحرکة نحو الصلاح والشقاوة تعنی المطبات والصعوبات التی تعترض هذا السبیل؛ والمهم أنّ کل هذه الاُمور إنّما تنبع من ذات أفعال الإنسان وسائر الموجودات المختارة لا أنّها تستند إلی العوامل الجبریة والقهریة. علی کل حال فان ابلیس قد ارتکب هذه المعصیة الکبری والخطأ الجسیم لیسقط

ص:120


1- 1) سورة البقرة / 34. [1]
2- 2) «الحمیة» من مادة «حمی» علی وزن نهی معناها الأصلی الحرارة التی تنتج من الشمس والنار والمواد الاُخری أو من داخل جسم الإنسان، کما یعبر أحیاناً بالحمیة عن القوة الغضبیة حیث إنّ حالة الإنسان تشتعل آنذاک، ویطلق الحمی علی حرارة البدن حین الارتفاع.

بالمرة فیطرد من حظیرة القرب الإلهی حتی أصبح من ألعن خلق اللّه وأبعدهم عن رحمته بفعل تلک المعصیة الخطیرة؛ غیر أنّ هذه اللعنة والطرد من الرحمة لم تکن لتوقظه فتمادی فی غیه وغروره واستناداً لسیرة المغرورین والمتعصبین من ذوی الأنفة والحمیة فقد باشر عملاً قبیحاً آخر تمثل بتوعده باغواء آدم وذریته، ثم سأل اللّه ویداقع اشباع غریزة غضبه وحسده النظرة إلی یوم القیامة لیرتکب معصیة اُخری أفدح من سابقتها «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِی إِلی یَوْمِ یُبْعَثُونَ» (1). فاستجاب اللّه له لثلاث؛ استحقاقاً للغضب، وإکمالاً لابتلاء العباد وتمحیصهم وأخیراً انجاز ما وعده به «فأعطاه اللّه النظرة استحقاقاً للسخطة واستتماماً للبلیة وانجازاً للعدة» ، ولکن لیس علی ضوء ما سأل، بل جعل لذلک أجلاً معیناً «فقال أنّک من المنظرین إلی یوم الوقت المعلوم» (2). أمّا ما المراد بیوم الوقت المعلوم فهناک کلام واختلاف بین مفسری القرآن ونهج البلاغة.

فذهب البعض إلی أنّ المراد بذلک انتهاء العالم وانقطاع مدّة التکلیف (وعلی ضوء هذا المعنی فقد کانت الموافقة علی بعض سؤال ابلیس، لأنّه سأل النظرة إلی یوم القیامة بینما أجیب بالنظرة إلی ختام الدنیا) . بینما ذهب البعض الآخر أنّ المراد بذلک زمان معیّن وهو انقطاع عمر ابلیس؛ الأمر الذی لا یعلمه إلّااللّه؛ وإلّا لو أعلنه آنذاک لکان إغراءً لابلیس بالتمرد وارتکاب المعاصی. وأخیراً فقد احتمل البعض أنّ المراد یوم القیامة؛ لأنّ الآیة الخمسین من سورة الواقعة عبرت بالیوم المعلوم عن یوم القیامة «قُلْ إِنَّ الأَوَّلِینَ وَالآخِرِینَ * لََمجْمُوعُونَ إِلی مِیقاتِ یَوْمٍ مَعْلُومٍ» . إلّاانّ هذا الاحتمال یبدو مستبعداً، لأنّه وعلی ضوء هذا التفسیر قد استجیب لجمیع طلباته، فی حین یفید ظاهر الآیات القرآنیة أنّه لم یستجب إلّالبعض طلباته، أضف إلی ذلک فانّ الآیة التی وردت فی البحث قالت «یوم الوقت المعلوم» بینما قالت الآیة الواردة فی سورة الواقعة «یَوْمٍ مَعْلُومٍ» فالآیتان متفاوتتان، وعلیه فالتفسیر الصحیح هو التفسیر الأول أو الثانی. من جانب آخر فقد جاء فی الحدیث أنّ المراد بیوم الوقت المعلوم هو زمان ظهور إمام العصر والزمان المهدی (عج) والذی ینهی بدوره عمر ابلیس (3). وبالطبع

ص:121


1- 1) سورة الحجر / 36. [1]
2- 2) إشارة إلی آیة 37 و38 من سورة الحجر « [2]قالَ فَإِنَّکَ مِنَ المُنْظَرِینَ * إِلی یَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ» .
3- 3) تفسیر نور الثقلین 3 / 14 ح 46.

فان هذا لن یؤدی إلی اجتثاث جذور الذنب والمعصیة عن العالم بالمرة وتنتفی قضیة الطاعة والامتحان الإلهی؛ لأنّ العامل الأصلی إنّما یکمن فی هوی النفس الذی یبقی سائداً فی الإنسان، بل حتی عامل انحراف الشیطان إنّما یعزی إلی هوی نفسه. (1)

تأمّلات

1 - عظمة مقام الإنسان

إنّ الآیات القرآنیة التی تناولت قضیة سجود الملائکة للإنسان فی عدّة سور لتشکل أحد الأدلة المهمّة علی أن الإنسان یمثل أفضل موجود فی عالم الخلقة وأشرف مخلوقات اللّه سبحانه (2)، کما تشیر هذه الآیات إلی سجود جمیع الملائکة دون استثناء وخضوعها لآدم علیه السلام، وهذا بدوره دلیل واضح علی أفضلیته علیه السلام حتی علی الملائکة، ویبدو أنّ الهدف من هذه التأکیدات القرآنیة المستمرة الفات انتباه الإنسان إلی عظم شخصیته الإلهیة والمعنویة؛ الأمر الذی یلعب دوراً مهماً فی تربیة النفس البشریة وتهذیبها وهدایتها.

2 - کیف کان السجود لآدم؟

هناک عدّة أبحاث لدی المفسرین بشأن کیفیة السجود، وهل یجوز السجود لغیر اللّه تعالی. یری البعض أنّ ذلک السجود لم یکن إلّاللّه تعالی، غیر أنّه حصل أمام آدم بینما کان معلولاً لخلق هذا الکائن العجیب؛ فی حین ذهب البعض الآخر إلی أنّ السجود کان لآدم، إلّاانّه لم یکن سجود العبادة المختص باللّه تبارک وتعالی، بل کان سجود خضوع واکرام واحترام. وجاء فی کتاب عیون الأخبار عن کتاب الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه قال: «کان سجودهم للّه تعالی عبودیةً ولآدم إکراماً وطاعة لکوننا فی صلبه» (3). فالذی یستفاد من هذا الحدیث أن

ص:122


1- 1) لقد تکفلت المناجاة الثانیة من المناجاة الخمسة عشر للإمام علی بن الحسین علیهما السلام ببیان کیفیة تأثیر هوی النفس وکذلک تأثیر الشیطان فی انحراف الإنسان بصورة مفصلة.
2- 2) سورة البقرة / 34 وسورة الاعراف / 11 وسورة الاسراء / 61 وسورة الکهف / 50 وسورة طه / 116.
3- 3) نور الثقلین 1 / 58. [1]

السجدة کانت تنطوی علی بعدین؛ أحدهما عباة اللّه والآخر تکریم آدم علیه السلام. وشبیه ماذکر سابقاً هو ماورد فی الآیة 100 من سورة یوسف «وَرَفَعَ أَبَوَیْهِ عَلی العَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً» . فقد جاء فی الحدیث الذی روی عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام بشأن الآیة السابقة أنّه قال: «أمّا سجود یعقوب وولده فانّه لم یکن لیوسف وإنّما کان من یعقوب وولده طاعة للّه وتحیة لیوسف کما کان السجود من الملائکة لآدم» .

3 - أسئلة واستفسارات بشأن خلق الشیطان

هنالک عدّة أسئلة واستفسارات بشأن خلق الشیطان وسوابقه وتمرده علی الأوامر الإلهیة ومن ثم امهاله حتی الزمان المعلوم، وبالطبع فانّ المقام لا یسع الاسهاب والوقوف علی التفاصیل، ولذلک سنقتصر علی التعرض بأطناب لهذه المواضیع.

سؤال:

مهل ابلیس من الملائکة؟ إنّ کان الجواب بالإیجاب فلم ارتکب تلک المعصیة الخطیرة مع أن الملائکة معصومون، وإن کان الجواب بالنفی فی أنّه لم یکن من الملائکة، فما علة ذکره فی عداد الملائکة علی لسان الآیات القرآنیة؟

جواب:

یقیناً لم یکن من الملائکة، فقد صرّح القرآن قائلاً: «کانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» (1)، إلّا أنّه قد اصطف مع الملائکة أثر جهوده فی الطاعة والعبودیة ولذلک عد واحد منهم، ولهذا السبب أیضاً وردت بعض خطب نهج البلاغة بما فیها الخطبة رقم 192 المسماة بالقاصعة التی عبرت بالملک عن ابلیس؛ وناهیک عن ذلک فقد صرّح نفسه قائلاً: «خَلَقْتَنِی مِنْ نارٍ» (2)ونعلم جمیعاً بأنّ الجن قد خلقوا من النار لا الملائکة، وهذا ما صرّحت به الآیة الخامسة عشرة من سورة الرحمن «وَخَلَقَ الْجانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» ، وقد أشارت بعض روایات أهل البیت علیهم السلام إلی هذا المعنی أیضاً (3). أضف إلی ذلک فقد أشار القرآن إلی ذریة ابلیس وولده

ص:123


1- 1) سورة الکهف / 50. [1]
2- 2) سورة ص / 76. [2]
3- 3) مجمع البیان 1 / 82، ذیل الآیة 34 من سورة البقرة. [3]

«أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّیَّتَهُ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِی وَهُمْ لَکُمْ عَدُوٌّ» (1)بینما لیست للملائکة من ذریة.

سؤال:

کیف جاز علی اللّه سبحانه أن یسلط ابلیس علی الناس حتی أنّهم سلبوا قدرة الدفاع؟ أضف إلی ذلک فما الضرورة فی الاغواء والضلال؟ ومنحه تلک المدّة الطویلة من العمر والمهلة لیسعی سعیه فی اغواء بنی آدم وتوظیف کافة إمکاناته فی سبیل تحقیق هذا الهدف؟ جواب:

أولاً: أنّ الشیطان قد خلق طاهراً عفیفاً وقد جدّ لسنوات من أجل صون قدسیته وطهّره حتی قادته طاعته وعبودیته لأن یکون فی مصاف الملائکة، إلّاأنّه فی نهایة الأمر وأثر حبّه لذاته وکبره وغروره واستغلاله لحریته قد سلک سبیل الضلال فسقط إلی الحضیض.

ثانیاً: من الضروری الالتفات إلی نقطة مهمّة وهی أنّ نفوذ الوساوس الشیطانیة إلی باطن الإنسان لیس نفوذاً عبثیاً وإجباریاً؛ بل إنّ الإنسان هو الذی یفسح المجال بإرادته واختیاره لهذا النفوذ سیجعله یستحوذ علی نفسه، حیث یمنح الشیطان تأشیرة الدخول إلی حدود قلبه وهذا ما عبّر عنه القرآن الکریم بقوله: «إِنَّ عِبادِی لَیْسَ لَکَ عَلَیْهِمْ سُلْطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَکَ مِن الغاوِینَ» (2).

وقال فی موضع آخر «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلی الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِینَ هُمْ بِهِ مُشْرِکُونَ» . (3)

ثالثاً: لقد تضمنت عبارات الإمام علی علیه السلام رداً لطیفاً رائعاً علی السؤال المذکور حیث قال: «فأعطاه اللّه النظرة استحقاقاً لسخطه واستتماماً للبلیة وانجازاً للعدة» ؛ أی أنّ اللّه قد أجزل عقابه بمنحه هذه المهلة من جانب؛ لأنّ الآیات القرآنیة تفید التحذیر الإلهی الشدید والمتکرر لاُولئک الذین یسیرون باتجاه الذنوب والمعاصی؛ فاذا فاد التحذیر وأثّر بهم ورجعوا عن غیّهم کان ذلک خیراً وإلّا أمهلهم ووکلهم إلی أنفسهم لیکون عذابهم أشد: «وَلا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَ نَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ

ص:124


1- 1) سورة الکهف / 50. [1]
2- 2) سورة الحجر / 42. [2]
3- 3) سورة الحجر / 100. [3]

«مُهِینٌ» (1)، ومن جانب آخر فانّ وجود الشیطان یشکل اختباراً وامتحاناً ضخماً للناس، وبعبارة اُخری فانّه یمثل جسر الأفراد المؤمنین نحو السمو والتکامل - لأنّ وجود هذا العدو المقتدر بالنسبة للمؤمنین الذین یرومون انتهاج سبیل الحق لیس فقط لایستبطن أی ضرر فحسب، بل سیکون وسیلة للتسامی والتکامل؛ حیث إننا نعلم بأنّ السمو والتکامل إنّما یتمّ عادة فی ظل التضاد وإذا ما رأی الإنسان نفسه أمام عدو شرس فانه سیوظف کافة طاقاته وقدراته ونبوغاته، وبعبارة اُخری فان وجود هذا العدو القوی سیؤدی بالإنسان إلی ممارسة مزید من الحرکة والجهد؛ الأمر الذی یقوده بالتالی إلی السمو والرقی والتکامل. بینما لایزید هذا الأمر مرضی القلوب والآثمین المنحرفین سوی انحرافاً وبؤساً وشقاءً، والحق أنّهم استحقوا ذلک بما کسبت أیدیهم: «لِیَجْعَلَ ما یُلْقِی الشَّیْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِیَةِ قُلُوبُهُمْ» فالهدف هو أنّ اللّه یختبر اُولئک القاسیة قلوبهم وفیها مرض بالقاءات الشیطان، «وَلِیَعْلَمَ الَّذِینَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّکَ فَیُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ» (2).

سؤال:

کیف کانت شبهة ابلیس بالتعزز بخلقة النار فیری نفسه أفضل من آدم وبالتالی یعترض علی حکمة اللّه؟ ونقول فی الجواب أنّ حب الذات والغرور تعدّ من أضخم الحجب التی تحول دون رؤیة الحقائق والواقعیات؛ وهذا ما حصل لابلیس، فلم یدفعه ذلک إلی التمرد والعصیان فحسب، بل اعترض علی الحکمة الإلهیة لیجعل ذلک حجة احتج بها فی شرف عنصره علی عنصر آدم، فکیف أسجد لهذا الموجود الذی خلقته من طین بینما خلقتنی من النار، فقد ذهبت به الظنون إلی أفضلیة النار علی التراب، بینما لا یخفی أنّ التراب ینبوع مختلف الخیرات والبرکات ومصدر جمیع المواد الحیویة والمهمة والوسیلة الرئیسیة لمواصلة الحیاة، کما یضم فی طیاته أنواع المعادن والفلزات والجواهر ولیس النار کذلک. صحیح أنّ النار والحرارة تعتبر من سائر الوسائل

ص:125


1- 1) سورة آل عمران / 178؛ [1]سورة الروم / 41. [2]
2- 2) سورة الحج / 53 - 54. [3]

الحیاتیة الضروریة، لکن ممّا لاشک فیه أن الدور الأساسی إنّما تقوم به المواد الموجودة فی التراب والنار لیست سوی وسیلة من أجل تکامل هذه المواد.

لقد صرّحت بعض الروایات (1)أنّ وحدة من أکاذیب ابلیس هو زعمه بأنّ النار أفضل من التراب، والحال إننا نعلم بأنّ النار عادة ما تتولد من احتکاک الأشجار أو من المواد الدهنیة وانّ أصل الأشجار هو التراب، کما أنّ الدهون النباتیة والحیوانیة إنّما تستخرج بواسطة من الأرض. أضف إلی ذلک أنّ امتیاز آدم لم یقتصر علی أفضلیة عنصر التراب؛ بل تکرمته إنّما استندت إلی عامل أصلی تمثل بتلک الروح العظیمة التی نفخت فیه «وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُوحِی» . ولنفترض جدلاً أنّ المادة الاولی فی خلقة الشیطان کانت أفضل من مثیلتها لدی آدم، فان هذا الأمر هو الآخر لا یقوی دلیلاً علی تمرده وعدم امتثاله لأمر اللّه بالسجود لآدم بفضل تلک الروح الإلهیة التی حلت فیه واکسبته ذلک المقام العظیم، ولعل الشیطان کان یعلم بکل هذه الاُمور إلّاأنّ الکبر والغرور والعجب وحب الذات أعمی بصره وبصیرته عن الاذعان للحق.

4 - تبریرات جوفاء

لقد حاول بعض الفلاسفة - کما نقل ذلک ابن میثم البحرانی رحمه الله فی شرحه لنهج البلاغة - أن یبرروا ویأولوا کافة تفاصیل قصة خلق آدم وسجود الملائکة وتمرد ابلیس وعدم امتثاله لأمر اللّه لیحملوها علی مفاهیم لا تنسجم وظواهر تلک القصة. ومن ذلک أنّهم قالوا أنّ المراد بالملائکة الذین اُمروا بالسجود لآدم هو القوی البدنیة المأمورة بالخضوع أمام النفس العاقلة (الروح البشریة) ، والمراد بابلیس القوة الوهمیة وجنود ابلیس هی القوی النابعة من الوهم وهوی النفس والتی تتعارض والقوی العقلیة، امّا المقصود بالجنّة التی طرد منها آدم فانّما یراد بها المعارف الحقة وأنوار الکبریاء الإلهیة! وما إلی ذلک من التأویلات الجوفاء التی لا أساس لها من الصحة. (2)

ص:126


1- 1) تفسیر نور الثقلین 4 / 472 ح 93.
2- 2) شرح نهج البلاغة لابن میثم 1 / 190 فصاعداً.

هذا نموذج من التفسیر بالرأی الذی ورد النهی عنه فی الأحادیث والروایات علی أنّه سبب السقوط والابتعاد عن اللّه سبحانه.

فکلنا نعلم بأنّ التفسیر بالرأی وتحمیل الأحکام الذهنیة المسبقة علی الآیات والروایات یعدّ علی الدوام من أهم الوسائل التی تمسک بها المحرفون والمتصنعون المتلبسون بالدین الذین لا یألون جهداً فی توجیه الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة بما ینسجم ورغباتهم ونزعاتهم، کما نعلم بأنّ الباب لو فتح أمام تفسیر الآیات والروایات بالرأی فسوف لن یبقی هناک من أصول مسلمة ومبانی وأحکام قانونیة ثابتة وسیصبح کل شیء تابع للأفکار الخاطئة والأهواء الضالة لهذا وذاک، بل سیهجر الکتاب والسنة ویصبحان طینة بید المنحرفین والمغرضین یصنعون منها ما شاءت أهوائهم ورغباتهم. ومن هنا طالعنا إصرار کبار محققی الإسلام والباحثین بضرورة استخدام القواعد المسلمة لباب الألفاظ فی فهم معانی الکتاب والسنة. فالألفاظ لابدّ أن تحمل علی معانیها الحقیقیة، اللّهم إلّاأن تکون هناک قرائن جلیة تدعو لحملها علی المعانی المجازیة؛ ویراد بها القرائن المقبولة لدی العرف والعقلاء الذین یستندون إلیها فی إقامة أدلتهم وبراهینهم (1).

وأخیراً فان ذکر قصة ابلیس وعاقبته کما وردت فی عبارات الإمام علی علیه السلام لتنطوی علی الدروس والعبر التی ینبغی أن تحتذیها البشریة فی مسیرتها فینظروا بعین الاعتبار إلی نتائج الکبر والغرور وحب الذات والحمیة والعاقبة المشؤومة لابلیس وطرده من ماقم القرب لتلاحقه اللعنات والشقاء الأبدی، فتکون علی حذر من سلوک هذا الطریق الخطیر. ونختتم الحدیث بما أورده العالم الجلیل المرحوم مغنیة فی شرحه لنهج البلاغة فقد خلص إلی عدّة دروس من قصة ابلیس منها:

1 - من حسد صاحب فضیلة أو عادی إنساناً لریاسته وعمله فانّه علی دین ابلیس ومن رهطه یوم القیامة.

2 - لیس هنالک من سبیل لمعرفة الدین والأخلاق الحمیدة سوی سبیل واحد وهو

ص:127


1- 1) راجع کتاب التفسیر بالرأی لآیة اللّه مکارم الشیرازی بشأن هذا الموضوع.

التسلیم للحق والثبات علیه مهما کانت النتیجة.

3 - أنّ أغلب الناس یصرون علی الباطل لا علی أساس عدم معرفتهم به، بل بسبب العناد واللجاجة ضد مخالفیهم، وهذا الاصرار الخاطئ إنّما ینتهی بهم إلی أسوأ العواقب. فلو تاب ابلیس ورجع عن خطأه لقبل اللّه توبته وقد کان له مثل هذا الاستعداد، إلّاأنّه کان یعتقد بشرط وهو ألا یأمره اللّه بالسجود لآدم ثانیة بینما اشترط اللّه قبول توبته بذلک الشرط. (1)

ص:128


1- 1) فی ظلال نهج البلاغة 1 / 51. [1]

القسم الحادی عشر: عاقبة آدم

اشارة

«ثُمَّ أَسْکَنَ سُبْحانَهُ آدَمَ داراً أَرْغَدَ فِیها عَیْشَهُ وَآمَنَ فِیها مَحَلَّتَهُ وَحَذَّرَهُ إِبْلِیسَ وَعَداوَتَهُ فاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفاسَةً عَلَیْهِ بِدارِ الْمُقامِ وَمُرافَقَةِ الْأَبْرارِ فَباعَ الْیَقِینَ بِشَکِّهِ وَالْعَزِیمَةَ بِوَهْنِهِ وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَبِالِاغْتِرارِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اللّهُ سُبْحانَهُ لَهُ فِی تَوْبَتِهِ وَلَقّاهُ کَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَوَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَی جَنَّتِهِ وَأَهْبَطَهُ إِلَی دارِ الْبَلِیَّةِ وَتَناسُلِ الذُّرِّیَّةِ» .

الشرح والتفسیر کان الحدیث فی مامضی عن اختبار الملائکة وتمرد ابلیس، بینما تطرق الحدیث هنا عن امتحان آدم والنتیجة التی تمخض عنها هذا الامتحان. ونقول هنا ما تفیده بعض الآیات القرآنیة هو أنّ آدم قد خلق للعیش فی الأرض. فقد قال سبحانه وتعالی فی الآیة 30 من سورة البقرة «إِنِّی جاعِلٌ فِی الأَرضِ خَلِیفَةً» ، کما أشارت الآیة 36 من نفس السورة إلی المراد بالأرض موضع غیر الجنّة (الجنّة بأی معنی کانت) : «وَقُلنا اهْبِطُوا بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَکُمْ فِی الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلی حِینٍ» .

علی کل حال کان لابدّ لآدم من دورة تدریبیة وامتحان إلهی یمده بتجربة لیتعرف علی المفاهیم من قبیل الأمر والنهی والتکلیف والطاعة والمعصیة والندم والتوبة ویتعرف عن قرب علی عدوه، ومن هنا أسکنه اللّه الجنّة وأباح له التمتع بنعیمها ولم یحظر علیه سوی الاقتراب من تلک الشجرة، إلّاأنّ وساوس الشیطان ومکره وحیله قد أثرت فی آدم ودفعته إلی ترک الاولی، فتناول من تلک الشجرة ویهبط من الجنّة؛ الأمر الذی أدی بالتالی إلی یقظته وعودته

ص:129

إلی اللّه فی التوبة والإنابة، فاحفه اللّه بلطفه وعنایته فالهمه کیفیة التوبة، فتاب اللّه علیه ووعده بالعودة إلی الجنّة، فکان من الآثار الوضعیة لفعل آدم أن یحرم من تلک النعم والدعة فی الجنّة لأن یهبط إلی الأرض فیمارس الحیاة الملیئة بالتعب والمشقة. ما مر معنا لحد الآن نظرة کلیة عامة إلی خطبة الإمام بشأن قصة آدم علیه السلام، ونخوض الآن فی شرح تفاصیل الخطبة.

قال علیه السلام: «ثم اسکن سبحانه آدم داراً أرغد (1)فیها عیشه» ثم قال علیه السلام: «وآمن فیها محلته» فی إشارة واضحة إلی أنّ البارئ سبحانه قد أفاض علیه رکنین رئیسیین من الأرکان المهمّة للحیاة وهما: الأمن ووفور النعمة. والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد استوحی ذلک المعنی من الآیة 35 من سورة البقرة: «وَقُلْنا یا آدَمُ اسْکُنْ أنْتَ وَزَوْجُکَ الجَنَّةَ وَکُلا مِنْها رَغَداً حَیْثُ شِئْتُما» . کما حذر اللّه سبحانه آدم علیه السلام من عدوه ابلیس «وحذره ابلیس عداوته» وبذلک فقد أرشده إلی سبیل السعادة والفلاح، کما أتم علیه الحجة بابانته لطرق البؤس والشقاء. وهذا ما صرحت به الآیة 17 من سورة طه إذ قالت: «فَقُلْنا یا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَلِزَوْجِکَ فَلا یُخْرِجَنَّکُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقی» واتماماً للحجة أکثر فقد دله علی الشجرة التی لا ینبغی إلیه الاقتراب منها، بینما أباح له التمتع بثمار کافة أشجار الجنّة، غیر أنّ آدم علیه السلام وبسبب عدم امتلاکه التجربة الکافیة بشأن مکائد الشیطان وحبائله قد آل أمره إلی الوقوع فی مصیدة الشیطان، فأشار الإمام علیه السلام إلی هذه المسألة بقوله: «فاغتره عدوه نفاسة (2)علیه بدار المقام ومرافقة الأبرار» . ویبدو أن هذه هی الوظیفة التی نهض بها الشیطان، حیث یسعی للاقتراب من الصالحین والخیرین لیوسوس لهم ویسلبهم النعم والإلهیة ویقودهم نحو البؤس والشقاء. ثم أشار علیه السلام إلی الأمر الرئیسی فی خطأ آدم علیه السلام: «فباع الیقین بشکه» کما ضعف تجاه الوساوس

ص:130


1- 1) «أرغد» من مادة «الرغد» بمعنی الحیاة الرغیدة الوادعة، کما ترد بمعنی النعمة الوافرة بالنسبة للإنسان والحیوان أیضاً (المفردات ومقاییس اللغة) .
2- 2) «نفاسة» من مادة «النفس» علی وزن «حبس» بمعنی الروح، ولما کان التنفس مصدر الحیاة فقد استخدمت هذه المفردة لذلک المعنی، ثم وردت «المنافسة» بمعنی السعی من أجل الوصول إلی مکانة مهمّة، لأنّ الإنسان یجهد نفسه فی ذلک السعی، ومن هنا استعملت «النفاسة» بمعنی الحسد والبخل (المفردات ومقاییس اللغة ولسان العرب) .

الشیطانیة التی کان ینبغی له مجابهتها بعزمه الراسخ «والعزیمة بوهنه» (1)والعبارة إشارة للآیة 115 من سورة طه «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلی آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِیَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» . (2)نعم صحیح أنّ الشیطان أقسم لهما بأنّه لا یرید بهما إلّاالنصیحة والخیر «وَقاسَمَهُما إِنِّی لَکُما لَمِنَ النّاصِحِینَ» (3)ولکن هل کان علی آدم أن یثق بوعد اللّه القائم علی الیقین أم یصغی إلی کلام الشیطان القائم علی أساس الشک والوهم؟ لاشک إن نسیان هذه الحقیقة وإغفالها جعلت آدم یقدم علی تلک المعاملة التی لا تنطوی سوی علی الغبن والضرر فضعف عزیمته فی طاعة اللّه. وهذا بحد ذاته درس وعبرة لکافة بنی آدم فی ضرورة الاستناد إلی عوامل الیقین فی جمیع معاملاتهم واجتناب طرق الشک والغموض والابهام فی مراعاة الاحتیاط وعدم اقتحام أی میدان دون دراسة ظروفه وملابساته، وذلک لأنّ الشیاطین درجت علی تنمیق سبلها المفسدة بما یکسبها ظاهراً أنیقا فی حین لا تستبطن سوی النار المستعرة التی أوقدها لبنی آدم. أجل هنالک الدروس والعبر القیمة فی قصة آدم والتی لابدّ للبشریة من وضعها نصب عینها فی حیاتها حتی قیام الساعة.

ثم تطرق علیه السلام إلی النتائج المریرة التی أفرزتها تلک المعاملة فقال: «واستبدل بالجذل» (4)وجلا (5)وبالاغترار ندما» . وهنا نسأل ماهی الحوادث التی دفعت بآدم للالتفات إلی خطأه وبالتالی حسرته وندمه

ص:131


1- 1) هناک احتمالان حول رجوع الضمیر فی «شکه» و «وهنه» ، فقد صرّح أغلب شرّاح نهج البلاغة بأنّ الضمیر یعود إلی آدم؛ أی أن آدم علیه السلام باع یقینه بشکه وعزمه بوهنه وضعفه. بینما الاحتمال الآخر أن یکون الضمیر عائداً إلی إبلیس فی المفردتین وذلک لأنّه هو الذی أوجد هذا الشک والوهن، ففی الواقع هو اضافة إلی السبب لا مفعول. لکن یبدو الاحتمال الأول أصوب من الثانی.
2- 2) سورة طه / 115. [1]
3- 3) سورة الاعراف / 21. [2]
4- 4) «الجذل» علی وزن الجدل بمعنی الفرح والسرور کما وردت فی صحاح اللغة، وقال صاحب المقاییس أنّ الجذل علی وزن الجسم بمعنی جذر الشجرة الذی یقومها ویمنحها الاستقامة، ومن هنا کانت قامة الفرحان مستویة بینما کانت قامة المغموم منحنیة، کما تطلق أحیاناً علی الأرض اللزجة، إلّاأنّها استعملت بمعنی الفرح.
5- 5) «وجل» علی وزن أجل بمعنی الخوف والخشیة.

علی ما فرط منه؟ یبدو أنّ الإمام علیه السلام أجمل عبارته بهذا الشأن، بینما تصدی القرآن الکریم فی أکثر من آیة لشرح التفاصیل: فحین استسلم آدم لوساوس الشیطان وأکل من تلک الشجرة المحظورة، لم تمر علیه مدّة حتی نزع عنه لباس الجنّة وبدت سوأته التی قدر لها أن تخفی، فشعر بالخجل من الملائکة وطفق یخصف علیها من ورق الجنّة، ثم أعقب ذلک ما تلقاه من أمر بالهبوط من الجنّة علی أنّه یمثل جزاء کل من یولی ظهره لأوامر اللّه ویستجیب لوساوس الشیطان. إلّاأنّ آدم علیه السلام وخلافاً لسلوک الشیطان وتجربته الخاطئة، لم یصر علی خطأه ویرکب رأسه ویواصل معصیته، فأقبل فوراً علی اللّه سائله بلطفه ورحمته أن یتوب علیه، فعلمه کیفیة التوبة ثم وعده العودة ثانیة إلی الجنّة «ثم بسط اللّه سبحانه له فی توبته ولقاه کلمة رحمته ووعده المرد إلی جنّته» (1). علی کل حال فان قبول التوبة لم یبق علی آدم فی الجنّة، حیث لم یعدّ هنالک من مبرر لمواصلة حیاته فیها، فقد تعلم ما کان ینبغی علیه تعلمه وجرب ما کان لابدّ له من تجربته. ولذلک أهبطه اللّه إلی دار الدنیا - الامتحان -؛ دار التزاوج والذریة «وأهبطه إلی دار البلیة وتناسل الذریة» . فالذی یستشف بوضوح من هذه العبارة أنّ الدنیا دار البلاء والامتحان، وما مر فی الجنّة کان تحضیراً لخوض هذا الامتحان، کما لا مکان فی الجنّة للتزاوج والتناسل، بل ذلک من مختصات الدنیا.

تأمّلات

1 - ما کانت جنّة آدم؟

ذهب جماعة إلی أنّ الجنّة التی سکنها آدم علیه السلام کانت جنّة الخلد التی وعد اللّه عباده

ص:132


1- 1) هناک کلام فی الضمیر «جنته» هل یعود إلی اللّه أم إلی آدم. فلو کان عائداً إلی آدم، فان ظاهر العبارة یفید إرجاعه إلی الجنّة [1]التی کان فیها علیه السلام، وإن عاد الضمیر إلی اللّه فلا لزوم أن تکون تلک الجنّة [2]التی کان فیها آدم، ویمکن أن تکون جنّة آدم جنّة دنیویة أو الجنّة [3]التی سیعود إلیها وهی الجنّة [4]الأخرویة کجنّة الخلد، لکن الظاهر أن الضمیر یرجع إلی لفظ الجلالة بقرینة الضمیر فی توبته ورحمته، رغم أنّ ظاهر کلمة (مردّ) یفید العودةتلک الجنّة، [5] ویمکن أن تکون مطلق الجنّة، [6] بعبارة اُخری لیس هنالک من منافاة بین نوع الجنّة [7]مع المفردة «مردّ» .

الصالحین، بینما ذهبت جماعة اُخری إلی أنّها کانت جنّة دنیویة غنیة بحدائقها وبساتینها، وقد استدلت هذه الجماعة ببعض الأدلة فیما اعتقدت:

بادئ ذی بدء أنّ الجنّة الموعودة بعد القیامة هی جنّة خالدة لا یعتریها الخروج. وقد یقال فاذا کانت کذلک فأنی لابلیس الذی یفیض کفراً وعناداً وطغیاناً أن یدخل هذه الروضة المقدسة؟

فاذا قیل بأن إبلیس لم یوسوس لآدم فی الجنّة قط، بل وسوس له وقد وقف خارجاً علی بابها، قلنا بانّ ذلک لا ینسجم وما صرّحت به الآیة 36 من سورة البقرة التی قالت: «وَقُلنا اهْبِطُوا بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» التی تشمل آدم وحواء وابلیس معاً.

أضف إلی ذلک فقد صرّحت الروایات الکثیرة الواردة عن أئمة أهل البیت علیهم السلام أنّ تلک الجنّة کانت من جنان الدنیا.

فقد جاء عن حسین بن بشار أنّه قال: سألت الإمام الصادق علیه السلام عن جنّة آدم، فقال علیه السلام: «جنّة من جنان الدنیا یطلع علیها الشمس والقمر ولو کانت من جنان الخلد ما خرج منها أبداً» (1).

کما أورد المرحوم الکلینی فی الکافی عن حسین بن میسر مثل هذا الحدیث عن الإمام الصادق علیه السلام (2)- امّا الإشکال الوحید الذی یرد علی هذا الکلام فانما یکمن فی العبارة السابقة من هذه الخطبة «نفاسة علیه بدار المقام» ، لکن من الممکن أن یکون معنی هذه العبارة هو أنّه لو لم یرتکب هذه المخالفة لبقی مدّة طویلة فی هذه الجنّة ثم یهبط إلی الأرض، إلّاأنّه ترکه للاولی أسرع فی إخراجه من الجنّة وهبوطه إلی الأرض، أو أن یقال أنّه أراد سبحانه أن یحرم آدم من جنّة الخلد، فلو کان آدم مطیعاً لأوامر اللّه لالتمس طریقه إلی تلک الجنّة.

2 - هل اقترف آدم معصیة؟

یری أولئک الذین یجوزون ارتکاب الذنب علی الأنبیاء - ولاسیما فی مثل هذه الاُمور - أنّ

ص:133


1- 1) بحار الانوار 11 / 143، ح 12. [1]
2- 2) الکافی 3 / 247، باب جنّة الدنیا، ح 2.

آدم علیه السلام قد ارتکب المعصیة، بینما لا یری أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام الذین یؤمنون بعصمة الأنبیاء عن کل خطأ وزلل - سواء فی باب العقائد وتبلیغ الأحکام الشرعیة أو فی باب الأعمال والأفعال الیومیة قبل النبوّة وبعدها - (1).

أنّ آدم علیه السلام قد قارف أیة معصیة وأن نهی اللّه لآدم علیه السلام عن تلک الشجرة المحظورة لم یکن نهیاً تحریمیاً، بل کان فعلاً مکروهاً، ولما کان مقام الأنبیاء ولاسیما آدم علیه السلام الذی سجدت له الملائکة لمن العلو والرفعة بحیث لا یتوقع ارتکابهم للمکروه، فان فعلوا ذلک آخذهم الحق سبحانه فحسنات الأبرار سیئات المقربین - وبعبارة اُخری الذنوب علی قسمین: ذنوب مطلقة وذنوب نسبیة. الذنوب المطلقة هی الذنوب لدی الجمیع من قبیل الکذب والسرقة وشرب الخمر، أمّا الذنوب النسبیة فهی لیست بذنوب لدی عامة الناس، بل قد تکون مستحبة لدی البعض من الناس، بینما نفس هذه الأعمال المستحبة والمباحة قد یطلق علیها اسم المعصیة فیما إذا صدرت من المقربین الذین یستبعد أن یقوموا بمثل هذه الأفعال، إلّاأنّها لیست من قبیل الذنوب المطلقة بل الذنوب النسبیة والمراد بها هنا «ترک الاولی» . کما ذهبت جماعة إلی النهی عن تلک الشجرة المحظورة علی آدم علیه السلام کان نهیاً إرشادیاً لا نهیاً مولویاً، علی غرار نصائح الطبیب وإرشاداته حین ینصح مریضه بعدم تناول الطعام الفلانی خشیة من استفحال المرض وازدیاد مدته. فمن البدیهی أنّ مخالفة نصائح الطبیب لا تعتبر اهانة له ولا تعدّ معصیة لأوامره، بل ستجر تلک المخالفة علی صاحبها مزیداً من الألم والمعاناة.

وهذا هو المعنی الذی أشارت إلیه بعض الآیات القرآنیة بشأن قصة آدم علیه السلام: «فَقُلْنا یا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَلِزَوْجِکَ فَلا یُخْرِجَنَّکُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقی» (2).

وقد ورد فی بعض الروایات أنّ آدم علیه السلام لم یتناول من تلک الشجرة المحظورة، بل أکل من شجرة مشابهة لها، ولذلک قال لهما الشیطان فی ضمن وساوسه إنّ اللّه لم ینهکما عن هذه الشجرة

ص:134


1- 1) قال ابن أبی الحدید: تعتقد الإمامیة لایجوز علی اللّه أن یبعث نبیاً وقد ارتکب المعاصی قبل نبوته سواء الکبیرة أو الصغیرة، عمداً أو سهواً؛ وتختص هذه العقیدة بالإمایمة، أمّا أصحابنا فلا یرون امتناع الکبائر علی النبی قبل نبوّته. وأضاف ابن أبی الحدید وهذا ما یعتقده الإمامیة بالنسبة لأئمتهم الاثنی عشر حیث یرون لهم عصمة مطلقة کعصمة الأنبیاء (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 7 / 10) . [1]
2- 2) سورة طه / 117. [2]

«وَقالَ ما نَهیکُما رَبُّکُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ» (1). أضف إلی ذلک فهناک نقطة مهمّة لابدّ من الالتفات لها والتی تکمن فی قسم الشیطان لاثبات حسن نیته فی دعوتهما للأکل من تلک الشجرة «وَقاسَمَهُما إِنِّی لَکُما لَمِنَ النّاصِحِینَ» (2)ولم یکن آدم وحواء آنذاک سمعا من یقسم کاذباً؛ الأمر الذی جعلهما یصغیان إلی وساوس الشیطان.

بالطبع لو تأملا قلیلاً لاکتشفا کذب الشیطان؛ لأنّ اللّه سبحانه قد حذرهما سابقاً مکائده وأنّه عدو لهما، ومن الواضح أنّه لایمکن الوثوق بکلام العدو وإن عززه بالإیمان المغلظة.

3 - ماحقیقة الشجرة المحظورة؟

اختلفت أقوال المفسرین بشأن الشجرة المحظورة علی آدم علیه السلام هل کانت شجرة خارجیة اعتیادیة أم مسألة معنویة أخلاقیة، وإن کانت مادیة أو معنویة فما هی هذه الشجرة؟

نتناول هذه القضیة بالبحث المقتضب رغم أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام لم یتعرض فی خطبته لتلک الشجرة حیث وردت الإشارات فیها إلی قصة إبلیس ووساوسه لآدم علیه السلام.

فقد أشار القرآن الکریم فی ستة مواضع إلی تلک الشجرة المحظورة دون الخوض فی ماهیة تلک الشجرة، غیر أنّ الأخبار والروایات الإسلامیة وکلمات المفسرین قد تضمنت أبحاثاً مسهبة بهذا الخصوص - حیث فسرها البعض بشجرة الحنطة (وهنا لابدّ من الالتفات إلی أنّ الشجرة تطلق علی النبات أیضاً، وهذا ما صرّحت به الآیة 146 من سورة یونس: «وَأَنْبَتْنا عَلَیْهِ شَجَرَةً مِنْ یَقْطِینٍ» . فی حین فسرها البعض الآخر بشجرة العنب والنخیل والکافور أیضاً. (3)

وأخیراً فسرها البعض معنویاً علی أنّ تلک الشجرة کانت علم آل محمد صلی الله علیه و آله وقیل بل العلم بصورة مطلقة کما قیل کانت الحسد. وقد ورد عن الإمام علی بن موسی الرضا علیه السلام حین سئل عن علة اختلاف الروایات بهذا الشأن أنّه قال: «کلّه صحیح، لأنّ اشجار الجنان لیست من

ص:135


1- 1) تفسیر نور الثقلین 2 / 11 ح 34؛ [1]سورة الاعراف / 20. [2]
2- 2) سورة الأعراف / 21. [3]
3- 3) انظر تفسیر نور الثقلین 1 / 60؛ [4] الدر المنثور 1 / 52 و53 وذیل الآیة 35 من سورة البقرة.

قبیل أشجار الدنیا. فشجرة الجنّة تحمل أنواع الثمار. ولما کرم اللّه آدم علیه السلام واسجد له الملائکة واسکنه الجنّة حدث نفسه: هل خلق اللّه خلقاً أکرم منّی؟ فأراه اللّه مقام محمد وآل محمد صلی الله علیه و آله فتمنی أن یبلغ مقامهم» (1). جدیر بالذکر أنّ التوراة صرّحت بأنّ الشجرة المحظورة کانت شجرة العلم والمعرفة (معرفة الحسن من القبیح) وشجرة الحیاة الخالدة وقد نهی اللّه آدم وحواء من التناول من تلک الشجرة فیحصلا علی المعرفة ویصبحا خالدین کاللّه. (2)

وتکفی هذه العبارة لوحدها فی إثبات تحریف التوراة الفعلیة عن التوراة الحقیقیة، حیث تثبت أنّها من وضع الأفراد والجهال الذین یرون العلم والمعرفة مثلبة علی آدم وأنّه استحق الطرد من الجنّة بسبب هذا الذنب. وکأن الجنّة لا تسع ذوی العلم والمعرفة، وهنا لابدّ من الإشارة إلی أنّ بعض الروایات التی ذهبت إلی أنّ الشجرة المحظورة کانت شجرة العلم والمعرفة إنّما هی روایات موضوعة أخذت عن التوراة المحرفة.

4 - الکلمات التی تاب اللّه بها علی آدم علیه السلام.

لقد تحدث الإمام علیه السلام فی الخطبة عن تلقی آدم علیه السلام لکلمة الرحمة من اللّه سبحانه دون الدخول فی تفاصیل هذه الکلمة. القرآن من جانبه أیضاً أشار من بعید إلی هذه المسألة دون الحدیث عن ماهیتها وکنهها. إلّاأنّ الذی یفهم من هذه التعابیر أن تلک الکلمات کانت تتضمن مسائل مهمة، فقد صرّح البعض بأنّ المراد بالکلمات هو الاعتراف بالخطأ، وهذا ما أشارت إلیه الآیة 23 من سورة الأعراف: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَکُونَنَّ مِنَ الخاسِرِینَ» . کما استدل البعض الآخر علی هذا الاعتراف بالتقصیر وطلب المغفرة بالعبارة: «لا إله إلّاأنت سبحانک وبحمدک عملت سوءاً وظلمت نفسی فاغفر لی أنّک خیر الغافرین» (3)وقد ورد مثل هذا المعنی فی بعض الروایات عن الإمام الباقر أو الصادق علیهما السلام. (4)

بینما صرّحت أغلب الروایات بأنّ تلک الکلمات کانت أسماء محمد وعلی وفاطمة والحسن

ص:136


1- 1) نور الثقلین 1 / 60 ( [1]بتلخیص) .
2- 2) التوراة، سفر التکوین، الفصل الثانی، رقم 17.
3- 3) بحار الأنوار 11 / 181. [2]
4- 4) تفسیر نور الثقلین 1 / 67. [3]

والحسین علیهم السلام. فقد جاء فی کتاب الخصال أن ابن عباس قال: سألت النبی صلی الله علیه و آله عن الکلمات التی تلقاها آدم من ربّه فقال صلی الله علیه و آله: «سأله بحق محمد وعلی وفاطمة والحسن والحسین إلّاتبت علیه فتاب اللّه علیه إنّه هو التواب الرحیم» (1).

جدیر ذکره أنّ هذا المعنی مع فارق طفیف قد ورد فی «الدر المنثور» التفسیر الروائی المشهور لدی العامة. (2)کما جاء فی روایة اُخری عن تفسیر الإمام الحسن العسکری علیه السلام أنّ آدم علیه السلام حین ارتکب الخطیئة وطلب المغفرة من اللّه، سأله أن یقبل توبته بعد أن اعترف بذنبه. فقال له الحق سبحانه ألم أعلمک أن تدعونی بمحمد وآل محمد لکل شدة نزلت بک؟ فقال آدم علیه السلام: اللّهم بلی. فقال اللّه: ادعنی بهؤلاء محمد وعلی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام لأقبل عذرک وأعطیک ما ترید. (3)

وفی حدیث آخر عن عائشة عن النبی صلی الله علیه و آله أنّ الکلمات التی تلقاها آدم علیه السلام هی: «اللّهم إنّک تعلم سری وعلانیتی فاقبل معذرتی وتعلم حاجتی فاعطنی سؤلی وتعلم ما فی نفسی فاغفر لی ذنبی اللّهم اّنی أسألک ایماناً یباشر قلبی ویقیناً صادقاً حتی أعلم أنّه لا یصیبنی إلّاما کتبت لی وارضنی بما قسمت لی» (4)

ونری هنا أن لیس هناک من تضارب فی هذه الروایات، فلعل آدم علیه السلام قد تضرع بهذا الدعاء إلی جانب توسله بالنبی وعلی وفاطمة والحسن والحسین علیهم السلام.

وأخیراً فقد فسرها البعض بالحالة المعنویة لآدم علیه السلام ومدی انشداده للّه سبحانه؛ الأمر الذی رافق توسله بالنبی صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام.

وبالطبع فلیس هنالک من منافاة بین عدم علم آدم علیه السلام بهذه الکلمات قبل التعلیم الإلهی مع علمه بالأسماء، لأنّ الاحتمال القوی هو أنّ العلم بالأسماء یعنی العلم والالمام بأسرار الخلیقة وهذا غیر المقولة الاُخری التی تتناول سبل تزکیة النفس وتهذیبها وتدارک التقصیر والسیر إلی اللّه تبارک وتعالی.

ص:137


1- 1) کتاب الخصال نقلاً عن تفسیر الثقلین 1 / 68.
2- 2) تفسیر الدر المنثور 1 / 60 (ذیل الآیة 37 من سورة البقرة) .
3- 3) شرح نهج البلاغة للمرحوم الخوئی 2 / 118.
4- 4) تفسیر الدر المنثور 1 / 59. [1]

ص:138

القسم الثانی عشر: بعثة الأنبیاء وعظم مسؤولیتهم

اشارة

«وَ اصْطَفَی سُبْحانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِیاءَ أَخَذَ عَلَی الْوَحْیِ مِیثاقَهُمْ وَعَلَی تَبْلِیغِ الرِّسالَةِ أَمانَتَهُمْ لَمّا بَدَّلَ أَکْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللّهِ إِلَیْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَاتَّخَذُوا الْأَنْدادَ مَعَهُ وَاجْتالَتْهُمُ الشَّیاطِینُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَاقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبادَتِهِ فَبَعَثَ فِیهِمْ رُسُلَهُ وَواتَرَ إِلَیْهِمْ أَنْبِیاءَهُ لِیَسْتَأْدُوهُمْ مِیثَاقَ فِطْرَتِهِ وَیُذَکِّرُوهُمْ مَنْسِیَّ نِعْمَتِهِ وَیَحْتَجُّوا عَلَیْهِمْ بِالتَّبْلِیغِ وَیُثِیرُوا لَهُمْ دَفائِنَ الْعُقُولِ وَیُرُوهُمْ آیاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَمِهادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَمَعایِشَ تُحْیِیهِمْ وَآجالٍ تُفْنِیهِمْ وَأَوْصابٍ تُهْرِمُهُمْ وَأَحْداثٍ تَتابَعُ عَلَیْهِمْ وَلَمْ یُخْلِ اللّهُ سُبْحانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِیٍّ مُرْسَلٍ أَوْ کِتابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لازِمَةٍ أَوْ مَحَجَّةٍ قائِمَةٍ. رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَلا کَثْرَةُ الْمُکَذِّبِینَ لَهُمْ مِنْ سابِقٍ سُمِّیَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ. عَلَی ذَلِک نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَمَضَتِ الدُّهُورُ وَسَلَفَتِ الْآباءُ وَخَلَفَتِ الْأَبْناءُ» .

الشرح والتفسیر لقد تحدث الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من خطبته عن قضیة بعث الأنبیاء. وهی المرحلة التی أعقبت مرحلة خلق آدم وممارسة للحیاة علی الأرض، وقد تطرق الإمام علیه السلام بادئ ذی بدء إلی علة بعث الأنبیاء وارسال الرسل، ثم أشار إلی ماهیة مضمون دعوات الأنبیاء ورسالاتهم، إلی جانب استعراض الخطوط الرئیسیة لتعالیمهم وإرشاداتهم، وأخیراً خصائص الأنبیاء وصمودهم أمام الصعاب والمشاکل والأطار العام الذی کان یحکم علاقاتهم فیما بینهم وکیفیة

ص:139

إرتباط بعضهم مع البعض الآخر. فقد استهل کلامه علیه السلام بهذا الشأن قائلاً: «واصطفی سبحانه من ولده أنبیاء أخذ علی الوحی میثاقهم (1)وعلی تبلیغ الرسالة أمانتهم» .

وعلی هذا الأساس فانّ الأنبیاء قد عاهدوا اللّه منذ بدایة الوحی برعایته وایصاله إلی الناس علی أنّه أمانة وعهد فی أعناقهم.

نعم لقد تقبل الأنبیاء علیهم السلام هذه المسؤولیة العظیمة فجدّوا واجتهدوا فی حملها وایصالها إلی الناس کأمانة وودیعة الهیة. أمّا الحدیث بشأن بعض الاُمور من قبیل: کیف اختار اللّه هذه الصفوة من الأنبیاء، وما حقیقة الوحی، وکیف یوحی للبعض بینما لا یوحی للبعض الآخر منهم، فنوکله إلی موضعه (2).

والواقع هو أنّ العبارة المذکورة إشارة للآیة: «وَ إِذ أَخَذنا مِنَ النَّبِیِّینَ مِیثاقَهُمْ وَمِنْکَ وَمِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِیمَ وَمُوسی وَعِیسی ابْنِ مَرْیَمَ وَأَخَذنا مِنْهُمْ مِیثاقاً غَلِیظاً» (3).

ثم أشار علیه السلام إلی السبب الرئیسی لبعثة الأنبیاء فقال: «لما بدل أکثر خلقه عهد اللّه إلیهم فجهلوا حقّه واتخذوا الأنداد (4)معه واجتالتهم (5)الشیاطین عن معرفته واقتطعتهم عن عبادته» .

فالواقع لقد کانت إنعدام معرفة هؤلاء باللّه سبحانه سبباً لأنّ یهووا فی أودیة الشرک الرهیبة ومن ثم تتلقفهم الشیاطین فتصدهم عن طاعة اللّه وعبادته. أمّا بشأن المراد بهذه العدّة وماهیة العهد الإلهی، فقد أشار أغلب المفسرین وشرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد به میثاق عالم الذر، ویمکن اعتبار ذلک إشارة إلی الفطرة (6)التی تطرق لها الإمام علیه السلام فی عباراته اللاحقة.

ص:140


1- 1) «المیثاق» کما ورد فی صحاح اللغة من مادة «الوثوق» بمعنی الاعتماد علی أمانة الشخص. ومن هنا أطلق علی المیثاق اسم العهد، لأنّه یدعو إلی الاطمئنان والوثوق (طبعاً کان الأصل موثاق ثم بدلت الواو بالیاء) .
2- 2) انظر التفسیر الموضوعی «نفحات القرآن» 7 / 317.
3- 3) سورة الأحزاب / 7. [1]
4- 4) «أنداد» جمع «ند» علی (وزن) ضد بمعنی المثل، وأراد هنا المعبودین من دونه سبحانه وتعالی، بینما قال صاحب المقاییس أنّها تعنی الانفصال والهروب والمخالفة. ولهذا قال اللغویون بأن الند لا یطلق علی کل مثل، بل تطلق علی المثل الذی یتخذ مساراً یخالف آخر فی أعماله وأفعاله کالفرد الذی یماثل آخر إلّاأنّه یحاربه.
5- 5) «اجتال» من مادة «جولان» بمعنی العصر، إلّاأنّها اقترنت بالحرف (عن) فی عبارة الإمام علیه السلام فعنت الانصراف عن الشیء، ومعناها هنا صرفتهم عن قصدهم.
6- 6) لقد ذکر هذا الاحتمال فی الأبحاث المتعلقة بعالم الذر، حیث یمکن أن یکون تفسیرها بالمسائل الفطریة والاستعدادات الإلهیة التی أودعها اللّه الذات الإنسانیة. وللوقوف أکثر علی هذا الموضوع، راجع تفسیر الأمثل 7 / 4. [2]

وبعبارة اُخری فان اللّه قد خلق الإنسان علی هذه الفطرة الطاهرة التی تجعله یتعرف علی حقیقة التوحید فی باطنه ویتطلع إلی الخیر وینبذ الشر. ولو بقیت هذه الفطرة السلیمة علی حالها لحفت العنایات الإلهیة الإنسانیة جمعاء ولهدتها إلی السمو والکمال ولسهل لهم الأنبیاء السبل إلی ذلک الکمال ولقل حجم المسؤولیة التی نهض بعبئها هؤلاء العظام، غیر أن الانحراف عن الفطرة سواء علی مستوی المعارف التوحیدیة لینتهی بالنزوع نحو الشرک والوثنیة وعلی المستوی العملی لیقود الاستسلام إلی الأهواء والشیاطین، قد أدی إلی مواترة بعث اللّه للأنبیاء وتحملهم لتلک المسؤولیات الخطیرة بغیة إعادة البشریة إلی فطرتها الأصلیة، وهذا ما تطرق له الإمام علیه السلام فی العبارات اللاحقة من الخطبة والتی أشار فیها إلی عظم مسؤولیات الأنبیاء وما اتصفوا به من خصال عملیة ومکارم أخلاقیة. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی فلسفة بعثة الأنبیاء فقال: «فبعث فیهم رسله وواتر (1)إلیهم أنبیائه لیستادوهم میثاق فطرته ویذکروهم منسی نعمته ویحتجوا علیهم بالتبلیغ ویثیروا لهم دفائن العقول» .

فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أشار إلی أربعة أهداف رئیسیة تقف وراء بعث الأنبیاء. أولها: طلب أداء میثاق الفطرة فقد ذکرنا أن اللّه سبحانه قد أودع المعارف التوحیدیة فطرة الإنسان التی تقوده بصورة طبیعیة - مالم تدنس وتلوث وتتعرف علی الانحراف ودون نشأة صاحبها وولادته علی الشرک بفعل انحداره من والدین مشرکین - إلی عبادة الواحد الأحد وسوف یتطلع إلی الصالحات ویعشق الحق والعدل فی ظل هذه الفطرة السلیمة الموحدة، فقد جاء الأنبیاء لیعیدوا الأفراد المنحرفین إلی هذه الفطرة التوحیدیة المودعة لدیهم.

الهدف الثانی: لتذکیر الناس بنعم اللّه التی اعترتها الغفلة والنسیان، فالإنسان ینطوی علی نعم مادیة ومعنویة جمة ولو استغلها کما ینبغی فانّه سیشید صروح سعادته وفلاحه فی حین سیفقد مثل هذه السعاة إذا ما نساها وتجاهل استعمالها واستغلالها. ومثله کمثل الفلاح

ص:141


1- 1) «واتر» من مادة «وتر» بمعنی الفرد فی مقابل الشفع بمعنی الزوج، وجاءت هنا بمعنی الواحد؛ أی أنّ الأنبیاء قد أتوا الواحد تلو الآخر من أجل هدایة الناس. وقال البعض معناها الموالاة مع الفاصلة، کأن یقال «واتر ما علیه من الصوم» ؛ أی صام یوماً وأفطر آخر، فی قبال «متدارک» الذی یعنی الموالاة دون تخلل الفاصلة.

الذی لا یستفید من المیاه لسقی أشجار حدیقته ولا یقطف ثمار أشجاره حین الحصاد. فاذا ما جاء أحدهم وذکره بهذه النعم المنسیة فانه یکون قد أسدی له أعظم خدمة، وهذا ما ینهض به الأنبیاء.

الهدف الثالث: اتمام الحجة علی الناس من خلال الأدلة العقلیة - إلی جانب المسائل الفطریة - وإرشادهم إلی الکمال فی ظل التعالیم السماویة والأوامر والأحکام الشرعیة.

الهدف الرابع: «یثیروا لهم دفائن العقول» لیکشفوا للناس کنوز العلوم والمعارف الکامنة فی عقولهم، فقد أودع اللّه هذه العقول کنوزاً عظیمة قیمة لو ظهرت واستغلت لشهدت العلوم والمعارف نهضة عظیمة وجبارة، غیر أن هذه الکنوز اختفت واستترت اثر هذه الغفلة والتعالیم الفاسدة والذنوب والمعاصی والتلوث الأخلاقی، ومن هنا فان إحدی وظائف الأنبیاء تکمن فی ازالة هذه الحجب واثارة تلک الکنوز المفعمة بالعلوم والمعارف.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی الهدف الخامس فی استعراض الآیات الإلهیة للناس فی عالم الخلقة فقال علیه السلام: «ویروهم آیات المقدرة» ثم یشیر علیه السلام إلی هذه الآیات فیقول: «من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع ومعایش تحییهم وآجال تفنیهم وأوصاب (1)تهرمهم (2)وأحداث تتابع علیهم» .

والواقع هی أنّ هذه الاُمور تمثل سلسلة من أسرار الخلقة فی السماء والأرض وعوامل الحیاة وأسباب الفناء والألم والعناء والتی تذکر کل واحدة منها الإنسان باللّه سبحانه وتعالی إضافة إلی الحوادث والوقائع التی تدعو الإنسان إلی الیقظة والاعتبار، وعلیه فان الأنبیاء یحملون إلی الناس تعالیم سامیة ومفاهیم نبیلة من شأن کل منها رفع المستوی العلمی والمعرفی لدی الإنسان أو ایقاظه من غفلته وجعله یتحلی بالفطنة والذکاء. ثم قال علیه السلام: «ولم یخل اللّه سبحانه خلقه من نبی مرسل أو کتاب منزل أو حجة لازمة أو محجة قائمة» . فالعبارة

ص:142


1- 1) «أوصاب» من مادة «وصب» بمعنی مرض مزمن، والواصب یطلق علی الشیء الموجود دائماً حسب المفردات، وجاءت هنا بمعنی المتاعب والمشاکل والمعاناة.
2- 2) «تهرمهم» من مادة «هرم» علی وزن حرم بمعنی الکهولة والعجز.

تشیر إلی أربعة مواضیع لا یعدم الوجود بعضها طرفة عین أبدا؛ الأمر الذی یتمّ الحجة علی الناس.

1 - وجود الأنبیاء - سواء من کان له کتاب سماوی أم لم یکن - الذی یتضمن هدایة البشریة وانتشالها من غفلتها واتمام الحجة علیها.

2 - الکتب السماویة المتداولة بین الأمم رغم وفاة الأنبیاء الذین أتوا بها.

3 - الأوصیاء وأئمة العصمة والذین عبر عنهم الإمام علیه السلام بقوله «حجة لازمة» . وهناک من احتمل أنّ المراد بالحجة اللازمة دلیل العقل، لکن یبدو هذا الاحتمال مستبعداً لأنّه لا یکفی فی هدایة الناس، ولا مانع من الجمع بینهما فی هذه العبارة.

4 - سنة الأنبیاء والأوصیاء والأئمة والتی عبر عنها بالمحجة القائمة، حیث عنوا المحجة بالطریق الواضح والمستقیم - سواء الظاهری أو الباطنی - الذی یوصل الإنسان إلی هدفه المنشود (1)وبهذا فان الحق سبحانه قد أتم حجته علی کافة الاُمم والمجتمعات البشریة فی جمیع الأعصار والأمصار وأمدهم بأسباب الهدایة، ثم تطرق علیه السلام لخصائص هؤلاء الأنبیاء فقال: «رسل لا تقصر بهم قلة عددهم ولا کثرة المکذبین لهم» . أجل کانوا مثلاً فی الرجولة والأقدام والشجاعة بحیث کان أحدهم یصمد بوجه الآلاف من خصوم الدعوة فیلقی بالنار فتشمله عنایة اللّه ورحمته لیخرج منها سالماً مرفوع الرأس، ویحطم الآخر الاصنام ثم یحتج بالأدلة القاطعة التی تفند عقائدهم الباطلة وتثبت صحة دعواه. کما کان البعض یحاصر من قبل جموع الکفر والشرک بید عزلاء وقد شهر خصومهم سیوفهم فلم یضعفوا ویهنوا ووقفوا بکل صمود وشموخ. والجدیر بالذکر فی خصائص الأنبیاء التأکید هنا علی صمودهم وشهامتهم. ثم یواصل علیه السلام حدیثه عن الأنبیاء وکیفیة ارتباط بعضهم بالبعض الآخر ووحدة رسالتهم وهدفهم فقال: «من سابق سمی له من بعده أو غابر (2)عرفه من قبله» . فقد حدد علیه السلام فی هذه العبارة اسلوب من أسالیب التعرف علی الأنبیاء فی أن یقوم نبی ببشارة قومه

ص:143


1- 1) التحقیق فی کلمات القرآن الکریم، مادة الحج.
2- 2) «غابر» من مادة «غبار» و «غبور» بمعنی الشیء المتبقی، ومن هنا یطلق علی الحلیب المتبقی فی الثدی اسم الغبرة، کما یطلق الغبار علی التراب المتبقی فی الهواء، ویقال الغابر للأشخاص والأزمنة الماضیة (راجع المقاییس والمفردات ولسان العرب) .

بالنبی الذی یأتی من بعده وبهذا یعرف النبی من خلال البشارة به. (1)

ثم یشیر علیه السلام إلی ثبوت هذه السنة قائلاً: «علی ذلک نسلت (2)القرون ومضت الدهور وسلفت الآباء وخلقت الأبناء» .

تأمّلات

1 - الأنبیاء بمثابة المزارعین

ما تفیده عبارة أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ القدرة الإلهیة المطلقة قد أودعت الذات الإنسانیة قابلیة کافة أسباب الخیر والصلاح والفلاح، وقد نشرت کافة البذور والریاحین العطرة ساحة قلب الإنسانیة الخصبة. والأنبیاء من جانبهم یقومون بری هذه البذور لتنبت أشجاراً محملة بالثمار والفاکهة فیستثیروا هذه الکنوز الکامنة فی النفس البشریة «لیستأدوهم میثاق فطرته ویذکروهم منسی نعمته. . . ویثیروا لهم دفائن العقول» واستناداً لهذا فان الأنبیاء لا یمنحون الإنسان شیئاً خارجاً عن وجوده، بل ینمون ما لدیه ویظهروا له مکنونه، حتی ذهب البعض إلی أنّ التعالیم والمفاهیم التی تلقی علی الإنسان إنّما تمثل تذکیراً له، فالعلوم والمعارف قد اودعت النفس البشریة وما وظیفة المعلمین - سواء الأنبیاء أو امتداداتهم - سوی إثارة هذه المعارف من خلال تعالیمهم، وکأنّ هذه المعارف مصادر میاه جوفیة تشق طریقها إلی سطح الأرض بعد الحفر والتنقیب ولعل التعبیر بالتذکیر الذی ورد علی لسان الآیات القرآنیة «لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ» و «وَذَکِّرْ فَإِنَّ الذِّکْری تَنْفَعُ المُؤْمِنِینَ» شاهداً علی صحة المعنی الذی أوردناه. والواقع أن هذا البحث متشعب وشامل لا یسعنا استیعابه فی هذه العجالة.

2 - حوادث الاعتبار والیقظة

لقد تضمنت العبارة المذکورة إشارة إلی حقیقة وهی أنّ الأنبیاء وإلی جانب تعلیمهم

ص:144


1- 1) لقد ورد الفعل «سمی» بصیغة المجهول فی بعض نسخ نهج البلاغة وما ذکرناه سابقاً یتفق وهذه النسخة، أمّا إذا ذکر بصیغة المعلوم تصبح العبارة بهذا الشکل «من سابق سمی له من بعده» إلّاانّ الاحتمال الأول أنسب.
2- 2) «نسلت» القرون من مادة «نسل» بمعنی تکاثر الأولاد، والعبارة کنایة رائعة عن توالی القرون وکأن کل قرن قد ولد من القرن السابق.

الناس المعارف الإلهیة الحقة وبیان آیات القدرة وعظمة خالق الوجود، فانهم یلفتون انتباه الناس إلی الحوادث ذات الدروس والعبر من قبیل حلول الأجل وانتهاء العمر وآجال النعم المادیة واستعراض المحن والخطوب والوقائع الشدیدة. فالعبارات الواردة فی الخطبة إشارة اُخری لفلسفة الأحداث الخطیرة التی تنطوی علیها الحیاة البشریة، بحیث لولا هذه الأحداث لغطت البشریة فی سبات عمیق وحجاب من الغفلة یتعذر معه صحوتها وافاقتها من سیادتها. (1)

3 - دور الدین فی الحیاة

الدرس الآخر الذی تعرضت له الخطبة هو دور الدین فی حیاة الإنسان ولولا الأنبیاء لتاهت البشریة فی غیاهب الشرک والوثنیة وعبادة الأصنام ولاستحوذت علیها الشیاطین وحالت دون عبودیتها ومعرفتها باللّه، وذلک لأنّ العقل بمفرده لا یسعه الأخذ بید الإنسان إلی السعادة بعد تجاوز موانع الطریق ومعوقاته.

صحیح أنّ العقل نور خالد إلّاأنّ شعاعه باهت خافت مالم یستند إلی ضیاء الوحی الذی یخترق المکان ولا یقف عند حدود فیهدیه فی اجتیاز ظلمات الطریق. ومن هنا تتضح جسامة الخطأ الذی أصاب البراهمة الذین تنکروا لبعثة الأنبیاء وارسال الرسل. ولو کان العقل یدرک کافة أسرار الإنسان الباطنیة والظاهریة ویحیط بالعلاقة التی تحکم الماضی والحاضر والمستقبل ولا یخطئ فی تشخیصه للأحداث لأمکن القول بالاکتفاء بإدراکه وفهمه لکافة وقائع الحیاة فی هذا العالم والعالم الآخر، غیر أنّ محدودیة هذا الفهم والإدراک وضآلة المعالیم مقارنة بالمجاهیل (وهی المعالیم التی تتسم بالسعة والشمولیة) لا تجعل من الصواب الاستناد إلیها بمفردها.

طبعاً لا ننکر أنّ العقل هو حجة اللّه؛ الأمر الذی أکده الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة، بل تواترت الروایات التی صرّحت بأنّه «الرسول الباطنی» حیث ورد فی الحدیث المروی عن الإمام

ص:145


1- 1) للوقوف علی تفاصیل هذا الموضوع، انظر کتاب نفحات القرآن 4 / 440 فصاعداً.

الکاظم علیه السلام أنّه قال: «إنّ للّه علی الناس حجتین حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الحجة الظاهرة فالرسل والأنبیاء والأئمة علیهم السلام وأمّا الباطنة فالعقول» (1). مع ذلک فرسالة هذا الرسول الباطن محدودة، بینما لیست کذلک رسالة الرسول الظاهر الذی یستند إلی الوحی والعلم الإلهی المطلق. وبناءً علی ما تقدم فقد اتضح الرد علی البراهمة السوفسطائیین الذین یقولون: ما یأتی به الأنبیاء لا یخرج عن حالتین: امّا أن یدرک العقول ما یقوله أو لا یدرک، فان أدرکه العقل فلا حاجة للأنبیاء، وإن لم یدرکه فو لیس بمعقول ولا یمکن قبوله لأن الإنسان لا یقبل قبط ما لایعقل. والإشکال الذی یرد علی هذا الاستدلال هو أن هؤلاء لم یفرقوا بین اللامعقول والمجهول، وکأنّهم تصوروا أنّ العقل یدرک جمیع الأشیاء، والحال لدینا تصنیف ثلاثی بشأن المواضیع المطروحة. فالمواضیع التی تعرض علینا إمّا أن تکن موافقة لحکم العقل أو مخالفة له أو مجهولة. ولا یسعنا هنا إلّاأنّ نقول بکل تأکید أن أغلب الموضوعات من قبیل القسم الثالث؛ أی هی من قبیل المجاهیل التی کرست رسالة الأنبیاء وظیفتها فی هذا المجال. أضف إلی ذلک فغالبنا ما یعترینا هاجس الخطأ والزلل فی إدراکاتنا العقلیة؛ ومن هنا برزت حاجتنا الملحة للأنبیاء، وبعبارة اُخری إلی تأیید العقل بالنقل الذی یسعه منحنا السکینة والاطمئنان فی إدراکاتنا العقلیة ویزیل الوساوس والهواجس ویأخذ بأیدینا إلی السبیل القویم.

4 - لا تخلو الأرض من حجة

لقد أکد الإمام علی علیه السلام علی حقیقة اُخری وهی عدم خلو الأرض من الحجة الإلهیة الظاهریة أو الباطنیة «ولم یخل اللّه سبحانه خلقه من نبی مرسل أو کتاب منزل أو حجة لازمة أو محجة قائمة» والطریف فی کلام الإمام علیه السلام أنّه قرن الکتب السماویة بالأنبیاء والحجج الإلهیة والسیرة المعتبرة. نعم وراء کل کتاب سماوی نبی من أنبیاء اللّه یکشف أسراره ویوضح معالمه ویبیّن أحکامه إلی جانب إجراءه وتنفیذ مفاهیمه، کما یواصل نهجه بواسطة سنته

ص:146


1- 1) أصول الکافی 1 / 16. [1]

واستخلافه للوصی والإمام من بعده لیحفظ رسالته ویواصل نهجه. وهذه من أهم عقائدنا فی هذا المجال، حیث ورد عن إمامنا الصادق علیه السلام أنّه قال: «لو لم یبق فی الأرض إلّااثنان لکان أحدهما الحجة» (1). وهو الأمر الذی أکده أمیر المؤمنین علیه السلام فی قصار کلماته: «اللّهم بلی لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج اللّه وبیناته» (2).

5 - ممیزات الأنبیاء

إنّ الأنبیاء الذین یبعثهم اللّه من أجل هدایة الخلق لیسوا من قبیل الأفراد العادیین، بل یتصفون بجمیع الخصال والممیزات اللازمة لقیامهم بوظیفتهم الرسالیة الخطیرة ومنها البسالة والشجاعة الفائقة فی ابلاغ الرسالة والصمود بوجه خصوم الدعوة من الأقوام الجاهلة والمعاندة والذود عن هذه الرسالة إلی حد الاستماتة والشهادة فی سبیل تحقیق أهداف الرسالة. وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام فی تصدی الأنبیاء لخصومهم والمکذبین والمستهزئین من أعدائهم؛ الأمر الذی یشاهد بوضوح فی تاریخ الأنبیاء ولاسیما خاتمهم المصطفی صلی الله علیه و آله: «رسل لا تقصر بهم قلّة عددهم ولا کثرة المکذبین لهم» . کما أکد القرآن الکریم علی تحلی الأنبیاء بصفتهم مبلغی الرسالات بهذه الصفة: «الَّذِینَ یُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَیَخْشَوْنَهُ وَلا یَخْشَوْنَ أَحَداً إِلّا اللّهَ» (3).

والذی یفهم من عبارة الإمام علیه السلام - کما صرّح بذلک صاحب منهاج البراعة - أن التقیة لاتجوز علی الأنبیاء، ومن هنا یتضح بطلان ما نسبه الفخر الرازی للشیعة الإمامیة من أنّها لا تجوّز علی الأنبیاء حتی إظهار الکفر تقیة. (4)بل الأمر أبعد من ذلک لأنّ التقیة حرام علی الأئمة بل وحتی الأفراد العادیین فی الحالات التی یتعرض فیها الدین للخطر، بعبارة اُخری قد تکون التقیة واجباً وقد تکون حراماً. فاذا کان ترکها یؤدی إلی سفک الدماء دون حلها فهی واجبة،

ص:147


1- 1) الکافی 1 / 179. [1]
2- 2) نهج البلاغة، [2] الکلمات القصار، 147.
3- 3) سورة الأحزاب / 39. [3]
4- 4) منهاج البراعة 2 / 160.

کأن تقع جماعة من المسلمین فی ید الأعداء بحیث یراق دمهم إذا أظهروا إسلامهم، فهنا یجب علیهم اخفاء دینهم کی لا یمکنوا العدو من قتلهم، فی حین قد یؤدی اخفاء الدین والافصاح عن العقیدة أحیاناً إلی ضعف المسلمین وذلتهم، ففی هذه الحالة یحرم علی الأفراد کتم دینهم وعلیهم أن یکشفوا عنها بکل شجاعة مهما کلف الأمر (وما واقعة کربلاء عنک ببعید التی جسد فیها الإمام الحسین وصحبه الکرام حرمة التقیة حفظاً للدین) .

ولما کان کتم الأنبیاء لمعتقداتهم یهدد أصل رسالتهم کانت وظیفتهم ترک التقیة. جدیر ذکره أنّ التقیة لیست من المفاهیم التی تقتصر علی الشیعة أو المسلمین فحسب، بل مفهوم من المفاهیم العقلائیة الذی یدعو الإنسان إلی حفظ نفسه وعدم هدر دمه إذا لم یکن هناک من جدوی لابداء عقیدته. (1)

ص:148


1- 1) راجع کتاب القواعد الفقهیة 1 / 383، قاعدّة التقیة للوقوف بصورة أشمل علی مفهوم التقیة وتقسیمها إلی الأحکام الخمسة (الواجب والحرام والمستحب والمکروه والمباح) والآیات والروایات الواردة بهذا الشأن.

القسم الثالث عشر: بزوغ شمس الإسلام

اشارة

«إِلَی أَنْ بَعَثَ اللّهُ سُبْحانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ اللّهِ صلی الله علیه و آله لِإِنْجازِ عِدَتِهِ وَإِتْمامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَی النَّبِیِّینَ مِیثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ، کَرِیماً مِیلادُهُ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ یَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَهْواءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَیْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِی اسْمِهِ أَوْ مُشِیرٍ إِلَی غَیْرِهِ فَهَداهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ وَأَنْقَذَهُمْ بِمَکانِهِ مِنَ الْجَهالَةِ ثُمَّ اخْتارَ سُبْحانَهُ لِمُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله لِقاءَهُ وَرَضِیَ لَهُ ما عِنْدَهُ، وَأَکْرَمَهُ عَنْ دارِ الدُّنْیا وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مَقامِ الْبَلْوَی فَقَبَضَهُ إِلَیْهِ کَرِیماً صلی الله علیه و آله وَخَلَّفَ فِیکُمْ ما خَلَّفَتِ الْأَنْبِیاءُ فِی أُمَمِها إِذْ لَمْ یَتْرُکُوهُمْ هَمَلاً بِغَیْرِ طَرِیقٍ واضِحٍ وَلا عَلَمٍ قائِمٍ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذا القسم من الخطبة إلی أربعة اُمور:

1 - قضیة بعثة نبی الإسلام محمد صلی الله علیه و آله وبعض خصائصه وصفاته وفضائله وعلائم نبوته.

2 - الوضع الذی کانت تعیشه الاُمّة أبان انبثاق الدعوة الإسلامیة من حیث الانحرافات الدینیة والعقائدیة وانقاذها من تلک الظلمات بنور رسالة النبی صلی الله علیه و آله.

3 - رحیل النبی صلی الله علیه و آله من الدنیا.

4 - الارث الذی خلفه النبی صلی الله علیه و آله للاُمّة (القرآن الکریم) .

ص:149

فقد قال علیه السلام: «إلی أن بعث اللّه سبحانه محمداً صلی الله علیه و آله لانجاز (1)عدته واتمام نبوته (2)» .

ثم أشار إلی شمة من فضائله والمیثاق الذی أخذ من النبیین من قبله بالبشارة به «مأخوذاً علی النبیین میثاقه مشهورة سماته (3)، کریماً میلاده» ولعل العبارة الأخیرة إشارة إلی کرامة آبائه وأجداده، أو برکات ولادته التی عمت أرجاء العالم، فقد صرّحت بعض السیر التأریخیة بتهاوی أوثان الکعبة وانطفاء نار المجوس وجفاف بحیرة ساوة التی کانت تحظی بعبادة بعض الناس وتهدم قصور بعض الجبابرة تزامناً مع الولادة المیمونة للنبی الأکرم صلی الله علیه و آله وکل هذه الأحداث دلالة واضحة علی بدایة عصر جدید بانطلاقة شرارة التوحید والوقوف بوجه کافة مظاهر الشرک والالحاد. ثم قال علیه السلام: «وأهل الأرض یومئذ ملل متفرقة وأهواء منتشرة وطرائف متشتتة بین مشبه للّه بخلقه أو ملحد فی اسمه أو مشیر إلی غیره» .

«ملحد» من مادة «لحد» علی وزن مهد بمعنی الحفرة الواقعة علی جانب ومن هنا اطلق علی مثل هذه الحفرة اسم اللحد، کما أطلق الالحاد علی کل عمل یخرج عن حالة الاعتدال ویجنح نحو الإفراط والتفریط، ومن هنا نعتت الوثنیة والشرک بالالحاد. وعلیه فالمراد بقوله علیه السلام: «ملحد فی اسمه» هو ما أشرنا إلیه سابقاً من نعت الأصنام بأسماء اللّه، علی سبیل المثال کانوا یسمون أحد الأصنام باللات والآخر بالعزی والثالث بمناة، وهی الأسماء التی اشتقت علی التوالی من أسماء اللّه والعزیز والمنان، أو أن یکون المراد منها اضفاء صفات اللّه علی المخلوقین، ولا مانع من الجمع بین التفسیرین. ثم قال علیه السلام: «فهداهم به من الضلالة وانقذهم بمکانه من الجهالة، ثم اختار سبحانه لمحمد صلی الله علیه و آله لقائه، ورضی له ما عنده، وأکرمه عن دار الدنیا ورغب به عن مقام البلوی» (4).

ص:150


1- 1) «انجاز» من مادة «نجز» علی وزن رجز بمعنی الانهاء وتحقیق الشیء.
2- 2) الضمیر فی (نبوته) یعود إلی النبی، أمّا الضمیر فی (عدته) ففیه احتمالان: أن یکون عائداً علی اللّه أو عائداً علی النبی، إلّاأنّ الأول أنسب، وذلک لأن بعثة النبی کانت وعداً إلهیاً وعد بها نبی اللّه إبراهیم الخلیل علیه السلام وسائر الأنبیاء، کما یحتمل أن یکون الضمیران عائدین للّه سبحانه.
3- 3) «سماته» جمع «سمة» بمعنی العلامة.
4- 4) إذا تعدت رغب بحرف فی عنت الرغبة فی الشیء والاقبال علیه، بینما تعنی العزوف عن الشیء والانصراف عنه، حیث یکون معنی العبارة أن اللّه لم یرد لنبیه أن یعیش صعاب الدنیا أکثر من هذا الحد، فقبضه من هذا العالم الدنی لیضمه إلی جواره فی العالم العلوی.

أجل فقد قبضه إلیه قبض اختیار وکرامة «فقبضه إلیه کریماً صلی الله علیه و آله» وقد ورث أمته ما ورثت الأنبیاء من قبله اُممها «وخلف فیکم ما خلفت الأنبیاء فی اُممها» - فالأنبیاء لم یترکوا اُممهم من بعدهم سدی، بل أضاءوا له معالم الطریق ونصبوا علیهم الحجج «إذ لم یترکوهم هملاً» (1)بغیر طریق واضح ولا علم قائم» . من البداهة أن یکون مراد الإمام علیه السلام من هذه العبارة ما ورد فی حدیث الثقلین الذی تواترت الروایات بشأنه حیث قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إنّی مخلف فیکم الثقلین: کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی أبداً وقد نبأنی اللطیف الخبیر إنّهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض» . (2)

وبالطبع فانّ الإمام علیه السلام واصل حدیثه فی بحث جامع عن کتاب اللّه (القرآن الکریم) إلّاأنّه لم یتطرق إلی العترة، حیث تعرض بصورة مفصلة - کما سنشیر لاحقاً - إلی العترة فی عدّة خطب من نهج البلاغة. ولعل عبارته علیه السلام: «علم قائم» فی آخر کلامه إشارة إلی الأوصیاء. علی کل حال فان حرص الأنبیاء علی اُممهم لم یقتصر علی حیاتهم، بل کانوا قلقین علی مستقبلهم إلی حد یفوق قلق الوالد الشفیق حال احتضاره علی ولده الصغیر؛ ومن هنا یتعذر تصور ترک الأنبیاء لاممهم دون استخلافهم لأوصیاءهم علیهم لکی لا تذهب مساعیهم فی إرشاد الاُمّة وهدایتها أدراج الریاح.

تأمّلان

1 - الأدیان قبل البعثة البنویة

لقد تضمنت عبارته علیه السلام إشارات مقتضبة عمیقة المعنی بشأن أدیان العرب وغیر العرب فی العصر الجاهلی وقبل البعثة النبویة. بحیث صرّح المؤرخون والمحققون بأنّ العرب وعلی غرار سائر الأقوام کانت تعیش عدّة أدیان ومذاهب لا یحصی عددها إلی جانب الانحرافات والخرافات الجمة. وقد قال ابن أبی الحدید - الشارح المعروف لنهج البلاغة - بشأن أدیان

ص:151


1- 1) «هملاً» من مادة «همل» علی وزن حمل بمعنی ترک الشیء إلی جانب اهماله وعدم الاهتمام به.
2- 2) راجع کتاب «نفحات القرآن» المجلد التاسع [1]للوقوف علی أسناد حدیث الثقلین [2]وتواتره عند علماء الفریقین.

العرب فی الجاهلیة: فأمّا الاُمّة التی بعث النبی محمد صلی الله علیه و آله فیها فهم العرب، وکانوا أصنافاً شتی، فمنهم معطلة ومنهم غیر معطلة، فأمّا المعطلة منهم، فبعضهم أنکر الخالق والبعث والاعادة، وقالوا ما قال القرآن العزیز عنهم: «ما هِیَ إِلّا حَیاتُنا الدُّنْیا نَمُوتُ وَنَحْیا وَما یُهْلِکُنا إِلّا الدَّهْرُ» (1)فجعلوا الجامع لهم الطبع، والمهلک لهم الدهر. وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وأنکر البعث. وهم الذین أخبر سبحانه عنهم بقوله: «قالَ مَنْ یُحْیِ العِظامَ وَهِیَ رَمِیمٌ» (2).

ومنهم من لا یطلق علیها لفظ الشریک، ویجعلها وسائل وذرائع إلی الخالق سبحانه، وهم الذین قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِیُقَرِّبُونا إِلی اللّهِ زُلْفی» (3). وکان فی العرب مشبهة ومجسمة، منهم أمیة بن الصلت، وهو القائل:

من فوق عرش جالس قد حط رجلیه إلی کرسیه منصوب وذهب بعض متکلمی المجسمة إلی أنّ البارئ تعالی مرکب من أعضاء علی حروف المعجم. وقال بعضهم: إنّه ینزل علی حمار فی صورة غلام أمرد، فی رجلیه نعلان من ذهب، وعلی وجهه فراش من ذهب یتطایر. وقال بعضهم: إنّه فی صورة غلام أمرد صبیح الوجه، علیه کساء أسود، ملتحف به. (4)

وأمّا الذین لیسوا بمعطلة من العرب؛ فالقلیل منهم، وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرج عن القبائح کعبد اللّه، وعبد المطلب وابنه أبی طالب، وزید بن عمرو بن نفیل، وقس بن ساعدّة الابادی، وعامر بن الظرب العدوانی وجماعة غیر هؤلاء. (5)أمّا البعض الآخر من شرّاح نهج البلاغة فقد صنفوا علماء العرب إلی عدّة طوائف منهم العارفین بالانساب، ومفسری الأحلام ومتخصصین فی علم الأنواء (نوع من التنجیم المشوب بالخرافات) والکهنة الذین یوحون إلی الناس بأنّهم یخبرون عن مغیبات المستقبل. أمّا من غیر العرب کان البراهمة الذین عاشوا فی الهند ینکرون کافة الأدیان ولا یؤمنون سوی بالأحکام العقلیة. وطائفة اُخری من عبدة الکواکب والشمس والقمر التی تمثل أنواعاً من الوثنیة (6).

ص:152


1- 1) سورة الجاثیة / 24. [1]
2- 2) سورة یس / 78. [2]
3- 3) سورة الزمر / 3. [3]
4- 4) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 3 / 227. [4]
5- 5) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 117. [5]
6- 6) شرح نهج البلاغة لابن میثم 1/205.

وإلی جانب هذه الطائفة هناک الیهود والنصاری والمجوس. وقد شهدت کل طائفة منهم انحرافاً عقائدیاً، فالمجوس قالت باله الخیر والشر. وقد انطوت المجوسیة - التی قد تکون فی بدایتها منسوبة لبعض الأنبیاء - علی خرافات جمة حتی ذهب بعض المحققین إلی أنّهم یعتقدون باله الخیر واله الشر الذین تقاتلا حتی تدخلت الملائکة فأصلحت ذات بینهما بشرط تفویض العالم السفلی لاله الشر مدّة سبعة آلاف سنة (ویفوض العالم العلوی لاله الخیر) . (1)

بینما ابتلیت النصرانیة بالتثلیث (الأقانیم الثلاث) کما حرفت الیهود کتاب التوراة وشحنته بالانحرافات والخرافات التی لا یسعنا الخوض فیها فی هذه الابحاث. فقد أوجز الإمام جمیع هذه الطوائف فی ثلاث: الاولی: المشبهة التی جعلت للّه شریکاً، کالمجوس والنصاری، أو أولئک الذین یجعلون للّه صفات المخلوقین کالیهود. الثانیة: أولئک الذین عدلوا باسمه إلی غیره کأغلب الوثنیین الذین أسموا أوثانهم بأسماء اللّه سبحانه فجعلوهم شفعائهم عند اللّه. الثالثة: أولئک الذین عبدوا غیر اللّه کالدهریة التی تعتقد بأنّ الطبیعة هی خالقة الوجود، أو عبدة الأصنام والکواکب والشمس والقمر التی تری الاصالة للکواکب والأصنام؛ أی تراها هی اللّه.

أجل لقد بعث رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی ظل هذه الأوضاع لیحمل مشعل الهدایة ویضیء الظلمات بنور القرآن. لقد أتی رسول اللّه صلی الله علیه و آله تلک الاُمم بأسمی مفاهیم التوحید وأعظم المعارف والعلوم وأرصن الصفات الإلهیة، حیث جاءهم بالحنیفیة السمحاء الخالیة من الأساطیر والخرافات والانحرافات التی سادت سائر الأدیان، ولم تهدف قوانینه وتعالیمه سوی إلی حمایة المحرومین والمستضعفین وبسط العدل والقسط وحتی أوجز القرآن الکریم وظیفته فی انقاذ الاُمّة من الضلال المبین وتعلیمها الحکمة وتهذیب نفوس أبناءها: «هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ» (2).

ص:153


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم، 1 / 206.
2- 2) سورة الجمعة / 2. [1]

نعم لقد ظهرت معالم الدین الحق بظهور هذا النبی الکریم وانهارت الأساطیر والخرافات لتشهد البشریة عصرها الجدید؛ الحقیقة التی أذعن لها الأعداء فضلاً عن الأصدقاء والفضل ما شهدت به الأعداء. فقد تناول الکاتب الانجلیزی المعروف «برناردشو» هذا الأمر لیصف دین محمد بأنّه الدین الوحید الذی یصلح لقیادة البشریة ویتکیف مع حیاتها علی مدی التأریخ بحیث یسعه استقطاب جمیع الشعوب والأقوام، کما ذهب إلی القول بأن محمد منقذ البشریة جمعاء ولو قدر لزعیم علی غراره أن ینهض بقیادة العالم الیوم لتغلب علی کافة المشاکل التی تعانی منها الإنسانیة ولقادها إلی السعادة والسلام، فمحمد أکمل إنسان عرفه الماضی والحاضر ولا یتصور أن یجود الزمان بمثله فی المستقبل. (1)

2 - آفاق الأنبیاء المستقبلیة

یستفاد من عبارات الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة أن تفکیر الأنبیاء والرسل لا یقتصر علی عصرهم، بل یفکرون بمستقبل الاُمّة ومصیرها بعد وفاتهم، ومن هنا جهدوا فی تبیین کل مامن شأنه هدایتهم فی المستقبل، فلم یألوا جهداً فی إضاءة معالم الطریق وبیان سبل النجاة. ولا شک أن نبی الإسلام لم یکن بدعا من الرسل فی هذا الشأن. أو یمکن تصور ترکه للاُمّة بعد رحیلها عنها؟ أفکان یسعه وداع الاُمّة وایکالها إلی نفسها دون دلیل علی الطریق؟ أو لیس حدیث الثقلین المتواتر لدی الشیعة والسنة والذی قال فیه: «إنّی مخلف فیکم الثقلین: کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی» نموذج من نماذج إضاءة الطریق للاُمّة من بعده و صونها من اللبس و الانحراف؟

ص:154


1- 1) فی ضلال نهج البلاغة1/63.

القسم الرابع عشر: خصائص القرآن

اشارة

«کِتابَ رَبِّکُمْ فِیکُمْ: مُبَیِّناً حَلالَهُ وَحَرامَهُ وَفَرائِضَهُ وَفَضائِلَهُ وَناسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ وَرُخَصَهُ وَعَزائِمَهُ وَخاصَّهُ وَعامَّهُ وَعِبَرَهُ وَأَمْثالَهُ وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ وَمُحْکَمَهُ وَمُتَشابِهَهُ، مُفَسِّراً مُجْمَلَهُ وَمُبَیِّناً غَوامِضَهُ، بَیْنَ مَأْخُوذٍ مِیثَاقُ عِلْمِهِ وَمُوَسَّعٍ عَلَی الْعِبَادِ فِی جَهْلِهِ وَبَیْنَ مُثْبَتٍ فِی الْکِتابِ فَرْضُهُ وَمَعْلُومٍ فِی السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَواجِبٍ فِی السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَمُرَخَّصٍ فِی الْکِتابِ تَرْکُهُ وَبَیْنَ واجِبٍ بِوَقْتِهِ وَزائِلٍ فِی مُسْتَقْبَلِهِ وَمُبایَنٌ بَیْنَ مَحارِمِهِ مِنْ کَبِیرٍ أَوْعَدَ عَلَیْهِ نِیرانَهُ أَوْ صَغِیرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرانَهُ وَبَیْنَ مَقْبُولٍ فِی أَدْناهُ مُوَسَّعٍ فِی أَقْصاهُ» .

الشرح والتفسیر لقد بحثت أهمیة القرآن الکریم وعظمته کراراً ومراراً فی خطب نهج البلاغة بحیث تناولت کل خطبة جانباً من الجوانب القرآنیة.

وقد أشار الإمام علیه السلام بشکل جامع إلی شمولیة القرآن وخطوطه العریضة فی هذه العبارات، فقد هدف الإمام علیه السلام لبیان حقیقة مهمّة وهی أن رسول اللّه صلی الله علیه و آله رحل عن الاُمّة بعد أنّ ورثها کتاب اللّه الذی نظم جمیع شؤون حیاة الاُمّة المادیة والمعنویة؛ الفردیة والاجتماعیة فی کافة المیادین والمجالات؛ فقد قال علیه السلام: «کتاب ربّکم فیکم» (1)ثم أشار علیه السلام إلی أربعة عشر نقطة بشأن شمولیة القرآن وخصائصه:

ص:155


1- 1) کتاب منصوب بصفته عطف بیان للحرف مافی الجملة (خلف فیکم ما خلفت الأنبیاء) أو أنّه مفعول لفعل تقدیره (خلف) أو (أعنی) .

1 - اتضاح الحلال والحرام والواجب والمستحب «مبیناً حلاله وحرامه وفرائضه وفضائله» . والعبارة إشارة إلی الأحکام الإسلامیة الخمس المعروفة، فالفرائض إلی تشیرالواجبات، والفضائل إلی المستحبات، والحرام إلی المحرمات وأخیراً الحلال الذی یشمل المباحاة والمکروهات. (1)

2 - بیان الناسخ والمنسوخ «وناسخه ومنسوخه» .

المراد بالناسخ والمنسوخ الأحکام الجدیدة التی تزیل الأحکام القدیمة والتی تقتصر علی عصر الرسالة حین نزول الوحی الذی کان یعنی إمکانیة تغییر الأحکام. فبعض الأحکام وإن کانت مطلقة فی ظاهرها، غیر أنّها مقیدة باطنیاً ومختصة بزمان معین، فاذا انتهی ذلک الزمان نفد حکمها بحکم جدید آخر یطلق علیه اسم الناسخ من قبیل التصدق قبل مناجاة النبی صلی الله علیه و آله: «یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا إِذا ناجَیْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقَةً» (2). فقد کان هذا الأمر امتحاناً للمسلمین لم یعمل به سوی أمیر المؤمنین علیه السلام حتی نسخ بقوله تعالی: «أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَیْنَ یَدَیْ نَجْواکُمْ صَدَقاتٍ فَإِذ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَیْکُمْ فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّکاةَ وَأَطِیعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَاللّهُ خَبِیرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (3).

3 - «ورخصه وعزائمه» . فلعل هذه العبارة إشارة إلی ما تعارف الیوم فی علم الفقه والأصول بأن حکم الواجب أو الحرام إذا رفع قد یستبدل بحکم الاباحة کقوله: «وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» (4). فمن المسلم به أنّ الصید لیس واجباً بعد الخروج من الاحرام، بل مباح، وأحیاناً یستبدل بحکم ضده، کقوله: «وَ إِذا ضَرَبْتُ فِی الأَرضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» (5)ومعلوم أنّ صلاة القصر فی السفر واجبة لیست مباحة، فیقال للاولی

ص:156


1- 1) وردت کلمة «مبیناً» بصیغة اسم الفاعل وهی حال لفاعل خلق (أی الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله) والضمیر فی حلاله وحرامه و. . یعود علی القرآن بینما ذهب بعض شرّاح النهج إلی أن مبیناً وسائر الأوصاف التی وردت لاحقاً من قبیل مفسراً هی حال لکتاب اللّه، والضمائر فی حلاله وحرامه و. . . تعود إلی کتاب اللّه أو ربّکم، إلّاانّ القول الأول أنسب.
2- 2) سورة المجادلة / 12. [1]
3- 3) سورة المجادلة / 13. [2]
4- 4) سورة المائدة / 2. [3]
5- 5) سورة النساء / 101. [4]

رخصة وذلک لجواز طرفی العمل ویقال للثانیة عزیمة حیث یجب علی المکلف جزم عزمه بالعمل. وهنالک إحتمال آخر فی تفسیر هاتین المفردتین، کأن یکون المراد بالرخص الأحکام الواجبة أو المحرمة التی استثنیت فی بعض الموارد من قبیل قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَیْهِ» (1). أمّا العزائم فهی الأحکام التی لا سبیل إلی الاستثناء الیها، کقوله: «وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلا تُشْرِکُوا بِهِ شَیْئاً» (2).

4 - «وخاصه وعامه» ، فالخاص هو الحکم الذی لا یشمل کافة المسلمین کحکم الحج الذی یختص بمن له الاستطاعة «وَلِلّهِ عَلی النّاسِ حِجُّ البَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً» (3)والعام هو الحکم الذی یشمل جمیع المسلمین کاقامة الصلاة «وأقیموا الصلاة» . وقیل أیضاً بأ المراد بالخاص الآیات التی لها ظاهر عام غیر أنّ المراد بها حالة خاصة کآیة الولایة: «إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَهُمْ راکِعُونَ» (4). حیث نعلم بوجود مصداق واحد لهذه الآیة فقط وهو أمیر المؤمنین علی علیه السلام.

أمّا العام فیراد به الآیات ذات العموم والتی تشمل الجمیع کقوله عز وجل: «وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمْا» (5).

5 - «وعبره وأمثاله» ، عبر من مادة عبرة وقد اشتقت من العبور، ولذلک یصطلح بالعبرة علی الحادثة التی تعرض للإنسان ویتخطاها، والقرآن الکریم ملیء بالدروس والعبر بشأن تواریخ الأنبیاء والأمم السالفة حیث تتضمن کل حادثة من تلک الحوادث المعانی والدروس للقیمة التی تستفیدها البشریة فی مسیرتها الحیاتیة.

أمّا الأمثال فقد تکون إشارة إلی الأمثال التی وردت فی القرآن الکریم بتلک الکثرة من قبیل: «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً کَلِمَةً طَیِّبَةً کَشَجَرَةٍ طَیِّبَةٍ» (6)، کما یمکن أن تکون إشارة إلی بعض

ص:157


1- 1) سورة البقرة / 173. [1]
2- 2) سورة النساء / 36. [2]
3- 3) سورة آل عمران / 97. [3]
4- 4) سورة المائدة / 55. [4]
5- 5) سورة المائدة / 38. [5]
6- 6) سورة إبراهیم / 24. [6]

الأفراد الذین أصبحت سیرتهم وحیاتهم مثلاً یحتذی به کقوله عز من قائل: «وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لِلَّذِینَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِی عِنْدَک َ بَیْتاً فِی الجَنّةِ وَنَجِّنِی مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِی مِنَ القَوْمِ الظّالِمِینَ» (1).

6 - کما بیّن القرآن أحکام المطلق والمقیّد «ومرسله ومحدوده» فالمطلق الأحکام التی بیّنت دون قید أو شرط کقوله سبحانه: «وَأَحَلَّ اللّهُ البَیْعَ» (2)وأمّا المقید فهو الحکم الذی وضعت له بعض القیود والحدود کقوله: «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْکُمْ» (3).

ومن الواضح أنّ الجمع بین المطلق والمقیّد یتطلب منا تقیید المطلق بواسطة المقیّد، ففی المثال المذکور لا تصح المعاملة إلّابتراضی الطرفین. ویمکن أن یکون المراد بالمطلق الأحکام الخالیة من القیود والشروط، فی حین الأحکام المقیّدة هی الأحکام المحدّدة بالقیود والشروط من قبیل کفارة القسم التی جاء فیها «أَوْ تَحْرِیرُ رَقَبَةٍ» (4)، بینما جاء فی کفارة القتل الخطأ «فَتَحْرِیرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» (5).

7 - «ومحکمه ومتشابهه» . فالمراد بالمحکم الآیات الواضحة الدلالة التی لا تحتمل سوی وجه واحد کقوله سبحانه: «قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ» بینما تحتمل الآیات المتشابهة عدّة وجوه، وإن أمکن بیانها من خلال سائر الآیات القرآنیة کقوله: «إِلی رَبِّها ناظِرَةٌ» (6)حیث یزال ابهام هذه الآیة وغموضها من خلال الآیات التی نزهت اللّه عن المکان والزمان والجهة والجسم والرؤیة وما إلی ذلک کقوله: «لا تُدْرِکُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الأَبْصارَ» (7).

8 - من الخصائص الاُخری هی بیان لمجمل القرآن وغوامضه من خلال السنّة النبویة «مفسراً مجمله ومبیناً غوامضه» . فالمجمل الآیات التیی تأمر باقامة الصلاة ولم تشر إلی أرکانها وعدد رکعاتها فیقوم النبی صلی الله علیه و آله بشرحها، أمّا المراد بالغوامض الحروف القرآنیة المقطعة

ص:158


1- 1) سورة التحریم / 11. [1]
2- 2) سورة البقرة / 275. [2]
3- 3) سورة النساء / 29. [3]
4- 4) سورة المائدة / 89. [4]
5- 5) سورة النساء / 92. [5]
6- 6) سورة القیامة / 23. [6]
7- 7) سورة الانعام / 103. [7]

والتی بیّنت بواسطة الأحادیث النبویة. ولعل الفارق بین الغوامض والمتشابهات هو أن المتشابهات تنطوی علی معان ومفاهیم للوهلة الاولی بینما یکتنف الاولی الابهام کالمثال السابق.

9 - هناک بعض الحقائق القرآنیة التی أخذ المیثاق علی معرفتها ولا یعذر أحد بجهلها فی حین یعذر فی بعضها الآخر: «بین مأخوذ میثاق علمه وموسع علی العباد فی جهله» فالحقائق التی لا یعذر أحد بجهلها من قبیل آیات التوحید والصفات الإلهیة التی تجب معرفتها علی جمیع المؤمنین، والثانیة من قبیل الذات الإلهیة التی لیس لأحد من سبیل إلی معرفتها وکذلک مسألة المعاد والقیامة التی ینبغی الإیمان بها، فی حین لیست هنالک من ضرورة للإلمام بالتفاصیل المتعلقة بالجنّة والنار.

10 - وهناک بعض الأحکام القرآنیة المختصة بزمان معیّن والتی نسختها السنّة النبویة «وبین مثبت فی الکتاب فرضه ومعلوم فی السنّة نسخه» من قبیل عقاب المرأة المحصنة بالحبس المؤبد إذا ارتکبت فاحشة الزنا «وَاللّاتِی یَأْتِینَ الفاحِشَةَ مِنْ نِسائِکُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَیْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْکُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِکُوهُنَّ فِی البُیُوتِ حَتّی یَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ یَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِیلاً» (1)ثم نسخت السنّة النبویة هذا الحکم بالأحادیث التی وردت فی باب رجم المحصنة.

11 - الآیات الناسخة للسنّة بشأن بعض الأحکام التی صرّحت السنّة بالعمل بها بینما أجازت الآیات القرآنیة ترکها «وواجب فی السنّة أخذه ومرخص فی الکتاب ترکه» من قبیل حکم الصوم فی بدایة التشریع حیث لم یکن یسع الصائم الافطار سوی أوائل اللیل، فاذا نام وأفاق لم یجز له تناول شیء من المفطرات، غیر أن هذه السنّة النبویة نسخت فیما بعد بالآیة القرآنیة الشریفة: «. . . وَکُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الخَیْطُ الأَبْیَضُ مِنَ الخَیْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ» (2).

12 - الأحکام الواجبة لبعض الأوقات «وبین واجب بوقته وزائل فی مستقبله»

ص:159


1- 1) سورة النساء / 15. [1]
2- 2) سورة البقرة / 178. [2]

فالعبارة تشیر إلی الواجب المؤقت وغیر المؤقت؛ الواجب المؤقت من قبیل صوم شهر رمضان وارتفاعه فی غیر هذا الشهر، خلافاً للتکالیف الدائمیة کالأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وإقامة الحق والعدل الواجبة علی الدوام (1). وذهب البعض إلی أنّ العبارة تشیر إلی بعض الواجبات کالحج الذی یجب علی المکلف لمرة واحدة فی العمر ثم یزول، واستدلوا علی ذلک بالهجرة التی وجبت علی المسلمین فی بدایة انبثاق الدعوة الإسلامیة - حیث کان المسلمون یعیشون حالة من المحدودیة - ثم زال هذا الوجوب بعد فتح مکة، وإن کانت الهجرة علی حالها إلی یومنا هذا فی المناطق التی تشهد الحالة المکیة قبل الهجرة.

13 - فرز أنواع المحرمات عن بعضها وبیان کل واحدة منها فی إشارة إلی الکبائر التی توعد اللّه مرتکبیها والصغائر التی وعد بمغفرتها «ومباین (2)بین محارمه من کبیر أوعد علیه نیرانّه أو صغیر أرصد له غفرانه» فالکبائر من قبیل الشرک وقتل النفس التی صرّحت الآیات القرآنیة بتوعد مرتکبیها بالعذاب، فقد ورد فی الآیة 72 من سورة المائدة بخصوص الشرک «وَمَنْ یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَیْهِ الجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ» وفی الآیة 93 من سورة النساء بشأن قتل النفس «وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فیها» وأمّا الصغائر فمن قبیل اللمم الواردة فی الآیة 32 من سورة النجم «الَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبائِرَ الإِثْمِ وَالفَواحِشَ إِلّا اللَّمَمَ» حیث ذهب بعض المفسرین إلی أنّ المراد باللمم انعقاد النیة علی المعصیة دون الإتیان بها أو المعاصی عدیمة الأهمیة.

14 - الأعمال التی یقبل القلیل منها وورد الحث علی کثیرها «وبین مقبول فی أدناه، موسع فی أقصاه» . فالعبارة تشیر إلی الأعمال التی ورد التأکید علی الإتیان بقلیلها وللاُمّة الاتیان بالمزید.

وقد استدل بعض شرّاح نهج البلاغة علی ذلک بتلاوة القرآن «فَاقْرَءُوا ما تَیَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ» (3). فقراءة الیسیر من القرآن مؤکدة وترک للناس قراءة الکثیر (وهذا ما نلمسه

ص:160


1- 1) هناک محذوف فی هذه العبارة، ففی الحالة الثانیة یکون تقدیر العبارة کالآتی: «وبین ما یکون واجباً دائما» .
2- 2) مباین خبر لمبتدأ محذوف تقیر الجملة هو مباین، والضمیر هو یعود إلی الکتاب، وهنالک إحتمال آخر إلّاأنّ الذی أوردناه هو الأنسب.
3- 3) سورة المزمل / 20. [1]

بوضوح فی أواخر سورة المزمل) . وبالمقابل هنالک الأحکام الإلزامیة التی لا یسیر ولا کثیر فیها من قبیل صوم شهر رمضان، حیث یلزم المکلف بصوم شهر معیّن دون زیادة أو نقیصة (الآیات 183 إلی 185 من سورة البقرة) .

تأمّلات

1 - شمولیة القرآن

المسألة الاولی التی تطالعنا فی کلام الإمام علیه السلام شمولیة القرآن الکریم، أو بعبارة اُخری اعجاز القرآن من حیث المضمون؛ لأن خاض من خلال النقاط الأربعة عشر بشأن القرآن فی تفاصیله الدقیقة وتنوع مضامینه علی جمیع المستویات فی إطار تلبیته لمتطلبات الإنسان و احتیاجاته من حیث الاُمور العقائدیة والقضایا العلمیة والأخلاقیة والأحکام الواجبة والمحرمة والعلاقة القائمة بین القرآن والسنة والأحکام الثابتة والمؤقتة والعام والخاص والمطلق والمقیّد والناسخ والمنسوخ، حیث یفید تأمل هذه الاُمور مدی حساسیة المضامین القرآنیة المدروسة والتی تنسجم ومتطلبات الإنسانیة. فالمضامین الرصینة الدقیقة والعمیقة المتنوعة والشاملة - کما أشرنا إلی ذلک فی بحث اعجاز القرآن - تمثل أحد أبعاد اعجاز القرآن فأدنی لإنسان اُمی تربی فی وسط الجهل والظلام أن یأتی بمثل هذا الکتاب مکتفیاً بما یملیه علیه فکره دون الاستناد إلی فیوضات الغیب والوحی؛ الکتاب الذی غص بالدروس والعبر والأمثال الرائعة البلیغة والأحکام الجامعة والمعارف الجمة العمیقة. والطریف فی الأمر أنّ الإمام علیه السلام بهذا البیان القصیر قد استعرض دورة جامعة فی الاُصول الفقهیة وأشار إلی موضوعات واسعة لم تتکامل فی علم الاُصول إلّابعد قرون طویلة، ثم فصل الأحکام عن بعضها البعض لیمیط اللثام عن القواعد المتعلقة بالحلال والحرام والناسخ والمنسوخ والرخصة والعزیمة والخاص والعام والمطلق والمقید والمحکم والمتشابه والمجمل والمبین والمؤقت وغیر المؤقت والواجب والمستحب المؤکد والمستحب غیر المؤکد.

2 - من عنده علم الکتاب؟

یفهم من عباراته علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله موظف بتبیین بعض مجملات القرآن الکریم وإزالة

ص:161

غوامضه بما لا یدع لأحد من مجال للشک، ولهذا قال القرآن المجید: «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» (1). قد یقتدح فی الأذهان سؤالاً: کیف یحتاج القرآن إلی تفسیر مجمله وإزالة غوامضه وتبیین مبهمه وقد نزل هدایة للناس ولابدّ للعامة من فهمه وإدراکه؟

وللإجابة علی هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلی أمرین:

الأول: إن القرآن بفضله یتضمن سلسلة من القوانین والأحکام الإسلامیة لا یسعه أن یخوض فی التفاصیل، فهو یشیر إلی هذه القوانین علی نحو العموم بینما یفوض شرحها والخوض فی تفاصیلها إلی النبی صلی الله علیه و آله. علی سبیل المثال فقد وردت أحکام الصلاة والحج والصوم وبعض کلیاتها فی القرآن الکریم، ونعلم جمیعاً أنّ هذه العبادات تشتمل علی شرائط وارکان وفروع کثیرة یحتاج شرح کل رکن منها إلی کتاب مستقل، بل هناک الاُمور التی تتطلب عدّة مجلدات من قبیل الاُمور المرتبطة بالمعاملات والقضاء والحدود والشهادات والسیاسات الإسلامیة بصورة عامة.

الثانی: أنّ حاجة الاُمّة للنبی صلی الله علیه و آله فی تبیین المبهمات وتفسیر المجملات تؤدی إلی تعزیز إرتباطها بالسنّة النبویة؛ الارتباط الذی یهدیها وینیر معالم طریقها فی جمیع المیادین، وبعبارة اُخری فان القرآن لیس بدعاً من الکتب التی یتطلب فهم بعض مواضیعها من قبل الطلاب وجود المعلم، الذی یسعه ایضاح الحقائق لتلامذته من خلال الرابطة السائدة بینهما. وهنا یبدو هذا السؤال: هل یوجد مثل هذا المعلم الإلهی فی الوسط الإسلامی بعد رحیل النبی صلی الله علیه و آله أم لا؟ لاشک. لابدّ أن یستمر وجود مثل هذا المعلم وإلّا بقیت المشاکل علی حالها دون حل وبیان. ومن هنا اعتقدت الشیعة بوجود الإمام المعصوم فی کل عصر والذی لدیه علم الکتاب، وهذا ما یراد بالعترة الواردة فی حدیث الثقلین المتواتر المروی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله، والتی أشار إلی امتناع مفارقتها للکتاب إلی یوم القیامة، فقال صلی الله علیه و آله: «إنّی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه وعترتی ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا أبداً وإنّهما لن یفترقا حتی یردا علیَّ الحوض» (2).

ص:162


1- 1) سورة الحشر / 7. [1]
2- 2) لقد ورد هذا الحدیث بعدة تعابیر فی مصادر الشیعة والسنّة، فراجع احقاق الحق، 9 / 309 - 375؛ [2]بحار الانوار 23 / 118، 132، 133، 134، 155؛ رسالة الثقلین 9. [3]
3 - معیار التمییز بین الکبائر والصغائر

هناک اختلاف بین العلماء بشأن الکبائر والصغائر. فقد اعتبرهما البعض من قبیل الاُمور النسبیة التی تخضع للمقارنة فی أهمیتها، فما کانت أهمیتها کبیرة فهی من الکبائر وما کانت أهمیتها صغیرة فهی من الصغائر (وقد نسب المرحوم الطبرسی فی مجمع البیان هذا القول إلی الشیعة، ویبدو أنّه أراد بعض علماء الشیعة، لأنّ أغلبهم یری غیر ذلک کما سنشیر لاحقاً) . وقال البعض الآخر أنّ الکبیرة کما یتضح من اسمها هی المعصیة الکبیرة حقاً والتی تحظی بأهمیة لدی الشرع والعقل کقتل النفس وغصب حقوق الآخرین والربا والزنا - ولعل هذا هو الدلیل الذی جعل الروایات الواردة عن أهل البیت علیهم السلام تصرح بأنّ المعیار فی الکبائر هو الوعید بالعذاب الإلهی علی ارتکابها، فقد جاء فی الحدیث المعروف الذی روی عن الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا علیه السلام انّه قال: «الکبائر التی أوجب اللّه عز وجل علیها النار» (1)ویتضح ممّا مر معنا أنّ الصغائر مالیست لها مثل هذه الأهمیة. وقد وردت بعض الأحادیث التی أشارت إلی أنّ الکبائر سبع وقیل عشرون.

4 - الناسخ والمنسوخ وفلسفتهما

لعل هذین الحکمین یثیران الجدل والذهول لدی أغلب الناس وتعجبهم من کیفیة اشتمال القرآن علی الآیات الناسخة والمنسوخة (فالمراد باناسخ والمنسوخ هو الحکم الذی یلغی حکماً آخر من قبیل استقبال الکعبة فی الصلاة التی نسخت حکم استقبال بیت المقدس فی الصلاة) . وقد تزول هذه الدهشة والذهول بالنسبة للناسخ والمنسوخ فی القوانین الوضعیة التی یشرعها أفراد البشر؛ لأهم قد یسنون الیوم قانوناً ویکتشفون غداً بعض أخطائه فیعمدون إلی نسخه، ولکن ما بال القوانین التی یشرعها الحکیم سبحانه؟

یمکن خلاصة الإجابة علی السؤال المذکور فی جملة واحدة وهی أنّ علم اللّه المطلق لا یعتریه التغییر قط، غیر أنّ بعض الموضوعات تتغیر بمرور الزمان. علی سبیل المثال قد یکون

ص:163


1- 1) تفسیر نور الثقلین 1 / 473. [1]

هناک دواء هو شفاء لمرض الیوم، إلّاأنّه قد یصبح خطراً ومضاعفاً لذلک المرض بعید مدّة من الزمان. فالطبیب ینصح المریض باستعمال ذلک الدواء إلّاأنّه ینسخه فیما بعد ویحظر استعماله علی المریض. ویصدق هذا الکلام فی الاُمور الدینیة علی القبلة مثلاً. فقد تنطوی الصلاة إلی بیت المقدس یوماً علی منافع ومصالح معینة إذا کانت الکعبة بؤرة للأصنام والأوثان واتخذت لنفسها بعداً قومیاً بحیث یدعو استقبالها فی الصلاة أبان انبثاق الدعوة الإسلامیة إلی بعض المشاکل، فی حین تنتفی هذه المشاکل بالصلاة ثلاث عشرة سنة إلی بیت المقدس. بینما تتحول الکعبة إلی مرکز للتوحید بعید الهجرة إلی المدینة فتنطوی الصلاة إلی جانبها علی مصالح جمة وتنعدم الأضرار.

فالواقع هو أنّ أغلب أحکام النسخ من هذا القبیل؛ وبالطبع فانّ مباحث النسخ واسعة جداً لا یسعها المقام ولذلک نکتفی بهذه الإشارة العابرة إلی فلسفة النسخ. (1)

5 - تأریخ الاُمم الماضیة والأمثال القرآنیة

یشغل تأریخ الاُمم السابقة ولا سیما أنبیاء اللّه حیزاً مهما من القرآن الکریم المفعم بالدروس والعبر والتجارب القیّمة التی تحتذیها البشریة فی کل عصر ومصر؛ الأمر الذی جعل القرآن یتابع حرکة الأنبیاء فی مختلف السور ویسلط الضوء علی تأریخ أحدهم أحیاناً (کسرده لوقائع النبی إبراهیم ونوح وموسی وعیسی علیهم السلام) ویکرر قصته فی أکثر من سورة، وبالطبع لا نری کلمة التکرار مناسبة هنا حیث إنّ القرآن یعرض لزاویة من زوایا هذه القصص فی کل مرة، فقد قال عز من قائل: «لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الأَلبابِ» (2). وأحیاناً أبعد من ذلک واضافة إلی التأریخ یدعو البشریة لتأمل آثار الأقوام السابقة والذی یعتبر بحد ذاته نوعاً من أنواع التأریخ التکوینی والحی «قُلْ سِیرُوا فِی الأَرْضِ فَانْظُرُوا کَیْفَ کانَ عاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلُ» (3).

ص:164


1- 1) راجع تفسیر الأمثل 1 / 390 ذیل الآیة 106 من سورة البقرة.
2- 2) سورة یوسف / 111. [1]
3- 3) سورة الروم / 42. [2]

وإلی جانب القصص والتأریخ فقد درج القرآن علی استعمال الأمثال بغیة هدایة الناس؛ وقد تکون هذه الأمثال نماذج حیة واقعیة مستقاة من حیاة بعض الأفراد تارة، وتارة اُخری تشبیهات بالاُمور الطبیعیة فی عالم النبات والحیوان وما شاکل ذلک. وقد انطوت هذه الأمثال علی جمالیة وروعة فی الدقة والتصویر بحیث غدت من معاجز القرآن التی یقود التأمل فیها والتدبر إلی العودة إلی العقل والرشد «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِی هذا القُرْآنِ مِنْ کُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ یَتَذَکَّرُونَ» (1).

ومن هنا أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی شمولیة القرآن الکریم مؤکداً علی تدبر قصصه وأمثاله.

ص:165


1- 1) سورة الزمر / 27. [1]

ص:166

القسم الخامس عشر: أهمیة فریضة الحج

اشارة

«وَ فَرَضَ عَلَیْکُمْ حَجَّ بَیْتِهِ الْحَرامِ الَّذِی جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنامِ یَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعامِ وَیَأْلَهُونَ إِلَیْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ وَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلامَةً لِتَواضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَإِذْعانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَاخْتارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمّاعاً أَجابُوا إِلَیْهِ دَعْوَتَهُ وَصَدَّقُوا کَلِمَتَهُ وَوَقَفُوا مَواقِفَ أَنْبِیائِهِ وَتَشَبَّهُوا بِمَلائِکَتِهِ الْمُطِیفِینَ بِعَرْشِهِ یُحْرِزُونَ الْأَرْباحَ فِی مَتْجَرِ عِبادَتِهِ وَیَتَبادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَی لِلْإِسْلامِ عَلَماً وَلِلْعائِذِینَ حَرَماً فَرَضَ حَقَّهُ وَأَوْجَبَ حَجَّهُ وَکَتَبَ عَلَیْکُمْ وِفادَتَهُ فَقالَ سُبْحانَهُ: «وَلِلّهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ الْعالَمِینَ»» .

الشرح والتفسیر

لا یعلم أی الأحکام الدینیة أشار إلیها الإمام علیه السلام بعد بیانه لخصائص القرآن، لأننا نعلم بأنّ السید الرضی - جامع نهج البلاغة - لم یروم ذکر خطبه علیه السلام بصورة کاملة بقدر ما کان یختار منها بعض القطوف، مع ذلک فان التأکید علی فریضة الحج من بین سائر الفرائض الإسلامیة المختلفة والفردیة وفی خطبة تکفلت بالحدیث عن بدایة نشوء الخلیقة والمراحل المختلفة لسیر الإنسان منذ انطلاقته حتی انبثاق الدعوة الإسلامیة بظهور خاتم الأنبیاء محمد المصطفی صلی الله علیه و آله إنّما یتضمن معناً ومفهوماً خاصاً، کما یفید أن حج بیت اللّه الحرام یمثل عصارة الفکر الإسلامی وشمولیته للمسائل المهمّة الفردیة والاجتماعیة والتربویة والأخلاقیة والسیاسیة، وهذا ما سنتطرق إلیه فی آخر البحث. ونخوض الآن فی تفسیر هذا القسم من الخطبة:

ص:167

فقد أشار الإمام علیه السلام فی البدایة إلی مسألة وجوب الحج، حیث اعتمد عبارات فی غایة الروعة واللطافة بغیة حث المسلمین علی أداء هذه الفریضة الإلهیة العظیمة، فقال علیه السلام: «وفرض علیکم حج بیته الحرام» ثم کشف عن صفة هذا البیت بقوله «الذی جعله قبلة للأنام» (1)فهی القبلة التی یتجه إلیها المسلمون فی صلواتهم الیومیة علی أنّها رمز وحدة جمیع المسلمین الذین ینظمون صفوفهم فی الاتجاه الیها. ثم یتطرق علیه السلام إلی وصف الشعائر والمراسم التی یؤدیها عشاق الحق فیشبههم علیه السلام بالعطاش الذین یردون علی الماء العذب والطیور التی تبحث عن الملاذ «یردونه (2)وورود الانعام ویألهون (3)إلیه ولوه الحمام (4)» .

حقاً أنّ من أدرک معنی الحج فانّه یرد البیت علی هذه الشاکلة فتکاد روحه وقلبه تسبقه إلی البیت فیعیش الوفادة علیه بکل کیانه ویستعید به من شر الشیاطین وأهواء النفس وتبعات الذنوب فیلبی دعوة الحبیب ویسعی بین الصفا والمروة ویحلق فی أجواء الکعبة التی تفیض بالمعنویات. أمّا التشبیه بالانعام فلعله إشارة إلی التواضع المطلق الذی یستشعره الحجاج تجاه بیت اللّه أو حالة الاضطراب حین الاقبال علی الکعبة والطواف، أمّا التعبیر بالحمام فذلک لأنّه یرمز إلی الحب والسلام والوئام.

جدیر بالذکر أنّ مراسم الحج تستهل بالاحرام والتلبیة التی تفید اجابة الدعوة الإلهیة، فاللّه سبحانه قد دعی زوار بیته الحرام للضیافة وقد تقاطر علیه الضیوف بقلوب مفعمة بالعشق لتعیش القرب الإلهی وهم یلمسون معانی الورع والتقوی والانس بالمحبوب. ثم

ص:168


1- 1) «أنام» فسرها البعض بالناس، والبعض الآخر بالموجودات العاقلة التی تعیش علی الأرض من الإنس والجن. وعلی ضوء التفسیر الأول یصبح مفهوم العبارة اختصاص القبلة بالناس، بینما تکون قبلة الانس والجن حسب التفسیر الثانی. وقیل هی مشتقة من مادة ونام بمعنی الصوت ثم اطلقت فیما بعد علی جمیع الکائنات الحیة ولا سیما الانس والجن (تاج العروس، مادة أنم) .
2- 2) «یردون» من مادة «ورود» بمعنی دخول الحیوانات علی حیاضها عند عطشها ثم اطلق علی کل دخول لمکان.
3- 3) «یألهون» من مادة «ألَه، ألوهاً» بمعنی العبادة. بناءً علی هذا یألهون بمعنی یعبدون، کما قیل إنّ مادته تعنی الحیرة؛ لأنّ الإنسان یتحیر حین یفکر فی ذات اللّه وصفاته. وقیل أصله (وله) وقد استدلت واوه بالهمزة (ویؤید هذا المعنی ورود کلمة الولوه فی العبارة بصیغة المفعول المطلق) والوله بمعنی التضرع بلهفة.
4- 4) «الحمام» بالفتح بمعنی الطیور والحمام بالکسر بمعنی الموت، وقد أرید المعنی الأول فی العبارة (أی الحمام بالفتح) .

خاض علیه السلام فی جانب من الجوانب الفلسفیة لشعیرة الحج فقال: «وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته واذعانهم لعزته» . فأعمال الحج من مناسک ومراسم إنّما تشتمل علی أفعال غایة فی التواضع لعظمة اللّه قلما نجد نظیرها فی سائر الشعائر العبادیة. وهذا ما یتجسد بوضوح فی الاحرام والتخلی عن اللباس الفاخر والاکتفاء بثیاب الاحرام البیضاء غیر الموصولة والطواف فی الکعبة والسعی بین الصفا والمروة والوقوف علی جبل عرفة والتوقف فی منی والمشعر الحرام ورمی الجمرات والتقصیر ما إلی ذلک من الأعمال التی تحطم ما تعیشه النفس البشریة من غرور وکبر. ثم یشیر علیه السلام إلی أنّ الوقوف فی تلک المشاهد المشرفة والوفادة علی البیت لمن المفاخر الکبری والنعم الجزیلة التی یمن اللّه بها علی بعض عباده فیقول علیه السلام: «واختار من خلقه سماعاً (1)أجابوا إلیه (2)دعوته وصدقوا کلمته» .

فقد ورد فی بعض الأحادیث الإسلامیة أنّ اللّه أمر خلیله إبراهیم علیه السلام لما فرغ من بناء الکعبة بدعوة الناس إلی الحج.

فقال علیه السلام: إنّ صوتی لا یبلغهم. فجاءه الخطاب: إنّما علیک دعوتهم وعلینا الابلاغ. فارتقی الخلیل علیه السلام المقام الذی کان ملاصقاً للکعبة آنذاک فجعل اصبعیه فی أذنیه وقد استقبل الشرق والغرب فنادی بأعلی صوته: «أیّها الناس کتب علیکم الحج إلی البیت العتیق فأجیبوا ربّکم» فناداه من خلف البحار السبع مابین المشرق والمغرب بل حتی النطف فی قرارات النساء وأصلاب الرجال ممن سمع صوته «ولبیک اللّهم لبیک» (3). کما ورد فی الروایات أن من لبی حج بعدد تلبیته ومن لم یلب لم یحج (4)ثم یواصل الإمام علیه السلام حدیثه عن فلسفة الحج وآثاره وبرکاته فیقول: «ووقفوا مواقف أنبیائه وتشبهوا بملائکته المطیفین بعرشه» .

ولعل التعبیر بمواقف الأنبیاء یشیر إلی کثرة الأنبیاء من بعد إبراهیم بل حتی قبله طبقاً لبعض الروایات ممن حجوا البیت (5)أمّا العبارة التی صرّحت بتشبههم بالملائکة المطیفین

ص:169


1- 1) «سماع» علی وزن طلاب جمع «سامع» کطلاب جمع طالب.
2- 2) لیس هنالک من فارق یذکر بشأن الضمیر فی (إلیه) ان کان عائداً لبیت اللّه أو إلی لفظ الجلالة.
3- 3) نور الثقلین 3 / 488، ح 74. [1]
4- 4) شرح نهج البلاغة للمرحوم الخوئی 2 / 249 نقلاً عن الکافی؛ بحار الانوار 96 / 187. [2]
5- 5) ورد فی الأحادیث أنّ من الأنبیاء الذین حجوا البیت هم آدم ونوح وابراهیم وموسی ویونس وعیسی وسلیمان ونبی الإسلام صلی الله علیه و آله (شرح نهج البلاغة للمرحوم الخوئی 2 / 252) .

بعرشه، فقد جاء فی الخبر الصحیح أنّ فی السماء بیتاً یطوف به الملائکة طواف البشر بهذا البیت. (1)ثم قال علیه السلام: «یحرزون (2)الأرباح فی متجر عبادته ویتبادرون عنده موعد مغفرته» ویالها من تجارة عظیمة مربحة تلک التی یتطهر فیها الإنسان من جمیع ذنوبه إذا أتی بالعمل علی وجه الصحة؛ بل ورد أنّه یعود کیوم ولدته أمه ولا ذنب علیه کما صرّحت بذلک بعض الأحادیث الإسلامیة.

ثم قال علیه السلام: «جعله سبحانه وتعالی للإسلام علماً وللعائذین حرماً» .

فالواقع هو أنّ الکعبة تمثل الرایة الإسلامیة الخفاقة علی الدوام؛ الرایة التی یتمحور حولها المسلمون من أجل تحقیق استقلالهم ومجدهم وعزتهم. وکل عام تنفخ روح جدیدة بمشاهدتها فی جسد المسلمین ویجری دم جدید فی عروقهم. وما إن یفرغ الإمام علیه السلام من ذکر هذه الفضائل حتی یشیر إلی وجوب حج البیت فیقول: «فرض حقّه وأوجب حجه وکتب علیکم وفادته (3)فقال سبحانه: «وَلِلّهِ عَلی النّاسِ حِجُّ البَیْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً وَمَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اللّهَ غَنِیٌّ عَنِ العالَمِینَ» .

تأمّلان

اشارة

هنالک عدّة مسائل ومباحث متعلقة بالحج لا یمکن استیعابها فی هذا البحث، وعلیه سنکتفی بالإشارة إلی بعض الاُمور التی تتمتع بأهمیة کبیرة:

1 - نبذة تأریخیة عن الکعبة

للکعبة - التی یطلق علیها اسم بیت اللّه الحرام أیضاً - تأریخ عریق یعود إلی زمان آدم علیه السلام

ص:170


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1/124. [1]
2- 2) «یحرزون» من مادة «الاحراز» بمعنی الحفظ والادخار والخزن. ومن هنا یطلق الحرز علی الموضع المحفوظ کالصندوق والمخزن وما شابه ذلک.
3- 3) «وفادة» بمعنی البزوغ والطلوع، ثم أصبحت بمعنی النزول والدخول، کما یصطلح بالوفد علی الهیئة والجماعة التی ترد علی دولة أو زعیم أو فئة ذات مکانة.

حسب ما أشارت الروایات (1)فآدم علیه السلام هو أول من بناها وطاف حولها، ثم اندرست فی الطوفان الذی عم الأرض زمان نبی اللّه نوح علیه السلام، ثم أعاد بنائها إبراهیم علیه السلام وولده إسماعیل - علی ضوء صریح الآیات القرآنیة کقوله سبحانه: «وَ إِذ یَرْفَعُ إِبْراهِیمُ القَواعِدَ مِنَ البَیْتِ وَ إِسْماعِیلُ. .» (2)- فأدیا مراسم الحج حیث أصبحت الکعبة أول مرکز للتوحید للإنسانیة: «إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبارَکاً» (3). وکما أشرنا سابقاً وعلی ضوء بعض الروایات الصحیحة أنّ فی السماء بیتاً یطوف به الملائکة طواف البشر بهذا البیت، وانّ البیت أول من عتق من الماء (4)کما ورد هذا المعنی فی قصة دحو الأرض. وقد تظافرت الروایات - فی نهج البلاغة وغیره من المصادر الإسلامیة - التی کشفت عن عظمة الکعبة ومدی أهمیتها، ومنها ماروی عن الإمام الباقر علیه السلام أنّه قال: «ما خلق اللّه عز وجل بقعة فی الأرض أحب إلیه منها - ثم أومأ بیده نحو الکعبة - ولا أکرم علی اللّه عز وجل منها» بل ورد فی مقدمة هذا الحدیث أنّ النظر إلیها عبادة (5)فالکعبة هی رمز الوحدة الإسلامیة التی تتطلع إلیها الجماعة الإسلامیة فی العالم أجمع. جدیر ذکره بشأن أهمیة البیت أن زرارة - من کبار صحابة الإمام الباقر والصادق علیهما السلام - دخل علی الإمام الصادق علیه السلام فقال: (جعلنی اللّه فداک أسألک فی الحج منذ أربعین عاماً فتفتینی» . فرد الإمام قائلاً: «یا زرارة بیت یحج إلیه قبل آدم بألفی عام ترید أن تفتی مسائله فی أربعین عاماً» (6). فالذی یستفاد من هذا الحدیث أنّ الملائکة والمخلوقات التی عاشت علی الأرض قبل آدم علیه السلام کانت تحج البیت. ففی الحدیث أنّ آدم لما قضی مناسکه وطاف بالبیت لقیته الملائکة، فقالت: یا آدم لقد حججنا هذا البیت قبلک بألفی عام.

ص:171


1- 1) بحار الأنوار 12 / 86.
2- 2) سورة البقرة / 127. [1]
3- 3) سورة آل عمران / 96. [2]
4- 4) شرح نهج البلاغة للخوئی 2 / 235.
5- 5) فروع الکافی 4 / 240 (باب فضل النظر إلی الکعبة) . [3]
6- 6) وسائل الشیعة 8 / 7 (باب وجوبه علی کل مکلف مستطیع) . [4]
2 - فلسفة الحج

لقد تضمنت عبارات الإمام علیه السلام إشارات عمیقة لفلسفة الححج وما ینطوی علیه من أسرار. إلی جانب ذلک فقد وردت الروایات التی صرّحت بمثل هذا المعنی، والذی یخلص إلیه من مجموعها أنّ هذه المناسک العظیمة تشتمل علی أربعة جوانب هی:

الجانب الأخلاقی والعبادی، الجانب السیاسی والاجتماعی، الجانب الثقافی والجانب الاقتصادی.

أمّا الجانب الأخلاقی والعبادی الذی یمثل أهم جوانب فلسفة الحج بفضل تنبیه لتربیة النفس وتهذب الأخلاق والتحلی بالورع والتقوی والاخلاص. حیث صرّحت الروایات الإسلامیة بشأن من یحج البیت «یخرج من ذنوبه کهیئة یوم ولدته أمه» (1). والروایة بدورها دلیل واضح علی مدی التأثیر الذی یلعبه الحج فی النفس الإنسانیة وتنقیتها من الذنوب والمعاصی التی دنست عفتها طیلة العمر وهذه أعظم فائدة یصیبها الوافد علی بیت اللّه. ولو التفت الحاج إلی أسرار المناسک التی یؤدیها والشعائر التی یؤتی بها فان کل خطوة ستجعله أکثر قرباً من اللّه لیری مولاه حاضراً فی کل مکان فهو معبوده الحق الذی لا یفارقه طرفة عین. أجل سیعود إلی الحیاة من جدید کیوم ولدته أمه.

ولا غرو فمن أدرک الحج بمعناه الحقیقی سیشعر بآثاره الروحیة والمعنویة إلی آخر عمره، ولعل هذا هو السبب فی وجوب الحج مرة واحدة طیلة العمر.

وأمّا علی صعید الجانب السیاسی والاجتماعی فانّ الإتیان بمراسم الحج علی ضوء التعالیم الإسلامیة والحج الإبراهیمی الذی دعی الناس لامتثاله إنّما یؤدی إلی عزة المسلمین وتحکیم دعائم الدین وارساء أسس الأخاء والوحدة وتنامی شوکة الدین وصلابته والوقوف بوجه الأعداء والمستکبرین واعلان البراءة من المشرکین والملحدین. کما یمنح هذا المؤتمر الإلهی العظیم الذی یعقد کل عام فی البیت العتیق المسلمین الفرصة الذهبیة فی إعادة بناء أنفسهم وتقویة أواصر الاخوة فیما بینهم ورص صفوفهم بما یحبط مؤامرات أعداء الدین وافشال

ص:172


1- 1) بحار الأنوار 99 / 26. [1]

خطط الشیاطین، وما یؤسف له أنّ المسلمین لم یقفوا لحد الآن علی عظمة الحج ویدرکوا کنهه وإلّا لتمکنوا - فی ظل هذه الشعیرة - من إسداء أعظم الخدمات للإسلام وتسدید أوجع الضربات إلی رکائز الشرک والکفر؛ الأمر الذی نلمسه بوضوح فی الروایات الإسلامیة ولاسیما تلک التی وصفته: «لایزال الدین قائماً ماقامت الکعبة» (1). وکأن أعداء الإسلام أدرکوا الدور العظیم الذی یلعبه الحج علی صعید المسائل السیاسیة فمارسوا أقصی ردود الفعل تجاهه بغیة الحؤول دون تحقیق أهدافه. فهذا «غلادستون» - رئیس وزراء بریطانیا - یخاطب مجلس العموم بأنّ المسیحیة مهددة بالخطر وسنعجز عن إصلاح العالم (طبعاً لیس الإصلاح من وجهة نظرهم سوی الاستعمار) مادام اسم محمد یذکر صباح مساء من علی المآذن والقرآن هو دستور حیاة المسلمین، الذین یقیمون مراسم الحج کل عام بهذا الشکل (2). بل قیل أن غلادستون اختتم خطابه لمجلس العموم بقوله: یجب علیکم یا ساسة المسیحیة أن تزیلوا اسم محمد من آذان المسلمین فتنسونهم ذکره وتحرقون القرآن وتخربون الکعبة. وهناک جملة اُخری معروفة أطلقها أحد زعماء النصرانیة فی الغرب قائلاً: «الویل للمسلمین إن غفلوا عن معنی الحج، الویل لمن سواهم إن فهموا معناه» . وبالبداهة أنّهم لا ینوون من هذا الاحراق ظاهر القرآن، کما أنّهم لن ینجحوا فی تخریب الکعبة، غیر أنّهم یستطیعون وفی ظل غفلة المسلمین من تحقیق مآربهم بالقضاء علی أحکام الدین وافراغ الحج من محتواه الأصیل.

وأمّا بالنسبة للجانب الثقافی وعلی ضوء الأخبار الإسلامیة فان هذه المراسم سوف تؤدی إلی التعریف بالثراء الجم لرسول اللّه صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام وستکون الفرصة مؤاتیة بفضل حضور علماء المسلمین ومفکریهم ومن کافة الاصقاع - بما فیهم کبار علماء الدین وکبار الأدباء والفنانین والمثقفین والکتاب الذین یتوافدون علی البیت کل عام - لتبادل الأفکار والثقافات والانفتاح علی تجارب الآخرین بما یسهم فی إحیاء مفاهیم الدین ونشر تعالیم الرسول الکریم صلی الله علیه و آله والهداء المیامین من آله الطیبین الطاهرین.

وأخیراً الجانب الرابع الذی یشیر إلی الفلسفة الاقتصادیة للحج. فقد وردت الروایات

ص:173


1- 1) فروع الکافی 4 / 271 (باب أنّه لو ترک الناس الحج لجاءهم العذاب) . [1]
2- 2) دلیل الحرمین الشریفین 1 / 54 (نقلاً عن قول القمر) .

والأخبار التی تفید أن من معطیات الحج تفعیل القدرة الاقتصادیة للمسلمین وانقاذهم من الأزمات المالیة التی تعصف بحیاتهم وحیاة مجتمعاتهم. ولعل البعض لا یری من رابطة من قریب أو بعید بالجانب الاقتصادی، إلّاأنّ أدنی تأمل لهذه القضیة سیکشف بوضوح بأنّ الخطر العظیم الذی یهدد کیان المسلمین إنّما یتمثل الیوم بالتبعیة الاقتصادیة للأجانب، فما الضیر فی اقامة المؤتمرات والندوات الاقتصادیة من قبل المعنیین والمتخصصین فی تلک الدیار المقدسة بصفتها مراسم عبادیة تهذف إلی انتشال المسلمین من مخالب الفقر والتبعیة وطرح المشاریع والبرامج الاقتصادیة التی من شأنها معالجة الأوضاع المزریة؟ ولا نری لهذه القضیة من طابع فردی لتعالی الأصوات بالانشغال بزخارف الدنیا وحطامها الزائل، بل الهدف أنبل وأسمی حیث یکمن فی خدمة الإسلام والمسلمین فی هذا الجانب الحیوی. (1)ویتضح من قوله علیه السلام: «ووقفوا مواقف أنبیائه وتشبهوا بملائکته المطیفین بعرشه، یحرزون الأرباح فی متجر عبادته ویتبادرون عنده موعد مغفرته» مدی الأهمیة التی أولاها الإمام علیه السلام لحج بیت اللّه الحرام؛ ولا عجب فهی عبادة اجتماعیة عامة تقسم فی طیاتها الدنیا والآخرة والأخلاق والمعنویات وعزة المسلمین وتنامی شوکتهم.

طبعاً واسع وشامل البحث المتعلق بالحج وأبعد ممّا ذکرنا إلّاأننا سنستغرق أکثر فی هذا الموضوع حین شرحنا لسائر خطب الإمام علیه السلام الواردة بهذا الشأن، ونکتفی هنا بهذا المقدار المتواضع.

ص:174


1- 1) لقد أشارت الروایة التی نقلها هشام بن الحکم عن الإمام الصادق علیه السلام بصورة إجمالیة إلی فلسفة هذه الجوانب الأربعة للحج (وسائل الشیعة 8 / 9) [1] کما یمکن لمن أراد المزید أن یراجع التفسیر الأمثل / 14 بشأن فلسفة الحج.

الخطبةالثانیة

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

بعد انصرافه من صفین وفیها حال الناس قبل البعثة وصفة آل النبی صلی الله علیه و آله ثم صفة قوم آخرین.

القسم الأول

اشارة

«أَحْمَدُهُ اسْتِتْماماً لِنِعْمَتِهِ وَاسْتِسْلاماً لِعِزَّتِهِ وَاسْتِعْصاماً مِنْ مَعْصِیَتِهِ. وَأَسْتَعِینُهُ فاقَةً إِلَی کِفایَتِهِ إِنَّهُ لا یَضِلُّ مَنْ هَداهُ وَلا یَئِلُ مَنْ عاداهُ وَلا یَفْتَقِرُ مَنْ کَفاهُ فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَأَفْضَلُ مَا خُزِنَ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِیک لَهُ شَهادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاصُها مُعْتَقَداً مُصاصُها نَتَمَسَّک بِها أَبَداً ما أَبْقانا، وَنَدَّخِرُها لِأَهاوِیلِ ما یَلْقانا فَإِنَّهَا عَزِیمَةُ الْإِیمَانِ وَفاتِحَةُ الْإِحْسانِ، وَمَرْضاةُ الرَّحْمَنِ، وَمَدْحَرَةُ الشَّیْطانِ. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالدِّینِ الْمَشْهُورِ وَالْعَلَمِ الْمَأْثُورِ وَالْکِتَابِ الْمَسْطُورِ، وَالنُّورِ السّاطِعِ وَالضِّیاءِ اللاَّمِعِ، وَالْأَمْرِ الصّادِعِ، إِزاحَةً لِلشُّبُهاتِ وَاحْتِجاجاً بِالْبَیِّناتِ وتَحْذِیراً بِالْآیاتِ وَتَخْوِیفاً بِالْمَثُلاتِ» .

ص:175

نظرة إلی الخطبة

تشتمل هذه الخطبة علی خمسة مضامین (تبحث فی أربعة أقسام) :

المضمون الأول فی حمد اللّه والثناء علیه والملاذ بفضله وکرمه ورحمته، والثانی فی الشهادة للّه بالوحدانیة ومعطیات الإیمان بالتوحید، والثالث فی الشهادة بالنبوة والعبودیة إلی جانب التذکیر بفضائل النبی صلی الله علیه و آله واوضاع العصر الجاهلی والملمات والخطوب التی شهدها المجتمع الإسلامی آنذاک والجهود التی بذلها الرسول الکریم صلی الله علیه و آله من أجل مجابهة تلک الخطوب وتحمل المصاعب والویلات بهذا الشأن، والرابع فی منزلة أهل البیت وعلو مقامهم وسمو مکانتهم واللجوء إلیهم فی اُمور الدین، والمضمون الأخیر الذی یواصل فیه المعنی المذکور بصیغة اُخری محذراً الاُمّة من مقارنة أنفسها بهم، متطرقاً إلی عدم إمکانیة تشبه أی من الأفراد بهم ومستعرضاً لفضائلهم والاعراب عن الارتیاح لعودة الحق السلیب لأهله.

ظروف وملابسات الخطبة

کما مر علینا سابقاً فقد صرّح المرحوم السید الشریف الرضی أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة بعد انصرافه من صفین.

ومضامین الخطبة ومعانیها تبدو منسجمة والمعنی المذکور؛ الحقیقة التی تجسدت فی استعراض حیاة الاُمّة فی العصر الجاهلی حیث یحذرها من مغبة تکرار الجاهلیة الاولی والحؤول دون تمکن من تبقی من رواد تلک الجاهلیة الذین کانوا یشکلون غالبیة معسکر الشام فی صفین من تحقیق أطماعهم ومآربهم. کما یؤکد علیه السلام علی ضرورة تمسک الاُمّة بأهل بیت النبی صلی الله علیه و آله بغیة التحصن من الأخطار التی کانت تهدد الإسلام آنذاک، فهم الذین قال فیهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «إنِّی مخلف فیکم الثقلین کتاب اللّه وعترتی أهل بیتی ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی أبداً وإنّهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض» فالنجاة بالتمسک بالکتاب والعترة معاً.

ومن هنا یتضح بطلان ماذهب إلیه ابن أبی الحدید بشأن صدور الخطبة حیث قال: واعلم أنّ هذه الکلمات وهی قوله علیه السلام: «الآن إذا رجع الحق إلی أهله» إلی آخرها یبعد عندی أن

ص:176

تکون مقولة عقیب انصرافه علیه السلام من صفین، لأنّه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الأمر، منتشر الحبل، بواقعة التحکیم، ومکیدة ابن العاص، وما تم لمعاویة علیه من الاستظهار، وما شاهد فی عسکره من الخذلان، وهذه الکلمات لا تقال فی مثل هذه الحال، وأخلق بها أن تکون قیلت فی ابتداء بیعته، قبل أن یخرج من المدینة إلی البصرة، وأنّ الرضی رحمه اللّه تعالی نقل ماوجد، وحکی ماسمع والغلط من غیره، والوهم سابق له، وما ذکرناه واضح. (1)

وقد صرّح بعض العلماء بأنّ هذا الکلام ینبغی ألا یقال بشأن فرد یعتبر علماً فی العلم وبحراً من الوقار واسطورة فی الجهاد والمقاومة. فانّ فرداً مثل علی علیه السلام لاتهزه هذه الحادثة وأنی للاضطراب والقلق من سبیل إلی هذه الروح الملحمیة والأفکار الربانیة التی کان یتحلی بها علی علیه السلام. بل بالعکس وکما أوردنا سابقاً فان الإمام علیه السلام یحذر - فی هذه الخطبة - الاُمّة من الاستسلام إلی الدعایات السامة والمشاریع الشیطانیة التی کان یمارسها ولاة الشام ومن مغبة العودة القهقری إلی العصر الجاهلی والصمود فی الذود عن الحق بعد أن عاد إلی أهله. وعلیه فلا یبدو رأی ابن أبی الحدید صائباً فی أن معاویة هو الذی انتصر فی المیدان ولا سیما قول الإمام علیه السلام: «الآن إذا راجع الحق إلی اهله» وذلک للأسباب التالیة:

أولاً: أنّ معاویة لم یکسب تلک المعرکة قط، غایة مافی الأمر أنّه نجی من هزیمة منکرة بفعل خدعة عمرو بن العاص فما زال الإمام علیه السلام یری الحق (هو وأهل بیته) ویحذر الاُمّة من التغابی عنه إلی جانب الذود عنه وعدم زحزحته عن أهله.

ثانیاً: إنّ التحکیم الغادر لعمرو بن العاص - وخلافاً لما یراه الکثیرون - لم یحصل فی صفین بحضور الإمام علیه السلام بل وقع بعید بضعة أشهر، والطریف أنّ ابن أبی الحدید قد صرّح بهذا المعنی فی موضع آخر من شرحه. ونخلص ممّا سبق إلی أنّ الدلیل الذی حاول أن یتمسک به ابن أبی الحدید والذی تمثل بالجملة الأخیرة فی الخطبة لإثبات صحة مدعاه فی أنّ الخطبة صدرت بعد موقعة صفین، هو دلیل باطل وشاهد عاری من الصحة.

ص:177


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 143. [1]

الشرح والتفسیر

الرکنان الأساسیان فی الإسلام

استهل الإمام علیه السلام الخطبة - کسائر خطبه - بحمد اللّه والثناء علیه، إلّاأنّه یکشف عن الدوافع الثلاث لهذا الحمد والثناء:

الأول الاستزادة من النعم الإلهیة، واظهار الاستسلام والخضوع للعزة الإلهیة والقدرة المطلقة، وأخیراً الاعتصام بالطافه من المعاصی. فقد قال علیه السلام: «أحمده استتماماً (1)لنعمته واستسلاماً (2)لعزته واستعصاماً (3)من معصیته» . لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ مفهوم الحمد أشمل من الشکر، وبعبارة اُخری فانّ الشکر ممزوج بالمدح وهذا یدعو من جانب لاستزادة النعم الإلهیة کما قال سبحانه: «لَئِنْ شَکَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّکُمْ» (4)ویشکل القیام بوظیفة العبودیة من جانب آخر وهذا هو التسلیم مقابل عزة اللّه وأخیراً یوجب عنایات اللّه وألطافه الغیبیة فی حفظ الإنسان وعصمته من الذنوب والمعاصی. ثم یستعین علیه السلام باللّه بعد حمده والثناء علیه موعزاً ذلک إلی حاجته إلیه سبحانه وعدم غناه عنه «واستعینه فاقة إلی کفایته» . أجل إذا رأی العبد نفسه محتاجاً لتلک الذات الغنیة وصاحب الکمال المطلق فانه یلجأ إلی الحق سبحانه لیشمله بفضله ورحمته ویعینه فی کافة شؤون حیاته. آنذاک یشیر إلی دلیل آخر لهذه الاستعانة فیقول: «انّه لا یضل من هداه ولا یئل (5)من عاداه ولا یفتقر من کفاه» . نعم فقدرته علی درجة من القوة والعظمة بحیث لا یسع أحد الوقوف أمامها، وإن علمه ثاقب لیس للخطأ من سبیل إلیه. وهناک إحتمال أیضاً أنّ الدوافع الثلاث دلیل آخر علی الحمد والثناء ودلیل علی الاستعانة أیضاً.

ثم یشیر فی آخر العبارة إلی دلیل آخر یوجب الحمد للّه والثناء علیه «فانه أرجح ما وزن

ص:178


1- 1) «استتمام» قد تعنی الاتمام أو المطالبة بالاتمام، وقد أرید بها هنا المعنی الثانی ویؤید ذلک الجملة اللاحقة.
2- 2) «استسلام» بمعنی الانقیاد والتسلیم، وعناها بعض اللغویین بموافقة الظاهر للباطن بالنسبة للشیء والانقیاد من لوازمها.
3- 3) «استعصام» بمعنی المطالبة والحفظ ودفع الاُمور المکروهة.
4- 4) سورة إبراهیم / 7. [1]
5- 5) «یئل» من مادة «وأل» علی وزن وعد بمعنی النجاة واللجوء والعودة.

وأفضل ما خزن» . والواقع هو أنّ الفوائد والآثار التی وردت فی العبارات السابقة إنّما تتعلق بهذا العالم، بینما ترتبط الفوائد الواردة فی العبارتین الاخیرتین بالعالم الآخر وزاد المعاد یوم القیامة، وهکذا یکون حمد اللّه والثناء علیه سبب النجاة فی الدنیا والآخرة، وما أروع عبارات الإمام علیه السلام المقتضیة التی تضمنت تلک المعانی العمیقة. فلا یبدو من العبث أن یصرح ابن أبی الحدید حین یتناول بالشرح هذه الخطبة فیذهل للکنایات والبدیع وعذوبة التعبیر الذی تضمنته عبارات الإمام علیه السلام قائلاً: «فسبحان من خصه بالفضائل التی لا تنتهی السنة الفقهاء إلی وصفها وجعله إمام کل ذی علم وقدوة کل صاحب خصیة» .

ثم یتطرق علیه السلام إلی الشهادة بالوحدانیة بصفتها تشکل مصدر جمیع الفضائل والکمالات: «واشهد ان لا إله إلّااللّه وحده لا شریک له» وتمسک الإمام علیه السلام بالتوحید علی أنه دعامة کافة العقائد والأفکار الطاهرة والأعمال الصالحة من جانب، ومن جانب آخر لیلتفت من یری الوهیته علیه السلام إلی خطأ إعتقاده. ثم یضیف الإمام علیه السلام بأنّ شهادته هذه شهادة حقیقیة تستند إلی الاخلاص والتقوی ولیست لقلقة لسان «شهادة ممتحنا (1)اخلاصها معتقداً مصاصها (2)» .

فهی شهادة حقة دائمة مادامت الحیاة مدخرة حیث الأهوال والخطوب «نتمسک بها أبداً ما أبقانا وندخرها لاهاویل (3)ما یلقانا» .

فالإمام علیه السلام یعلن عن عمق إیمانه وإذعانه بحقیقة التوحید فی کافة شؤون الحیاة وعلی جمیع المستویات؛ الحقیقة التی تجسدت فی سیرته علیه السلام والمشهودة فی کافة جوانب حیاته حتی لم یتطرق الشرک إلیه طرفة عین، فلم یسجد لصنم قط وکانت سکناته وحرکاته فی ظل التوحید البعید عن أدنی شرک خفی. ثم یذکر علیه السلام أربعة دعائم لهذا الرکن الرکین فی الإسلام «فانها عزیمة الإیمان وفاتحة الاحسان ومرضاة الرحمن ومدحرة (4)الشیطان» .

ص:179


1- 1) «ممتحن» من مادة «محن» علی وزن وهن بمعنی الاختبار والامتحان، إلّاانّ بعض أرباب اللغة قالوا أصلها استخراج التراب حین حفر البئر.
2- 2) «مصاص» من مادة «مص» علی وزن نص بمعنی التذوق والامتصاص ومن هنا اصطلح بالمصاص علی عصارة الشیء الممتص حین وروده بدن الإنسان.
3- 3) «الأهاویل» جمع أهوال «وهول» بمعنی الخشیة والخوف.
4- 4) «مدحرة» من مادة «دحر» بمعنی الطرد والابعاد.

سنری فی الأبحاث القادمة أنّ الإیمان بأی من أصول الدین إنّما هو إیمان أجوف مالم یستند إلی التوحید، کما أنّ الصالحات بأجمعها إنّما تستقی من حقیقة التوحید، ومن هنا کان مرضاة للّه ومدحرة للشیطان، لأنّ الوسیلة المهمّة الهدامة للشیطان إنّما تتمثل بالشرک سواء کان جلیاً واضحاً أم مخفیاً مستتراً.

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بفاتحة الاحسان هو الأجر والثواب الإلهی الذی التوحید مفتاحه، غیر أن التفسیر الذی ذکرناه یبدو أکثر صحة من هذا. وما أن یفرغ الإمام علیه السلام من هذه الشهادة الخالصة الحقة حتی یردفها بمتممتها التی تتمثل بالشهادة بالنبوة: «وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . نعم فهو عبد اللّه قبل أن یکون رسوله، فلیس من مجال لبلوغ مقام النبوة دون العبودیة، وفی هذا رد علی أولئک الذین قد یبالغون فی مقام الرسول لیبلغوا درجة الإلوهیة. آنذاک یصف رسالة ووظیفة النبی فیقول:

«أرسله بالدین المشهور والعلم المأثور (1)والکتاب المسطور والنور الساطع (2) والضیاء اللامع والأمر الصادع (3)» . والواقع هنالک عدّة تفاسیر بشأن هذه العبارات الست العمیقة المعانی والاُمور التی تشیر الیها. منها أنّ المراد بالدین المشهور هو الإسلام الحنیف والعلم المأثور المعجزات والکتاب المسطور القرآن الکریم والنور الساطع علوم النبی صلی الله علیه و آله والضیاء اللامع سنته صلی الله علیه و آله والأمر الصادع - بقرینة الآیة الشریفة 94 من سورة الحجر «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (4)- ترک التقیة واظهار التوحید فی مقابل المشرکین والکافرین. کما یحتمل أن یکون المراد بالضیاء اللامع والنور الساطع تبیین القرآن الکریم، فالقرآن مصدر اشعاع أفکار المجتمعات الإنسانیة. ثم یخوض الإمام علیه السلام فی الهدف النهائی لرسالة النبی صلی الله علیه و آله والقرآن والمعجزات والقوانین والأحکام الشرعیة، فیوضح أهداف النبی صلی الله علیه و آله فی ثلاث محاور: ازالة

ص:180


1- 1) «المأثور» من مادة «أثر» بمعنی العلامة الباقیة من الشیء ولذلک یطلق علی العلوم المتبقیة من الماضین «علم المأثور» .
2- 2) «الساطع» من مادة «سطوع» بمعنی الانتشار، فالنور الساطع هو النور الواسع المنتشر کما ورد بمعنی المرتفع.
3- 3) «صادع» من مادة «صدع» بمعنی الشق فی الجسم الصلب والمحکم ثم أطلق علی کل شیء قاطع.
4- 4) سورة حجر / 94. [1]

الشبهات بالأدلة والبراهین واستقطاب الخصوم من خلال إرشادها بالآیات البیّنات وتحذیرهم من العقاب الألیم ان هم تمادوا فی غیّهم وعصیانهم «إزاحة (1)للشبهات واحتجاجاً بالبیّنات وتحذیراً بالآیات وتخویفاً بالمثلات (2)» .

یمکن أن یکون المراد من قوله «ازاحة الشبهات» الحقائق التی تعززها البراهین والأدلة الربانیّة والتی لا تدع مجالاً لشک أو شبهة، «واحتجاجاً بالبیّنات» المعجزات الحسیة بالنسبة لاُولئک الذین لا یسلمون سوی للاستدلالات العقلیة والتی من شأنها سوقهم نحو الإیمان والیقین، «تحذیراً بالآیات» الوعید بالعذاب الاُخروی «تخویف بالمثلات» الوعید بالعذاب الدنیوی کما ورد ذلک فی بعض الآیات القرآنیة کقوله سبحانه وتعالی: «وَیَسْتَعْجِلُونَکَ بِالسَّیِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ» . (3)

تأمّلان

1- التوحید رکیزة الصالحات

تعتیر الشهادة لله بالواحدانیة من الاُصول العقائدیة المسلمة بالنسبة لسائر الاصول؛ إلّا أنّ هذا استنتاج ساذج لهذا الأصل الإسلامی المهم. فالتمعن فی المصادر الإسلامیة والتحلیلات العقلیة یدل علی أن التوحید أصل جار علی سائر الاُصول والفروع، بعبارة اُخری فان کافة أصول الإسلام وفروعه تشکل بلورة لمفهوم التوحید؛ ولا یقتصر هذا الأمر علی المباحث العقائدیة والعبادیة فی المسائل الاجتماعیة والسیاسیة والأخلاقیة بل تسری روح التوحید لتحکم جمیع المجالات.

فالتوحید علی مستوی الذات والصفات والافعال والعبودیة لمن الاُمور المسلمة الواضحة ولا نقتصر به علی نبیّنا دون سائر الأنبیاء بحکم الآیة الشریفة «لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (4)

ص:181


1- 1) «ازاحة» من مادة «زیح» علی وزن زید بمعنی الأبعاد والاقصاء.
2- 2) «مثلات» جمع «مثله» علی وزن عضلة بمعنی البلاء والمصاب الذی یحل بالإنسان فیصبح مثالاً وعبرة للآخرین (مفردات الراغب، تحقیق، الصحاح ومجمع البحرین) .
3- 3) سورة الرعد / 6. [1]
4- 4) سورة البقرة / 285. [2]

وعلیه فاننا نؤمن بأنّ جمیع الأنبیاء والمرسلین إنّما یتفقون فی أهدافهم ووحدة رسالتهم وبرامجهم رغم أن بعض الأحکام والمشاریع والبرامج التی تلبس حللا جدیدة وتتخذ طابعا حدیثا بفعل تطور المجتمعات البشریة وتقدم مسیرتها.

أمّا بالنسبة للمعاد وعلی ضوء الآیة الشریفة «وَکُلُّهُمْ آتِیهِ یَوْمَ القِیامَةِ فَرْداً» (1)فانّ الجمیع سیقف بمفرده یوماً فی محکمة العدل الإلهی لینالوا جزائهم من ثواب أو عقاب یتناسب مع طبیعة أعمالهم وفقا لمعاییر إلهیة واحدة.

فالمجتمعات البشریة تنتمی إلی جذور واحدة تحکمها أصول ثابتة ومعینة، بل تحکم جمیع عالم الوجود. والواقع صحیح أنّ هنالک تفاوتا فی القوانین الإلهیة فی الأدیان السماویة من حیث آلیاتها وتفرعاتها، إلّاأنّ مستقاها واحد، ومن هنا فاننا نؤمن بوحدة دعوة الأنبیاء للمجتمع العالمی الموحد، وأنّ العالم برمته سیشهد فی خاتمة المطاف حکومة العدل الإلهی.

أمّا علی صعید المسائل الأخلاقیة فلیس هنالک من یتردد فی أنّ الفضائل الأخلاقیة إنّما تنبع من التوحید بینما تنبع الرذائل من الشرک.

و عادة ما یتورط بالشرک الأفراد المرائین وأولئک الذین یصابون بأمراض الحسد والبخل و الحرص والتکبر، وإلّا فالفرد الذی یعیش توحید الأفعال بکل کیانه وفی أعماقه ویؤمن بأنّ العزة والذلة والرزق والحیاة والممات والنصر والغلبة لله بیده وحده لایری من مسوغ لان یستشعر قلبه معانی الریاء والحرص والبخل والحسد.

و زبدة الکلام فانّ التوحید لیس بمثابة حبة مسبحة بالنسبة لسائر الحبات، بل هو بمثابة الخیط الذی یشد الحبات إلی بعضها البعض الآخر.

و من هنا یتضح عمق کلمات الإمام علیه السلام بالنسبة لمفهوم التوحید - فی الخطبة -، فالتوحید هو الدعامة الرئیسیة للإیمان وانطلاقة الأعمال الصالحة ویستبطن رضی الرحمن وطرد

ص:182


1- 1) سورة مریم / 95. [1]

الشیطان، وإذا ما أشرقت شمس التوحید علی جسم المجتمع البشری وروحه فانّه سیتخذ طابعا متبلورا فی ظل أشعته الزاهرة. وإذا رأینا أمیر المؤمنین ومولی المتقین علی علیه السلام الذی یمثل بدوره روح التوحید لاینفک عن تکرار التعرض للتوحید - فی خطب نهج البلاغة - وتعلیم أتباع مدرسة أهل البیت الاخلاص فی التوحید فإنّما یعزی ذلک إلی ضرورة الابقاء علی جذوة هذه الشعلة الخالدة متقدة فی القلوب وری أرض الحیاة بهذه المیاه العذبة لتورق ثمار أشجارها وتنضج فی ظل صبغة التوحید الإلهیة.

و ممّا لا شک فیه أنّ الشهادة بالنبوة والالتفات إلی وظائفها ومسؤولیاتها وکتبها السماویة إنّما یعدّ أفضل أرضیة خصبة لبلورة حقیقة التوحید فی أعماق کیان الإنسانیة.

2- التوحید الخالص الذی طبع حیاة أمیرالمؤمنین علیه السلام

کان علی علیه السلام مجسمة التوحید ومظهره التام قبل أن یدعو الآخرین لهذه الحقیقة الخالصة.

لم یسجد لصنم طرفة عین طیلة حیاته قط لیلوث صفو روحه غبار الشرک. کان لا یفعل شیئا إلّاویری الله فیه وقبله ومعه لایروم سوی رضاه.

کما وقف کالطود الشامخ یشد أزره ویذود عنه بغیة استتباب التوحید والعبودیة. ولا یخفی علی أحد موقفه فی الخندق ومبارزته لعمرو بن العاص، فقد صرعه الإمام علیه السلام وأو شک أن یقتله؛ وقد أصیب جیش الإسلام بالذهول حین رأی الإمام علیه السلام قد انصرف عن قتله (و لعله نهض من عنده وترکه لمدّة بعد أن تجول فی المیدان) ثم عاد إلیه وقتله.

فلما سسئل عن علة ذلک قال علیه السلام: «قد کان شتم أمی وتفل فی وجهی فخشیت أن أضربه لحظ نفسی فترکته حتی سکن ما بی ثم قتله فی الله» (1)وقد وقف بکل قوة تجاه بعض أصحابه الذین اعترضوا علیه بالتسویة فی العطاء من بیت المال قال: «أتأمرونی أن أطلب النصر بالجور فیمن ولیت علیه! والله لا أطور به ما سمر سمیر، وما أم نجم فی السماء نجماً! لو کان المال لی لسویت بینهم، فکیف وإنّما المال مال الله» . (2)ولما کان یقف للصلاة کان یستغرق فی صفات الله وجلاله وجماله بحیث لم یکن یری سوی الله ولا یفکر فی سواه، حتی ورد فی الأخبار أن سهما أصاب رجله فی موقعة أحد وکان یصعب سله من رجله فأمر

ص:183


1- 1) مناقب ابن شهر آشوب، 2 / 115 ( [1]مستدرک الوسائل؛ 18 / 28 [2] وبحار الانوار، 41 / 51) . [3]
2- 2) نهج البلاغه، الخطبة 126. [4]

رسول الله صلی الله علیه و آله سسله حین یقف للصلاة. فلما فرغ علیه السلام من صلاته قال لم أشعر بالسهم حین الصلاة. (1)وما أکثر هذه التماذج التوحیدیة فی حیاة الإمام علیه السلام.

ص:184


1- 1) کتاب «المناقب المرتضویة» تألیف المولی محمد صالح الکشفی الحنفی / 364، طبعة یومبای (مطابق نقل احقاق الحق 8 / 602) .

القسم الثانی: العصر الجاهلی

اشارة

«وَالنّاسُ فِی فِتَنٍ انْجَذَمَ فِیها حَبْلُ الدِّینِ، وَتَزَعْزَعَتْ سَوارِی الْیَقِینِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ وَضاقَ الْمَخْرَجُ وَعَمِیَ الْمَصْدَرُ فالْهُدَی خامِلٌ وَالْعَمَی شامِلٌ عُصِیَ الرَّحْمَنُ وَنُصِرَ الشَّیْطانُ وَخُذِلَ الْإِیمانُ فانْهارَتْ دَعائِمُهُ وَتَنَکَّرَتْ مَعالِمُهُ وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ وَعَفَتْ شُرُکُهُ أَطاعُوا الشَّیْطانَ فَسَلَکُوا مَسالِکَهُ وَوَرَدُوا مَناهِلَهُ، بِهِمْ سارَتْ أَعْلامُهُ، وَقامَ لِواؤُهُ، فِی فِتَنٍ داسَتْهُمْ بِأَخْفافِها وَوَطِئَتْهُمْ بِأَظْلافِها، وَقامَتْ عَلَی سَنابِکِها، فَهُمْ فِیها تائِهُونَ حائِرُونَ جاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِی خَیْرِ دارٍ وَشَرِّ جِیرانٍ نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَکُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عالِمُها مُلْجَمٌ وَجاهِلُها مُکْرَمٌ» .

الشرح والتفسیر

یصور الإمام علیه السلام بهذه العبارات القصیرة والبلیغة أوضاع العصر الجاهلی وکأن السامع یشهد عن قرب تلک الأوضاع ویری نفسه فی خضم ذلک العصر لیلمس الفوضی والبؤس والشقاء الذی کان علیه الناس. ولا نری أنفسنا نبالغ إذا ما قلنا بأنّ الإمام علیه السلام قد إختصر کتابا ضخما بهذه العبارات الموجزة؛ الأمر الذی یعدّ دلالة اُخری علی مدی رصانة بیانه وعمق الفصاحة والبلاغة والروعة فی التصویر والدقة فی التعبیر التی تشتمل علیها کلماته وخطبه علیه السلام. (1)

ص:185


1- 1) طبقا لما ورد آنفا فان الواو فی قوله «و الناس فی فتن. . . .» حالیة أی أنّ الله سبحانه بعث النبی صلی الله علیه و آله حین کان الناس علی هذه الحالة، إلّاأنّ بعض شرّاح نهج البلاغة إحتملوا أن الواو إبتدائیة والعبارات رسمت صورة عن أوضاع الناس فی عصر الإمام علیه السلام، غیر أنّ هذا الاحتمال لا یبدو صحیحا والحق هو الاحتمال الأول، رغم انّ هذه العبارات یمکن أن تکون تحذیرا للاُمّة فی عصره من العودة إلی عصر الجاهلیة بفعل أمراض حب الذات واطاعة الاهواء.

ومن البدیهی إلّاتتضح عظمة رسالة النبی صلی الله علیه و آله وسمو الخدمات التی أسداها إلی البشریة وحلاوة الإیمان التی حملها الدین الحنیف ما لم تکن هناک صورة واضحة عن الأوضاع السائدة لدی الأقوام السابقة التی سبقت عصر الرسالة وانبثاق الدعوة الإسلامیة.

فمن شأن هذه المقارنة أن تمیز عظمة مشاریع الأنبیاء وبرامج الأولیاء والعباقرة علی مدی التاریخ. فقد أشار علیه السلام إلی الفتن التی کانت تعصف بالاُمّة آنذاک بحیث تصدعت عری الدین وتزعزعت أعمدة الإیمان وتلوثت الفطرة وتغیرت القیم وسادت الفرقة بین الناس، فغدوا حیاری قد ضلوا المخرج «والناس فی فتن إنجذم (1)فیها حبل الدین وتزعزعت (2)سواری (3)الیقین واختلف النجر (4)وتشتت الأمر وضاق المخرج وعمی المصدر» .

فقد تقطعت حبائل الدین وغیبت المعارف الدینیة الحقة إثر فتن الشیاطین ووساوس عبدة الأهواء من جانب، ومن جانب آخر فان الفوضی عمت الاُمّة وتصاعدت بین أوساطها حدة الفرقة والاختلاف؛ والانکی من ذلک وفی ظل هذه الظروف لم یکن هناک من سبیل للخروج من المأزق ولا من کهف یؤی إلیه؛ الأمر الذی اضطر الناس للبقاء علی الانحراف والدنس الذی ساد ذلک المحیط والعوم فی مستنقعه العفن. والعبارة «حبل الدین» - التی وردت بصیغة المفرد - إشارة إلی وحدة الدین الحق ووحدة المصدر الذی تستقی منه کافة أصول وتعالیم الأنبیاء وإن شهدت هذه الاُصول والتعالیم بعض الفوارق التی تفرزها طبیعة تقادم الزمان، وهذا ما یجوزه القرآن الکریم علی لسان المؤمنین الصادقین بقوله: «لا نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (5)وقوله علیه السلام «إختلف النجر» لا یشیر إلی الاختلافات التی شهدها العصر

ص:186


1- 1) «إنجذم» من مادة «الانجذام» بمعنی إنقطع وإنفصل ومن هنا یطلق إسم الجذام علی ذلک المرض الذی یصیب الجسم فیؤدی إلی انفصال الأعضاء.
2- 2) «تزعزعت» من مادة «زعزع» بمعنی تحرکت واضطربت، فیقال علی سبیل المثال: زعزع الریح الشجرة.
3- 3) «سواری» جمع ساریة العمود و الدعامة.
4- 4) «نجر» علی وزن فجر یعنی الاصل، کما یعنی الاصلاح والشکل والهیئة ومنه اطلق اسم النجار. وقد وردت هذه المفردة فی العبارة بالمعنی الأول.
5- 5) سورة البقرة / 285 [1]

الجاهلی علی أنّها إختلافات صوریة فی تفرعاتها واطیافها فحسب، بل کانت إختلافات أصولیة وأساسیة جذریة.

بل یمکن القول إنّ العبارة إشارة إلی معنی یتضمن تزلزل حتی أرکان الفطرة الإنسانیة والاُصول الفطریة التی جبل علیها الإنسان من قبیل التوحید وعشق الأعمال الصالحة والخیرة؛ أو تغیر قیم المجتمع الإنسانی وتنکرها حتی عاد لکل معاییره الخاصة للتعامل مع القضایا؛ الأمر الذی أدی إلی تلک الحالة من الفرقة والتشتت و «تشتت الأمر» یمکن أن تکون أشارة إلی شدة الخلافات الدینیة القصوی آنذاک (علی أساس أنّ المراد بهذا الأمر هو أمر الدین) أو إشارة إلی الفرقة والشقاق فی کافة الاُمور الاجتماعیة، سواء الاُمور الدینیة والدنیویة والمسائل المرتبطة بالمجتمع والاسرة أو القضایا الاقتصادیة أو الأخلاقیة.

ویبدو أنّ المعنی الثانی أکثر إنسجاما والعصر الجاهلی؛ وهنا تکمن الطامة الکبری حیث یغط الإنسان فی هالة من الشک والتردید وإنعدام الإیمان وأنواع الاختلافات والشقاقات والفساد والانحراف ولیس هنالک من سبیل أمامه للخروج من هذا المأزق حتی یعیش الیأس والقنوط من رأسه إلی أخمص قدمه. وهذه هی الصورة الحقیقیة التی رسمها الإمام علیه السلام لذلک العصر.

ثم یتطرق علیه السلام إلی المعطیات السلبیة التی أفرزتها تلک الأوضاع المزریة آنذاک فوصفها علیه السلام قائلاً: «فالهدی خامل (1)والعمی شامل، عصی الرحمن ونصر الشیطان وخذل الإیمان» .

من الطبیعی أن یتطلب سبیل طاعة الله نور الهدایة من جانب والبصیرة التی تهتدی إلی ذلک النور من جانب آخر؛ فالاُمّة تتحول إلی رعیل شیطانی تتکالب علی الفواحش والرذائل شاءت أم أبت إذا إنعدم فی وسطها ذلک النور وفقدت تلک البصیرة.

والجدیر بالذکر فی العبارة «عصی الرحمن» أن الإمام علیه السلام قد إختار هنا اسم الرحمن من بین أسماء الله الحسنی فی إشارة إلی أنّه ورغم الرحمة الإلهیة التی عمت الجمیع دون إستثناء وانّ طاعته أمر فطری وبدیهی جبلت علیه النفس البشریة إلّاأنّ هؤلاء العمی البصائر فی العصر

ص:187


1- 1) «خامل» بمعنی الشیء المنسی الذی لاقیمة له.

الجاهلی قد صموا أبصارهم حتی عن رؤیة هذه الحقیقة القائمة. ثم یؤکد هذه النتائج المرة التی أصیبوا بها آنذاک فیلخصها علیه السلام قائلاً: «فانهارت (1)دعائمه وتنکرت معالمه ودرست (2)سبله و عفت شرکه (3)» و لعل التعبیر بالدعائم إشارة إلی أولیاء الله ورواد سبیل الحق أو التعلیمات الاصولیة للأنبیاء.

و قوله إنهارت تعود إلی القضاء علی هذه الدعائم أو التعلیمات؛ والمعالم ممکن أن تکون إشارة إلی الکتب السماویة السابقة أو التعالیم النبویة، کما أنّ المراد بالسبل والشرک طرق المعرفة سواء الطرق العقلائیة والفطریة أو طریق الوحی والتعالیم السماویة.

النقطة الجدیرة بالذکر هنا هی أنّ «الشرک» کما أشرنا سابقاً بمعنی الطریق الرئیسی. فالطرق الصغیرة قد تکون عرضة للاهمال والنسیان فی حین لیس الطریق الرئیسی کذلک، مع ذلک ففی مثل هذا المجتمع وحتی الطرق الرئیسیة قد فقدت وزالت غایتها فی إرشاد المارة.

ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی أنّ الاُمّة وفی ظل هذه الشرائط والأوضاع قد وقعت فی حبائل الشیطان واسلست له قیادها «أطاعوا الشیطان فسلکوا مسالکه ووردوا مناهله (4)» .

ولم تکن نتیجة ذلک سوی ما قاله الإمام علیه السلام: «بهم سارت (5)اعلامه، وقام لواؤه» . ثم قال علیه السلام: «فی فتن داستهم (6)باخفاقها (7)ووطئتهم باظلافها (8)وقامت علی سنابکها (9)» . (10)

و السؤال المطروح هنا: هل هذه الفتن هی تلک التی أشیر لها سابقاً أم هی فتن اُخری؛ یبدو أنّها الفتن المذکورة آنفا، غیر أنّ الإمام علیه السلام أشار إلی تفاصیلها الاخری، حیث یشبه الإمام علیه السلام

ص:188


1- 1) «إنهارت» من مادة «الانهیار» بمعنی الاندراس والزوال.
2- 2) «درست» من مادة «دروس» بمعنی إندثار آثار الشیء وزوالها.
3- 3) «شرک» جمع «شرکة» علی وزن حسنه، وقال البعض جمع أشراک بمعنی الطرق العامة.
4- 4) «مناهل» جمع «منهل» بمعنی مورد النهی.
5- 5) «سارت» من مادة «سور» بمعنی الرفع والاعلاء.
6- 6) «داست» من مادة «دوس» و «دیاس» بمعنی الهضم.
7- 7) «أخفاف» جمع «خف» وهو للبعیر کالقدم للإنسان.
8- 8) . «اظلاف» جمع «ظلف» بالکسر للبقر والشاء وشبههما کالخف للبعیر والقدم للإنسان.
9- 9) «سنابک» جمع «سنبک» علی وزن قنفذ بمعنی طرف الحافر.
10- 10) یمکن أن تکون جملة «فی فتن داستهم» متعلقة بمحذوف تقدیره لا والناس فی فتن داستهم» ، کما إحتمل البعض أنّ الجار والمجرور متعلق بسارت فی الجملة السابقة ویبدو الاحتمال الأول أقوی.

فتن الجاهلیة بالحیوان الوحشی الذی یرکل صاحبه بحافره. والذی یقف علی رجلیه لیدوس بها أدنی حرکة تبدو أمامه.

أمّا تعبیره علیه السلام بالسنابک التی تعنی طرف الحافر فهی إشارة لطیفة إلی حقیقة مفادها أنّ هذه الفتن لا تعرف الانکسار وهی باقیة فی إلقاء ضلالها الوخیمة علی الناس (لأن مثل هذه الحیوانات حین تقف علی أطراف حوافرها إنّما تعلن عن تأهبها لابداء ردود الفعل العنیفة تجاه کل من یقف أمامها» .

و علیه فقد کانت الأوضاع فی ذلک الزمان علی درجة من التعقید والوخامة بحیث لم یعدّ هنالک من أمل فی التغلب علیها. وهذا بالذات ما جعل الإمام علیه السلام یخلص إلی هذه النتیجة بالنسبة لما علیه الناس فی ظل تلک الفتن «فهم فیها تائهون (1)حائرون جاهلون مفتونون» .

تائهون إشارة إلی أنّهم قد ضلوا سبیل الحق بالمرة حتی نسوا أنفسهم وخسروا ذاتهم. حائرون إشارة إلی الحیرة التی سیطرت علیهم فسلبتهم حتی القدرة علی اتخاذ القرار الذی من شأنه إنقاذهم من تلک الفتنة. جاهلون أی أنّهم وعلی فرض عزمهم علی إتخاذ القرار لنجاتهم فانّ الجهل والتخبط سوف لن یدعهم یبلغون السبیل السلیم.

مفتونون إشارة إلی الأوهام والخیالات وإلّا لا عیب والحیل التی استهوتهم فجعلتهم یرون السراب ماءاً والمجاز حقیقة. وقد حصل کل هذا حین کان الناس فی خیر أرض (فی جوار بیت الله الحرام ودیار الأنبیاء العظام) واسوأ جیران «فی خیر دار وشر جیران» (2)وأثر ذلک فقد أصبح «نومهم سهود (3)وکحلهم دموع» . والأدهی من ذلک أنّهم یعیشون فی مجتمع لا یقیم زنا للعالم بما جعله یفقد قدرته علی هدایتهم وإرشادهم بینما یخطی الجاهل فی ذلک المجتمع بمکانة لا یحلم بها «بارض عالمها ملجم وجاهلها مکرم» هنالک أربعة تفاسیر أوردها شرّاح نهج البلاغه بشأنه قوله علیه السلام «فی خیر دار» فقد ذهب البعض إلی أنّ المراد بها مکة (بیت اللّه

ص:189


1- 1) تائهون جمع تائه بمعنی الضائع.
2- 2) ذهب البعض إلی أن الجار والمجرور فی قوله «فی خیر دار» یتعلق بمفتونین، والحال أن الانسب أن یکون خبر لمبتدأ محذوف تقدیره «و الناس فی خیر دار» والجملة حال لعصر الجاهلیة والواو فی قوله وشر جیران هی واو المعیة.
3- 3) سهود مصدر بمعنی الارق وقلة النوم (الصحاح، المفردات، لسان العرب والمقاییس) .

الحرام) (و علی هذا الضوء فان العبارات المذکورة وصف لعصر الجاهلیة) بینما قال البعض الآخر أرید بها الشام حیث کانت من الأراضی المقدسة ومهبط الأنبیاء وأهلها شر جیران؛ أی أصحاب معاویة (إذا اعتبرنا عبارات الإمام علیه السلام واردة بشأن عصره) .

الاحتمال الثالث أن یراد بقوله خیردار الکوفة التی کان یقیم فیها الإمام علیه السلام بینما کان أهلها ومن یحیط بها من شر الجیران من قبیل المنافقین والناکثین الذین لا یلتزمون بالعهود. وأخیراً الاحتمال الرابع أن یکون المراد بها دار الدنیا التی یسکنها أغلب الطالحین والاثمین ویبدو التفسیر الأول هو الأنسب والأصوب حیث ینسجم والعبارات المذکورة سابقاً.

و علی ضوء هذا التفسیر فان قوله علیه السلام «نومهم سهود» إشارة إلی الفوضی والاضطراب وإنعدام الأمن والمصائب التی عمت عصر الجاهلیة، والعلماء أولئک الصلحاء الذین تمحوروا حول رسول الله صلی الله علیه و آله والجهال أولئک المفسدون من قریش ومن لف لفهم؛ أمّا علی ضوء سائر التفاسیر فان المراد الفوضی وإنعدم الأمن فی زمان معاویة والمشاکل التی برزت بین العراق والشام آنذاک، وقد ألمحنا سابقاً إلی عدم انسجام هذه التفاسیر وروح الخطبة.

والشاهد علی ذلک إضافة لما ذکر، ما أورده إبن أَبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة حیث قال: أنّه علیه السلام لم یخرج من صفة أهل الجاهلیة وقوله «فی خیر دار» یعنی مکة و «شر جیران» یعنی قریشا، وهذا لفظ النبی صلی الله علیه و آله حین حکی بالمدینة حالة کانت فی مبدأ البعثة فقال «کنت فی خیر دار وشر جیران» (1).

أمّا قوله علیه السلام «نومهم سهود وکحلهم دموع» فهو إشارة لطیفة إلی تفاقم الفوضی والاضطراب ومصائب ذلک الزمان بحیث إذا خلدوا لیلا إلی النوم کان نومهم مضطربا مشوبا بالخوف والرعب والسهاد، وقد إتسعت هوة الفتن بحیث إکتحلت عیونهم بالدموع التی تحرق أجفانها بدلاً من تزینها بالکحل.

و من الطبیعی وفی ظل هذه الاجواء وفی تلک الدیار والمجتمعات أن یغیب دور العلماء وتهمل مکانتهم وبالمقابل یبرز الجهال الذین کانوا یمثلون زعماء قریش وکبرائها لیحظوا

ص:190


1- 1) شرح نهج البلاغه لابن أبی الحدید 1 / 137. [1]

باحترام الآخرین وتقدیرهم بعد أن قلبت الموازین وضاعت القیم.

و أخیراً فهناک إحتمال آخر أن یکون المراد بالعلماء هم ذلک النفر القلیل من الموحدین قبل بعثة النبی محمد صلی الله علیه و آله من قبیل عبدالمطلب وأبوطالب وقس بن ساعدّة ولبید بن ربیعة وأمثالهم.

صورة الحیاة المیتة فی العصر الجاهلی

لقد قدم الإمام علیه السلام بهذه العبارات القصیرة والعمیقة المضامین صورة دقیقة حیة عن الأوضاع التی عاشها العرب فی العصر الجاهلی بحیث یجد کل من تأملها نفسه فی خضم ذلک العصر لیری بأُم عینه کل تلک الفوضی والقبائح والرذائل.

فقد عکس الإمام علیه السلام عظمة مقام النبی صلی الله علیه و آله وسمو منزلته من جانب حیث تتضح شدة النور و عمق خطفه للابصار کلما کان الظلام دامسا والعتمة شدیدة، الأمر الذی یکشف عن عظمة خدمات نبی الإسلام صلی الله علیه و آله ونجاعة دینه فی خلق المجتمع. ولا غرو فان استبدال ذلک المجتمع - بالمواصفات المذکورة - إلی ذلک المجتمع الذی إلتف حول الرسول لم یکن یبدو أمراً ممکناً، ولیس ذلک سوی للاعجاز والوحی وعظمة التعالیم الإسلامیة التی تمکتت من انتشال ذلک المجتمع وطبعه بهذه الصفات العالیة.

من جانب آخر فهی إشارة إلی تجدید الأفکار والأداب والسنن الجاهلیة فی عصر النبی صلی الله علیه و آله والتی ظهرت فی عصر الخلافة الراشدة إثر انحراف الاُمّة عن تعالیم النبی صلی الله علیه و آله.

فالإمام علیه السلام یحذر الاُمّة فی زمانه من الأخطار التی تتهددها من جراء إحیاء سنن الجاهلیة والعادات والتقالید البالیة التی تفتک بالمجتمع. الجدیر بالذکرهنا هو أنّ الإمام علیه السلام قد أورد هذه الخطبة بعد إنصرافه من صفین حیث أراد الفات نظر أصحابه إلی العناصر التی أدت إلی تلک النتیجة باسلوب بلیغ یعرف ب «إیاک أعنی واسمعی باجارة» .

لاشک أنّ عبارات الإمام علیه السلام تستبطن الدروس والعبر التی ینبغی أن نحتذیها نحن المسلمون فی العصر الحاضر الذی یتصف بالمدینة والتطور والتقدم، فهی تحذیر جدی لنا؛ فعباراته تنطبق تماما علی الأوضاع التی یشهدها عصرنا الراهن حیث غاصت الاُمّة الیوم فی هالة من الفتن وتزعزعت عری الإیمان والیقین واندرست سبل معرفة الحق بفعل تفاقم سعة

ص:191

حجم الدعایات المسمومة وانتشار الرذیلة والفساد وتفرق الناس أیادی سبأ وکثرت الأهواء وتعذرت طرق النجاة وقد استفحل الضلال وإنعدام الهدی واستشرت الذنوب والمعاصی وخلی المیدان للشیاطین والمستکربین.

نعم لقد شهد عصر الإمام علیه السلام تلک الغفلة فعادت الاُمّة وأقبلت علی سنن الجاهلیة، والعجیب أنّ الاُمّة آنذاک قد خلدت إلی السبات والکسل بحیث لم یعدّ یؤثر فیها صراخ حتی هذا الولی الربانی وأخذوا یتهافتون علی احیاء سنن الجاهلیة حتی آل الأمر إلی تحول الحکومة الإسلامیة إلی حکومة وراثیة تلاقفها بنو امیة وبنوالعباس، فلم تتعثر المسیرة الإسلامیة آنذاک فحسیت، بل وجهت إلیها ضربات موجعة جعلتها تلعق جراحها لحد الآن! ونری هنا ضرورة تسلیط الضوء علی أوضاع الناس فی العصر الجاهلی من مختلف الجوانب ودراسة ما أورده الإمام علیه السلام بهذا الشأن لنقف بوضوح علی تفاصیل هذا الموضوع.

فجاهلیة العرب - وهکذا الجاهلیة التی کانت تعیشها سائر الأقوام - إنّما تشیر إلی سلسلة من العقائد الباطلة والخرافات والأساطیر والسنن الخاطئة والقبیحة المخجلة إلی أحیانا، جانب الأفعال العبثیة والسلوکیة العنیفة القائمة علی الظلم والاضطهاد والانحرافات الفکریة من قبیل نحت الأوثان من الخشب والحجر والاعتکاف علی عبادتها واللجوء إلیها عند حدوث الخطوب والمصائب حیث جعلوها شفعائهم إلی الله بعد أن اعتقدوا بقدرتها المطلقة وأنّ الخیر والشر بیدها.

و لم تقتصر أفعالهم الطائشة علی وأد البنات کدفاع عن العرض والشرف أو أنّهن یجلبن علیهم الخزی والعار فحسب، بل کانوا یعمدون لقتل أولادهم تحت ذرائع شتی منها تقدیمهم إیاهم کقرابین إلی آلهتهم أو بدافع الفقر «وَکَذ لِکَ زَیَّنَ لِکَثِیرٍ مِنَ المُشْرِکِینَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَکاؤُهُمْ» (1)و «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَکُمْ خَشْیَةَ إِمْلاقٍ» (2)و «وَ إِذا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَیِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» (3).

ص:192


1- 1) سورة الانعام / 137. [1]
2- 2) سورة الاسراء / 31. [2]
3- 3) سورة التکویر / 8. [3]

و لم یعیشوا أی هاحبس من قلق لفظاعة هذه الجرائم، بل أبعد من ذلک کانوا یتفاخرون بها علی أنّها من العناصر المشرفة فی حیاة الاسرة التی کانت تعمد لارتکاب مثل تلک الجنایات المهوولة.

أمّا المراسم العبادیة فی البیت فلم تکن سوی المکاء والتصدیة والعری التی کانت علیه النساء حین العبادة وهن یطفن حول الکعبة «وَما کانَ صلاتُهُمْ عِنْدَ البَیْتِ إِلّا مُکاءاً وَتَصْدِیَةً» (1)کانوا یتفاخرون بالحروب وسفک الدماء والسلب والنهب، کما لم یکونوا یقیموا أدنی وزن للمرأة فهی لیست سوی سلعة رخیصة فلا تتمتع بأدنی حقوق بل کانوا أحیانا یقامرون بها.

کانوا یرون الملائکة بنات الله - وکما أشرنا سابقاً فانّهم کانوا یرون فی البنت العار والفضیحة - «وَیَجْعَلُونَ لِلّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما یَشْتَهُونَ» (2)و «أَمْ خَلَقْنا المَلائِکَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ» (3)أمّا علی مستوی الخرافات والاساطیر التی کانت سائدة لدیهم فقد کانت عجیبة مذهلة ومنها ما وصفه القرآن الکریم «وَقالُوا ما فِی بُطُونِ هذِهِ الأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُکُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلی أَزْواجِنا وَ إِنْ یَکُنْ مَیْتَةً فَهُمْ فِیهِ شُرَکاءُ» (4).

إذا غضب أحدهم علی إمرأته وأراد أن یوبخها کفاه وأن یخاطبها «أنت علی کظهر أمی» فهم یعتقدون أنّ هذا القول یکفی أن تحرم علیه لأنّها عادت کامه دون إجراء حکم الطلاق علیها، الأمر الذی شجبه القرآن ولم یقره: «وَما جَعَلَ أَزْواجَکُمُ اللّائِی تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِکُمْ» (5)، «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلّا اللّائِی وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَیَقُولُونَ مُنْکَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً» (6)أمّا الطابع السائد الذی کان یمیز العصر الجاهلی فانما یکمن فی شن الحروب والغارات التی

ص:193


1- 1) سورة الانفال / 35. [1] امّا المشهور بالنسبة لسبب نزول سورة التوبة ومن الاُمور التی أمر أمیر المؤمنین علیه السلام بابلاغها المشرکین «و لا یطوفن یا لبیت عریانا» . نور الیقلین، 2 / 179-181 ح 14 و17 و18 و20 ومجمع البیان، 5 / 3.
2- 2) سورة النحل / 57. [2]
3- 3) سورة الصافات / 150. [3]
4- 4) سورة الانعام / 139. [4]
5- 5) سورة الاحزاب / 4. [5]
6- 6) سورة المجادلة / 2. [6]

تستبطن سفک الدماء وتأجیج الأحقاد والأضغان التی توارثتها الأقوام أبا عن جد، الأمر الذی شبهه القرآن بشفا حفرة من النار، فقال «وَاذکُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَکُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ» (1).

الخرافة الاُخری التی کانت تسود فی الأذهان هو الاعتقاد بالرابطة القائمة بین نزول المطر وبزوغ واختفاء بعض الکواکب، والتفؤل بالطیور والإیمان بالغول الصحراوی والعفاریت وما شابه ذلک؛ الأمر الذی عبر عنه القرآن الکریم فی أکثر من أیة بالضلال المبین. «هُوَ الَّذِی بَعَثَ فِی الأُمِّیِّینَ رَسُولاً مِنْهُمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَیُزَکِّیهِمْ وَیُعَلِّمُهُمُ الکِتابَ وَالحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ» (2).

نعم هذه صورة مقتضبة من الحالة التی کانت علیها العرب فی الجاهلیة - بل هذه ممیزات سائر الأقوام فی الجاهلیة التی تعددت أشکالها واتفقت مضامینها.

و من هنا یمکن الوقوف علی عظمة الإسلام والقرآن وحامل رسالتها النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، الأمر الذی توصل إلیه أحد أعلام الغرب ویدعی توماس کارل فی أنّ الله هدی العرب من الظلمات إلی النور بالإسلام ومن اُمّة راکدة متقاعسة لاصوت فیها ولاحرکة إلی أمّة ذات شهرة ومن الضعف والوهن إلی الیقظة والقوة، ومن الضعة إلی العزة ومن العجز إلی القدرة. فقد شع نور الإسلام علی العالم من جهاته الأربع ولم یمضی علیه أکثر من قرن فبلغ المسلمون الهندالأندلس، بل استطاع الإسلام أن یبسط نوره علی تصف المعمورة بهذه المدّة القصیرة. (3)

ص:194


1- 1) سورة آل عمران / 103 [1]
2- 2) سورة الجمعة / 2. [2]
3- 3) عذر التقصیر لدی محمد والقرآن، ص77 (نقلا عن تفسیر الامثل، 3 / 31) .

القسم الثالث: المنزلة السامیة لآل محمد صلی الله علیه و آله

اشارة

و منها یعنی آل النبی علیه الصلاة والسلام

«هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَیْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُکْمِهِ، وَکُهُوفُ کُتُبِهِ، وَجِبالُ دِینِهِ، بِهِمْ أَقامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأَذْهَبَ ارْتِعادَ فَرائِصِهِ» .

الشرح والتفسیر

یصف الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة الأئمة من أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله بعبارات قصیرة عمیقة المعانی، حیث یتطرق إلی مکانتهم بعد رسول الله صلی الله علیه و آله علی ضوء ماورد فی الأحادیث النبویة الشریفة من قبیل حدیث الثقلین وسفینة نوح والنجوم. (1)

فقد وصفهم فی عباراته الست الاولی بقوله علیه السلام: «هم موضع سره، ولجأ (2)أمره، وعیبة (3)علمه، وموئل (4)حکمه، وکهوف (5)کتبه وجبال دینه» (6)أنّ کل عبارة من هذه العبارات تشیر

ص:195


1- 1) فقد تصدت هذه الأحادیث التی روتها مصادر الفریقیین لبیان مکانة أهل البیت علیه السلام. فقد صرّح حدیث الثقلین بأنّ أهل البیت علیه السلام هم عدل القرآن الذین لا یفترقون عنه حتی یردا علی النبی صلی الله علیه و آله حوضه. أمّا الحدیث الثانی فقد شبههم بسفینة نوح من رکبها نجی ومن تخلف عنها غرق. وأخیراً حدیث صلی الله علیه و آله الذی قال فیه: «مثل أهل بیتی فیکم کمثل النجوم بای إقتدیتم إهتدیتم وإنّ النجوم أمان لأهل السماء وأهل بیتی أمان لأهل الأرض» .
2- 2) «لجأ» و «ملجأ» بمعنی الملاذ.
3- 3) «عیبة» بمعنی الوعاء و الصندوق أو الشیئی الذی تحفظ فیه الأشیاء و قد اُشتق فی الواقع من العیب و قد استعمل بالمعنی المذکور لأنّ العیوب عادة ما تستر.
4- 4) «موئل» من مادة «وأل» علی وزن سهل بمعنی المرجع والملاذ وموضع النجاة.
5- 5) «کهوف» جمع «کهف» بمعنی الغار، إلّاأنّ البعض قال الکهف هو الغار الواسع، ولما کان الناس یلجأون إلی الغیران فی أغلب الأوقات فقد احتمل أن یکون بمعنی الملاذ والموضع الذی یحفظ الأشیاء.
6- 6) اعلم ان هنالک اختلافا بین الشرّاح بشأن الضمیر فی هذه العبارات الست. فقد ذهب البعض إلی أنّها ترجع جمیعا إلی النبی صلی الله علیه و آله بینما تفید القرائن أنّ الضمیر فیها یعود إلی الله سبحانه (و لا یسما بالالتفات إلی قوله وکهوف کتبه) بینما یعود الضمیر فی العبارة الأخیرة إلی الدین کما سیأتی توضیح ذلک لاحقا.

إلی أمر معین رغم ما ذهب إلیه بعض العلماء والشرّاح من ترادف العبارات وأنّها شبیهة لبعضها البعض الآخر.

فقد أشارت العبارة الاولی إلی حقیقة مؤادها أنّ الاسرار الإلهیة مودعة لدیهم. وبالبداهة أن یلم بجمیع الأسرار من ینهض بمسؤولیة زعامة الدین؛ حیث لا ینتظم أمرهم فی هدایة الناس وتدبیر شؤون حیاتهم دون الانطواء علی ذلک العلم، ولا سیما أنّ زعامتهم لا تختص بزمان دون آخر بل تتعلق بجمیع البشریة علی مدی العصور والدهور (وقد ذکرنا فی مبحث علم غیب الأنبیاء والأوصیاء المعصومین أنّ أحدی مقومات زعامتهم تستند إلی علمهم بالغیب وإلّا لانطوت زعامتهم علی العیب والنقص) .

ثم أشار فی العبارة الثانیة إلی أنّهم ملجأ أمر الله. والسؤال الذی یبرز هنا هل یقتصر هذا الأمر علی الأوامر التشریعیة أم یشمل الأوامر التکوینیة أیضا؟ یبدو من ظاهر العبارات السابقة واللاحقة أن الأوامر تقتصر علی التشریعیة منها حیث یجب علی الاُمّة أن ترجع إلی أئمة العصمة فی تلقی أوامرهم وإمتثال تعالیهم.

أمّا العبارة الثالثة فقد اعتبرتهم علیه السلام عیبة علوم الله سبحانه، ولا یقتصر ذلک علی الأسرار و الأوامر، بل یشمل جمیع العلوم اللازمة لهدایة الناس أو ذات الصلة بهذه الهدایة فهی مودعة لدیهم مخزونة عندهم. وفی العبارة الرابعة یتضح أنّهم المرجع فی الأحکام الإلهیة التی یجب علی الاُمّة الرجوع إلیهم فی الاختلافات علی المستوی الفکری أو القضائی لیزیلوا عنهم الفرقة والاختلاف ویهدوهم سواء الصراط.

وإذا اعتبرنا «موئل حکمه» علی وزن إرم جمع حکمة فانّ فارق هذه العبارة مع العبارات السابقة سیتضح تماماً، لأنّ الکلام هنا سیکون فی فلسفة وحکمة الأحکام الإلهیة التی تؤلف جزءاً من علوم الأنبیاء والأئمة المعصومین علیهم السلام.

أمّا قوله علیه السلام «و کهوف کتبه» فیکشف اللثام عن هذه الحقیقة وهی أنّ مضامین جمیع الکتب السماویة موجودة عندهم. وهذا یشبه إلی حدِّ بعید ما قاله علی علیه السلام: «أمّا والله لو ثنیت

ص:196

لی الوسادة فجلست علیها لأفتیت أهل التوراة بتوراتهم. . . وأفتیت أهل القرآن بقرآنهم. . .» . (1)

و أخیراً فقد وصفهم علیه السلام بأنّهم جبال دینه، ولعل العبارة إشارة واضحة إلی ما أورده القرآن الکریم فی عدد من آیاته الشریفة بشأن خصائص الجبال ودورها فی حفظ إستقرارونزول البرکات والخیرات فقد صرّحت الآیة 15 من سورة النحل قائلة «وَأَلْقی فِی الأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ وَ أَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ» فالواقع أنّ الجبال - کما ورد فی تفسیر هذه الآیة وسائر الآیات المشابهة - تقوم من جانب باحتواء الضغوط المسلطة علی الأرض من باطنها وظاهرها، ومن جانب آخر فهی مصادر عظیمة للأنهار والأبار وعیون الماء.

و بالتالی فهی معین لا ینضب من المعادن النفیسة القیمة. ووجه الشبه هو أنّ أئمة العصمة علیه السلام مصدر لسکینة الأفکار وری القلوب واغناء الاُمّة بما یختزنونه من معادن نفیسة. (2)ثم یواصل الإمام علیه السلام کلامه إثر ذکره لهذه الصفات فیقول «بهم أقام انحناء ظهره وأذهب إرتعاد (3)فرائصه (4)» .

أمّا انحناء الظهر فهی کنایة رائعة لشدة المعضلات التی طالت الدین من من قبل الأعداء العلماء والأصدقاء الجهلاء فانبری لها هؤلاء الکرام لیبقوا علی الدین شامخاً لایناله تحریف المحرفین ولا فتن المبطلین. والتعبیر «ارتعاد الفرائص» ارتعاد اللحمة التی تغطی القلب بین الجنب والکتف وهی کنایة لطیفة عن الاضطراب والاختلال الذی یطیل الدین من قبل المدارس الالحادیة والانحرافات الدینیة والتی یقف بوجهها أئمة الهدی فیقضوا علیها فیعیدوا للدین صبغته الحقیقة الناصعة.

ص:197


1- 1) بحار الانوار 10 / 118، ح 1. [1]
2- 2) راجع التفسیر الامثل، ذیل آیة 15 من سورة النحل.
3- 3) «إرتعاد» من مادة «رعدّة» بمعنی الاهتزاز، ومن هنا یطلق الرعد علی الصوت العظیم الذی تحدثه السحب والغیوم.
4- 4) «فرائص» جمع «فریصة» هی اللحمة بین الجنب والکتف التی ترعد حین الخوف ولذلک کانت (ارتعاد الفرائض) کنایة عن الخشیة والاضطراب، ومن هنا کانت الفرصة تطلق علی المدّة الزمانیة للقیام بعمل (المقاییس، المفردات ولسان العرب) .

تأمّلان

1- آل النبی صلی الله علیه و آله کهف الاُمّة الإسلامیة

ما ورد فی عباراته علیه السلام یمثل الحقائف البعیدة عن أیة مبالغة والتی تشهد علیها سیرة أئمة العصمة علیه السلام ولا سیما عصر أمیر المؤمنین والإمام الباقر والصادق والرضا علیه السلام وکیف وقف هؤلاء العظام بوجه المدارس المنحرفة التی ظهرت إثر إتساع رقعة الإسلام وورود الأفکار المنحرفة للمناطق الإسلامیة إلی جانب الخرافات والأساطیر والعقائد الفاسدة والتفاسیر الخاطئة المشبوهة التی أوردها الغلاة والقلاة للنیل من الإسلام المحمدی الأصیل.

فقد أفاد التاریخ أنّهم لم یعجزوا عن جواب أی سوال، بل کانوا یجیبون بما یثلج صدر الصدیق ویغیظ العدو. من جانب آخر فقد شهد رحیل النبی الأکرم صلی الله علیه و آله العواصف الهوجاء التی تکاد تغرق السفینة الإسلامیة لولا هذه الصفوة الطاهرة، وقد تنوعت أدوارهم واتحدت أهدافهم فتارة یذود عن الدین بما یظهر من علمه ومعرفته وتبیینه لحقائق الإسلام، واُخری بدمه الشریف إن تطلب حفظ الدین ذلک وهذا ما تمثل بحرکة الإمام الحسین علیه السلام وصحبه المیامین الذین ذادوا بمهجهم دون حیاض الدین وبیضة الإسلام.

و لو تأملنا الانحرافات العقائدیة والأفکار العجیبة التی سطرتها کتب الملل والنحل وقارناها مع المعارف والعقائد التی حمل رایتها أئمة أهل البیت علیه السلام - ونموذج ذلک نهج البلاغة والصحیفة السجادیة «زبور آل محمد» - والروایات الورادة عنهم علیه السلام فی الکتب من قبیل توحید الصدوق والمصادر المشابهة لاتضحت لنا الحقیقة التی ذکرت سابقاً فی صفاتهم علیه السلام.

و أخیراً هؤلاء هم الذین وصفهم الإمام علیه السلام فی موضع آخر من نهج البلاغه لکمیل بن زیاد فقال: «اللّهم بلی لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة أمّا ظاهراً مشهوراً أو خائقاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبیناته. . . یحفظ الله بهم حججه وبیناته حتی یودعوها نظرائهم یزرعوها فی قلوب أشباههم» . (1)

وهم الذین قال فیهم رسول الله صلی الله علیه و آله: «إنّی مخلف فیکم الثقلین کتاب الله وعترتی أهل

ص:198


1- 1) نهج البلاغه، [1]الکلمات قصار، 147. [2]

بیتی وأنّهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض فانظروا کیف تخلفونی فیهما» . (1)

2- من هم آل النبی صلی الله علیه و آله؟

ما یفهم ممّا مرمعنا سابقاً أنّ المراد بأهل البیت الأئمة المعصومین علیهم السلام؛ لا ما ذهب إلیه بعض المفسرین لنهج البلاغة من أنّ المراد بأهل البیت أولئک الذین حفظوا الإسلام علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله مثل حمزة والعباس وجعفر. طبعا لا یخفی الدور الذی لعبه هؤلاء فی الذود عن بیضة الإسلام، غیر أن مضمون العبارات السابقة یبدو أبعد من ذلک ولا یراد بهؤلاء سوی أئمة العصمة علیه السلام.

ص:199


1- 1) راجع الی تفسیر نفحات القرآن، ج 9. [1]

ص:200

القسم الرابع: لا یقاس بآل محمد أحد من الناس

اشارة

«زَرَعُوا الْفُجُورَ، وَسَقَوْهُ الْغُرُورَ، وَحَصَدُوا الثُّبُورَ، لا یُقاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صلی الله علیه و آله مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ، وَلا یُسَوَّی بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَیْهِ أَبَداً. هُمْ أَساسُ الدِّینِ، وَعِمادُ الْیَقِینِ إِلَیْهِمْ یَفِیءُ الْغالِی، وَبِهِمْ یُلْحَقُ التّالِی، وَلَهُمْ خَصائِصُ حَقِّ الْوِلایَةِ، وَفِیهِمُ الْوَصِیَّةُ وَالْوِراثَةُ: الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَی أَهْلِهِ وَنُقِلَ إِلَی مُنْتَقَلِهِ!» .

الشرح والتفسیر

یبدو أنّ الضمائر فی العبارات الثلاث الاولی - بالاستناد إلی أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة حین إنصرافه من صفین - تعود إلی القاسطین (أصحاب معاویة) والخوارج المارقین؛ کما ذهب البعض إلی أنّها تعود إلی المنافقین، أو جمیع أولئک الذین خالفوا الإمام علیه السلام وهبوا لقتاله.

علی کل حال فقد شبههم علیه السلام تشبیه دقیق فقال علیه السلام: «زرعوا الفجور (1)وسقوه الغرور (2)وحصدوا الثبور (3)» .

ثم یعود علیه السلام لبیان أوصاف آل محمد صلی الله علیه و آله بعبارات أکثر صراحة ووضوح ضمن إشارته - کعادته فی قلة الألفاظ وسعة المعانی - إلی منزلتهم الرفیعة وحقوقهم السلیبة فیقول:

ص:201


1- 1) «فجور» من مادة «فجر» بمعنی الشق فی الشی ومن هنا یطلق الفجر علی طلوع الصبح وکأن ضیاء الصبح یشق حجاب اللیل المظلم، کما یصطلح علی الأعمال غیر المشروعة بالفجور لأنّها تخترق حجب الدین.
2- 2) «الغرور» بمعنی الغفلة فی الیقظة، ووردت بمعنی المکر والحیلة، والغرور بفتح الغین بمعنی الشیء الذی یخدع الإنسان ویستغفله، کما فسر بمعنی الشیطان، لانه یخدع الناس بوعوده الکاذبة.
3- 3) «الثبور» من مادة «ثبر» علی وزن صبر بمعنی الحبس والهلاک والفساد الذی یصد الإنسان عن بلوغ الهدف.

«لا یقاس بآل محمّد صلی الله علیه وآله من هذه الاُمّة أحد» ودلیل ذلک لا نقاش فیه، لأنّهم وعلی ضوء صریح الحدیث النبوی الشریف حدیث الثقلین الذی نقلته جمیع مصادر الفریقین عدل القرآن الکریم، ونعلم جمیعاً أن لیس هنالک من الاُمّة أحد من قرن بالقرآن، أضف إلی ذلک فهناک الآیات القرآنیة التی تؤید هذا المعنی من قبیل آیة التطهیر التی تصرح بعصمتهم وآیة المباهلة التی عدت البعض منهم کنفس رسول الله صلی الله علیه و آله وسائر الآیات والروایات.

و بغض النظر عمّا تقدم فان علومهم ومعارفهم التی رویت عنهم هی الاُخری لایمکن مقارنتها بعلوم الناس ومعارفهم.

فهل روی الاُخرون عشر معشار ما ورد فی نهج البلاغه؟ وهل هناک من یقوی علی الإتیان بدعاء من أدعیة الصحیفة السجادیة. وما بالک فی الأحکام الشاملة الواسعة التی رویت عن الإمام الباقر والصادق علیهما السلام بشأن جزئیات المسائل الدینیة، والمناظرات التی عقدها الإمام الرضا علیه السلام مع سائر زعماء الأدیان حول مختلف المسائل العقائدیة والأبواب الفقهیة؟ آنذاک یتحدث عن دلیل العبارة السابقة: «و لا یسوی بهم من جرت نعمتهم علیه أبدا» و أی نعمة أعظم من تلک النعمة!

فلو لا تضحیات علی علیه السلام لما ذاق الاُخرون طعم الإسلام. فسیرة علی علیه السلام منذ لیلة المبیت ومرورا بموقعة بدر وأحد والخندق وخیبر وغزوات الإسلام کلها شواهد علی المعنی المذکور و قد بلغت منزلته من السمو والرفعة بحیث قال رسول الله صلی الله علیه و آله «ضربة علی یوم الخندق أفضل من عبادة الثقلین» وفی عبارة اُخری «لمبارزة علی علیه السلام لعمرو بن عبدود أفضل من أعمال اُمّتی إلی یوم القیامة» (1).

لقد فدی رسول الله صلی الله علیه و آله بنفسه حین بات علی فراشه، وهو الذی قلع باب خیبر ودک حصونها حین عجز من سواه. وهو الذی وقف صامدا فی المواقف التی تنکص فیها الابطال وفی مقدمتها موقعة أحد حین إنفرج المسلمون عن رسول الله صلی الله علیه و آله ولم یبق معه إلّاعلی بن أبی طالب علیه السلام حیث کان رسول الله صلی الله علیه و آله کلما حمل علیه العدو ناداه ردها یا بن أبی طالب.

ص:202


1- 1) انظر إحقاق الحق 6 / 4؛ 16 / 402 [1] واعیان الشیعه 1 / 264. [2]

أضف إلی ذلک سائر مواقفه المشهورة فی تاریخ الإسلام سواء فی عصر النبی صلی الله علیه و آله أو ما تلاه من العصور ودافع فیها بعلمه وعمله عن الإسلام. أمّا فی عصر الخلافة الراشدة والعصر المظلم لبنی أمیة وبنی العباس لم یکن سوی هولاء الأطهار من أهل البیت علیهم السلام الذین أضاءوا تلک الظلمات بنور علمهم ومعرفتهم حتی أنقذوا المسلمین من تلک الحملات الثقافیة المسعورة التی تبنت إحیاء سنن الجاهلیة وإطفاء السنن الإلهیة ولا نری هذا الدور خافیا علی أحد رغم الجهود المضنیة التی، بذلها أعدائهم لاطفاء نورهم وطمس فضائلهم.

و الطریف فی الأمر أنّ الإمام علیه السلام یتحدث عن نعمة وجود أهل البیت بشکل دائمی مستمر و خالد دون اقتصارهم علی عصر دون آخر، ولا غرو فثمار الشجرة الإسلامیة المبارکة التی نقطضها إنّما زرعها الرسول الکریم صلی الله علیه و آله وأهل بیته علیهم السلام: «لا یقاس بآل محمد صلی الله علیه وآله من هذه الاُمّة أحد، ولا یسوی بهم من جرت نعمتهم علیه أبدا» . ثم یتعرض علیه السلام إلی أمرین آخرین ینبعان من الأمر السابق فیقول: «هم أساس الدین وعماد الیقین» . نعم فقد نزل الوحی فی بیتهم وتربوا فی أحضانه وما عندهم من علوم ومعارف إنّما أخذوها عن رسول الله صلی الله علیه و آله ولما کانت العلوم والأسرار الإلهیة مودعة لدیهم فهم أئمة الإیمان ودعاة الیقین. ثم یخلص الإمام علیه السلام إلی هذه النتیجة: «إلیهم یفییء الغالی، وبهم یلحق التالی» وکیف لا یکونوا کذلک و هم الصراط المستقیم (1)والاُمّة الوسطی (2)وعندهم المعارف الإلهیة الحقة والعقائد الإسلامیة الأصیلة البعیدة عن کل إفراط وتفریط.

و لو تصفحنا تاریخ الفرق والمذاهب الإسلامیة البعیدة عن مدرسة أهل البیت علیهم السلام لرأینا الانحراف العقائدی الخطیر من قبیل السقوط فی حبال الجبر والتفویض والتشبیه والالحاد فی أسماء الله وصفاته، بل غالی البعض فی أسماء الله وصفاته حتی قالوا بتعطیل الصفات الإلهیةأن لیس هناک من سبیل لمعرفته سبحانه (سواء المعرفة الإجمالیة أو المعرفة التفصیلة) ، وبالمقابل هناک الفرق التی هبطت بالذات الإلهیة المقدسة إلی الحضیض فوصفته سبحانه بأنّه رجل أمرد صبیح الوجه علیه کساء أسود ملتحف به.

ص:203


1- 1) تفسیر نور الثقلین 1 / 20-21.
2- 2) تفسیر نور الثقلین 1 / 134.

أمّا بشأن مسألة الجبر والتفویض، فقد ذهبت الجبریة - فرقة من الفرق الضالة - إلی أنّ الإنسان کائن مسلوب الإرادة والاختیار وأنّه مجبر علی أفعاله المقدرة علیه علی ضوء القضاء والقدر الإلهی فانّ قدر له الکفر کفر وإن قدر له الإیمان آمن.

بینما وقفت المفوضة التی رأت للإنسان استقلالا تاماً إزاء الذات الإلهیة المقدسة، فاعتقدت بانّ جمیع الأفعال مفوضة للإنسان، وهکذا هوت فی وادی الشرک.

بینما تبنت مدرسة أهل البیت علیهم السلام إطروحة «الأمر بین الامرین» لتنفی مسألة الجبر والتفویض وتحذر المسلمین من الإفراط والتفریط الذی یقود إلی الکفر والشرک، ومن هنا یتضح معنی کلام الإمام علیه السلام: «إلیهم یفیئی الغالی، وبهم یلحق التالی» فالعبارة تشبیه لطیف کأن هنالک قافلة یقودها عدد من الرواد الماهرین، تقسم بعض الأفراد الذین یندفعون أکثر من غیرهم قدما فیضلون فی الصحراء، بینما یهن الآخرون ویتخلفون عن الرکب فیصبحوا طعمة لذئاب الصحراء.

ثم یقول علیه السلام: «و لهم خصائص الولایة» . وتصدر الجمله بلهم تفید إقتصار هذه المزیة علیهم علیه السلام. وکیف لا یکونوا أصلح من الجمیع وهم دعائم الدین وارکان الیقین الذین یمثلون الإسلام الأصیل الذی لا یعرف الإفراط والتفریط، وهم النعمة الجاریة علی أفراد الاُمّة إلی یوم القیامة. ولذلک قال علیه السلام: «و فیهم الوصیة والوراثة» .

نستنتج ممّا سبق أنّ وصیة النبی صلی الله علیه و آله بهم واستخلافهم من بعده إنّما تستند لمامر معناً سابقاً، لا علی أساس القرابة والنسب. ولا یخفی أنّ المراد بالوصیة والوارثة هنا الخلافة والنبوة، بل حتی لو افترضنا أنّ الوراثة هنا هی وراثة علوم النبی صلی الله علیه و آله - کما ذهب إلی ذلک البعض - فانّ الأمر سیقود بالتالی إلی جدارتهم باحراز هذا المقام؛ لانّ خلیفة النبی وإمام الخلق لابدّ أن یکون وارثاً لعلوم النبی صلی الله علیه و آله، وأنّ خلیفته هو وصیه؛ فوراثة الأموال - کما نعلم - لیست بذات قیمة والوصیة فی الاُمور الشخصیة والاعتیادیة لا تحظی بأیة أهمیة، ولاشک أنّ اُولئک الذین سعوا جاهدین لتفسیر الوصیة والوراثة بمثل هذه المعانی إنّما یکشفون عن مدی تعصبهم استنادهم إلی العناد والأفکار المسبقة.

فلیس هنالک من مسألة مهمّة تنسجم وقوله علیه السلام: «أساس الدین وعماد الیقین

ص:204

وخصائص حق الولایة» سوی مسألة خلافة رسول الله صلی الله علیه و آله. وأخیراً یخاطب علیه السلام الاُمّة فی زمانه وکأنّهم قد تنکروا لبعض النعم ولا یسما عودة الحق السلیب «الآن إذا رجع الحق إلی أهله ونقل إلی منقله» . (1)

یتضح ممّا قیل بشأن الوصیة والوارثة أنّ المراد بالحق هنا هو الولایة والخلافة التی لا تلیق سوی بأهل البیت علیهم السلام وأنّ محلهم من الخلافة محل القطب من الرحی.

تأمّلان

1- مکانة أهل البیت فی القرآن والرویات

لقد صرّحت أغلب الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة بفضل أهل البیت علیهم السلام بما لا یبقی معه مجال للشک فی سمو مکانتهم وعلو منزلتهم. فآیة التطهیر واضحة فی طهارة أهل البیت علیهم السلام من کل رین وعصمتهم من کل رجس «إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَیْتِ وَیُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً» . (2)

وآیة المباهلة التی وصفت نفس علی علیه السلام بأنّها نفس النبی صلی الله علیه و آله وأنّ أقرب المقربین لله ورسوله صلی الله علیه و آله والمجابین الدعوة لدیه هم الزهراء والحسن والحسین علیه السلام: «قُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَکُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَکُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَکُمْ. . .» (3).

وآیة التبلیغ التی اعتبرت وظیفة النبی صلی الله علیه و آله فی إبلاغ ولایة علی علیه السلام من أخطر الوظائف وأنّ عدم الابلاغ بمثابة عدم ابلاغ الرسالة: «یا أَیُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. . .» (4). إلی جانب ما لا یحصی من الآیات التی لا یسعنا الخوض فیها فی هذه العجالة، ویضاف إلی ذلک مصادر الفریقین والتی صرّحت بتواتر وصحة الأخبار الواردة فی فضائل أهل البیت علیهم السلام. (5)

ص:205


1- 1) هنالک محذوف فی الجملة تقدیره: «الآن إذا رجع الحق إلی أهله لم لا تؤدون حقه» . وقد ورد تقدیر ذلک فی مصادر نهج البلاغة: «الآن إذا رجع الحق إلی أهله من أهل بیت البنوة یجری ما یجری من الحوادث ویقع ما یقع من الاختلاف؟» . (مصادر نهج البلاغة، 1 / 302) [1] وکلا النتجیتین واحدة.
2- 2) سورة الاحزاب / 33. [2]
3- 3) سورة آل عمران / 61. [3]
4- 4) سورة المائدة / 67. [4]
5- 5) لقد أشرنا فی ذیل کل آیة واردة بهذا الشأن فی التفسیر الأمثل إلی المصادر؛ ومن أراد الوقوف علی 2 التفاصیل فلیراجع احقاق الحق، ج3 [5] ورسالة القرآن، ج9.

أمّا الروایات الإسلامیة الورادة فی الصحاح الستة فقد نقلت من فضائل أهل البیت ومناقبهم بما لا یمکن تصوره، بل أوجز بعض علماء العامة تلک الفضائل فی عدّة مجلدات (1)، بینما ألفت عشرات المجلدات من علماء العامة فی جمع الروایات والأخبار الواردة بشأن فضائل أهل البیت. (2)

غیر أنّ الموسف ما قامت به الأیدی الآثیمة إبان الحکومات الظالمة بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله والتی جهدت علی طمس فضائلهم ومناقبهم لینأوا بالاُمّة بعیداً عن الخط الرسالی الأصیل المتمثل بأهل البیت علیهم السلام اُمناء الوحی وحماة العقیدة. فاوئلک الذین صدوا أهل البیت علیهم السلام عن حقهم بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله هم الذین سعوا جاهدین لطمس فضائلهم، وأدهی من ذلک ما مارسه خلفاء بنی اُمیة والعباس الذین کموا الأفواه عن التحدث بفضائلهم حتی عد ذلک جرما یعاقب علیه بالسجن أو الأعدام.

و لولا لطف الله وعنایته لما بقیت من آثار هم شیئاً ولا ختفت فضائلهم ومناقبهم ولا یسعنا هنا إلّاأن نورد ما ذکره شارح نهج البلاغه ابن أبی الحدید المعتزلی بهذا للشأن فقد قال:

فأمّا فضائله علیه السلام؛ فانّها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً یسمج معه التعرض لذکرها، والتصدی لتفصیلها؛ فصارت کما قال أبو العیناء لعبید الله بن یحیی بن خاقان وزیر المتوکل: رأیتنی فیما أتعاط من وصف فضلک، کالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذی لا یخفی علی الناظر، فأیقنت أنی حیث إنتهی بی القول منسوب إلی الدعاء لک، ووکلت الأخبار عنک إلی علم الناس بک. وما أقول فی رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم یمکنهم جحد مناقبه، ولا کتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولی بنو اُمیة علی سلطان الإسلام فی شرق الأرض وغربها، وإجتهدوا بکل حیلة فی اطفاء نوره، والتحریض علیه، ووضع المعایب والمثالب له، ولعنوه علی جمیع المنابر، وتوعدوا ماد حیه، بل حبسوهم قتلوهم، ومنعوا من روایة حدیث یتضمن له فضیلة، أو یرفع له ذکراً، حتی حظروا

ص:206


1- 1) کتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة للمرحوم المحقق الفیروز آبادی.
2- 2) عبقات الأنوار للسید حامد حسین الهندی.

أن یسمی أحد باسمه؛ فما زاده ذلک إلّارفعة وسموا؛ وکان کالمسک کلما ستر إنتشر عرفه، وکلما کتم تضوع نشره؛ وکالشمس لا تستر بالراح، وکضوء النهار إن حجبت عنه عین واحدة، أدرکته عیون کثیرة. (1)

وقد نقل مثل هذا المعنی فی بعض المصادر، حیث صرّح الشافعی: عجبا لرجل أخفی أعداؤه فضائله حسدا وأولیاؤه خوفا فظهر بین هذا وذلک ما ملئ الخافقین. (2)

وقد روی مثل هذا المضمون أیضا عن عامر بن عبدالله بن الزبیر (3).

2- تبریرات واهیة

جدیر ذکره أنّ إبن أبی الحدید حین یصل عبارة الإمام علیه السلام «الآن إذا رجع الحق إلی أهله. . .» فی شرحه لنهج البلاغة یقول: لقد ذکر الإمام علیه السلام أن الحق رجع الآن إلی أهله؛ وهذا یقتضی أن یکون فیما قبل فی غیر أهله، ونحن نتأول ذلک علی غیر ما تذکره الامامیة، ونقول: اِنه علیه السلام کان أولی بالأمر وأحق، لا علی وجه النص، بل علی وجه الأفضلیة، فانّه أفضل البشر بعد رسول الله صلی الله علیه و آله، وأحق بالخلافة من جمیع المسلمین، لکنه ترک حقّه لما علمه من المصلحة، وما تفرس فیه هو والمسلمون من إضطراب الإسلام، وانتشار الکلمة، لحسد العرب له وضغنهم علیه وجائز لمن کان أولی بشی فترکه ثم استرجعه أن یقول: قد رجع الأمر إلی أهله (4).

حقاً أنّ الأحکام المسبقة هی التی تحول دون الاقرار بمفهوم هذه العبارة الواضحة، فلو أراد الإمام علیه السلام أن یقول: لم یودع الحق أهله قبل هذا والآن رجع الحق إلی أهله ونقل إلی منتقله فله أن یذهب إلی ما ذهب إلیه، هذا من جانب ومن جانب آخر فاننا نعلم بأن القول: ان العرب تحسده وتکن له البغض والعداء إنّما هو قول أجوف لا أساس له. نعم کانت هذه الحالة تسود فئة قلیلة ممن تبقی من أعقاب المشرکین والکافرین، وبعبارة اُخری فانّ العداء کان یعیش فی

ص:207


1- 1) شرح نهج البلاغه لابن أبی الحدید 1 / 17. [1]
2- 2) علی فی الکتاب والسنة 1 / 10.
3- 3) الغدیر 10 / 271.
4- 4) شرح نهج البلاغه لابن أبی الحدید 1 / 140. [2]

قلوب زعماء قریش وأحبار الیهود وکبار المنافقین الذین تلقوا من الإمام علیه السلام الضربات المهلکة والموجعة فی المعارک من قبیل بدر وخیبر وحنین، بینما کانت الاُمّة بابنائها تحب علیاً علیه السلام ولذلک ورد فی الحدیث النبوی المعروف الذی نقلته المصادر الإسلامیة المعتبرة أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله قال لعلی علیه السلام: «لا یبغضک إلّامنافق» (1).

وجاء فی صحیح الترمذی - أحد الصحاح الستة المعتمدة لدی أبناء العامة - عن أبی سعید الخدری قال: «إنا کنّا لنعرف المنافقین ببغضهم علی بن أبی طالب» (2).

فهل یرضی إبن أبی الحدید أن تکون الأکثریة الساحقة من المسلمین آنذاک منافقة؟ ومن هنا نری مدی الفرح والسرور الذی عم أوساط المسلمین حین تولیه الخلافة بما لا یمکن مقارنته وسائر الخلفاء، والحال أنّ أغلب معاصریه وممن مد له ید البیعة هم من صحابة النبی صلی الله علیه و آله أو أبنائهم.

و علیه فتبریره واهی لا یصمد إمام الحقائق والواقعیات. وأمّا قوله: إنّه کان أولی بالأمر وأحق لاعلی وجه النص، فهو الآخر کلام أجوف یجانب الحق وسنثبت بطلانه فی محله. (3)

ص:208


1- 1) شواهد التنزیل 1 / 329.
2- 2) صحیح الترمذی، 13 / 168، طبع الصاوی [1]مصر ( 5 / 635 طبع دار احیاء التراث العربی) .
3- 3) انظر «رسالة القرآن» / 9.

الخطبة الثالثة

اشارة

و من خطبة له علیه السلام وهی المعروفة بالشقشقیة وتشتمل علی الشکوی من أمر الخلافة ثم ترجیح صبره عنها ثم مبایعة الناس له.

القسم الأول

اشارة

«أَما وَاللّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ وَإِنَّهُ لَیَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّی مِنْها مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَی. یَنْحَدِرُ عَنِّی السَّیْلُ وَلا یَرْقَی إِلَیَّ الطَّیْرُ فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً، وَطَوَیْتُ عَنْها کَشْحاً. وَطَفِقْتُ أَرْتَئِی بَیْنَ أَنْ أَصُولَ بِیَدٍ جَذّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَی طَخْیَةٍ عَمْیاءَ، یَهْرَمُ فِیها الْکَبِیرُ وَیَشِیبُ فِیها الصَّغِیرُ، وَیَکْدَحُ فِیها مُؤْمِنٌ حَتَّی یَلْقَی رَبَّهُ! فَرَأَیْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَی هَاتَا أَحْجَی، فَصَبَرْتُ وَفِی الْعَیْنِ قَذًی، وَفِی الْحَلْقِ شَجًا، أَرَی تُراثِی نَهْباً» .

نظرة إلی الخطبة

تعتبر هذه الخطبة من أهم خطب نهج البلاغة حیث تتکفل بشرح مسألة الخلافة بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله. وهنالک بعض الاُمور التی تضمنتها هذه الخطبة بما لم یرد شبیهها فی سائر خطب نهج البلاغة، ورغم قلة عباراتها، إلّاأنّها أوجزت عصر الخلافة الراشدة التی

ص:209

نهضت بالأمر بعید وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله. إلی جانب ذلک هناک التحلیلات الدقیقة والرائعة التی تلفت إلیها إنتباه المحققین والباحثین. ونری هنا أن نشیر إلی بعض الاُمور قبل أن نخوض فی شرح وتفسیر هذه الخطبة:

1- اسم الخطبة: لقد اُقتبس اسم الخطبة من عبارتها الأخیرة التی أطلقها الإمام علیه السلام حین قاطع أحدهم الإمام علیه السلام فتوقف، فناشده ابن عباس مواصلة الخطبة فقال له علیه السلام: «تلک شقشقة هدرت ثم قرت» وهکذا رفض علیه السلام طلب ابن عباس، حیث تغیر الجو الذی کان سائداً لاطلاق الإمام علیه السلام تلک العبارات الحماسیة الخطیرة، فقد قام أحد الأفراد من بین الناس وسلم الإمام علیه السلام کتابا (قیل ان فیه مسائل کان یرید الاجابة عنها) فانصرف ذهن الإمام علیه السلام إلی اُمور اُخری.

2- زمان صدور الخطبة: هنالک خلاف بین شرّاح نهج البلاغة بشأن زمان صدور هذه الخطبة. فیعتقد البعض - کالمحقق الخوئی - أنّ الإمام علیه السلام وبالاستناد إلی مضامین الخطبة وطرق أسنادها وروایتها اِنّه أوردها أواخر عمره الشریف بعید موقعة الجمل وصفین والنهروان حین قاتل الناکثین والقاسطین والمارقین (1). والحق أنّ مضمون الخطبة یؤید هذا الرأی.

3- مکان الخطبة: لقد سکت جمع من شرّاح نهج البلاغة عن مکان صدور الخطبة، بینما یعتقد البعض أنّ الإمام علیه السلام أورد هذه الخطبة حین ارتقی المنبر فی مسجد الکوفة، وقال ابن عباس:

لقد ألقی الإمام علیه السلام هذه الخطبة فی الرحبة (2)حین وقع الکلام عن الخلافة.

4- سند الخطبة: هناک بحث فی سند الخطبة أیضا. قال البعض: هذه الخطبة من الخطب المتواترة بینما صرّح البعض الآخر بعکس ذلک ولم ینسب هذه الخطبة لعلی علیه السلام وإنّه لم یشکو قط من الخلافة وإنّما ذلک من وضع الشریف الرضی. أمّا الشارح المعروف ابن میثم البحرانی فقد قال: الادعاء انّ المذکوران باطلان وفیهما إفراط وتفریط. فسند الخطبة لم یبلغ حد

ص:210


1- 1) منهاج البراعة فی شرح نهج البلاغة، 3 / 32.
2- 2) «الرحبة» بمعنی المکان الواسع، ویعتقد البعض أنّها اسم موضع فی الکوفة، بینما یری البعض الآخر هی موضع یبعد ثمانیة فراسخ عن الکوفة (مجمع البحرین ومراصد الاطلاع) .

التواتر، ولا أساس للزعم القائل أنّها من وضع الشریف الرضی، والحق آنهاصدرت من الإمام علیه السلام (1).

و یبدو أنّ الإشکالات الواردة علی الخطبة لم تتأتی من ضعفها أو رکاکتها أو تفاوتها من حیث الاعتبار مع سائر خطب نهج البلاغة، بل بالعکس وکما سیأتی خلال البحث أنّ الخطبة تشتمل علی عدّة أسناد یتعذر وجود مثلها فی سائر بعض خطب نهج البلاغة.

أمّا السبب الوحید الذی یمکن إسناد الإشکال إلیه إنّما یکمن فی عدم إنسجام مضامین الخطبة والذهنیة السائدة لبعض الأفراد الذین ینتمون إلی عدد من الفرق والمذاهب. فهولاء وبدلاً من اتهام ذهنیتهم وبلورتها علی أساس مضمون الخطبة جهدوا فی القدح باسنادها بغیة الإبقاء علی ما یسود أذهانهم من أفکار منحرفة وعقائد باطلة. أمّا الاسناد التی ذکرت للخطبة من غیر نهج البلاغة فهی کالاتی:

أ - قال ابن الجوزی فی تذکرة الخواص: لقد أورد الإمام علی علیه السلام هذه الخطیة حین صعد المنبر جواباً لمن سأله: «ما الذی أبطأبک إلی الآن» (2). وهذا یدل علی أن ابن الجوزی کان یملک سندا آخر لهذه الخطبة؛ لان هذا السؤال لم یرد فی نهج البلاغة، وعلیه فقد کان له طریقا آخر.

ب - قال الشارح المعروف ابن میثم البحرانی: لقد عثرت علی هذه الخطبة فی کتابین اُلفا قبل ولادة الشریف الرضی:

الأول کتاب الانصاف لأبی جعفر ابن قبة تلمیذ الکعبی أحد کبار المعتزلة الذی توفی قبل ولادة الشریف الرضی. والثانی النسخة التی کتب علیها بخط أبو الحسن علی بن محمد بن فرات وزیر المقتدر بالله، وقد توفی لستین سنة ونیف قبل ولادة الشریف الرضی، ثم یضیف: یقوی ظنی أنّ تلک النسخة کتبت منذمدة قبل ولادة ابن فرات (3).

و قال ابن أبی الحدید: قال مصدق: وکان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول أنّها منحولة! فقال: لا والله، وإنّی لاعلم أنّها کلامه، کما أعلم أنّک مصدق.

ص:211


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم 1 / 251.
2- 2) تذکرة الخواص / 124.
3- 3) شرح ابن میثم بحرانی 1 / 252. [1]

قال: فقلت له: إنّ کثیراً من الناس یقولون أنّها من کلام الرضی رحمه الله تعالی. فقال: أنی للرضی ولغیر الرضی هذا النفس وهذا الاسلوب! قد وقفنا علی رسائل الرضی، وعرفنا طریقته وفنه فی الکلام المنثور، وما یقع مع هذا الکلام فی خل ولاخمر: ثم قال: والله لقد وقفت علی هذه الخطبة فی کتب صنفت قبل أن یخلق الرضی بمائتی سنة، ولقد وجدتها مسطورة.

بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الادب قبل أن یخلق النقیب أبو أحمد والد الرضی. قلت: وقد وجدت أنا کثیراً من هذه الخطبة فی تصانیف شیخنا أبی القاسم البلخی إمام البغدادیین من المتعزلة، وکان فی دولة المقتدر قبل أن یخلق الرضی بمدة طویلة. ووجدت کثیرا منها فی کتاب أبی جعفر بن قبة أحد متکلمی الإمامیة وهو الکتاب المشهور والمعروف بکتاب «الانصاف» وکان أبو جعفر هذا من تلامذة الشیخ أبی القاسم البخلی رحمه الله تعالی، ومات فی ذلک العصر قبل أن یکون الرضی رحمه الله تعالی موجوداً (1).

أمّا العلّامة الأمینی فقد نقل هذه الخطبة فی المجلد السابع من کتابه الغدیر علی أنّها نقلت فی ثمانیة وعشرین کتابا.

مضمون الخطبة

ذکرنا سابقاً أن الخطبة تتعرض بجمیع نصوصها إلی مسألة الخلافة بعد رحیل الرسول الأکرم صلی الله علیه و آله والمشاکل التی أفرزها عصر الخلفاء ممن سبقوه ثم یتطرق صراحة إلی أحقیته بالخلافة من الجمیع معربا عن أسفه وابتئاسه لخروج الخلافة عن محورها الأصلی الذی خطط له الإسلام والنبی. وأخیراً یتحدث عن قضیة مبایعة الاُمّة والأهداف الکامنة وراء قبول البیعة بعبارات قصیرة غایة الروعة والبیان.

ص:212


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 205 [1]

الشرح والتفسیر

تحلیل مهم لمسألة الخلافة

تشیر الخطبة - کما ذکرنا سابقاً - إلی العواصف العنیفة والخطیرة التی هزت الاُمّة الإسلامیة وحرفت خلافة رسول الله صلی الله علیه و آله بعید وفاته عن مسارها السلیم، کما تتعرض لاصلح الأفراد وأجدرهم بالأخذ بزمام شؤون الاُمّة وزعامتها علی ضوء المنطق والدلیل والبرهان، کما تعرج الخطبة علی وخامة المعضلات التی أفرزها تقاعس المسلمین عن الالتزام بنصوص النبی صلی الله علیه و آله الواردة بشأن زعامة المسلمین.

فقد إستهل الإمام علیه السلام الخطبة بشکواه ممّا آلت إلیه الخلافة فقال: «أما والله لقد تقمصها (1)فلان وإنّه لیعلم أنّ محلی منها محل القطب من الرحا (2)» .

لا شک ولا إشکال فی أنّ الضمیر فی «تقمصها» یعود إلی الخلافة، ولعل التعبیر بالقمیص إشارة إلی أمر وهو أنّ فلاناً قد استغل مسألة الخلافة کقمیص یزین به نفسه، والحال أنّ هذه الرحا تتطلب محوراً قویاً یحفظ نظامها فی الحرکة ویحول دون إنحراف مسارها وتعثر بفعل المطبات التی تواجهها وتسیرها بما یضمن مصالح الإسلام والمسلمین. أجل فالخلافة لیست قمیصا، بل هی رحی الجامعة، ولیس للخلافة من غنی عن المحور.

هی لیست ثوباً یرتدی. ثم یستدل علیه السلام بدلیل واضح علی المعنی المذکور لیکشف عن مدی علمه وسمو مقامه «ینحدر (3)عنی السیل ولا یرقی الی الطیر» . فقوله علیه السلام «ینحدر عنّی السیل» یعنی رفعة منزلته علیه السلام کأنّه فی ذروة جبل أو یقاع مشرف، ینحدر السیل عنه إلی الوهاد والغیطان، وقوله علیه السلام «و لا یرقی إلیّ الطیر» هذه أعظم فی الرفعة والعلو من التی قبلها، لان السیل ینحدر عن الرابیة والهضبة، وأمّا تعذر رقی الطیر فر بما یکون للقلال الشاهقة جدا، بل ما هو أعلی من قلال الجبال، کأنه یقول: إنّی لعلو منزلتی کمن فی السماء التی یستحیل أن یرقی الطیر إلیها.

ص:213


1- 1) «تقمص» من مادة فمیص بمعنی لبسها کالقمیص.
2- 2) «الرحا» بمعنی الطاحونة، وقد استعملت مادتها بصورة ناقص واوی وناقص یائی.
3- 3) «ینحدر» من مادة إنحدار بمعنی الانهمار والسقوط علی وجه الکثرة.

والتشبیه المذکور ینسجم وما ورد فی القرآن الکریم بشأن دور الجبال فی إستقرار الأرض «وَأَلْقی فِی الأَرْضِ رَواسِیَ أَنْ تَمِیدَ بِکُمْ وَ أَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ» (1). أجل لولا هذه السلسلة العظیمة من الجبال لسلبت السکینة والاستقرار من الناس بفعل الضغوط الجوفیة لباطن الأرض من جانب وتأثیر جاذبیة الشمس والقمر وجزر ومد القشرة الأرضیة من جانب آخر وأخیراً هبوب العواصف، ولا نعدمت المیاه التی تنهمر من السماء فتصب فی البحار والمحیطات وتشکل مصادر الأنهار والأبار والعیون. فوجود الإمام المعصوم والعالم العارف یشکل معین الخیر البرکة والسکینة لکل اُمّة.

إلی جانب کون تعبیر الإمام علیه السلام یشیر إلی تعذر سبر أغوار أفکار الإمام علیه السلام والوقوف علی کنه شخصیته وذروة علمه ومعرفته، ولایتیسر ذلک إلّالمعلم الإمام نبی الإسلام محمد المصطفی صلی الله علیه و آله. حتی صحابة الإمام علیه السلام کانوا ینتهلون حسب إستعدادهم من منهله العذب ویحیطوا بظاهره علی قدر معرفتهم وعلمهم (2).

النقطة الاُخری الجدیرة بالذکر تکمن فی الاستفادة من الأنهار فی حرکة الرحی وتنبع هذه الأنهار من الجبال کما أنّها تفصل هذه الرحی عن الجبال. ولعل العبارة المذکورة إشارة إلی هذا المعنی، أی أنا المحور والرحی والقوة المحرکة الملیئة بالعلم والمعرفة. وکما أشرنا آنفا فان قمم الجبال تختزن برکات السماء کحبات ثلج ثم تفیض بها علی الأرض الهامدة المتعطشة للماء، ویمکن أن تکون العبارة إشارة إلی قرب الإمام علیه السلام من الوحی والاغتراف من کوثر النبی صلی الله علیه و آله.

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالسیل فی العبارة هو علم الإمام علیه السلام الذی وصفه رسول الله صلی الله علیه و آله بقوله: «أنا مدینة العلم وعلی بابها» (3)کما ورد عن الإمام الرضا علیه السلام أنّه فسر «ماء معین» الواردة فی الآیة 30 من سورة الملک «قُلْ أَرَأَیْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُکُمْ غَوْراً فَمَنْ یَأْتِیکمْ بِماءٍ مَعِینٍ» بعلم الإمام علیه السلام (4).

ص:214


1- 1) سورة النحل / 11. [1]
2- 2) للوقوف علی حقیقة التعبیرات الواردة بشأن أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وأفضلیته المطلقة علی من سواه من أفراد الاُمّة، نکتفی بالایضاحات التی وردت فی مقدمة الکتاب بشأن فضائله ومناقبه علیه السلام.
3- 3) للوقوف علی إسناد هذا الحدیث المعروف فی مصادر العامة، انظر إحقاق الحق 5 / 468-501.
4- 4) تفسیر نور الثقلین 5 / 386 [2] ولیس هنالک من منافاة بین هذا التفسیر وذلک الذی فسره بالماء الجاری، 2 ولا التفسیر الذی ورد فی بعض الروایات من أنّ المراد بالماء المعین أصل وجود الإمام علیه السلام، وذلک لإمکانیة جمع هذه المعانی فی مفهوم الآیة.

و هنا تطرح بعض الأسئلة نفسها من قبیل:

الأول: لم مدح الإمام علیه السلام نفسه والحال ورد الذم علی ذلک کقوله «تزکیة المرء لنفسه قبیح» . وللإجابة علی هذا السؤال نقول: هنالک فارق بین مدح النفس والتعریف بها. فقد تکون الاُمّة أحیانا جاهلة بشخصیة فرد؛ الأمر الذی لا یجعلها تستفید منه ومن طاقاته کما ینبغی فالتعریف بالشخص هنا سواء من قبله أو من قبل الآخرین لیس فقط لا ضیر فیه فحسب، بل هو عین الصواب والسبیل الصحیح للنجاة وهو بالضبط من قبیل تعریف الطبیب بمجال تخصصه الذی یضعه علی الوصفة الطبیة، الأمر الذی یهدف إلی إرشاد المرضی فی مراجعته ولا ینطوی علی أی مدیح للشخص.

السؤال الثانی: قوله علیه السلام: «ینحدر عنّی السبیل ولا یرقی إلیّ الطیر» هو زعم منه علیه السلام لیس أکثر فهل قام الدلیل علیه؟

یبدو أنّ الإجابة علی هذا هی أوضح منها علی السؤال الأول؟ لان المقام العلمی الذی اُختص به أمیر المؤمنین علی علیه السلام لیس بخاف علی من له أدنی إطلاع بتأریخ الإسلام والمسلمین. فنا هیک عن تواتر الأحادیث النبویة الجمة الواردة عن رسول الله صلی الله علیه و آله فی فضل علمه وتصریحات العلماء الأعلام فی أنّه مصدر کافة العلوم والمعارف الإسلامیة وزعیمها (1)، إلی جانب تصدیه لأعقد المسائل التی کان یعجز عنها من سبقه من الخلفاء فان أدنی مطالعة لرسائله خطبه وقصار کلماته التی جمعت فی نهج البلاغة لکافیة فی الوقوف علی هذه الحقیقة. فلو تصفح کل إنسان منصفٍ - مسلما کان أم غیر مسلم - نهج البلاغة لخضع متواضعا لعظمة الإمام ولعاش عملیاً مفهوم قوله علیه السلام: «ینحدر عنّی السیل ولا یرقی إلیّ الطیر» .

السؤال الثالث: کیف یشکو علیه السلام الحوادث المرتبطة بالخلافة بعد رحیل رسول الله صلی الله علیه و آله، ألا یتنافی ذلک ومفهوم الصبر والرضا والتسلیم؟

تبدو الإجابة علی هذا السؤال سهلة یسیرة. فالصبر والرضا والتسلیم موضوع، وتبیین

ص:215


1- 1) لقد ذکر ابن أبی الحدید بحثا مفصلاً بهذا الشأن فی شرحه لنهج البلاغة، ثم تطرق إلی العلوم الإسلامیة وشرح کیفیة إرتباطها بعلم الإمام علیه السلام من الناحیة التاریخیة (شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1/17-20) .

الحقائق لیدونها التاریخ ویلم بها أبناء الاُمّة فی الحاضر والمستقبل موضوع آخر، بحیث لایتضمن الأمر أیة منافاة فحسب، بل هو من أوجب الواجبات، وما القضایا المتعلقة بالخلافة إلّانموذج حی من هذه النماذج. ففی الحقیقة والواقع أنّ مصالح المجتمع الإسلامی والاجیال الإسلامیة القادمة هی التی تحتم تبیین هذه الحقائق کی لا تودع بوتقة النسیان.

ثم قال علیه السلام: «فسدلت (1)دونها ثویاً، وطویت عنها کشحاً (2)» .

تفید هذه العبارة بوضوح أنّ رد فعل الإمام علیه السلام حیال تلک الحادثة لم یکن یتضمن الاستعداد والتاهب لخوض الصراع والاشتباک مع الآخرین، بل تجاهل بکل بسالة وزهد ذلک الأمر لاسباب سنتطرق إلی ذکرها.

ولکن من جانب آخر فان بعض الأفکار کانت تمارس ضغطها علیه لتجعله یتساءل: ما الذی ینبغی فعله تجاه هذا الانحراف الخطیر وکیف ینهض بمسئولیته التاریخیة بالنسبة لهذا الأمر؟ ومن هنا أردف قائلاً: «وطفقت أرتئی بین أن أصول بید جذاء (3)، أو أصبر علی طخیة (4)عمیاء» .

فالأمام علیه السلام یکشف فی هذه العبارة عن حقیقة وهی: أننی لم أنس طرفة عین مسئولیتی تجاه الاُمّة والوظیفة التی وضعها الله ورسوله صلی الله علیه و آله علی عاتقی، ولکن لیت شعری ما أنا فاعل وهناک محذوران: المحذور الأول: هل أنهض بالأمر وأخوض الصراع مع الغاصبین، والحال لا أملک العدّة والعدد من جانب، ومن جانب آخر فان من شأن هذه النهضة أن تشق عصا المسلمین وتفرق صفوفهم وتثلج صدور الأعداء والمنافقین الذین یتربصون بالمسلمین مثل هذه الفرصة لیجهزوا علی الإسلام.

المحذور الثانی: أنّ ألتزم الصبر والصمت حیال هذه الحادثة فی ظل هذه الأجواء الدامسة الظلام. والتعبیر بالطخیة العمیاء ینطوی علی روعة فی الدقة والبیان فالطخیة تعنی الظلام،

ص:216


1- 1) «سدلت» من مادة «سدل» علی وزن عدل بمعنی نزول الشیء من الأعلی إلی الأسفل بحیث یغطی، وعلیه فان مفهوم سدلت هنا ترکتها وارخیت علیها شیئا.
2- 2) «کشح» علی وزن فتح بمعنی الضلع و «طوی عنه کشحه» کنایة عن عدم الاهتمام بشیء والانصراف عنه.
3- 3) «جذاء» بمعنی القطع والکسر.
4- 4) «طخیة» بمعنی الظلمة وتاتی بمعنی السحب الخفیفة و «الطخیاء» بمعنی اللیلة الظلماء.

وأحیانا یمکن إختراق الظلمة - إذا لم تکن شدیدة - لمشاهدة شبح ما خلالها، غیر أنّ هذه الظلمة من الشدة والعتمة بحیث أطلق علیها العمیاء لتعذر رؤیة أی شیء من خلالها. ثم یتحدث الإمام علیه السلام عن خصائص تلک الظلمة والفتنة لیوجزها فی عبارات ثلاث عمیقة المعنی فیقول: «یهرم فیها الکبیر، ویشیب فیها الصغیر، ویکدح (1)فیها مومن حتی یلقی ربه» .

و یفهم من هذه العبارة أنّ المعاناة ستعم الجمیع. فهی تشیب الصغیر وتهرم الکبیر بینما ستتضاعف معاناة المؤمنین بفعل تصاعد حدة المشاکل التی سیشهدها المجتمع الإسلامی والاخطار التی تهدد کیانه بما یجعلهم یعیشون هالة من الغم والحزن علی مصیر الإسلام. فلم تمض مدّة حتی تبلورت تلک الاخطار لتشهد ولادة العصر الاموی الذی تمکن خلال مدّة قیاسیة من القضاء علی الصرح الإسلامی الذی شیده رسول الله صلی الله علیه و آله وصحبه بجهودهم المضنیة ومساعیهم العظیمة.

ثم یواصل الإمام علیه السلام خطبته لیعلن عن موقفه تجاه القضیة وعزمه علی التحلی بالصبر: «فرأیت أن الصبر علی هاتا (2)أحجی (3)» . ثم یصف علیه السلام طبیعة ذلک الصبر فیقول: «فصبرت وفی العین قذی (4)وفی الحلق شجا» . (5)

فالعبارة صورة واضحة عن ذروة إستیاء الإمام علیه السلام وتذمره فی تلک السنوات من المحنة والمصیبة، بحیث لم یکن یسعه أن یغمض عینه عن تلک الأحداث أو یفتحها، کما لم یکن یسعه أن یرفع صوته ویعلن عن مدی حرقته، وکیف لا یکون کذلک «أری تراثی نهبا» .

تأمّلات

1- لم آثر الإمام علیه السلام الصبر؟

یشهد التاریخ أنّ المنافقین وخصوم الدعوة کانوا یتربصون بالنبی صلی الله علیه و آله ورحیله عن دار

ص:217


1- 1) «یکدح» من مادة «کدح» بمعنی السعی المصحوب بالتعب.
2- 2) الهاء فی هاتا علامة تنبیه والتاء إسم إشارة مونث، إشارة إلی «طخیة» «الظلمة» التی وردت فی العبارة السابقة. واعتبر البعض أن المشار إلیه الحالة المستفادة من العبارة فیکون المعنی «فرأیت أنّ الصبر علی هذه الحالة أحجی» .
3- 3) «احجی» من مادة «حجا» بمعنی العقل، وعلیه أحجی تعنی الاعقل.
4- 4) «قذی» بمعنی التلوث.
5- 5) «الشجی» بمعنی الهم والغم والشدة والألم، وتعنی أیضا ما اعترض فی الحلق من عظم ونحوه.

الدنیا لتتفتت وحدة المسلمین ویتصدع کیانهم لیتمهد أمامهم السبیل من الانقضاض علی الدین وأهله وبالتالی کسر شوکته والقضاء علیه؛ فلو نهض الإمام علیه السلام بالأمر فی ظل هذه الظروف من أجل نیل حقّه أو بعبارة اُخری بغیة اعادة المسلمین إلی المسار الإسلامی الصحیح لعصر النبی صلی الله علیه و آله وبالالتفات إلی القرارات التی اُتخذت سلفا باقصاء الإمام علیه السلام عن الخلافة فانّ قتالاً سینشب لتعم الفوضی والاضطراب فی صفوف المجتمع الإسلامی بما یمهدّ السبیل أمام المنافقین والمتربصین لنیل أطماعهم ومآربهم، والشاهد الحی علی ذلک تمرد المرتدین عقیب وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله الذین هبوا للوقوف بوجه الحکومة الإسلامیة، ولم یکتب لهم النجاح بفعل المقاومة التی أبدتها الاُمّة تجاههم.

فقد صرّحت بعض السیر التاریخیة بهذا المجال: «لما توفی رسول الله صلی الله علیه و آله إرتدت العرب واشرأبت الیهودیة والنصرانیة ونجم النفاق وصار المسلمون کالغنم المطیرة فی اللیلة الشاتیة» (1).

هذا کله من جانب، ومن جانب آخر فان نهوض الإمام علیه السلام بالأمر قد لا تبدو فیه بارقة أمل بالنصر بفعل غیاب العدّة والعدد من أنصار الحق، ولعل قیام الإمام علیه السلام بالأمر لا یفسر من أغلب الجهال کانتصار للدین والعقیدة بل یعزوه إلی قضایا شخصیة محضة.

غیر أنّ الخسائر التی تکبدها المسلمون علی مرور الزمان إثر انحراف مسار الخلافة عن محورها قد صورها الإمام علیه السلام بمثابة القذی فی العین والشجا فی الحلق. وهذا درس کبیر لکافة المسلمین علی مدی التاریخ وهو أنّ إحقاق الحق إذا استلزم توجیه ضربة إلی دعائم الدین وجب التحفظ عنه وعدم المبادرة إلیه، لان حفظ الدین مقدم عی کل ماسواه، ولیس هنالک من سبیل فی مثل هذه الحالة سوی التحلی بالصبر والتحمل. وقد ورد شبیه هذا المعنی فی الخطبة رقم60 حیث قال علیه السلام: «فنظرت فاذا لیس لی معین إلّاأهل بیتی. . . وأغضیت علی القذی وشربت علی الشجی» .

ص:218


1- 1) سیرة ابن هشام 4 / 316. [1]
2- لماذا التعبیر بالتراث عن الخلافة؟

لقد قال الإمام علیه السلام: «أری تراثی نهبا» وهنا یبرز هذا السؤال: لم عبر الإمام علیه السلام عن الخلافة بالارث؟ !

و تتضح الإجابة علی هذا السؤال من خلال الالتفات إلی هذه النقطة وهی أنّ الخلافة إرث معنوی وإلهی ینتقل من النبی صلی الله علیه و آله إلی أوصیائه المعصومین علیه السلام فهو لیس من قبیل الارث الشخصی والمادی والحکومة الظاهریة. وقد ورد شبیه هذا المعنی فی الآیات القرآنیة بشأن «زکریا» الذی سأل الله من یرثه ویرث آل یعقوب «فَهَبْ لِی مِنْ لَدُنْکَ وَلِیّاً * یَرِثُنِی وَیَرِثُ مِنْ آلِ یَعْقُوبَ» (1).

و الحق أنّ هذا الارث یتعلق بجمیع الاُمّة إلّاأنّ الإمام خلیفة النبی صلی الله علیه و آله هو الذی ینهض به. ونقرأ بشأن وراثة الکتاب السماوی: «ثُمَّ أَوْرَثْنا الکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا» (2).

وعلی غرار ذلک ورد الحدیث النبوی المشهور «العلماء ورثة الأنبیاء» (3).

وشاهدنا علی مامرّ معنا سیرة الإمام علیه السلام وحیاته التی أفادت عدم تعلقه من قریب أو بعید بمال الدنیا وحطامها والخلافة - إلّاأنّ ینهض بوظیفته فی إحقاق حق أو ازهاق باطل - التی لم تکن تعدل عنده عفطة عنز أو قیمة نعلیه. لکن والحال هذه کیف یصف صبره علی فقدان الخلافة بالقذی فی العین والشجی فی الحلق؟ لقد ذهب البعض إلی أنّ مراده بالثراث المنهوب هو فدک التی ورثها رسول الله صلی الله علیه و آله بنته الزهراء علیه السلام، وقد اعتبر ذلک أرثه لمال الزوجة بحکم مال الزوج (4)، غیر أنّ هذا الاحتمال ییدو مستبعدا لأنّ الخطبة بجمیع مضامینها تعالج قضیة الخلافة.

3- الإمام علیه السلام جلیس البیت

لا أحد یسعه إنکار الخسائر الفادحة التی تکبدها العالم الإسلامی إثر إقصاء علی علیه السلام

ص:219


1- 1) سورة مریم / 5 - 6. [1]
2- 2) سورة فاطر / 32. [2]
3- 3) اصول الکافی 1 / 32-34.
4- 4) منهاج البراعة 3 / 45.

وجلوسه فی داره، فلو قصرنا نظرنا علی البعد العلمی حین تصفحنا لنهج البلاغة الذی یمثل جزءا من خطبه ورسائله وکلماته القصار التی أوردها خلال تلک المدّة القصیرة من حکومته رغم ما انطوت علیه من أحداث مریرة وحروب دامیة، لا کتشفنا بیسر مدی العلوم والمعارف والخیرات والبرکات التی کانت ستعم العالم الإسلامی بل الدنیا برمتها لولا تلک المدّة المدیدة - 25 سنة - التی اضطر فیها الإمام علیه السلام للجلوس فی بیته. لا شک أنّ حرمان المجتمع من فیوض الإمام علیه السلام قد جر علیها الویلات والدمار. ولکن ما العمل یا تری وقد سلبت الأمة هذا الفیض العظیم لتبدو خسائره واضحة علی مدی التأریخ.

4- لماذا تعرض الإمام علیه السلام لقضیة الخلافة؟

یتساءل البعض: ألم یکن من الأفضل أن یسدل الإمام علیه السلام الستار علی الماضی ولا یتطرق إلی مسألة الخلافة؛ الأمر الذی قد یثیر الفرقة والتشتت فی صفوف المسلمین ویشق وحدتهم؟

و لا عجب فاننا نری الیوم البعض ممن یردد هذا الکلاح، فما أن تطرح قضیة الخلافة وأنّ الإمام أحق بها واولی من غیره حتی تتعالی الأصوات مطالبة بالصمت ونسیان الماضی تحت ذریعة الحفاظ علی الوحدة الإسلامیة وأننا نواجه الیوم أعداء الإسلام والمخاطر الکبری ومن شأن إثارة هذه الأحادیث أن تضعف المسلمین فی مجابهة أعدائهم؛ بل هل من جدوی لمثل هذه الأحادیث والحال أن أتباع کل مذهب یواصلون مسیرتهم دون الإکتراث لهذا الصوت أو ذاک، وعلیه فمن المستبعد أن تلعب هذه الاُمور أی دور علی مستوی إخوة المسلمین ووحدتهم.

وللإجابة علی هذا التساؤل لابدّ من التذکیر بأمرین:

أ - إنّ الوقائع الموجودة لا یمکنها إخفاء الحقائق البتة. فهذه حقیقة قائمة وهی أنّ النبی صلی الله علیه و آله. قد أکد فی أکثر من مناسبة علی إستخلافه. فما الذی حدث لتشوه هذه الحقیقة وینصح بعدم إثارتها بعد تأکیدها من قبل النبی صلی الله علیه و آله وبناءاً علی ما تقدم فانّ علیاً علیه السلام الذی یتبنی الحق حیثما کان له الحق فی التصدی للوقائع القائمة التی لا تنسجم والحقیقة، فیتعرض للحقائق المرتبطة بالخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله لیتسنی للمحققین أن یصدروا أحکامهم بهذا الشأن ولو بعد

ص:220

قرون مدیدة لیعرفوا الحق وأهله والباطل وأهله فیسلکوا سبیل الحق علی ضوء دراساتهم وتحقیقاتهم. علی کل حال لا یمکن منع إنسان عن بیان الحقیقة، ولو افترضنا قدرتنا علی ذلک فاننا لا نمتلک الحق فی منعه، لما یتضمته المنع من خسائر فادحة، وذلک لأن الواقع القائم غالبا ما یختلف والحقیقة وقد یبتعد عنها مسافة شاسعة. فالوضع القائم لا یعنی أبداً أن یکون هو السائد علی الدوام حیث یلهمنا الإسلام أن نسعی لا قتفاء ما ینبغی أن یکون، وممّا لا شک فیه أنّ مسألة الخلافة والامامة بعد النبی صلی الله علیه و آله لمن المباحث الدینیة الرئیسیة؛ سواء کانت جزءاً من أصول الدین کما یعتقد بذلک أتباع مدرسة أهل البیت علیه السلام، أو جزءاً من فروع الدین. مهما کان فهی مسألة مصیریة من وجهة النظر الدینیة ولا تنطوی علی أیة صیغة شخصیة، خلافاً لما یزعمه البعض من الجهال والغافلین فهی لیست مبحثاً تأریخیاً یتعلق بالماضی قد أکل علیه الدهر وشرب؛ بل هی قضیة تنطوی علی عدّة معطیات مؤثرة فی حاضر المسلمین ومستقبلهم، کما لا یخفی أثرها فی العدید من المسائل الإسلامیة المرتبطة باُصول الدین وفروعه؛ وهذا هو الأمر الذی یقف وراء إثارة الإمام علیه السلام لمسألة الخلافة کراراً ومراراً.

ب - إنّ الأبحاث العقیمة والجدل الفارغ القائم علی أساس التعصب والجمود هی التی تشکل الخطر الأساس علی وحدة الاُمّة الإسلامیة وشق صفوفها؛ أمّا الأبحاث العلمیة والمنطقیة التی یراعی فیها أطراف الحوار والبحث الحدود والموازین العلمیة والمنطقیة فلیست بذات خطر علی الوحدة الإسلامیة فحسب، بل من شأنها أن تساعد فی إرسائها وتوثیق دعائمها. طبعا هذا لیس ضربا من الخیال الفکری بل عشناه علی مستوی الواقع والتجربة. فقد أقیمت أخیراً ندوة فی إحدی المدن بمناسبة أسبوع الوحدة حضرها کبار العلماء والمفکرین من الفریقین نوقشت خلالها أغلب القضایا الخلافیة وقد تمخضت عن عدّة نتائج طیبة حیث قربت وجهات النظر وضغطت حدة الخلافات، بما جعل الجمیع یوقنون بأنّ مثل هذه الأبحاث والحوارات یمکنها أن تقضی علی الفجوة بین المذاهب الإسلامیة وتوطید أواصر الاخوة بما یخدم وحدة المسلمین (1).

ص:221


1- 1) انظر مجلة رسالة الحوزة للوقوف علی المباحث المهمّة التی طرحت فی تلک الندوةو التقارب الذی حصل بین الأفراد.

بل أبعد من ذلک أننا نری الحوار بشأن الأدیان السماویة هو الآخر من شأنه أن یتمخض عن نتائج مفیدة بما یقلل من هوة الخلاف، ولیعلم أولئک الذین یقفون بوجه هذه الحوارات البناءة أنّهم یساهمون بشکل أو بآخر فی مضاعفة الخلافات وتعمیق الفجوة بین الأدیان والمذاهب.

ص:222

القسم الثانی: عصر الخلیفة الثانی

اشارة

حَتَّی مَضَی الْأَوَّلُ لِسَبِیلِهِ فَأَدْلَی بِهَا إِلَی فُلانٍ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الْأَعْشَی: «شَتّانَ ما یَوْمِی عَلَی کُورِها وَ یَوْمُ حَیّانَ أَخِی جابِرِ

فَیا عَجَباً! ! بَیْنا هُوَ یَسْتَقِیلُها فِی حَیاتِهِ إِذْ عَقَدَها لِآخَرَ بَعْدَ وَفاتِهِ - لَشَدَّ ما تَشَطَّرا ضَرْعَیْها - فَصَیَّرَها فِی حَوْزَةٍ خَشْناءَ یَغْلُظُ کَلْمُها، وَیَخْشُنُ مَسُّها وَیَکْثُرُ الْعِثارُ فِیها وَالاِعْتِذارُ مِنْها، فَصاحِبُها کَراکِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَها خَرَمَ، وَإِنْ أَسْلَسَ لَها تَقَحَّمَ، فَمُنِیَ النّاسُ - لَعَمْرُ اللّهِ - بِخَبْطٍ وَشِماسٍ، وَتَلَوُّنٍ وَاعْتِراضٍ فَصَبَرْتُ عَلَی طُولِ الْمُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علی علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی عهد الخلیفة الثانی فقال: «حتی مضی الأول لسبیله فأدلی بها إلی فلان بعده» . (1)أدلی من مادة دلو وهی تستعمل فی سحب الماء من البئر بالحبل والدلو کما تستعمل بمعنی الجائزة والاُجرة والرشوة فی الحکم، فقد قال القرآن بهذا المجال: «وَتُدْلُوا بِها إِلی الحُکّامِ» (2).

قال ابن أبی الحدید المعتزلی: وعمر هو الذی شد بیعة أبی بکر، ورغم المخالفین فیها فکسر سیف الزبیر لما جرده، ودفع فی صدر المقداد، ووطیء فی السقیفة سعد بن عبادة، وقال: اقتلوا

ص:223


1- 1) توفی فی العام الثالث عشر من الهجرة بعد أن تولی الخلافة لمدة سنتین وثلاثة أشهر. «مروج الذهب 2/304 الطبعة الرابعة» .
2- 2) سورة بقرة / 188. [1]

سعداً، قتل الله سعداً. وحطم أنف الخباب بن المنذر الذی قال یوم السقیفة: أنا جذیلها المحک، و غذیقها المرجب.

و توعد من لجأ إلی دار فاطمة علیه السلام من الها شمیین، وأخرجهم منها، ولولاه لما یثبت لأبی بکر أمر، ولا قامت له قائمة (1).

و من هنا تتضح روعة تعبیره علیه السلام بأدلی، ثم تمثل بقول الأعشی: شتان ما یومی علی کورها ویوم حیان أخی جابر (2)

حیث أراد الإمام علیه السلام أن یقول کنت أقرب الناس من رسول الله صلی الله علیه و آله وأعظمهم منزلة وحرمة بل کنت نفس رسول الله صلی الله علیه و آله غیر أنّهم أقصونی بعده وأخذوا یتلاقفون الخلافة التی لا تصلح إلّالی فیرمون بها لمن یشاؤون.

وذهب البعض إلی أنّه أراد أن یقارن بین خلافته - من تمثله بهذا الشعر - وخلافة من سبقوه ممن کانوا فی نعمة ورخاء بینما حفل عهده لا بتعاده عن عصر رسول الله صلی الله علیه و آله بالویلات و المصائب «بالطبع هذا إذا کان الأعشی أراد مقارنة حاله بحال حیان» . (3)

ثم یعبّر الإمام علیه السلام عن اندهاشه وذهوله لما یحصل «فیا عجبا! ! بینا هو یستقیلها فی حیاته إذ عقدها لاخر بعد وفاته» .

الواقع هو أنّ هذه إلعبارة إشارة إلی حدیث معروف نقل عن أبی بکر خاطب به الناس أوائل خلافته حیث قال: «أقیلونی فلست بخیر کم» . ورواه البعض الآخر «و لیتکم ولست بخیرکم» . (4)

ص:224


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 174. [1]
2- 2) الأعشی من أبرز شعراء الجاهلیة. سئل یونس النحوی: من أشعر الشعراء؟ قال: لا أعلم أشعر هم إلّاأنی أقول إمرء القیس فارسا والنابغة حین الخوف وزهیر عند الحب وإلّا عشی عند الطرب، أدرک الإسلام ولم یسلم، لقب بالاعشی لضعف بصره وقد عمی آخر عمره واسمه میمون بن قیس، وأراد بشعره السابق الزمان الذی کان یجالس فیه حیان أخو جابر أحد أشراف الیمامة حین کان یعیش الأعشی آنذاک فی نعمة موفورة فیقارنها مع عیشه الآن فی صحاری مکة والمدینة فیقول أین تلک الحیاة من هذه!
3- 3) شرح ابن میثم البحرانی 1 / 257.
4- 4) لقد استفاضت مصادر الفریقین التی روت هذا الحدیث، وقد أورده إبن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة، 1 / 169. و صرّح العالم المصری الکبیر الشیخ محمد عبده فی شرحه لنهج البلاغة قائلاً: روی البعض أنّ أبابکر لما تمت له البیعة قال: «أقیلونی فلست بخیرکم» لکن أغلب العلماء رو وا الحدیث أنّه قال: «و لیتکم ولست بخیرکم» (شرح نهج البلاغة لمحمد عبده، ص 86 ذیل هذه الخطبة) . وجاء فی حاشیة إحقاق الحق عن ابن حسنویه المحدث الحنفی الموصلی فی کتابه «در بحر المناقب» حدیثا مفصلا أنّ أبابکر قال: «أقیلونی فلست بخیرکم وعلی فیکم» (إحقاق الحق 8 / 240) . [2] وروی الطبری فی تأریخه لما بویع أبی بکر فی السقیفة قال: «أیّها الناس فانّی قد ولیت علیکم ولست بخیرکم» (تأریخ الطبری 2 / 450 طبع بیروت [3]مؤسسة الأعلمی) . وروی ابن قتیبة الدینوری فی الإمامة والسیاسة أنّ أبابکر خطب الناس باکیاً فقال: «لا حاجة لی فی بیعتکم أقیلونی بیعتی» (الإمامة والسیاسة 1 / 20) .

و کیفا کان مضمون الروایة فهی تشیر إلی عدم رغبته بقبول الخلافة أو کما ذهب البعض لم یکن یکترث لها أو أنّه لم یکن یری نفسه جدیراً بالخلافة مع وجود علی علیه السلام، ورغم ذلک فانّ هذا الکلام لا ینسجم وما فعله أواخر عمره؛ الأمر الذی أثار دهشة الإمام علیه السلام فی کیفیة تفویض الخلافة دون الرجوع إلی آراء الاُمّة: ثم قال علیه السلام «لشدّ ما تشطر ضرعیها» الضرع بمعنی الثدی وتشطرا من مادة شطر بمعنی جزء من الشیء.

فالعبارة تشبیه رائع بالنسبة للافراد الذی یستفیدون من شیء علی وجه التناوب فالمراد بتشطر ضرعیها: إنّهما إقتسما فائدتها ونفعها، والضمیر للخلافة، وسمی القادمین معاً ضرعاً وسمی الآخرین معاً ضرعا لما کان لتجاورهما، ولکونها لا یحلبان إلّامعاً، کشیء واحد فالعبارة بصورة عامة تشیر إلی مشروع معد ومبرمج مسبقاً ولم یکن من قبیل الصدفة أبداً.

إجابة علی إستفسار

لقد قال البعض بأنّ أبابکر قال: أقیلونی فلست بخیرکم، وقد ورد مثل هذا الکلام عن علی علیه السلام فی نهج البلاغة بعد مقتل عثمان حیث قال: «دعونی والتمسوا غیری. . . وان ترکتمونی فأنا کأحدکم ولعلی أسمعکم وأطوعکم لمن ولیتموه أمرکم وأنا لکم وزیراً خیراً لکم منی أمیراً» فما تقولون؟

للرد علی ذلک نقول لابن أبی الحدید کلام بهذا الشأن ولنا کلام، فقد قال ابن أبی الحدید: قالت الإمامیة هذا غیر لازم والفرق بین الموضعین ظاهر لأنّ علیاً علیه السلام لم یقل: إنّی لا أصلح، ولکنه کره الفتنة، وأبوبکر قال کلاماً معناه: إنّی لا أصلح لها، لقوله «لست بخیرکم» ، ومن نفی

ص:225

عن نفسه صلاحیته للإمامة، لا یجوز أن یعهد بها إلی غیره - واعلم أنّ الکلام فی هذا الموضع مبنی علی أن الأفضلیة هل هی شرط فی الإمامة أم لا؟ (فی إشارة إلی أنّه یمکن القول بعدم اشتراط الأفضلیة فی الإمامة؛ الکلام الذی لا یقره أی منطق وعقل ولا یدعو سوی الخجل» (1).

إلّا أنّنا نری القضیة أعمق من ذلک. فلو تأملنا الخطبة رقم 92 التی استدلوا بها والتفتنا إلی بعض عباراتها التی لم یستشهد بها عند الاستدلال لا تضح لنا تماماً مراد الإمام علیه السلام. فقد صرّح ضمن الخطبة المذکورة قائلاً: «فأنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت علیه العقول» (إشارة إلی مدی التغییرات التی طالت الأحکام الشرعیة والتعالیم النبویة، علیه فلابدّ لی من القیام ببعض الإصلاحات الثوریة والتی ستودی لاعتراض البعضی منکم وبالتالی نشوب المواجهة) .

ثم أضاف علیه السلام: «و ان الافاق قد أغامت والمحجة قد تنکرت» ، ثم یشیر علیه السلام إلی کبد الحقیقة فیقول: «و اعلموا أنّی إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم ولم أصغ إلی قول القائل وعتب العاتب» .

أمّا الشاهد علی أنّ الإمام علیه السلام یری وجوب الأفضلیة کشرط فی الخلافة ما أورده علیه السلام فی الخطبة 173 من نهج البلاغة إذ قال علیه السلام: «أیّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم علیه و أعلمهم بأمر الله فیه» . (2)ونخلص ممّا سبق إلی أنّ المقارنة بین کلام الإمام علی علیه السلام وأبی بکر هو «قیاس مع الفارق» لانعدام أی تشابه بین الکلامین.

و نختتم هذا الکلام بما أورده إبن أبی الحدید حین حاول تبریر حدیث الخلیفة الأول حیث قال: واحتج بذلک من لم یشترط الأفضلیة فی الإمامة.

و من رواها إعتذر لأبی بکر فقال: إنّما قال: أقیلونی، لیثور ما فی نفوس الناس من بیعته، ویخبر ما عندهم من ولایته، فیعلم مریدهم وکارههم، ومحبهم ومبغضهم. فلما رأی النفوس إلیه ساکنة، والقلوب لبیعته مذعنة، استمر علی امارته، وحکم حکم الخلفاء فی رعیته، ولم

ص:226


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 169. [1]
2- 2) نهج البلاغة، خطبة 173. [2]

یکن منکراً منه أن یعهد إلی من استصلحه لخلافته (1).

و لا یخفی علی أحد خواء هده التبریرات، لأنّ إعتراف کل فرد ینبغی أن یحمل علی معناه الواقعی، وصرف اللفظ عن معناه الحقیقی إنّما یحتاج إلی قرینة لیست متوفرة هنا. بعبارة اُخری إنّ هذا الاعتراف قانونی یؤخذ به فی کل محکمة ولیس من عذر لهذا الاعتراف فهو إقرار جائز عقلائیاً.

ثم یصف الإمام علیه السلام شخصیة الخلیفة الثانی وما انطوت علیه من خصائص وممیزات فقال علیه السلام: «فصیرها فی حوزة (2)خشتاء یغلظ کلمها (3)ویخشن مسها ویکثر العثار (4)فیها، الاعتذار منها»

المراد بالحوزة هنا أخلاق الخلیفة الثانی وصفاته فالواقع قد ذکر له أربعة صفات، الاولی خشونته وعنفه التی عبر عنها بقوله «یغلظ کلمها» فی إشارة إلی الجروح الروحیة والجسمیة التی یفرزها الاصطدام به. الصفة الثانیة الشدة فی التعامل «و یخشن مسها» وعلیه فالحوزة الخشناء قد فسرت بالعبارتین اللاحقتین التین أشارتا إلی العنف فی الکلام والعنف فی المعاملة. الصفة الثالثة هی کثرة الأخطاء والرابعة الاعتذار من تلک الأخطاء «و یکثر العثار فیها الاعتذار منها» .

أمّا بشأن کثرة أخطاء الخلیفة الثانی ولا سیما أخطائه فی بیان الأحکام واقراره بتلک الأخطاء والاعتذار منها والعنف فی المعاملة فقد حفلت بها السیر التاریخیة بل أفرد لها علماء العامة عدداً من الکتب وسنکتفی لاحقا بالإشارة إلی نماذج منها.

ثم قال علیه السلام: «فصاحبها کراکب الصعبة (5)إن أشنق (6)لها خرم (7)وإن أسلس (8)لها تقحم (9)» .

ص:227


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 169. [1]
2- 2) «حوزة» بمعنی الناحیة و الطبیعة، من مادة «حیازة» بمعنی الجمع والاحاطة.
3- 3) «الکلم» فی الأصل بمعنی الجرح، واطلق لفظ الکلام لاثره القاطع فی المقابل.
4- 4) «العثار بمعنی السقوط و الکبوة.
5- 5) «الصعبة» بمعنی الانسان أو الحیوان الطائش، ما لیست بذلول و أرید بالصعبة هنا الناقة الجامحة.
6- 6) «أشنق» بمعنی سحب زمام الناقة و «شناق» علی وزن کتاب یطلق علی الحبل الذی تربط به القربة.
7- 7) «خرم» من مادة «خرم» بمعنی القطع.
8- 8) «أسلس من» مادة «سلس» علی وزن قضص و سلاسه بمعنی السهولة و علیه فان أسلس بمعنی أرخی.
9- 9) «تقحم» من مادة «قحوم» علی وزن شعور بمعنی رمی النفس فی الهلکة دون إجالة الفکر.

فالإمام علیه السلام یشرح بهذه العبارة حاله وحال فریق من المؤمنین علی عهد خلافة الخلیفة الثانی، بحیث إذا أراد أحدهم أن یصطدم بالخلیفة - واستناداً إلی صفاته المذکورة سابقاً - فقد یؤدی ذلک إلی بروز الاختلافات والمشاجرات بین أوساط المسلمین أو الاخطار التی سیتعرض إلیها من جانب الخلیفة، واِن فضل الصمت برزت الاخطار التی تهدد الکیان الإسلامی والخلافة الإسلامیة، فالواقع هناک خطران لا ینفصلان: خطر الاصطدام بالخلیفةخطر فقدان المصالح الإسلامیة ولهذا یشکو الإمام علیه السلام ما ألم به وبالمومنین آنذاک یعرض للمشاکل المتفاقمة التی أصابت المسلمین.

کما إحتمل بعضی شرّاح نهج البلاغة أنّ الضمیر فی (صاحبها) یعود إلی مطلق الخلافة؛ أی أنّ طبیعة الخلافة تختزن دائما أحد هذین الخطرین، فلو أراد الحاکم - الخلیفة - أن یتعامل بخرم مع کل شیء کانت هنالک ردود الفعل الحادة والعنیفة، ولو أراد التعامل علی أساس الرفق واللین برز خطر السقوط فی وادی الانحراف والخطا وزوال القیم الإسلامیة. لکن تشیر القرائن إلّاأنّ المعنی الأول هو المراد بالعبارة وهذا ما یتضح بجلاء من خلال التأمل فی العبارات اللاحقة (1). ثم قال علیه السلام: «فمنی (2)الناس لعمر الله بخبط (3)وشماس (4)وتلون (5)و اعتراض (6)» .

فقد تضمنت العبارة إشارة إلی أربع ظواهر نفسیة للاُمّة فی عهد الخلیفة الثانی کأنّها تقتبس من رئیس الحکومة، لانّ لسلوک الحاکم إنعکاس واسع علی نفوس أبناء الاُمّة وقد قیل سابقاً «الناس علی دین ملوکهم» .

الاولی: أنّ أتشطتهم وقراراتهم الطائشة سبب ظهور الفوضی فی المجتمع.

ص:228


1- 1) هنالک إحتمال ثالث ذکرهنا فی أنّ المراد الخلافة علی عهد الإمام علی علیه السلام، حیث شهدت الأوضاع بروز خطرین، ویبدو هذا الاحتمال مستبعداً.
2- 2) «منی» من مادة «منو» بمعنی ابتلی واصیب.
3- 3) «خبط» بمعنی «ضرب» الناقة للأرض، وارید بها السیر علی غیر هدی.
4- 4) «شماس» بمعنی الاباء والطیش (إباء ظهر الفرس عن الرکوب) .
5- 5) «تلون» بمعنی تغییر الحال أو اللون.
6- 6) «إعتراض» بمعنی السیر علی غیر خط مستقیم، کأنّه یسیر عرضاً فی حال سیره طولاً.

الثانیة: أنّهم خارجون علی القوانین الشرعیة والنظم الاجتماعیة.

الثالثة: التلون المستمر ورکوب الموجة والتخبط والانسلاخ من فئة والالتحاق باُخری وعدم امتلاک الهدف المعین فی الحیاة.

الرابعة: الانحراف عن مسار الحق والسیر علی سبیل غیر الهدی.

و ممّا لا شک فیه - وکما سنتعرض إلی ذلک بالتفصیل لاحقا - أنّ السیاسة الخارجیة فی عصر الخلیفة الثانی والفتوحات الإسلامیة والامتداد خارج الحجاز قد خلقت ذهنیة للناس بشأن شکل الحکومة فی أنّها موفقة علی جمیع الأصعدة فیقل إهتمامهم بالمشاکل الداخلیة التی یعانی منها المجتمع الإسلامی، والحال کما أشار الإمام علیه السلام فی هذه العبارات أنّ طائفة من المسلمین قد شهدت حالة من التخبط علی مستوی العقائد والعمل والقضایا الأخلاقیة والابتعاد تدریجیاً عن الإسلام الأصیل بفعل الأخطاء والاجتهادات فی مقابل النصوص القرآنیة والأحادیث النبویة؛ الأمر الذی أدی فی خاتمة المطاف إلی تلک الثورة العارمة علی الخلیفة الثالث وبما مهد السبیل أمام ظهور الحکومة الاستبدادیة فی العصر الأُموی والعباسی التی تفتقر لادنی شبه بالحکومة الإسلامیة علی عهد النبی صلی الله علیه و آله.

والمفروغ منه أنّ هذه الحالة العشوائیة لم تکن ولیدة ساعتها، بل ظهرت إثر تصاعد حدة الأخطاء المتواصلة طیلة عصر الخلافة. ثم قال الإمام علیه السلام: «فصبرت علی طول المدة، وشدة المحنة» .

فقد عانی علیه السلام من ذات الظروف والتحمل التی کانت أبان عهد الخلیفة الأول، غیر أنّ المحنة التی عاناها الإمام علیه السلام کانت أشد وأعظم بفعل تلک الظروف الاقهر والمدة الأطول.

قال بعض شرّاح نهج البلاغة إنّ الإمام علیه السلام أشار إلی قضیتین کان لهما الأثر البالغ فی إستیاء الإمام علیه السلام: الاولی ازدیاد مدّة الابتعاد عن محور الخلافة، والثانیة الاستیاء والتذمر الذی أفرزته ظاهرة انشقاق الخلافة عن مسارها الأصلی فی عدم سیادة النظم الصحیحة بالنسبة لشؤون الناس الدینیة. لکن علی کل حال فقد کانت هناک المصالح المهمّة التی تتطلب سکوت الإمام علیه السلام والتضحیة بالاُمور الثانویة من أجل الأهداف الاسمی. فقد استمر هذا الوضع حتی إنتهی عصر الخلیفة الثانی.

ص:229

تأمّلات

1- نماذج الفضاضة الأخلاقیة علی عهد الخلیفة الثانی

لقد اُلفت عدّة کتب - سواء کتب الحدیث والتاریخ - من قبل علماء العامة بشأن الخلیفة الثانی ولا سیما إبان خلافته التی تکشف عن مدی دقة عبارات الإمام علیه السلام فی وصف خصائصه. و ممّا لا شک فیه أنّ خروقاته فی هذا المجال کثیرة نکتفی ببعضی نماذجها:

1- روی المرحوم العلّامة الأمینی فی المجلد السادس من کتاب الغدیر عن مصادر العامة المعروفة من قبیل سنن الدارمی وتأریخ ابن عساکر وتفسیر ابن کثیر واتقان السیوطی والدر المنثور وفتح الباریء عدّة قصص مروعة بشأن الخلیفة الثانی والرجل الذی یدعی «صبیغ العراقی» . فالذی تفیده السیر التاریخیة أنّه کان رجل بحاثة کثیرا ما یسأل عن الآیات القرآنیة، غیر أنّ عمر کان یجابهه بکل عنف بما یدعو للدهشة والعجب ومن ذلک.

فعن سلمان بن یسار إنّ رجلاً یقال له صبیغ قدم المدینة فجعل یسأل عن متشابه القرآن فأرسل إلیه عمر وقد أعد له عراجین النخل فقال: من أنت؟ قال أنا عبدالله صبیغ: فأخذ عمر عرجونا من تلک العراجین فضربه وقال: أنا عبدالله عمر. فجعل له ضرباً حتی دمی رأسه فقال: یا أمیرالمؤمنین حسبک قد ذهب الذی کنت أجد فی رأسی. وعن نافع مولی عبدالله: إنّ صبیغ العراقی جعل یسأل عن أشیاء من القرآن فی أجناد المسلمین حتی قدم مصر فبعث به عمرو بن العاص إلی عمر بن الخطاب فلما أتاه الرسول بالکتاب فقرأه قال: أین الرجل فقال: فی الرحل، قال عمر: أبصر أن یکون ذهب فتصیبک منی العقوبة الموجعة. فأتاه به فقال عمر: تسأل محدثة؟ فارسل عمر إلی رطائب من جرید فضربه بها حتی ترک ظهره دبرة، ثم ترکه حتی برأ، ثم عاد له، ثم ترکه حتی برأ فدعا به لیعود له قال: صبیغ إن کنت ترید قتلی فقتلنی قتلاً جمیلاً، وإن کنت ترید أن تداوینی فقد والله برئت، فأذن له إلی أرضه وکتب إلی أبی موسی الأشعری، أن لا یجالسه أحد من المسلمین، فاشتد ذلک علی الرجل فکتب أبوموسی إلی عمر: أن قد حسنت توبته، فکتب عمر: أن یأذن الناس بمجالسته. وعن السائب بن یزید قال: أتی عمر بن الخطاب فقیل: یا أمیرالمؤمنین! إنا لقینا رجلاً یسأل عن تأویل مشکل القرآن. فقال عمر: اللّهم مکنی منه، فبینما عمر ذات یوم جالساً یغدی الناس إذ جاء

ص:230

الرجل وعلیه ثیاب وعمامة صفدی حتی إذا فرغ قال: یا امیرالمؤمنین والذاریات ذروا فالحاملات وقرا فقال عمر أنت هو؟ فقام إلیه وحسر عن ذراعیه فلم یزل یجلده حتی سقطت عمامته فقال: والذی نفس عمر بیده لو وجدتک محلوقاً لضربت رأسک ألبسوه ثیاباً واحملوه علی قتب وأخرجوه حتی تقدموا به بلاده ثم لیقم خطیب ثم یقول: إن صبیغاً ابتغی العلم فأخطأ فلم یزل وضیعاً فی قومه حتی هلک وکان سید قومه. (1)وأول من ضرب عمر بالدّرة أم فروة بنت أبی قحافة، مات أبوبکر فناح النساء علیه، وفیهنّ أخته أم فروة، فنهاهنّ عمر مراراً، وهنّ یعاودن، فأخرج أمّ فروة من بینهن، وعلاها بالدّرة، فهربن وتفرّقن.

کان یقال: درّة عمر أهیب من سیف الحجاج. وفی الصحیح أنّ نسوةً کنّ عند رسول الله صلی الله علیه و آله قد کثر لغطهنَّ، فجاء عمر فهربْنَ هیبة له، فقال لهنّ: یا عُدیّات أنفسهن! أتَهبْنَنی ولا تهبنَ رسول الله! قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ. (2)

2- العثار والاعتذار

قال ابن أبی الحدید: ومرّ یوماً بشابّ من فتیان الأنصار وهو ظمآن، فاستسقاه، فجدع له ماء بعسل فلم یشربه، وقال: إنّ الله تعالی یقول: «أَذهَبْتُمْ طَیِّباتِکُمْ فِی حَیاتِکُمُ الدُّنْیا» فقال له الفتی: یا أمیر المؤمنین، إنّها لیست لک ولا لأحد من هذه القبیلة، اقرأ ما قبلها: «وَیَوْمَ یُعْرَضُ الَّذِینَ کَفَرُوا عَلی النّارِ أَذهَبْتُمْ طَیِّباتِکُمْ فِی حَیاتِکُمُ الدُّنْیا» فقال عمر: کلّ الناس أفقه من عمر!

وقیل: إنّ عمر کان یعس باللیل، فسمع صوت رجل وامرأة فی بیت، فارتاب فتسوّر الحائط، فوجد امرأة ورجلاً، وعندهما زقّ خمر، فقال: یا عدوّ الله، أکنت تری أنّ اللّه یسترک وأنت علی معصیته! قال: یا أمیرالمؤمنین، إن کنت أخطأت فی واحدة فقط أخطأت فی ثلاث، قال اللّه تعالی: «ولا تَجَسَّوا» ، وقد تجسَّت. وقال: «وأُتُوا الْبُیُوتَ مِنْ أَبْوابِها» ، وقد تسوّرت، وقال: «فإذا دَخَلْتُمْ بُیُوتاً فَسَلِّمُوا» ، وما سلّمت! (3)

ص:231


1- 1) الغدیر 6 / 290. [1]
2- 2) شرح نهج [2]بلاغة لإبن أبی الحدید 1 / 181.
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 182. [3]

وأخرج الحافظان الدراقطنی وابن عساکر: إن رجلین أتیا عمر بن الخطاب وسألاه عن طلاق الاُمّة فقام معهما فمش حتی أتی حلقة فی المسجد فیها رجل أصلع فقال: أیّها الأصلع! ما تری فی طلاق الاُمّة؟ فرفع إلیه رأسه ثم أومیء إلیه بالسبابة والوسطی فقال لهما عمر: تطلیقتان، فقال أحدهما: سبحان الله جئناک وأنت أمیرالمؤمنین فمشیت معنا حتی وقفت علی هذا الرجل فسألته فرضیت منه أن أومیء إلیک، وأتی عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فتلقاها علی فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر عمر برجمها فردها علی وقال: قد کان ذلک. قال أو ما سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله قال: لاحد علی معترف بعد بلاء، أنّه من قید أو حبس أو تهدد فلا إقرار له، فخلا سبیلها ثم قال: عجزت النساء أن تلدن مثل علی بن أبی طالب، لولا علی لهلک عمر. وأخرج ابن مبارک قال: حدثنا الأشعث عن الشعبی عن مسروق قال: بلغ عمر أنّ امرأة من قریش تزوجها رجل من ثقیف فی عدّتها فأرسل إلیهما ففرق بینهما وعاقبهما وقال: لا ینکحها أبداً وجعل الصداق فی بیت المال وفشا ذلک بین الناس فبلغ علیاً کرم الله وجهه فقال: ما بال الصداق وبیت المال؟ إنّهما جهلا فینبغی للإمام أن یردهما إلی السنة قیل: فما تقول أنت فیها؟ قال لها الصداق بما استحل من فرجها، ویفرق بینهما، ولا جلد علیهما، وتکمل عدّتها من الأول ثم تکمل العدّة من الآخر، ثم یکون خاطباً. فبلغ ذلک عمر فقال: یا أیّها الناس ردوا الجهالات إلی السنة. (1)

3- رد علی سوال

لعل الصورة التی رسمها الإمام علیه السلام فی الخطبة عن مشاکل المسلمین والفوضی التی سادتهم علی عهد الخیلفة الثانی تتنافی والذهنیة السائدة لدی البعض فی أن عهده کان مشرقاً حافلاً بالانتصارات والمکتسبات؛ الأمر الذی یثیر السؤال الآتی: کیف یمکن التوفیق بین تلک الصورة والوقائع التی عکسها التاریخ الإسلامی؟

و الالتفات إلی هذه القضیة من شأنه أن یقدم الجواب الشافی لهذا السؤال، فما لا شک فیه -

ص:232


1- 1) الغدیر 6 / 110. [1]

کما أشرنا سابقاً أنّ عهد الخلیفة الثانی کان عصر الانتصارات والفتوحات علی صعید السیاسة الخارجیة للبلاد؛ لانّ المسلمین وعلی ضوء التعالیم الإسلامیة والآیات القرآنیة التی تدعو إلی الجهاد قد مارسوا هذه الفریضة بشکل واسع بحیث لم تمض مدّة حتی حققوا الفتوحات الإسلامیة الباهرة خارج البلاد الإسلامیة فتم لهم نیل ما لا یحصی من الغنائم المادیة، الأمر الذی جعل هذه الفتوحات تغطی علی ضعف الجبهة الداخلیة والفوضی التی کانت سائدة آنذاک، وهو المعنی الذی نلمسه الیوم بوضوح فی السیاسة المتبعة فی العصر الراهن، فقد یؤدی الانتصار الذی تحرزه الدولة علی صعید السیاسة الخارجیة إلی التغطیة علی کل شیء ولا سیما المشاکل والمعضلات التی تعیشها علی مستوی الداخل، ومن هنا نری ساسة الاستکبار الذین یحاولون التغطیة علی مشاکلهم الداخلیة باخماد فورتها من خلال اللجوء إلی عدّة أنشطة - بما فیها شن الحروب - خارجیة.

وزبدة الکلام فانّ الإمام علیه السلام إنّما تحدث عن مدی العنف والاضطهاد والأخطاء الفادحة وسعة حجم المشاکل الداخلیة إبان عهد الخلیفة الثانی؛ الأمر الذی تم التعامل معه بمعزل عن مسألة الفتوحات.

ص:233

ص:234

القسم الثالث: عصر الخلیفة الثالث

اشارة

«حَتَّی إِذا مَضَی لِسَبِیلِهِ جَعَلَها فِی جَماعَةٍ زَعَمَ أَنِّی أَحَدُهُمْ فَیا لَلَّهِ وَلِلشُّورَی مَتَی اعْتَرَضَ الرَّیْبُ فِیَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّی صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَی هَذِهِ النَّظائِرِ لَکِنِّی أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا، وَطِرْتُ إِذْ طارُوا: فَصَغا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَمالَ الْآخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَهَنٍ، إِلَی أَنْ قامَ ثالِثُ الْقَوْمِ نافِجاً حِضْنَیْهِ بَیْنَ نَثِیلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقامَ مَعَهُ بَنُو أَبِیهِ یَخْضَمُونَ مالَ اللّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِیعِ، إِلَی أَنِ انْتَکَثَ عَلَیْهِ فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَیْهِ عَمَلُهُ، وَکَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام - فی هذا القسم من خطبته - إلی انتهاء عصر الخلیفة الثانی والأحداث التی مهدت السبیل أمام عثمان للاستیلاء علی الخلافة بعد أن أماط اللثام عن التفاصیل التاریخیة والأسرار التی إنطوت علیها هذه القضیة ویعلن موقفه من ذلک، ثم عرج علی المشاکل والفتن التی عاشتها الاُمّة الإسلامیة علی عهد عثمان والانتفاضة الشعبیة العارمة التی أدت إلی قتله بعبارات مقتضبة عمیقة المعنی من خلال الکنایات والاستعارات والتشبیهات البلاغیة الرائعة التی طبعت کلماته وخطبه علیه السلام.

فقد قال علیه السلام: «حتی إذا مضی لسبیله جعلها فی جماعة زعم أنی أحدهم» .

و لعل قوله علیه السلام «زعم أنی أحدهم» تشیر إلی معنیین: الأول: أنّه جعلنی ظاهریاً أحد أعضاء هذه الشوری بینما کان یعلم باطنیاً بالنتیجة التی ستتمخض عنها ومن یفوز بالأمر.

ص:235

الثانی: أنّه أراد أن یجعلنی ظاهریاً فی مصاف هؤلاء الخمسة، والحال کان یعلم باطنیاً عدم إمکانیة مقارنتی بأی منهم (1).

و العبارة تشیر إلی الزمان الذی جرح فیه عمر جرحاً بلیغاً من قبل ذلک الرجل الذی یدعی فیروز والمکنی بأبی لؤلؤة بعد أن رأی نفسه علی فراش الموت. فقد حضره جمع من الصحابة وأشاروا علیه باستخلاف من یرضاه، فما کان منه إلّاأن خطب خطبة - سنشیر إلی مضامینها لاحقاً - واقترح الشوری وهم:

علی علیه السلام وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وطلحة والزبیر وسعد بن أبی وقاص، علی أن یجتمعوا لثلاثة أیام ویختاروا من بینهم الخلیفة، فاجتمعوا لتتمخض نتیجة الاجتماع عن إختیار عثمان.

فقد أشار الإمام علیه السلام إلی هذه الشوری قائلاً: «فیالله وللشوری» (2)، ثم یتطرق علیه السلام إلی اولی نقاط ضعف هذه الشوری وهی أنّه متی کان هناک من شک وتردید فی أرجحیته علی الخلیفة الأول فضلا عن إقترانه بهذه النظائر «متی اعترض الریب فی مع الأول منهم حتی صرت اُقرن إلی هذه النظائر» . فالعبارة تکشف عن قمة أسی الإمام علیه السلام علی هضم الحقوق الذی تعرض له، ویشیر إلی حقیقة وهی أنّهم ینبغی أن یختارونی لو أخذوا بنظر الاعتبار استحقاق الخلافة والجدارة والأحقیة بها.

غیر أنّ المؤسف له أنّه کانت هناک أهداف اُخری أدت إلی جعل من کان بمنزلة رسول الله صلی الله علیه و آله وباب مدینة علمه والعالم بالکتاب والسنة والعارف بأسرار المسائل الإسلامیة وبطل التوحید الذی تربی فی حجر النبی صلی الله علیه و آله فی مصاف عبدالرحمن بن عوف وسعد بن وقاص وامثالهما.

ثم أضاف علیه السلام: «لکنی اسففت إذ أسفوا وطرت إذ طاروا» (3)قالواقع هذه کنایة بشأن

ص:236


1- 1) ورد فی مقاییس اللغة أن «الزعم» عبارة عن الکلام الذی لا واقعیة له وصاحبه لیس متأکداً منه.
2- 2) اللام فی لفظ الجلالة مفتوحة للاستغاثة واللام فی الشوری مکسورة وللمستغاث منه.
3- 3) «أسففت» من مادة «إسفاف» بمعنی إقتراب شیء من آخر ویستعمل هذا اللفظ فی الطائر إذا دنا من الأرض، کما یستعمل فی نسج الحصیر لان خیوطه تقترب من بعضها البعض الآخر، کما وردت بمعنی شدة النظر (راجع مقاییس اللغة ولسان العرب) .

الطیور التی تطیر عی هیئة اُسراب فتحلق أحیانا وتنخضض اُخری إلی الأرض وفی الحرکتین تکون معاً. ومن الواضح أنّ الأوضاع المزریة فی زمان الخلفاء - لا سیما إذا ابعد الخلیفة وأقصی - تتطلب الابتعاد عن کافة أشکال الفرقة والتشتت حذراً من إستغلالها من قبل خصوم الدعوة والتأهب للاجهاض علیها. هنالک إحتمال آخر أیضا بشأن تفسیر هذه العبارة فی أنّ مراده منها: أنی أدور حیث مدار الحق والهث خلفه لکنی طلبت الأمر وهو موسوم بالاصاغر منهم، کما طلبته أولاً وهو موسوم بأکابرهم، أی هو حقی فلا أستنکف من طلبه، إن کان المنازغ فیه جلیل القدر أو صغیر المنزلة ثم أشار علیه السلام إلی نتیجة تلک الشوری وأعمالها المرییة حیث تحرک أحدهم بدافع من حقده وضغینته بینما إندفع الآخر بوحی من قرابته ونسبه لینتهی الأمر إلی عثمان: «فصغا (1)رجل منهم لضغنه (2)ومال الآخر لصهره، مع هن (3)وهن» .

فقد قصد الإمام علیه السلام بالعبارة الاولی «سعد بن أبی وقاص» الذی کان ینتمی من طرف أمه إلی بنی أمیة وقد قتل أخواله وأقربائه علی ید علی علیه السلام فی المعارک الإسلامیة ضد الکفر والشرک، ولذلک لم یکن مستعداً لمبایعة علی علیه السلام حتی فی خلافته.

و عمر بن سعد ذلک المجرم الجبار الذی قتل الحسین علیه السلام وصحبة فی کربلاء هو ابنه. وعلیه فقد کانت ضغینته لعلی علیه السلام أشهر من نار علی علم وهی التی جعلته لا یصوت لصالح الإمام علیه السلام، وهذا ما أدی إلی فوز عثمان بعد أن منحه رأیه بواسطة عبدالرحمن بن عوف. وقال البعض المراد به «طلحة» المفروغ من کراهیته للإمام علیه السلام وهو الذی أشعل إلی جانب الزبیر حرب الجمل التی أدت حسب قول المؤرخین إلی قتل سبعة عشر ألف.

و قد قوی هذا الاحتمال ابن أبی الحدید، بینما یری بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ طلحة وإن رشح للشوری من قبل عمر إلّاأنّه لم یکن فی المدینة ولم یوفق لحضور جلسة الشوری (4).

أمّا الفرد الذی مال إلی صهره فهو عبدالرحمن بن عوف زوج اُم کلثوم بنت عثمان.

ص:237


1- 1) «صغا» من مادة «صغو» بمعنی المیل.
2- 2) «ضغن» علی وزن ضمن بمعنی البغض والعداوة.
3- 3) «هن» سیأتی التفسیر لا حقا.
4- 4) نقل الخوئی فی شرحه عن الطبری عدم حضور طلحة فی الشوری بل فی المدینة (شرح الخوئی،3 / 73) .

وقوله علیه السلام: «مع هن وهن» (1)، استنادا إلی أنّ المفردة «هن» کنایة عن أعمال قبیحة یکره ذکرها، فالعبارة یمکن أن تکون إشارة إلی الاغراض الاُخری التی کان یطمع بها عبدالرحمن بن عوف من خلال تصویته لصالح عثمان من قبیل مد إلیه إلی بیت مال المسلمین أو التسلط علی الناس أو الاستیلاء علی الخلافة بعد عثمان أو جمیع هذه الاُمور. فالذی نستفیده من هذا الکلام أنّ الشوری قد عقدت فی أجواء متوترة، والشئ المغیب فیها إنّما کان المصالح الإسلامیة، وعلیه فمن الطبیعی الأتؤدی لضمان مصالح المسلمین، وقد أثبتت الحوادث التی وقعت علی عهد عثمان مدی الخسائر الفادحة التی تکبدها المسلمون.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی النتیجة النهائیة للشوری فقال: «إلی أن قام ثالث القوم نافجا (2)حضنیه (3)بین نثیله (4)ومعتلفه (5)» . ولم یقتصر هذا الأمر علی عثمان بل سار معه فی هذا النهج قرابته وبطانته «و قام معه بنو أبیه یخضمون (6)مال الله خضمة الابل نبتة الربیع» .

أمّا التعبیر بنبتة الربیع للإشارة إلی أنّها نبتة سائغة وطعمة سهلة للحیوان فیتنا ولها بکل شره ووله. والعبارة «یخضمون مال الله. . .» - وبالالتفات إلی المعنی اللغوی لخضم - تفید أنّ بنی اُمیة قد اقتحمت المیدان بکل ثقلها لتنهب بیت المال فتبتلع منه ما شاءت. وقال ابن أبی الحدید لقد سلط الخلیفة الثالث - عثمان - بنی امیة علی رقاب الناس وأغدق علیهم الأموال فقد أعطی عبد الله بن خالد أربعمأة ألف درهم، وأعطی عبدالله بن أبی سرح جمیع ما أفاء الله علیه من فتح افریقیة بالمغرب، وأعطی أبا سفیان بن حرب مائتی ألف من بیت المال، واعطی الحارث بن الحکم - زوج بنت، عائشة - مائة ألف من بیت المال، واعطی طلحه ثلاثمأة واثنین وعشرین ألف، والزبیر خمسمأة وثمانیة وتسعین دینارا، حتی بلغ ما أغدقه من

ص:238


1- 1) صرّح علماء اللغة بان «هن» تعنی فلان وتقال حین یرید الإنسان الإشارة من بعید إلی شیء لقباحته أو لأسباب اُخری، وعادة ما تستعمل هذه المفردة فی الصفات السیئة والقبیحة ولا تستعمل فی الاُمور الحسنة.
2- 2) «نافجا» من مادة «نفج» علی وزن رفع بمعنی رافعا.
3- 3) «الحضن» ما بین الابط والکشح ونافجاً حضنیه تقال للمتکبر ولمن إمتلأ بطنه طعاماً.
4- 4) «نثیل» من مادة «نثل» علی وزن نسل بمعنی غائط الإنسان وروث الحیوان.
5- 5) «معتلف» من مادة «علف» بمعنی موضع العلف، وقد أراد بالعبارة الشخص الذی همه جمع الأموال وملیء البطن وافراغها.
6- 6) «الخضم» أکل الشیء الرطب بتمام الفم وهی تقابل القضم التی تعنی الأکل بأطراف الأسنان، وقال البعض الخضم بمعنی أکل العلف الطری والقضم بمعنی أکل العلف الجاف.

بیت المال مئة وستة وعشرین ملیون وسبعمأة دینار.

و الأعجب من ذلک الدنانیر التی أغدقها علی بنی أمیة فقد منح مروان بن الحکم خمسمأة الف دینار، ویعلی بن اُمیة خمسمأة الف دینار، وعبد الرحمن بن عوف ملیونین وخمسمأة وستین الف دینار والمجموع أربعة ملایین وثلاثمأئة وعشرة دنانیر (1). وهنا یتضح عمق المعنی لقوله علیه السلام: «یخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربیع» . وبالطبع فان هذا الوضع لم یکن لیستمر لمدّة طویلة حیث لا یسع المسلمون تحمل مثل هذه الظروف ولذلک لم تمض مدّة حتی انطلقت تلک النهضة ضد عثمان لتطیح به فی خاتمة المطاف وتقتله بمرأی ومسمع من الاُمّة دون أن یهب أحد من المسلمین لنصرته وهذا بعینه ما أشار إلیه الإمام علیه السلام حین قال: «إلی أن انتکث (2)علیه فتله (3)وأجهز (4)علیه عمله، وکبت (5)به بطنته (6)» .

و الواقع أنّ الإمام علیه السلام رسم بثلاث عبارات صورة واضحة کاملة عن وضع الخلیفة الثالث و انتهاء أمره وقتله. فقد صور فی العبارة الاولی إزالته لکافة مظاهر القدسیة والزهد التی عرفها عنه الناس لیقفوا علی مدی تکالبه علی الدنیا.

کما یصور فی العبارة الثانیة سوء أعماله التی وجهت له الضربة القاصمة، وأخیراً تخمته وامتلاء جوفه بالطعام بالشکل الذی لم یتمکن معه من الوقوف علی قدمیه حتی کب علی وجهه علی الأرض. فقد بین الإمام علی علیه السلام بهذه العبارات الدروس والعبر التی ینبغی أن یقتدی بها ساسة البلدان ویضعوها نصب أعینهم بحیث إذا إستغلوا مکانتهم وأقبلوا یتهافتون علی الدنیا فانّ ذلک سیؤدی إلی زوال سوابقهم الحسنة بما یعبیء الرأی العام ضدهم وبالتالی الاطاحة بهم وبحکومتهم.

جدیر بالذکر أنّ العوامل التی بلورة ظهور وانبثاق خلافة عثمان هی ذاتها التی أدّت إلی القضاء علیه، فقد دفع حب المال والثروة بعض الأفراد من قبیل سعد بن أبی وقاص

ص:239


1- 1) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 1 / 198. [1]
2- 2) «انتکث» من مادة «نکث» علی وزن عکس بمعنی النقض والکسر ومن هنا یقال لعدم الالتزام بالعهد نقضه.
3- 3) «فتل» بمعنی اللف، ومقتول وفتیلة من هذا الباب.
4- 4) «أجهز» من مادة «إجهاز» ، تطلق علی المجروح وتفید التسریع فی الموت واتمام العمل.
5- 5) «کیت» من مادة «کبو» بمعنی السقوط والوقوع علی الوجه، ومن هنا یقال کبابه الجواد إذ سقط لوجهه.
6- 6) «بطنته» من مادة «بطن» بمعنی التخمة (ملیء الجوف الطعام أو النهم فی الأکل) .

وعبدالرحمن بن عوف وطلحة (بناء اعلی کونه حاضرا فی الشوری) لأن یضموا أصواتهم لعثمان واختیاره للخلافة، وهکذا إتسعت هذه المسألة واستفحلت حتی فقد عثمان مکانته لدی الرأی العام والذی أدی بالتالی إلی ثورة الاُمّة وإطاحتها به. أمّا بعض شرّاح نهج البلاغة فقد ذهبوا إلی أنّ المراد بقوله «إنتکث علیه فتله» انهیار الاجراءات والتدابیر التی مارسها لتوطید حکومته، ولعل تفویضه بعض الأعمال والمناصب لبطانته وقرابته قد کانت ضمن تلک الإجراءات المتخذة، لکن نفس هذا الأمر قد أعطی نتائج معکوسة أسهمت فی تقویض حکومة عثمان.

تأمّلات

1- کیفیة انتخاب خلیفة الثانی والثالث

نعلم أنّ الخلیفة الثانی قد نصب من قبل أبی بکر الذی عهد إلیه بالخلافة فی وصیته حین نزل به الموت. فقد جاء فی بعض التواریخ أنّ أبابکر أحضر عثمان - وهو یجود بنفسه - فأمره أن یکتب عهدا، وقال: اکتب بسم الله الرحمن الرحیم هذا ما عهد به أبوبکر إلی المسلمین، ثم أمّا بعد، ثم اُغمی علیه، فکتب عثمان: «اَما بعد فانی قد استخلفت علیکم عمر بن الخطاب لم آلکم خیراً» . (1)

و أفاق أبوبکر فقال: إقرأ فقرأه، فکبر أبوبکر وسرب وقال: أراک خفت أن یختلف الناس إن مت فی غشیتی! قال عثمان: نعم، قال: جزاک الله خیراً عن الإسلام وأهله (2).

یتضح بجلاء من هذا الخبر أن عثمان قد خاط هذا القمیص - الخلافة - لقامة عمر، ولو افترض عدم إفاقة أبی بکر لنشرت هذه الوصیة علی أنّها وصیة أبی بکر. وعلیه فلم هنالک من مجال للتعجب فی إقتراح عمر لتلک الشوری وبذلک الترکیب الذی سوف لن یؤدی إلّاإلی استخلاف عثمان.

ص:240


1- 1) «آلکم» من مادة «الا» یألو بمعنی التقصیر، وعلی هذا الاساس فان «لم آلکم» یعنی لم أُقصر فی حقکم. «لسان العرب» .
2- 2) الکامل لابن أثیر 2 / 425. [1]

و هو ذات الاُسلوب الذی إتبعه الخلیفة الثانی فی السقیفة حین مهد السبیل أمام خلافة أبی بکر، لکی یسارع هذا الأخیر فیعوضه عمّا قدمه له. ویفهم ضمنیا أنّ الحیلولة دون إختلاف الاُمّة وفرقتها هی التی تقف وراء تعجیل أبی بکر وعثمان فی تعیین الخلیفة. فاذا کان الأمر کذلک، فما بالک برسول الله صلی الله علیه و آله؟ ! ألم یکن من الواجب علی النبی صلی الله علیه و آله أن یتکهن بهذا الأمر بالنسبة لاُمّته مع وجود تلک النزاعات والصراعات التی کشفت عن نفسها فی السقیفة؟ کیف یمکن الاعتقاد بأنّ النبی صلی الله علیه و آله قد فوض للاُمّة مسألة إنتخاب الخلیفة، بینما لا یرعی هذا الأمر فی خلافة الثانی والثالث، حتی أنّ خوف الفتنة منع من تفویض الأمر للاُمّة؟ ! هذه هی الاسئلة التی ینبغی لکل محقق الرد علیها.

2- الشوری وحکومة عثمان

وصورة هذه الواقعة أنّ عمر لما طعنه أبولؤلؤه، وعلم أنّه میت، استشار فیمن یولّیه الأمر بعده، فأشیر علیه بابنه عبداللّه، فقال: لاها اللّه إذا! لایلیها رجلان من وَلَد الخطاب! حسب عمر ما حُمِّل! حسب عمراً احتقب، لاها اللّه! لا أتحملها حیاً ومیتاً! ثم قال: إنّ رسول اللّه مات وهو راض عن هذه الستة من قریش: علی، وعثمان وطلحة، والزبیر، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف؛ وقد رأیت أن أجعلها شوری بینهم لیختاروا لأنفسهم. ثم قال: إن أستَخلف فقد استخلف من هو خیر منّی یعنی أبابکر وإن أترک فقد ترک من هو خیر منّی یعنی رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثم قال: ادعوهم لی، فدعوهم، فدخلوا علیه وهو مُلقی علی فراشه یجود بنفسه.

فنظر إلیهم، فقال: أکلّکم یطمع فی الخلافة بعدی! فوجموا، فقال لهم ثانیة، فأجابة الزّبیر وقال: وما الذی یُبعدنا منها! ولیتها أنت فقمت بها، ولسْنا دونک فی قریش ولافی السابقة ولا فی القرابة.

قال الشیخ أبو عثمان الجاحظ: واللّه لولا علمه أنّ عمر یموت فی مجلسه ذلک لم یقدم علی أن یفوه من هذا الکلام بکلمة، ولا أن تنفّس منه بلفظه.

فقال عمر: أفلا أخبرکم عن أنفسکم! قال: قل، فإنا لو استعفیناک لم تُعفنا. فقال: امّا أنت یا زبیر فوعق لقس، مؤمن الرضا کافر الغضب، یوماً إنسان، ویوماً شیطان، ولعلها لو أفضت

ص:241

إلیک ظلت یومک تلاطم بالبطحاء علی مدٍ من شعیر! أفرأیت إن أفضت إلیک، فلیت شعری، من یکون للناس یوم تکون شیطاناً، ومن یکون یوم تغضب! وما کان اللّه لیجمع لک أمر هذه الاُمّة، وأنت علی هذه الصفة.

ثم أقبل علی طلحة وکان له مبغضاً منذ قال لأبی بکر یوم وفاته ما قال فی عمر فقال له: أقول أم أسکت: قال: قل، فإنّک لا تقول من الخیر شیئاً، قال: أمّا إنّی أعرفک منذ أصیبتْ إصبعک یوم أحُد وائبا بالذی حدث لک، ولقد مات رسول اللّه صلی الله علیه و آله ساخطاً علیک بالکلمة التی قلتها یوم أنزِلت آیة الحجاب.

ثم أقبل علی علی علیه السلام، فقال: للّه أنت لولا دُعابة فیک! امّا واللّه لئن ولیتهم لتحملنّهم علی الحق الواضح، والمحجّة البیضاء.

ثم أقبل علی عثمان، فقال: هیهاً إلیک! کأنّی بک قد قلدتک قریش هذا الأمر لحبِّها إیاک، فحملت بنی أمیة وبنی أبی مُعیط علی رقاب الناس، وآثرتهم بالفیء، فسارت إلیک عصابة من ذوبان العرب، فذبحوک علی فراشک ذبحاً. واللّه لئن فعلوا لتفعلنّ فعلت لیفعلنّ، ثم أخذ بناصیته، فقال: فإذا کان ذلک فاذکر قولی؛ فإنّه کائن.

ثم قال: ادعوا إلی أبا طلحة الأنصاری، فدعوه له فقال: انظر یا أبا طلحة، إذ عدتم من حُفْرتی، فکن فی خمسین رجلاً من الأنصار حاملی سیوفکم، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجیله، واجمعهم فی بیت، وقف بأصحابک علی باب البیت لیتشاوروا ویختاروا واحداً منهم، فإن اتّفق ثلاثة وخالف ثلاثة، فانظر الثلاثة التی فیها عبدالرحمن، فارجع إلی ما قد اتفقت علیه، فإن أصرّت الثلاثة الاُخری علی خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أیام ولم یتفقوا علی أمرٍ، فاضرب أعناق الستّة، ودع المسلمین یختاروا لأنفسهم.

فلما دُفن عمر، جَمَعَم أبو طلحة، ووقف علی باب البیت بالسیف فی خمسین من الأنصار، حاملی سیوفهم، ثم تکلّم القوم وتنازعوا، فأوّل ما عمل طلحة أنّه أشدهم علی نفسه أنّه قد وهب حقّه من الشوری لعثمان، وذلک لعامه أنّ الناس لا یعدلون به علیّاً وعثمان، وأنّ الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان، فأراد تقویة أمر عثمان وإضعاف جانب علی علیه السلام، بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمکُّن له منه.

ص:242

فقال الزبیر فی معارضته: وأنا أشهدکم علی نفسی أنّی قد وهبتُ حقّی من الشوری لعلیّ، وإنما فعل ذلک لأنّه لما رأی علیًّا قد ضعف وانخزل بهبَةِ طلحة حقَّه لعثمان، دخلته حمیَّة النَّسب، لأنّه ابن عمة أمیرالمؤمنین علیه السلام، وهی صفیّة بنت عبدالمطلب، وأبوطالب خالُه. وإنّما مال طلحة إلی عثمان لانحرافه عن علی علیه السلام، باعتبار أنّه تیمی وابن عم أبی بکر، وقد کان حصل فی نفوس بنی هاشم من بنی تیم حنق شدید لأجل الخلافة، وکذلک صار فی صدور تیم علی بنی هاشم.

فممّا لا شک فیه هنالک عدّة اسئلة لابدّ من طرحها بشأن هذه الشوری ومنها:

أولاً: لو کانت الضابطة فی الخلافة تکمن فی آراء الاُمّة فلم لا یرجع إلیها؟ وإن کانت الخلافة قائمة علی أساس التعیین فما معنی الشوری المرکبة من ستة أعضاء وما بال إهمال سائر الشخصیات المعروفة وعدم إشراکها فی الشوری؟

ثانیاً: لقد قیل أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله مات وهو راض عن هذه الستة من قریش، فکیف التوفیق بین هذا وما صرّح بأن رسول الله صلی الله علیه و آله مات وهو ساخط علی طلحة بالثلمة التی قالها یوم اُنزلت آیة الحجاب (1)؟

ثالثاً: لو افترض عدم تمکنهم من القیام بوظیفتهم فکیف یؤمر بضرب أعناقهم؟

رابعاً: لو کانت الشوری حقا فما معنی الوصیة بعثمان وذکره صراحة؟ ولو کان یخشی علی الاُمّة الإسلامیة من خلافته للزم عدم جعله أحد أعضاء تلک الشوری لیأتی آخر غیره؟

خامساً: إذا إنقسمت الشوری إلی قسمین فلم لا ترجح الکفة التی فیها علی علیه السلام والذی قال له عمر: أمّا والله لئن ولیتهم لتحملنهم علی الحق الواضح، والحجة البیضاء. ولیس له من إشکال علیه سوی قوله «لولا دعابة فیک» .

سادساً: وهل للدعابة من أثر سلبی علی الخلافة وهل یرقی هذا الإشکال إلی الإشکال علی عثمان بانّه إذا ولی الخلافة وسیسلط بنی اُمیة علی رقاب المسلمین فیتخذون عباد الله

ص:243


1- 1) المراد بآیة الحجاب قوله سبحانه: «فاسئلوهن من وراء حجاب» الذی نزل فی نساء النبی صلی الله علیه و آله والکلمة المذکورة أن طلحة لما أنزلت آیة الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلی رسول الله صلی الله علیه و آله: ما الذی یعنیه حجابهن الیوم، وسیموت غدا فننکحهن.

خولاً وماله دولاً؟

هذه هی الاسئلة والإستفسارات التی لیست لها من إجابة.

3- أسباب الخروج علی عثمان

و یجب أن نذکُر فی هذا الموضع ابتداء اضطراب الأمر علی عثمان إلی أن قُتِل.

و أصح ما ذکر فی ذلک ما أورده أبوجعفر محمد بن جریر الطبری فی «التاریخ» (1).

و خلاصة ذلک أنّ عثمان أحدث أحداثاً مشهورة نَقِمَها النّاس علیه، من تأمیر بنی أمیّة، ولا سیّما الفساق منهم وأربابُ السَّفه وقلّة الدّین، واخراج مال الفیء إلیهم، وما جری فی أمر عمّار وأبی ذر وعبداللّه بن مسعود، وغیر ذلک من الاُمور التی جرت فی أواخر خلافته. ثم اتفق إنّ الولید بن عُقبه لمّا کان عامله علی الکوفة وشهد علیه بشرب الخمر، صرفه وولیّ سعید بن العاص مکانه، فقدم سعید الکوفة، استخلص من أهلها قوماً یسمرون عنده، فقال سعید یوماً: إنّ السواد بستان لقُریش وبنی أمیة. فقال الأشتر النخعی: وتزعم أنّ السواد الذی أفاءه اللّه علی المسلمین بأسیافنا بستان لک لقومک! فقال صاحب شرطته: أتردّ علی الأمیر مقالته! وأغلظ له، فقال الأشتر لمن کان حوله من النَّخع وغیرهم من أشراف الکوفة: ألا تسمعون! فوثبوا علیه بحضرة سعید فوطئوه وطأ عنیفاً، وجرّول برجله، فغلظ ذلک علی سعید، أبعد سُمّاره فلم یأذن بعد لهم، فجعلوا یشتمون سعیداً فی مجالسهم، ثم تعدّوا ذلک إلی عثمان فی أمرهم، فکتب إلیه أن یسیرهم إلی الشام؛ لئلاّ یفسدوا أهل الکوفه، وکتب إلی معاویة وهو وإلی الشام: إنّ نفراً من أهل الکوفة قد همّوا بإثارة الفتنة، وقد سیرتهم إلیک، فانهم؛ فإن آنست منهم رشداً فأحسن إلیهم، وارددهم إلی بلادهم.

ثم إن سعید بن العاص قدم علی عثمان سنة إحدی عشرة من خلافته. فلما دخل المدینة اجتمع قومٌ من الصحابة، فذکروا سعیداً وأعماله، وذکروا قرابات عثمان وما سوّغهم من مال المسلمین، وعابوا أفعال عثمان، فأرسلو إلیه عامر بن عبد القیس وکان متألها (2)، واسم أبیه

ص:244


1- 1) فی حوادث 33 35، مع تصرف واختصار فی جمیع ما أورده فی هذا الفصل (9 نهج 2) .
2- 2) المتأله: المتعبد المتنسک.

عبداللّه، وهو من تمیم، ثم من بنی العنبر فدخل علی عثمان، فقال له: إنّ ناساً من الصحابة اجتمعوا ونظروا فی أعمالک، فوجدوک قد رکبت اُموراً عظاماً، فاتق اللّه وتب إلیه.

فأخرجه عثمان، وأرسل إلی عبداللّه بن سعد بن أبی سرح، وإلی معاویة وسعید ابن العاص وعمرو بن العاص وعبیداللّه بن عامر وکان قد استقدم الأمراء من أعمالهم فشاورهم، وقال: إن لکل أمیر وزراء ونصحاء، وإنکم وزرائی ونصحائی وأهل ثقتی، وقد صنع الناس ما قد رأیتم، وطلبوا إلیّ أن أعزل عمّالی، وأن أرجع عن جمیع مایکرهون إلی مایحبون، فاجتهدوا رأیکم.

فقال عبداللّه بن عامر: أری لک یاأمیرالمؤمنین أن تشغلهم عنک بالجهاد حتی یذلّوا لک، ولا تکون همة أحدهم إلّافی نفسه، وما هو فیه من دبر دابته وقمل فروته.

فقال عثمان: إنّ هذا لهو الرأی لولا مافیه.

ثم کاتب عمّاله واستقدمهم، فلما قدموا علیه جمعهم، وقال: ما شکایةُ الناس منکم؟ إنّی لخائف أن تکونوا مصدوقاً علیکم، وما یعصب هذا الأمر إلّابی. فقالو له: واللّه ما صدق من رفع إلیک ولا بر، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا. فقال عثمان: فأشیروا علیّ، فقال سعید بن العاص: هذه اُمور مصنوعة تلقی فی السر فیتحدث بها الناس، ودواء ذلک السیف.

وروی محمد بن عمر الواقدی رحمة اللّه تعالی، قال: لما أجلب الناس علی عثمان، وکثرت الفالة فیه، خرج ناس من مصر؛ منهم عبدالرحمن عدیس البوی، وکنانة بن بشر اللیثی، وسودان بن حمران السکونی، وقتیرة بن وهب السکسکی؛ وعلیهم جمیعاً أبوحرب الغافقی، وکانوا فی ألفین. وخرج ناس من الکوفة، منهم زید بن صوحان العبدی، ومالک الأشتر النخعی، وزیاد بن النضر الحارثی، وعبداللّه بن الأصم الغامدی، فی ألفین. وخرج ناس من أهل البصرة. منهم حکیم بن جبلة العبدی، وجماعة من أمرائهم، وعلیهم حرقوص بن زهیر السعدی؛ وذلک فی شوال من سنة خمس وثلاثین، وأظهروا أنّهم یریدون الحج. فلما کانوا من المدینة علی ثلاث، تقدم أهل البصرة، فنزلوا ذاخشب وکان هواهم فی طلحة. وتقدم أهل الکوفة، فنزلوا الأعوص وکان هواهم فی الزبیر. وجاء أهل مصر فنزلوا المروة وکان هواهم فی علی علیه السلام. ودخل ناس منهم إلی المدینة یخبرون ما فی قلوب الناس لعثمان، فلقوا جماعة من المهاجرین والأنصار، ولقوا أزواج النبی صلی اللّه علیه وآله، وقالوا: إنّما نرید الحج، ونستعفی

ص:245

من عمالنا.

وخرج عثمان یوم الجمعة، فصلی بالناس، وقام علی المنبر، فقال: یاهؤلاء، اللّه اللّه؛ فواللّه إن أهل المدینة یعلمون أنّکم ملعونون علی لسان محمد صلی اللّه علیه، فامحوا الخطأ بالصواب.

وحصبوا عثمان حتی صرع عن المنبر مغشیاً علیه؛ فأدخل داره؛ واستقتل نفر من أهل المدینة مع عثمان؛ منهم سعد بن أبی وقاص، والحسن بن علی علیه السلام، وزید بن ثابت، وأبو هریرة؛ فأرسل إلیهم عثمان: عزمت علیکم أن تنصرفوا؛ فانصرفوا.

وأقبل علی وطلحة والزبیر، فدخلوا علی عثمان یعودنه من صرعته، ویشکون إلیه ما یجدون لأجله؛ وعند عثمان نفر من بین أمیة، منهم مروان بن الحکم، فقالوا لعلی علیه السلام: أهلکتنا وصنعت هذا الذی صنعت! واللّه إن بلغت هذا الأمر الذی تریده لتمرن علیک الدنیا؛ فقام مغضباً، وخرج الجماعة الذین حضروا معه إلی منازلهم.

وروی المدائنی، قال: کان عثمان محصوراً محاطاًبه، وهو یصلی بالناس فی المسجد، وأهل مصر والکوفة والبصرة الحاضرون له یصلون خلفه، وهم أدق فی عینه من التراب.

وروی الکلبی والواقدی والمدائنی: أن محمد بن أبی بکر، ومحمد بن أبی حذیفة کانا بمصر یحرضان الناس علی عثمان، فسار محمد بن أبی بکر مع من سار إلی عثمان، وأرقام محمد بن أبی حذیفة بمصر، ثم غلب علیها لما سار عبداللّه بن سعد بن أبی سرح عامل عثمان عنها إلی المدینة فی أثر المصریین، بإذن عثمان له، فلما کان بأیلة، بلغه أن المصریین قد أحاطوا بعثمان وأنّه مقتول، وأن محمد بن أبی حذیفة قد غلب علی مصر، فعاد عبداللّه إلی مصر، فمنع عنها، فأتی فلسطین، فأقام بها حتی قتل عثمان. (1)

4- هل سار جمیع الصحابة علی نهج النبی صلی الله علیه و آله

المعروف بین أوساط الاخوة من أبناء العامة أنّ لصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله - دون إستثناء - قدسیة وعدالة وأنّ أحدا منهم لم یؤتی بما یخالف ما أمر به الله فی الکتاب والسنة، بینما تعتقد الشیعة من أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّ الصحابة لیست سواسیة ولها رأی بکل صحابی بما

ص:246


1- 1) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 2 / 143. [1]

ینسجم وسلوکه سواء علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله أو بعد وفاته.

و لاشک أنّ الاعتقاد السائد لدی الاخوة السنة بشأن الصحابة قد قادهم إلی مشاکل کثیرة؛ وذلک لانّ هنالک من الصحابة ممن إختلفوا فیما بینم إلی حد الاقتتال. فیکف یمکن تبریر تلک العقیدة التی تتضمن عدالتهم وقدسیتهم. علی سبیل المثال موقعة صفین التی قام فیها معاویة ضد إمام زمانه بما أدی إلی اراقة تلک الدماء، فهل هناک مورخ نزیه یمکنه توجیه ذلک العمل؟ ! أو الدماء التی سفکت فی معرکة الجمل التی قادها طلحة والزبیر ضد الإمام علی علیه السلام بعد أن نکثا بیعته حتی قیل أن عدد القتلی بلغ أکثر من سبعة عشر الف قتیل، فهل لهما من عدالة بعد تلک الفجائع التی ارتکبت بحق المسلمین وخروجها علی الإمام علیه السلام؟ !

أمّا بشأن عثمان وکما مرّ معنا وعلی ضوء إجماع کافة مؤرخی الإسلام فانّنا نصطدم بموضوعین مهمین: الأول اغداقه المناصب الحساسة علی بنی اُمیة وتسلیطهم علی رقاب المسلمین ومن أولئک الذین عرفوا بفسقهم ومجونهم حتی تعالت علیهم أصوات المسلمین من کل حدب وصوب، والآخر نهب أموال بیت المال واغداقها دون حساب علی هذا وذاک بالشکل الذی آثار حفیظة الاُمّة وأجج مشاعرها للغضب والثورة علیه.

فهل من إنسجام بین هذه الأعمال والخطوط العامة للقداسة وتنزیه الصحابة؟ ! فلو کان هنالک من تبریر لمثل هذه الأعمال فهل ستبقی هنالک من أعمال یمکن إدانتها؟ !

لقد ذکرنی هذا الکلام بقصة عجیبة وقعت لی ولا یسعنی نسیانها أبدا. فقد تشرفت احدی السنوات بزیارة مکة لاداء العمرة وقد سنحت لی الفرصة لان ألتقی بعض علماء العامة - ولا سیما أثناء اللیالی فی المسجد الحرام وبین صلاتی المغرب والعشاء التی کانت فرصة مناسبة - فی احدی اللیالی (طبعا کان البعض منهم من مشاهیر علماء العامة) .

و فی المسجد الحرام وسعینا لان نبقی علی الأبحاث تعیش أجواء المنطق والعلم والاستدلال والبرهان وابعادها عن عناصر العداء والکراهیة وجرح المشاعر. وقد جرنا الکلام إلی الحدیث عن «تنزیه الصحابة وعدالتهم» فکانوا یعتقدون جمیعهم بعدم إمکانیة جرأة أحد علی توجیه أدنی تهمة إلیهم. فسألت أحدهم: «لو شهدت صفین حیث معسکر علی علیه السلام معسکر معاویة، فمع من کنت تقاتل» ؟ فاجاب من فوره: مع معسکر علی علیه السلام.

ص:247

فقلت: لو أعطاک علیاً علیه السلام سیفاً وقال لک: «خذ هذا واقتل معاویة فهل کنت تمتثل أمره؟» هنا أجاب إجابة عجیبة لا أظنکم تتصورنها، فقد قال: «کنت أقتله ولا أذکره بسوء» نعم قضیة تنزیه الصحابة قصة ذات شجون ولا یسعنی الخوض فی کافة تفاصیلها.

ص:248

القسم الرابع

اشارة

«فَما راعَنِی إِلاَّ وَالنّاسُ کَعُرْفِ الضَّبُعِ إِلَیَّ یَنْثالُونَ عَلَیَّ مِنْ کُلِّ جانِبٍ حَتَّی لَقَدْ وُطِیَء الْحَسَنانِ، وَشُقَّ عِطْفایَ، مُجْتَمِعِینَ حَوْلِی کَرَبِیضَةِ الْغَنَمِ فَلَمّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَکَثَتْ طائِفَةٌ وَمَرَقَتْ أُخْرَی، وَقَسَطَ آخَرُونَ، کَأَنَّهُمْ لَمْ یَسْمَعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ یَقُولُ: «تِلْک الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوًّا فِی الْأَرْضِ وَلا فَساداً، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ» ، بَلَی! وَاللّهِ لَقَدْ سَمِعُوها وَوَعَوْها، وَلَکِنَّهُمْ حَلِیَتِ الدُّنْیا فِی أَعْیُنِهِمْ وَراقَهُمْ زِبْرِجُها» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة إلی عصر خلافته ولا سیما أبان البیعة التی شهدت حضوراً خارقاً للاُمّة فی مبا یعته والوقوف إلی جانبه، البیعة الفریدة التی لم یعرف التأریخ الإسلامی لها من نظیر، غیر أنّ عدداً کثیراً لما جوبه بعدالة الإمام علیه السلام وتنمره فی الحق قد إنفرجوا عنه وهبوا لمخالفته وبالتالی أججوا نیران الحرب «الجمل وصفین والنهروان» وشقوا صفوف المسلمین وحالوا دون تتویج جهود الإمام علیه السلام ومساعیه فی النهوض بالمجتمع الإسلامی والأخذ بیده إلی السمو والتکامل.

فقد وصف علیه السلام بادیء ذی بدء کیفیة إقبال الناس علیه وهجومهم من أجل البیعة قائلاً: «فما راعنی (1)إلّاوالناس کعرف (2)الضبع (3)إلیّ ینثالون (4)علیّ من کل جانب» فالتعبیر بعرف

ص:249


1- 1) «راعنی» من مادة «روح» علی وزن نوع بمعنی الخوف و الخشیة و الفلق کما وردت بمعنی الدهشة والذهول.
2- 2) «عرف» بمعنی الکثرة والازدهام و من هنا یطلق علی شعر عنق الضبع.
3- 3) «ضبع» له ثلاثه معان، الحیوان المعروف و أحدا أعضاء الانسان (العضد) والثالث أنه أحد صفات الناقه. و قد تکون کنایة عن سنین القحط التی تهجم علی الانسان.
4- 4) «ینثالون» من مادة «ثول» علی وزن قول بمعنی ازدحام زنابیر العسل حین تجتمع و تروح و تجییء ثم اطلقت علی کل ازدحام یتخلله ذهاب و ایاب (مقاییس اللغة و الصحاح و لسان العرب) .

الضبع إشارة إلی الازدحام الشدید للناس واندفاعهم لمبایعة الإمام علیه السلام فهو مثل یضرب للکثرة والازدحام.

أمّا قلقه من الهجوم المفاجیء للناس من أجل البیعة فلعله یعزی إلی أنّ مثل هذه البیعة الحماسیة من شأنها أن تقلد الإمام علیه السلام مسؤولیة جدیدة ولا سیما أنّه کان یتوقع نقض البیعة من قبل اُولئک الذین یتهافتون علی الدنیا وحطامها، وهذا ما أشار إلیه الإمام علیه السلام بوضوح فی الخطبة 92 حیث قال: «دعونی والتمسوا غیری، فانا مستقبلون أمراله وجوه وألوان، لاتقوم له القلوب، ولا تثبت عیه العقول، وان الافاق قد أغامت والمحجة قد تنکرت، واعلموا أنّی إن أجبتکم رکبت بکم ما أعلم، ولم أصغ إلی قول القائل وعتب العاتب، وإن ترکتمونی فأنا کأحدکم، ولعلی أسمعکم وأطوعکم لمن ولیتموه أمرکم، وأنا لکم وزیراً، خیرلکم منی أمیرا» .

أضف إلی ذلک کان یشعر بالقلق من جهة اُخری وهی أن تشیر إلیه أصابع الاتهام من قبل المنافقین وخصوم الدعوة بقتل عثمان. ثم یخوض الإمام علیه السلام فی عمق ذلک الازدحام والانهیال علیه بالبیعة فقال علیه السلام: «حتی لقد وطیء الحسنان، وشق عطفای، مجتمعین حولی کربیضة الغنم» .

و یری أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد بالحسنین هما الإمام الحسن والحسین علیهما السلام. فقد کان الإمامان علیهما السلام فی عنفوان شبابهما إلّاأنّ الهجوم الشعبی العام قد جعلهما فی موقع حرج فی الحفاظ علی والدهما. بینما ذکر بعض الشرّاح احتمالین آخرین؛ الأول أن یکون المراد اصبعی الرجل البارزین - کما روی ذلک عن الشریف الرضی رحمه الله - نقلا عن بعض اللغویین (أبی عمر) و قد استدلوا علی ذلک باشعار العرب، إلّاأنّ هذا المعنی یبدو مستبعداً لانّ وطیء اصبعی الرجل قضیة عادیة تحصل عند أدنی زحام ولا یمکنها أن تعکس ذلک الهجوم العظیم.

والأبعد من ذلک التفسیر الثالث الذی أورده البعض علی أنّ المراد بها عظمی الید وذلک

ص:250

لتعذر وطیء إصبعی الید عادة سواء عظمی العضد أو الساعد، ولا یوطئان إلّاحین یقع الإنسان علی الأرض.

أمّا تشبیهم بربیضة الغنم فهو لا یرمز إلی جهل الناس کما فسره بعض الشارحین، بل یتضمن إشارة إلی ما أوردناه سابقاً حیث یرمز إلی لو إذ الغنم بالراعی کلواذها بالمرعی حین تتعرض لهجوم الذئاب.

فالمسلمون الذین تفرقوا هنا وهناک إثر الهجوم الذی تعرضوا له من قبل ذؤبان عصر الخلیفة الثالث وتفککت عری الوحدة بینهم قد رأوا فی الإمام علیه السلام حلقة الوصل فاندفعوا إلیه بلهفة لیتجمهروا حوله ویشعروا بالسکینة والاستقرار. غیر أنّ المؤسف هو أنّ الاندفاع لم یکتب له الدوام حین عرضوا للاختبار لتفشل فیه طوائف من المسلمین، وهذا ما صوره الإمام علی علیه السلام إذ قال: «فلما نهضت بالأمر نکثت طائفة، ومرقت (1)اُخری، وقسط (2)آخرون» .

و قد أجمع أغلب شرّاح نهج البلاغة علی أنّ المراد بهم أصحاب الجمل والنهروان وصفین فقد ذکروا أنّ أصحاب معرکة الجمل (هم طلحة والزبیر الذین استغلا وجود عائشة لتألیب الناس ضد أمیر المؤمنین) الذین نقضوا البیعة هم «الناکثین» فقد بایعا علیاً علیه السلام وهما یطمعان بالخلاصة فلما لم یتمّ لهما ذلک قدما البصرة وبثا بذور الشقاق والفرقة.

و «المارقین» هم أصحاب النهروان ویراد بهم الخوارج الذی خرجوا علی الإمام علیه السلام وهبوا لقتاله بعد قضیة التحکیم فی صفین. وهم من وصفوا بالمروق عن الدین کمروق السهم من الرمیة. فی إشارة إلی أنّهم قد کانوا علی الحق إلّاأنّ تعصبهم الأعمی وجهلهم وحبهم لذاتهم قد أمرقهم من ذلک الحق. و «القاسطین» هم أهل الشام جیش معاویة، حیث وردت مفردة

ص:251


1- 1) «مرق» من مادة «مروق» علی وزن غروب بمعنی الخروج من الشیء حیث تستعمل فی خروج السهم - ویقول صاحب صحاح اللغة ولسان العرب - المراد به المرور من الهدف واصابة طرفه ومن هنا سمی الخوارج ب «المارقین» لانهم کانوا جماعة مفرطة متعصبة رأت نفسها أکثر إسلامیة من أمیر المؤمنین علی علیه السلام.
2- 2) «قسط،» وردت أحیانا بمعنی الظلم والعدول عن الحق ولذلک یقال قسط علی وزن فقط للأفراد الذین إعوجت أرجلهم، کما وردت بمعنی العدل. قال الراغب فی المفردات القسط بمعنی السهم والنصیب فاذا أخذ سهم شخصی قیل له قسط وهذا مصداق الظلم، واقساط تعنی دفع سهم الآخر وهذا عین العدالة. وعلیه فالمعنیان یعودان الی مادة واحدة فقد صرّح صاحب لسان العرب أنهّ جاء فی حدیث علی علیه السلام قال: «اُمرت بقتال الناکثین والقاسطین والمارقین» واضاف صاحب لسان العرب «و القاسطون أهل صفین» .

القسط بمعنی العدل إلی جانب ورودها بمعنی الظلم والطغیان والفسق.

و الجدیر بالذکر هنا أنّ هذه التسمیات لهذه الفئات الثلاث - وعلی ضوء المصادر الإسلامیة - ممّا صرّحت بها الأحادیث النبویة الشریفة.

فقد روی الحاکم النیسابوری فی مستدرک الصحیحین عن أبی أیوب الأنصاری أنّه قال: «أمر رسول الله صلی الله علیه و آله علی بن أبی طالب بقتال الناکثین والقاسطین والمارقین» (1).

کما ورد هذا المعنی فی تلخیص المستدرک للذهبی (2). ووردت هذه الروایة فی کتاب اُسد الغابة فی شرح سیرة الإمام علی علیه السلام (3).

بینما وردت هذه الروایة مفصلة فی تاریخ بغداد، حیث جاء عن أبی أیوب الانصاری أنّه قال: أمرنا رسول الله صلی الله علیه و آله بقتال الناکثین والقاسطین والمارقین فی رکاب علی علیه السلام. أمّا الناکثین فقد قاتلناهم وهم - أصحاب الجمل - طلحة والزبیر، وأمّا القاسطین فهم من عدنا الآن من عندهم؛ أی معاویة وعمرو بن العاص (لقد قال ذلک حین عاد من صفین) وأمّا المارقین فهم أصحاب النهروان، والله لا أعلم أین هم إلّاأننی أعلم بأناسنقاتلهم» (4)

و الحق انّ هذا جواب قاطع لاُولئک الجهال الذین لم تحسم لدیهم الحروب التی وقعت إبان خلافة علی علیه السلام.

نعم فاُولئک الذین تهافتوا فی بادی الأمر علی علی علیه السلام من أجل البیعة لم یطیقوا تحمل عدالته وشدته فی الحق؛ ولا سیما ممارسته للعدالة التی أوشکت أن تموت بعد تلک المدّة الطویلة التی شهدت إنعدامها وقد تمثل ابسط مظاهرها فی التطاول علی بیت المال وسلبه ونهبه الذی أقدم علیه الکثیرون فانی لهم بتحملها، ولذلک لم تصمد معه إلّاثلة معدودة التزمت بعهودها بینما إنفرج عنه الأعم الأغلب ممن بایعوه؛ الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام فی خطبته فقال: «کأنّهم لم یسمعوا کلام الله سبحانه یقول: «تِلْکَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِینَ لا یُرِیدُونَ عُلُوّاً

ص:252


1- 1) مستدرک الصحیحین 3 / 139 (طبعة دار المعرفة) .
2- 2) لقد طبع هذا الکتاب فی ذیل المستدرک (المجلد السابق والصفحة السابقة) .
3- 3) اسد الغابة 4 / 33.
4- 4) تاریخ بغداد 13 /187 ( [1]طبعة دار الکفر) .

فِی الأَرْضِ وَلا فَساداً وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ» . (1)

ثم أضاف علیه السلام: «والله لقد سمعوها ووعوها (2)ولکنهم حلیت الدنیا فی أعینهم، وراقهم (3)زبرجها (4)» (5).

فالإمام علیه السلام یشبههم فی البدایة بالجهال الذین دفعهم جهلهم لمخالفته، ثم ینتقل فی المرحلة اللاحقة لیصفهم بأنّهم سمعوا هذه الأخبار والحقائق ووعوها وهی لیست خافیة علیهم، إلّاأنّ حب الدنیا والتکالب علی حطامها والاغترار بزبرجها - ولا سیما بعد الفتوحات الإسلامیة الکبری التی جرت علیهم ما لا یحصی من الغنائم النفیسة والتعود علی الحیاة الوادعة المرفهةخاصة تلک التی ظهرت أبان خلافة عثمان - جعلتهم یؤثرون الدنیا علی الدین ویبیعون الحقیقة بالخرافة ویضحون بالدار الآخرة ویزهدون فیها.

فالعبارات التی أوردها الإمام علیه السلام هی فی الواقع عصارة التحلیلات بشأن نشوب المعارک الثلاث فی عهد الإمام علیه السلام؛ الأمر الذی یعتبر درسا لجمیع المسلمین علی مدی التاریخ فی أنّهم یعیشون الفرقة والتشتت وتمزق عری الوحدة کلما أقبلوا علی الدنیا واغتروا بزخارفها وزبرجها، فلیس لهم من سبیل سوی الورع والتقوی والزهد بغیة الثبات علی الطریق. ونشاهد الیوم بکل وضوح أنّ الاختلافات السائدة فی أوساط المسلمین إنّما تعزی لما بینه الإمام علیه السلام وأو جزته الآیة القرآنیة الشریفة: «تلک الدار الآخرة نجعلها للذین لا یریدون علوا

ص:253


1- 1) سورة القصص / 83. [1]
2- 2) «وعوها» من مادة «وعی» علی وزن نفی، قال صاحب المقاییس تغنی صنم الشیء إلی آخر، وقال صاحب المفردات تعنی حفظ الحدیث وما شابه ذلک (وکلاهما بمعنی واحد) .
3- 3) «راق» من مادة «روق» -حسب المقاییس -بمعنی تقدم شیء علی آخر و تأتی أحیانا بمعنی الحسن والجمال ومن هنا یصطلح بالرواق علی مقدمة البیت أو الاضرحة المقدسة و قد جاءت هنا بمعنی الحسن والجمال.
4- 4) «زبرج» بمعنی الزینة والذهب کما تأتی بمعنی نقوش القماش.
5- 5) یتضح بجلاء أنّ الضمائر فی هذه العبارة والعبارات السابقة إنّما یعود إلی الفرق الثلاث الناکثین والمارقین والقاسطین التی اُشیر إلیها فی العبارة السابقة، بینما یرجح المرحوم العلّامة المجلسی فی البحار أنّ هذه الضمائر إنّما تعود إلی الخلفاء الثلاث، غیر أنّ هذا الاحتمال یبدو مستبعداً. ولعل هذا هو الذی دفع المرحوم المجلسی لان یختتم کلامه باحتمال رجوع الضمائر إلی کافة من أشارت إلیهم الخطبة.

فی الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقین» .

فالعلو فی الأرض والفساد والتکالب علی الدنیا وحطامها هما أساس الفرقة والاختلاف و التشتت فی المجتمعات الإسلامیة.

تأمّلات

1- البیعة الشعبیة لأمیر المؤمنین علیه السلام

إنّها البیعة التی لا یمکن مقارنتها بتلک التی حدثت مع الخلفاء الثلاث.

کانت بیعة عفویة شعبیة عامة بعیدة عن البرمجة والتخطیط، بل نابعة من أعماق الاُمّة المستضعفة التی ذاقت الظلم والاضطهاد، فهی لیست کبیعة السقیفة التی مثل إتخاذ القرار فیها بعض الأفراد لتری الاُمّة نفسها أمام نتیجة حسمت سابقاً، وهی لیست کبیعة عمر التی اُسندت بطولتها لفرد واحد هو الخلیفة الأول، وأخیراً لیست کبیعة عثمان التی استندت للشوری السداسیة وعلی ضوء الترکیبة التی شکلها عمر.

بل هی بیعة واقعیة وحقیقیقة جردت ماسواها من إنتحال هذا الاسم بعد أن برمجت وخططت بهذه الکیفیة.

فقد ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الثوار الذین أودوا بحیاة عثمان إتجهوا صوب الإمام علی علیه السلام لیبایعوه علی الخلافة، فلم یجبهم فلما أصروا علیه، خاطبهم قائلاً: «أنا لکم وزیراً خیر منی امیراً» .

حیث کان یعلم علیه السلام بأنّ سبقت هؤلاء فی البیعة سیثیر تهمة مفادها أنّ عثمان قتل مع سبق الاصرار والترصد طبق خطة مدروسة.

أضف إلی ذلک فلو بایعوه، لزعم البعض أنّ قتلة عثمان فقط هم الذین بسطوا له أیدیهم بالبیعة، وناهیک عمّا تقدم فانّ الإمام علیه السلام کان یتوسم فیهم عدم القدرة علی إحتمال الحق؛ نعم فالحق ثقیل وبییء، إلّاأنّ الإمام علیه السلام فوجیء بتقاطر المهاجرین والانصار الذین اصروا علیه بقبول الخلافة.

فلم یکن له من سبیل سوی قبولها، فارتقی المنبر علیه السلام لتندفع إلیه الاُمّة زرافات ووحدانا وهی تعلن بیعتها له، ولم یشذ منها سوی النزر الیسیر من قبیل سعد بن أبی وقاص وعبدالله

ص:254

بن عمر ولم یجبر هم الإمام علیه السلام علی مبایعته (1).

إننا نعتقد وعلی ضوء المصادر الإسلامیة المعتبرة أنّ النبی صلی الله علیه و آله قد إستخلف علیاً علیه السلام بأمر الله، ولم یقتصر ذلک علی «غدیر خم» بل أکده النبی صلی الله علیه و آله فی عدّة مواضع ومناسبات، ورغم مخالفة البعض - لاسباب لایسعنا المجال إلی الخوض فی تفاصیلها - بعد رحیل النبی صلی الله علیه و آله مع ذلک فما أن قتل عثمان حتی تدفقت الاُمّة بشکل عجیب علی الإمام علیه السلام وهی تعلن عن تظامنها ودعمها واسنادها للإمام علیه السلام؛ الدعم الذی لم تشهده النظم الدیمقراطیة طیلة تجاربها، بل قل نظیرها سوی بعض النماذج التی حصلت علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله کبیعة الشجرة.

و ممّا لا شک فیه أنّ تلک البیعة إنّما کانت تنبع من معرفة الاُمّة بمنزلة علی علیه السلام وسعة علومه ومعارفه ومدی ورعه وتقواه وزهده وادارته الناجعة التی لم یکن فیها من مکان للتیارات والتحزبات، فقد کانت من العفویة والإنسیابیة بحیث سلبت زمام المبادرة من الخصوم لتجعلهم یعیشون حالة الدهشة اُمام عمل تم ولا سبیل إلی الرجعة منه، ولو ترکوا الاُمّة وحالها وتخلوا عن مؤامراتهم وغدرهم لنهض ذلک المجتمع نهضات ولعاش الاطروحة التی حملها له القرآن والمتمثلة بقیام مجتمع الحریة والعدالة.

و سنری لاحقا أنّ هذه العناصر المشبوهة العثمانیة التی تطاولت علی بیت أموال المسلمین وردت المیدان السیاسی لتعبث الناس وتتلا عب بمشاعرها الدینیة وتقودها فی خاتمة المطاف إلی إشعال نیران الجمل وصفین والنهروان وتسدد تلک الضربات الموجعة للإسلام والمسیرة الإسلامیة.

2- مصدر الانحرافات الاجتماعیة

یعتبر الإمام علیه السلام - فی هذه الخطبة - أنّ العامل الأصلی الذی یقف وراء الانحراف عن الحق فی عصره (و فی کل العصور) إنّما یکمن فی حب الدنیا والاغترار بزخرفها وزبرجها الذی أجج نار حروب الجمل وصفین والنهروان، ثم یؤکد علیه السلام علی الآیة الشریفة التی تصرح بأن الآخرة

ص:255


1- 1) فی ظلال نهج البلاغة 1 / 96.

من نصیب اُولئک الذین لا یریدون علوا فی الأرض ولا فسادا. فهذه العبارات القصیرة إنّما تکشف عن حقائق مهمّة تلمس آثارها علی مدی التاریخ.

فالاطماع هی أساس الحروب والنزاعات الدمویة، والاهواء والفساد فی الأرض هو العنصر الرئیسی الذی یقف وراء الفوضی والهرج والمرج ومن هنا فاذا لم تجابه هذه العادات الشیطانیة بالإیمان والاعتقاد الراسخ فلا مناص من نشوب هذه الحروب الفتاکة وانعدام العدالة وسیادة الفوضی والقلق والاضطراب، بل ستبرز هناک العناصر التی تتلاعب بالقیم الإنسانیة والمفاهیم الأخلاقیة وسائر الاُصول من قبیل الحریة وحقوق الإنسان لتسخرها من أجل تحقیق أهدافها وأطماعها.

والذی یجدر ذکره أنّ الإمام علیه السلام یتحدث عن أولئک الذین تتضارب عقائدهم مع أعمالهم، ویبدو أنّهم مسلمون حیث سمعواالآیات القرآنیة ومنها «تلک الدار الآخرة. . .» .

و آمنوا بها، غیر أنّ دعائم إیمانهم قد تزعزعت وتفککت بفعل دوافعهم التی شدتهم إلی الدنیا والتکالب علی زخارفها والاغترار بزبرجها، وهذه هی النتیجة الطبیعیة لکل اُولئک الذین یؤثرون دنیاهم علی دینهم.

3- المعارک الثلاث علی عهد الإمام علی علیه السلام

لقد تضمنت خطبته علیه السلام إشارة إلی المعارک الثلاث: الجمل، وصفین والنهروان التی اُشعلت من قبل الناکثین والقاسطین والمارقین. وسنشیر هنا إلی هذه المعارک بصورة مختصرة:

أ - معرکة الجمل

لم تمر علی بیعة امیر المؤمنین علیه السلام أکثر من ثلاثة أشهر حتی ضاقت طوائف من المستکبرین ذرعا بعدالة الإمام علیه السلام ولم تطق تحمله فهبت لمخالفته. معاویة من جانبه أعلن فی الشام عن عدم استعداده لمبایعة علی علیه السلام ثم تأهب للقتال. فکتب الإمام علیه السلام رسائل إلی ولاته علی الکوفةالبصرة ومصر لیجهزوا الجیش من أجل مقاتله معاویة. . . فی هذه الاثناء هم طلحةالزبیر بالسفر إلی مکة بذریعة أداء العمرة.

فالتقیا فی مکة عائشة التی کانت متذمرة من مبایعة علی علیه السلام فانضمت إلیهما واتجهوا إلی

ص:256

البصرة لنصرة عثمان. وبالطبع فانّ کافة القرائن تشیر إلی أنّ هؤلاء لم یکونوا یطالبون بدم عثمان، ولم یکن لهم من تعصب للإسلام؛ قتلة عثمان لم یکونوا فی البصرة، أضف إلی ذلک فان نصرة عثمان لا تسلتزم مخالفة أمیر المؤمنین علی علیه السلام، ناهیک عن أنّ طلحة من قادة الثورة علی عثمان.

و واضح أنّ هدف هؤلاء من نقض بیعتهم لعلی علیه السلام هو عدم حصولهم علی المناصب التی کانوا یحلمون بها. وأخیراً تمکن طلحة والزبیر مع عائشة فی شهر ربیع الثانی عام 36 ه بالمکر و الخداع من الاستیلاء علی البصرة ثم أخذوا لأنفسهم البیعة من الناس حیث سددوا أولی ضرباتهم لوحدة الاُمّة الإسلامیة.

الإمام علیه السلام بدوره لما کان عالماً بهذا الأمر أنفذ جیشه الذی جهزه لقتال معاویة نحو البصرة ثم کتب رسالة لعامله علی الکوفة «أبو موسی الأشعری» یطلب منه تعزیز الجیش - ورغم أنّ أبا موسی لم یرد بالا یجاب علی رسالة الإمام إلّاأنّه انفذ جیشاً قوامه تسعة آلاف مقاتل إلی الکوفة - وفی جمادی الآخرة التحم الجیشان، وطبق نقل «تاریخ الیعقوبی» فانّ المعرکة استغرقت أربع ساعات هزم فیها جیش طلحة والزبیر، فانبرت عائشة لتعبئة أهل البصرة فرکبت الجمل ومن هنا سمیت هذه المعرکة بمعرکة الجمل؛ وقد أبدی الجیش الذی تمحور حول الجمل مقاومة عنیفة.

فنادی الإمام علیه السلام: «إعقروا الجمل» فلما عقر الجمل إنتهت المعرکة حیث قتل طلحة والزبیر (فقد قتل طلحة فی المیدان علی ید مروان، بینما فر الزبیر لیقتل خارج میدان المعرکة) فسرح الإمام علیه السلام عائشة بکل إحترام علی أنّها زوج النبی صلی الله علیه و آله إلی المدینة.

و قیل أنّ عدد القتلی فی الجمل قد بلغ عشرة آلاف وقیل سبعة عشر ألفاً، وهکذا حسمت المعرکة لصالح الإمام علیه السلام واخمدت تلک الفتنة. (1)

ب - معرکة صفین

عاد الإمام علیه السلام إلی الکوفة بعد الجمل، فکتب لمعاویة کتابا طالبه بالبیعة. فلم یجبه معاویة

ص:257


1- 1) ما ورد أعلاه، اُقتبس من «الکامل فی التأریخ» لابن الأثیر ج 3 مع تلخیص» .

وأخذ یدعو الناس للطلب بدم عثمان حتی أمر البعض بان یعلنوا علی الناس أنّ قاتل عثمان هو علی بن أبی طالب علیه السلام.

و بعد مضی مدّة کتب رسالة لعلی علیه السلام یعلن فیه الحرب بعد أن جیش جیوش الشام.

فجهز الإمام علیه السلام أهل الکوفة لینفذ جیشه إلی صفین وقد أجابه أغلب الناس إلّاالقلیل منهم.

فجعل الإمام علیه السلام جیشه طوائف وجعل لکل طائفة أمیر. وصل الإمام علیه السلام صفین لثمان بقین من محرم عام 37 ه لیلتقی جیش معاویة هناک. حاول بعض أصحاب الإمام علیه السلام البدو بالقتال، فکتب معاویة رسالة للإمام علیه السلام یناشده عدم التعجیل بالقتال.

الإمام علیه السلام من جانبه کان یسعی جاهدا للحیلولة دون نشوب القتال فکان یرسل الرسائل و الأفراد یناشده جیش معاویة الالتحاق بصفوف المسلمین حتی مرت عدّة شهور ولم یأذن الإمام علیه السلام بالقتال رغم اصرار أصحابه علیه. إلّاأنّ کل هذه الاُمور لم تکن تجدی نفعاً، حتی نشبت المعرکة فی شهر ذی الحجة عام 37 ه ووقع بین الطرفین قتال شدید، ثم توقف القتال بحلول شهر محرم الحرام، ثم أخذ الإمام علیه السلام یرسل رسائله ویبعث بأصحابه، وما ان انتهی شهر محرم حتی نشب القتال ثانیة حتی زحف جیش الإمام ومنی جیش الشام بالفشل.

و أخیراً شعر معاویة بهزیمة جیشه فعمد إلی الجیش بحمل المصاحف، فحدث انشقاق فی جیش الإمام علیه السلام بعد أن تعالت أصوات المنافقین بالکف عن القتال ثم انتهی الأمر إلی التحکیم الذی فرض علی الإمام.

فاختاروا أبا موسی الأشعری المعروف بسذاجته ممثلا عن الإمام علیه السلام وعمرو بن العاص عن معاویة بعد أن أتفقا علی أن یخلع کل صاحبه.

فقام أبو موسی الأشعری وخاطب الناس أنّی خلعت علیاً علیه السلام کما أخلع خاتمی، بینما خدعه عمرو بن العاص ولم یخلع معاویة. وهکذا ضاعت أعظم فرصة کادت أن تقضی علی بنی اُمیة و تغیر وجه التاریخ فندم جیش الإمام علیه السلام حیث لا ینفع الندم.

ج - معرکة النهروان

یفهم من أحداث معرکة صفین أنّ الخوارج فئة أفرزتها تلک المعرکة بعد مسألة التحکیم.

ص:258

حیث أصروا علی الإمام علیه السلام بقبول التحکیم فلما قاد إلی تلک النتیجة ندموا ندماً شدیداً لیعتبروا التحکیم مخالفة صریحة للقرآن وأنّه الکفر بعینه، وقد بلغت بهم الوقاحة أن طالبوا الإمام علیه السلام بالتوبة وإلّا هبوا لقتاله. فلما رأی الإمام علیه السلام الاختلاف قد دب بین جیشه (ولاحظ عناصر النفاق التی کانت تحاول إثارة الفتنة) أصدر أمره بالعودة إلی الکوفة.

فلما عاد الجیش إلی الکوفة، انشق منه اثنا عشر ألف من الأفراد المتعصبین لیلجأوا إلی الحروراء - قریة تبعد میلین عن الکوفة - ومن هنا اطلق علیهم إسم الخوارج الحروریة، وأخیراً استعدوا للقتال بعد أن تجمعوا فی النهروان قرب الحروراء.

و الغریب فی الأمر کان البعض منهم من أصحاب البرانس من الحفاظ. إلّاأنّهم کانوا یعرفون بالجهل والتعصب والالتزام بظواهر الدین دون باطنه ومن هنا استحقوا إسم «المارقین» .

سعی الإمام علیه السلام بادیء ذی بدء إلی نصحهم والاعذار إلیهم فبعث لهم الواحد تلو الآخر، فکان من ذلک أن استجاب عدد منهم وهم ینادون «التوبة التوبة یا أمیر المؤمنین» حیث قیل إنّ ثمانیة آلاف منهم قد رجعوا وتابوا (تفید الروایات أنّ الإمام علیه السلام قد جعل رایة فی المیدان وأمر التوابین بالانضواء تحتها) ، مع ذلک لم یاذن الإمام علیه السلام بمقاتلتهم أملا بعودة من تبقی منهم.

حتی بعث لهم من یحاججهم فقتلوه ثم نشب القتال، فقاتل علیه السلام قتالاً شدیداً بعد أن أخبر أصحابه بأن مصارعهم دون النطفة ولن ینجو منهم عشرة ولن یهلک من جیشه عشرة. فکان الأمر کما أخبر علیه السلام. (1)

وقعت هذه الحرب فی الیوم التاسع من شهر صفر عام 38 أو 39 هجری، ولم تدم اکثر من ساعة. (2)

ص:259


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 59. [1]
2- 2) «الکامل فی التاریخ» لابن الاثیر، شرح نهج البلاغة للخوئی، تاریخ الطبری، ج 4، نور الولایة، مروج الذهب، ج 2 «مع التلخیص والاختصار» .

ص:260

القسم الخامس: قبول البیعة والخلافة

اشارة

«أَما وَالَّذِی فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْ لا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَقِیامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النّاصِرِ، وَما أَخَذَ اللّهُ عَلَی الْعُلَماءِ أَلاَّ یُقارُّوا عَلَی کِظَّةِ ظالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَیْتُ حَبْلَهَا عَلَی غَارِبِهَا، وَلَسَقَیْتُ آخِرَهَا بِکَأْسِ أَوَّلِها، وَلأَلْفَیْتُمْ دُنْیَاکُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِی مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ» .

الشرح والتفسیر

یبیّن الإمام علیه السلام الأسباب التی دعته إلی قبول البیعة والأهداف التی یتوخاها من الخلافة، کما یشیر إلی أنّ هذه الخلافة والامرة لا تعدل عنده شیء لولا تلک الأهداف الکبری.

فقال علیه السلام «أمّا والذی فلق الحبة وبرأ النسمة، (1)لولا حضور الحاضر (2)، وقیام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله علی العماء أن لا یقاروا (3)علی کظة (4)ظالم، ولا سغب (5)مظلموم، لا لقیت حبلها علی غاربها (6)، ولسقیت آخرها بکأس أولها» .

ص:261


1- 1) «نَسَمَة» فی الأصل بمعنی هبوب الریاح بشکل هادیء، وتستعمل أحیانا للاشارة إلی التنفس، ویُطلق أحیاناً علی الانسان، فیقال «نَسَمَة، أما المقصود بها فی بحثنا هذا فهو «الانسان» أو «الروح» .
2- 2) «حاضر» بمعنی حضور الشخص أو الشئی، وقال أرباب اللغة آنهاتأتی بمعنی القبیلة والطائفة الکبیرة، ولعلها وردت هنا بهذین المعنیین.
3- 3) «لایقاروا» من مادة «قرار» بمعنی السکون، وعلیه فالمراد بالعبارة أن لا یسکتوا ولا یسکنوا.
4- 4) کظة ما یعتری الاکل من الثقل والکرب عند امتلاء البطن بالطعام، والمراد استئثار الظالم بالحقوق.
5- 5) «سغب» تعنی الجوع، و لذلک یقال «ذو مسغبة علی القحط» و ورد فی القرآن «أو اطعام فی یوم ذی مستغبة» و جاءت فی کلام الامام علیه السلام کنایة عن هضم حقوق المظلومین.
6- 6) «غارب» ، الکاهل والکلام تمثیل للترک وارسال الأمر.

فقوله علیه السلام «والذی فلق الحبة» إشارة لما ورد فی القرآن الکریم بشأن الذات الإلهیة المقدسة «فالق الحب والنوی» (1)التی تتضمن أهم خلق الله سبحانه ألا وهو خلق الحیاة. وقوله علیه السلام «برء النسمة» إشارة لخلق الإنسان والروح الذی أشار له القرآن الکریم بقوله «فتبارک الله اَحسن الخالقین» (2)فهو یتضمن القسم باهم أعمال خالق الوجود للدلالة علی أهمیة الأمر الذی یرید التحدث عنه.

و قوله علیه السلام «لولا حضور الحاضر» فی إشارة إلی حضور الحاضرین بالبیعة له، وإن ذهب البعض إلی أنّ المراد بالحاضر ذات البیعة والذی لا یختلف کثیرا والمعنی الأول.

أمّا القول بأنّ المراد حضور الله أو حضور الزمان الذی تنبئ به الرسول الکریم صلی الله علیه و آله لعلی علیه السلام فهو مستبعد جداً، وإن أورده بعض الفضلاء کتفسیر لتلک العبارة. علی کل حال فان هذه العبارة تتحد فی المعنی مع قوله علیه السلام: «و قیام الحجة بوجود الناصر» لتشیر کلاهما لاتمام الحجة علیه علیه السلام فی أن ینهض بالأمر بعد توفر العدّة من الأصحاب والبیعة امّا قوله علیه السلام «لالقیت حلها علی غاربها» فهو کنایة عن الانصراف عن الشیء، حیث جرت العادة أن یطرح زمام الناقة علی ظهرها إذا لم یکن هناک من حاجة إلیها فی عمل.

و قوله علیه السلام: «لسقیت آخرها بکأس أولها» کنایة عن الصیر علی الأمر وترکه کما صبر علیه ازاء الخلفاء الثلاثة (3). إلّاأنّ الإمام علیه السلام یری نفسه ملزما بالنهوض بالأمر والتصدی للخلافة لسیین: أحدهما وجود الناصر الذی یتمّ الحجة علیه بالقیام من جانب، والثانی العهد الذی أخذه الله علی العلماء بالقیام بالأمر إذا ما غیبت العدالة واستفحل الظلم وضیعت الحقوق «لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله علی العلماء أن لا یقاروا علی کظة ظالم ولا سغب مظلموم» .

ص:262


1- 1) سورة الانعام / 95. [1]
2- 2) سورة المومنون / 14. [2]
3- 3) والشاهد علی ذلک الشعر الذی تمثل به علیه السلام فی قضیة مخالفة طلحة والزبیر والتمهید لنشوب معرکة الجمل. حیث قال: فتن تحل بهم وهن شوارع تسقی آواخرها بکأس الأول بحار الانوار، 32 / 118. [3]

فالواقع أنّ کلام الإمام علیه السلام تحذیر لکافة علماء فی ممارسة مسؤولیتهم فی تشکیل الحکومة وبسط العدل والقسط فی ربوع المجتمع وعدم السکوت والتخاذل فی حالة توفر هذه الأسباب. ویخطیء کل أولئک الذین یرون وظیفتهم إنّما تقتصر علی إقامة الشعائر العبادیة کالصوم والصلاة والحج والزکاة إلی جانب الإتیان بالمستحبات. فبسط العدل والقسط والدفاع عن المظلوم والقیام بوجه الظالم تعدّ من جوهر الوظائف الإسلامیة لهؤلاء العلماء.

ثم یقول علیه السلام: «و لا لفیتم (1)دیناکم هذه أزهد عندی من عفطة (2)عنز» .

وبالالتفات إلی ما ورد فی صحاح اللغة من أن العفطة تعنی الماء الذی یترشح من أنف الشاة (أو العنز حین العطسة) تتضح مدی تفاهة الدنیا - التی تحظی بفائق الأهمیة لدی أهلها - عند علی علیه السلام، فما قیمة العنز فضلا عن ماء أنفها والحق ان مثل هذه التعبیرات قد تبدو غریبة بالنسبة لاُولئک الذین لا یعرفون شخصیة علی علیه السلام؛ إلّاأنّ هذه الغرابة ربّما تزول بأدنی نظرة إلی سیرته علیه السلام وحیاته التی عاشها.

قال السید الرضی (ره) فی ذیل الخطبة.

«قالوا وقام إلیه رجل من أهل السواد عند بلوغه هذا الموضع من خطبته فناوله کتاباً - قیل أنّ فیه مسائل کان یرید الإجابة عنها - فاقبل ینظر فیه (فلما فرغ من قرائته) قال له ابن عباس: یا أمیر المؤمنین لو أطردت خطبتک من حیث أفضیت.

فقال: «هیهات یا بن عباس تلک شقشقة هدرت ثم قرّت» قال ابن عباس فو الله ما اَسفت علی کلام قط کأسفی علی هذا الکلام ألا یکون أمیر المؤمنین علیه السلام بلغ منه حیث یرید» .

أمّا التعبیر بأهل السواد فهو إشارة إلی المناطق الغنیة بالزرع والأشجار التی تبدو من بعید سوداء، لأنّ اللون الأخضر یترکز من بعید لیمیل إلی السواد، ولما کان هل الحجاز ألفوا الأرض الیابسة الخالیة التی یصصطلح علیها بالبیاض فانّهم إذا ما انطلقوا نحو العراق المخضر بفضل

ص:263


1- 1) «ألفیتم» من مادة «الفاء» ، بمعنی وجدتم ورأیتم.
2- 2) عفطة العنز: ما تنثره من أنفها، واکثر ما یستعمل ذلک فی النعمة وإن کان الأشهر فی الاستعمال بالنون «النقطة» .

نهریه دجلة والفرات وتلوح أشجاره وزرعه من بعید یبدو أسوداً فیصطلحون علیه بأرض السواد کما یطلقوا علی أهله اسم أهل السواد.

أمّا مضمون الکتاب والمسائل التی فیه فقد تطرق إلیها بعض شرّاح. نهج البلاغة وسنعرض لها فی البحث القادم.

وقد روی ابن أبی الحدید بهذا الشأن عن استاذه مصدق بن شبیب أنّه قال: قرأت علی الشیخ أبی محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلما إنتهیت إلی هذا الموضع، قال لی: لو سمعت ابن عباس یقول هذا لقلت له: وهل بقی فی نفس ابن عمّک أمر لم یبلغه فوالله مارجع عن الأولین ولا عن الآخرین، ولا بقی فی نفسه أحد لم یذکره إلّارسول الله صلی الله علیه و آله.

قال مصدق: وکان ابن الخشات صاحب دعایة وهزل، قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة. فقال: لا والله وإنی لاعلم أنّها کلامه، کما أعلم أنّک مصدق. (1)

قال الشریف الرضی رحمه الله: قوله علیه السلام «کراکب الصعبة إن اشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم» یرید أنّه إذا شدد علیها فی جذب الزمام وهی تنازعه رأسها خرم أنفها وإن اَرخی لها شیئاً مع صعوبتها تقحمت به فلم یملکها یقال «أشنق الناقة» إذا جذب رأسها بالزمام فرفعها و «شنقها» أیضا، ذکر ذلک «ابن السکیت» فی اصلاح المنطق» وإنّما قال «اشنق لها» ولم یقل «اشنقها» لانّه جعله فی مقابلة قوله «أسلس لها» فکانه علیه السلام قال: إن رفع رأسها بمعنی أمسکه علیها بالزمام) .

تأمّلات

1- الرد علی سؤال

قد یقال: تعتقد الإمامیة واتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام أنّ الإمام ینصب من قبل اللّه تعالی بواسطة النبی الأکرم صلی الله علیه و آله، لاعلی أساس إنتخابه من قبل الاُمّة، بینما صرّح الإمام علیه السلام فی هذه

ص:264


1- 1) شرح نهج [1]الباغة ابن أبی الحدید 1 / 205 [2]

الخطبة قائلاً: «لولا حضور الحاضر وقیام الحجة بوجود الناصر و. . . لالقیت حبلها علی غاربها» فکیف التوفیق بینهما؟

و نقول فی الردّ علی هذا السؤال أنّ للامامة والخلافة واقع ومقام ظهور وبروز فواقعها أنّها تعین من قیل الله بواسطة نبیّه صلی الله علیه و آله، أمّا ظهورها وبروزها والتصرف فی شؤون المسلمین والمجتمع الإسلامی إنّما یتوقف علی الاُمّة ونهوض أبنائها فی توفیر الدعم والاسناد؛ الأمر الذی لا یتأتی إلّامن خلال بیعة الاُمّة.

و من هنا أصبح الإمام علیه السلام جلیس الدار إبان خلافة الخلفاء الثلاثة - طیلة خمس وعشرین سنة - ولم یتدخل فی شؤون الخلافة، والحال لم تکن هنالک من ثلمة فی إمامته المنصوص علیها من جانب الله بواسطة النبی صلی الله علیه و آله ویصدق هذا الکلام علی بعض أئمة العصمة والطهارة، فقد إقترح أبومسلم الخلافة علی الإمام الصادق علیه السلام، ولعلمه علیه السلام بالمؤامرة لم یجیبه.

بل کان البعض یطالب الأئمة بالقیام وتولی الخلافة. فیجیبون باننا لا نملک ما یکفی من الأنصار (1).

2- المسائل التی تضمنها الکتاب

روی المرحوم «الشارح البحرانی» فی کتابه عن أبی الحسن الکیدری أنّ الکتاب الذی سلم إلی علی علیه السلام آخر الخطبة کان یقسم عشرة أسئلة هی:

1- الذی خرج من بطن ولیس له بولد؟

قال علیه السلام: یونس علیه السلام الذی خرج من بطن الحوت.

2- ما کان قلیله مباح وکثیره حرام؟

قال علیه السلام: نهر طالوت.

3- العبادة التی یعاقب علی الإتیان بها أو ترکها؟

قال علیه السلام: الصلاة فی السکر.

ص:265


1- 1) اصول الکافی 2 / 242 کتاب الإیمان والکفر، باب قلة عدد المؤمنین، ح 4.

4- الطائر الذی لیس له أصل (أم) ؟

قال علیه السلام: الطائر الذی خلقه عیسی علیه السلام باذن الله.

5- رجل مدین الف درهم وله الف درهم وضمنه آخر وکان له الف درهم، وقد مضی علیه عام، فالزکاة علی أی من المالین؟

قال علیه السلام: إذا فعل الضامن ذلک باذن المدین فلا زکاة علیه، وإن فعله بدون إذنه وجبت علیه الزکاة.

6- حج جماعة فنزلوا بیتاً فی مکة وأغلق أحدهم باب البیت فکان فیه طیور فماتت عطشا، فعلی من تجب الکفارة؟

قال علیه السلام: علی من أغلق الباب ولم یخرج الطیور ولم یسقیها.

7- شهد أربعة علی رجل بالزنا، فأمرهم الإمام برجمه (لأنّه کان محصناً) فرجمه أحدهم وساعده جماعة وامتنع الثلاث. ثم رجع عن شهادته (وأقر بکذبه) ولم یمت المتهم. ثم مات وبعد موته رجع الثلاث عن شهادتهم. علی من تجب دینه؟

قال علیه السلام: علی ذلک الرجل والجماعة الذین ساعدوه (1).

8- هل تقیل شهادة یهودیین لثالث باعتناق الإسلام؟

قال علیه السلام: لا تقبل شهادتهما؛ لأنّهم یحرفون کلام الله ویجوزون الشهادة بالباطل.

9- هل تقبل شهادة نصرانیین لنصرانی أو یهودی أو مجوسی بالإسلام؟

قال علیه السلام: تقبل لقوله سبحانه: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ قالُوا إِنّا نَصاری» (2).

10- قطع شخص ید آخر، فشهد أربعة عند الإمام قطعت یده وقد زنا بمحصنة، فاراد الإمام أن یرجمه فتوفی قبل الرجم، فما حکمه؟

ص:266


1- 1) هذا إذا أخطا الشهود فان کان عن عمد فحکمهم القصاص کما ورد فی کتاب القصاص. والنقطة الجدیرة بالذکر للشهود الذین حصل الرجم لشهادتهم أن یرجعوا وما دفع یؤخذ من الأربعة بالتساوی وللوقوف أکثر راجع کتاب الجواهر، 41 / 225، ولابدّ من الالتفات هنا إلی وجود بعض التفاوت بین ما ورد فی هذا الحدیث وما جاء فی الکتب الفقیهة.
2- 2) سورة المائدة / 82. [1]

قال علیه السلام: تجب الدیة علی من قطع یده، لکن ان شهدوا أنّه سرق بحد النصاب فلا تجب الدیة علی القاطع (1). طبعا ما ذکر هو مضمون روایة مرسلة رویت عن الکیدری ولم تثبت صحة سند الحدیث، ولذلک هناک أبحاث کثیرة من وجهة النظر الفقیهة بشأن بعض الفروع المذکورة فی هذا الحدیث.

3- ممیزات الخطبة الشقشقیة

إنّ نظرة عامة إلی خطب نهج البلاغة تفید أنّ الخطبة الشقشقیة هی من الخطب التی قل نظیرها إن لم نقل لا نظیر لها فی نهج البلاغة؛ الأمر الذی یثبت أنّ الإمام علیه السلام قد أوردها فی ظروف خاصة للحیلولة دون نسیان الحقائق المتعلقة بالخلافة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله لتخلد فی التاریخ ومن هنا أطلق عباراته بصراحة تامة. فقد أوضح الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة عدّة اُمور منها:

1- أحقیته وجدارته بالخلافة التی بینها بوضوح وهذه هی الحقیقة التی إتفق علیها تقریباً کافة المحققین المسلمین وغیر المسلمین، حتی إعترف معاویة أعدی أعداء الإمام علیه السلام با فضلیته (2).

2- مظلمومیته علیه السلام رغم أحقیته وکفائته.

3- یفید کلام الإمام علیه السلام عدم وجود مرجع واضح لانتخاب أی من الخلفاء الثلاثة، اضافة إلی المعاییر المتعددة التی حکمت ذلک الانتخاب، فقد کانت خلافة أحدهم تستند إلی رأی واحد، وآخر لنصف من شوری سداسیة وثالث لعدد من الآراء.

4- ابتعاد الاُمّة فی عصر الخلفاء عن تعالیم النبی الأکرام صلی الله علیه و آله وتفاقم الازمات علی مرور الزمان، بحیث کانت من أبلغ الصعوبات التی واجهت الإمام علیه السلام حین تولی الخلافة تکمن فی

ص:267


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن میثم البحرانی 1 / 269، المتسدرک 7 / 55.
2- 2) ورد هذا المعنی فی الرسالة التی کتبها معاویة وبعث بها لمحمد بن أبی بکر والتی نقلتها أغلب المصادر الإسلامیة ومنها مروج الذهب، فقد قال فیها أنی وأبیک نقر بفضل علی وحقّه علینا. . . إلّاأنّ أبیک وفاروقه (عمر) هما أول من خالفه بعد وفاة النبی صلی الله علیه و آله. وقال الیعقوبی فی تاریخه: وکان المهاجرون والأنصار لا یشکون فی علی علیه السلام. (تاریخ الیعقوبی 2/124) . [1]

إعادة الاُمّة إلی القیم الإسلامیة التی کانت سائدة علی عهد رسول الله صلی الله علیه و آله.

5- أنّ التهافت علی الدنیا والاغترار بزخرفها هو العامل الذی یقف وراء الفوضی والاضطراب والحروب التی نشبت علی عهد الإمام علی علیه السلام.

6- أنّ ما حصل للإمام علی علیه السلام هو البیعة الحقیقة بعینها، غیر أنّ عدالة علی علیه السلام وشدته فی الحق أثارت حفیظة بعض زعماء المجتمع لینقضوا البیعة ویقسط ویمرق آخرون.

7- لم یکن للإمام علیه السلام أیة رغبة بالخلافة ولم یراها هدفا قط، بل هی وسیلة لاحقاق الحق ابطال الباطل وبسط العدل والقسط.

8- کانت الانتفاضات التی حدثت فی زمان عثمان والتی أدت بالتالی إلی قتله طبیعیة جداً ونتیجة لسلوکه وبطانته من بنی اُمیة الذین سلطهم علی رقاب المسلمین فجعلهم عمالاً وولاة علی بعض المناطق فعبثوا ببیت المال واسرفوا فی تبذیره حتی ثارت الاُمّة بعد أن انطلقت شرارة الرفض من المناطق البعیدة عن مرکز الخلافة کمصر والبصرة والکوفة.

9- کانت المعارک الثلاث - الجمل وصفین والنهروان - قد فرضت علی الإمام علیه السلام من قبل الأفراد الذین لم یطیقوا عدله علیه السلام إلی جانب أولئک الذین یبحثون عن الجاه والمنصب.

10- عدم انسجام عقیدة تنزیه الصحابة وعدالتهم لمجرّد صحبتهم مع أی من المعاییر والوقائع التاریخیة؛ وهو الاعتقاد الذی یقود إلی التناقض، فاصحاب فتنة الجمل هما إثنان من الصحابة وصاحب صفین من الصحابة أیضا بینما کانت طائفة من الصحابة من مشعلی نار النهروان وقد خرج جمیع هولاء علی إمام زمانهم فاختاروا سبیل البغی وشق عصا الاُمّة الإسلامیة وبث الفرقة والاختلاف فی صفوفها. فکیف والحال هذه نقول علی علیه السلام.

علی الحق وطلحة والزبیر ومعاویة کذلک؟ ! أمّا الاستدلال بالاجتهاد فی هذه الاُمور فهو توجیه یفتقر إلی المنطق ومدعاة حتی لارتکاب الکبائر.

ص:268

الخطبة الرابعة

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

و هی من أفصح کلامه علیه السلام وفیها یعظ الناس ویهدیهم من ضلالتهم ویقال:

«إنّه خطبها بعد قتل طلحة والزبیر»

نظرة إلی الخطبة

یمکن أن تکون هذه الخطبة کما یفهم من عنوانها قد وردت بعد أحداث معرکة الجمل وقتل طلحة والزبیر فهی تتحدت عن وقائع المعرکة والدروس والعبر التی ینبغی أن یتعلمها المسلمون. حیث یمکن خلاصة الخطبة فی محاور رئیسیة ثلاث:

1 - التصریح بهذه الحقیقة وهی هدایة الاُمّة من الظلمات بواسطة أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله حتی بلغت ذروة تکاملها ورقیها، وعلیه فعلیها أن تعیرهم آذانا صاغیة وتتفاعل مع مواعظهم ونصائحهم.

2 - إنّ الإمام علیه السلام کان یعلم بالخیانة ونقض العهود والتمرد، إلّاأنّ جلباب الدین لم یدعه یکشف تلک الحقائق.

3 - یشیر الإمام علیه السلام فی المقطع الأخیر من الخطبة إلی أنّ الیوم لم یعدّ یوم التستر علی الحقائق؛ لابدّ من إعلان هذه الحقائق وإلّا یخشی علی الاُمّة من الضلال وهذا بذاته ما یجعل الإمام علیه السلام یعیش هاجس القلق.

ص:269

ص:270

القسم الأول: التحلی بالوعی والیقظة

اشارة

«بِنا اهْتَدَیْتُمْ فِی الظَّلْماءِ، وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْیاءِ، وَبِنا أَفْجَرْتُمْ عَنِ السِّرارِ وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ یَفْقَهِ الْواعِیَةَ، وَکَیْفَ یُراعِی النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّیْحَةُ؟ رُبِطَ جَنانٌ لَمْ یُفارِقْهُ الْخَفَقانُ» .

الشرح والتفسیر

أشار الإمام علیه السلام فی بدایة الخطبة إلی النعم الجمة التی تمتع بها المسلمون - ولا سیما فی صدر الإسلام - فی ظل الإسلام، حیث وضح هذا الأمر بثلاث عبارات قصیرة ذات تشبیهات رائعة فقال علیه السلام: «بنا إهتدیتم (1)فی الظلماء (2)وتسنمتم (3)ذروة (4)العلیاء، وبنا افجرتم (5)عن السرار (6)» . فالإمام علیه السلام یشیر فی العبارة الأول إلی ظروف الجاهلیة التی خیم فیها الظلام والجهل والفساد والجریمة علی کافة الأماکن حتی تبددت هذه الظلمات بظهور النبی صلی الله علیه و آله

ص:271


1- 1) «اهتدیتم» من «الاهتداء» تستعمل - حسب قول بعض شرّاح نهج البلاغة وارباب اللغة - حیث یمیل الإنسان بإرادته للهدایة وهکذا جاءت فی العبارة.
2- 2) «ظلماء» علی وزن صحراء بمعنی ظلمة أول اللیل أو بعبارة اُخری النور بعد الظلمة؛ خلافا للظلمة بمفهومها العام ولعل الإمام علیه السلام أراد بها عصر الجاهلیة الذی یعتبر فی الواقع ظلمة بعد النور؛ أی دعوة الأنبیاء أولی العزم.
3- 3) «تسنمتم» من مادة سنم علی وزن قلم بمعنی العلو ومن هنا یطلق علی ذروة الجمل إسم سنام.
4- 4) «ذروة» من مادة «ذرو» ، لها معنیان: أحدهما إشراف شیء علی آخر ومن هنا تطلق الذروة علی قمة الجبل، والآخر تفتت الشیء وتفرقه.
5- 5) «أفجرتم» من مادة «فجر» بمعنی الفجوة الواسعة قی الشیء ومن هنا اطلق الفجر علی الصباح الذی یشق عتمة اللیل، وأفجرتم بمعنی دخول الفجر.
6- 6) «سرار» من مادة «سر» بمعنی الخفاء وما یقابل العلن، وتطلق مفردة السرار عادة علی اللیالی الأخیرة للشهر حیث یکون الجو ظلاما دامساً.

وانبثاق الدعوة الإسلامیة لیهتدی الناس إلی الصراط المستقیم ویتجهون نحو الهدف المنشود. ویشبه فی العبارة الثانیة حرکة الرقی والتکامل والازدهار بالجمل ذی السنام (حیث اقتبست المفردة تسنتم من مادة سنام أعلی قمة فی الجمل) فقال علیه السلام لقد بلغتم هذه الذروة وقطعتم مسیرة الرقی والتکامل فی ظل الإسلام؛ الحقیقة التی إذعن لها جمیع مؤرخی الشرق والغرب فی کتبهم التی تعرضوا فیها للمدنیة الإسلامیة وحضارتها. ثم شبه فی العبارة الثالثة أوضاع المجتمع الجاهلی بلیالی الشهر الظلماء والمحاق (حیث تعنی السرار اللیالی التی لایبزغ فیها القمر أبداً) فقال علیه السلام: «و بنا أفجرتم عن السرار» . والواقع هو أنّ هذه التعبیرات إنّما تنبع من القرآن الذی شبه الإسلام والإیمان والوحی بالنور، فقال: «اللّهُ وَلِیُّ الَّذِینَ آمَنُوا یُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلی النُّورِ» (1)وقال فی موضع آخر: «قَدْ جاءَکُمْ مِنَ اللّهِ نُورٌ وَکِتابٌ مُبِینٌ یَهْدِی بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَیُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلی النُّورِ بِإِذنِهِ» (2)وقال: «وَ إِنَّهُ لَذِکْرٌ لَکَ» (3)- ثم یذم علیه السلام الأفراد الذین صخت آذانهم عن سماع الحق بینما یثنی علی غیرهم من ذوی الاسماع فقال علیه السلام: «وقر سمع لم یفقه الواعیة» . تستعمل مفردة «الوقر» بشأن الصمم کما تستعمل فی ثقل السمع، والمراد بالواعیة الأصوات المرتفعة، وهی إشارة لآیات القرآن التی تقرع الاسماع بشأن المسائل المهمّة العقائدیة والعملیة والأخلاقیة وکذلک السنة النبویة الشریفة. أمّا التعبیر «لم یفقه» بدلاً من «لم یسمع» تفید عدم جدوی السمع مالم یصحبه الإدراک والفهم. ثم واصل الإمام علیه السلام کلامه فقال: «وکیف یراعی النباة (4)من أصمته الصیحة» (5). والمراد کیف یصغی لی ویستمع قولی من لایراعی أو امر اللّه ونبیّه صلی الله علیه و آله فقد شبه

ص:272


1- 1) سورة البقرة / 257. [1]
2- 2) سورة المائدة / 15 - 16. [2]
3- 3) سورة الزخرف / 44. [3]
4- 4) «النبأة» من مادة «نبأ» بمعنی القدوم من مکان إلی آخر ومن هنا اطلق النبأ علی الخبر الذی ینتقل من مکان إلی آخر والنبأة بمعنی الصوت الخفی لأن الصوت ینتقل من مکان إلی آخر (مقاییس اللغة) .
5- 5) قال بعضی شرّاح نهج البلاغة [4]أن قوله «أصمته الصیحة» لیس معناه أن الصیحة کانت علة لصممه، بل معناه أنّهم کانوا صمما عن سماع صوت الوحی، کقوله سبحانه «أفأنت تسمع الصم ولو کانوا لایعقلون» (سورة یونس / 42) . [5]

ذلک بمن أصمته الصیحة القویة فانه محال أن یراعی بعد ذلک الصوت الضعیف. ولما کانت هنالک الفئة الاُخری المتعصبة للحق فقد قال علیه السلام: «ربط جنان (1)لم یفارق الخفقان (2).

ملاحظة

الهدایة فی ظل أهل البیت علیهم السلام

ما مر معنا فی هذا القسم من الخطبة هو إشارة إلی واقعة تأریخیة مهمّة تتضح من خلال مقارنة عصر العرب الجاهلیة بعصر التطور والازدهار الذی أعقب بزوغ شمس الإسلام، کیف کان عرب الجاهلیة من حیث العقائد الدینیة والقضایا المتعلقة بالمبدأ والمعاد والنظام الاجتماعی ونظام الاسرة والأخلاق والتقوی والأوضاع الاقتصادیة وکیف أصبحت هذه الاُمور أبان انبثاق الدعوة الإسلامیة ونزول القرآن الکریم. والحق أن التفاوت بینهما إلی درجة من المدی والعمق بحیث لایمکن سوی نعته بالمعجزة الکبری وإلّا تعذر تصور ذلک التفاوت. فما صوره الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة لم یکن سوی الظلام المطلق الذی القی بظلاله علی جمیع المجتمع، ولم یکد ینبثق الإسلام حتی تبددت هذه الظلمة بفجر الإسلام لیأخذ بید المجتمع إلی العلم والمعرفة والثقافة والحضارة والمدنیة. ولم تکن سوی إشارة قصیرة ولا یمکن الالمام بتفاصیلها إلّابالرجوع إلی الکتب التی ألفت بشأن الحضارة الإسلامیة. کما وردت بعض التفاصیل فی سائر خطبه علیه السلام فی نهج البلاغة.

ص:273


1- 1) «جنان» بمعنی القلب لأنه فی صدر الإنسان وقد اشتقت هذه المفردة من جن (علی وزن فن) بمعنی الاستتار ومن هنا یطلق جنّة علی الحدیقة الغناء والأرض المغطاة بالأشجار، ویطلق الجنین علی الطفل المستتر فی بطن اُمّه کما تطلق مفردة الجن لأنّهم استجنوا فلا یروا والمجنون تطلق علی من ستر عقله.
2- 2) «خفقان» بمعنی الاضطراب، ویستعمل للخوف والخشیة لانها تدعو للاضطراب والمراد بها فی العبارة خوف اللّه.

ص:274

القسم الثانی: کنت أتوقع غدرکم، ولکن. . .

اشارة

«ما زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِکُمْ عَواقِبَ الْغَدْرِ وَأَتَوَسَّمُکُمْ بِحِلْیَةِ الْمُغْتَرِّینَ، حَتَّی سَتَرَنِی عَنْکُمْ جِلْبابُ الدِّینِ، وَبَصَّرَنِیکُمْ صِدْقُ النِّیَّةِ أَقَمْتُ لَکُمْ عَلَی سَنَنِ الْحَقِّ فِی جَوادِّ الْمَضَلَّةِ، حَیْثُ تَلْتَقُونَ وَلا دَلِیلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلا تُمِیهُونَ» .

الشرح والتفسیر

لقد خاطب الإمام علی علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة - سلیلی أصحاب الجمل من تبقی منهم قائلاً: «مازلت انتظر بکم عواقب الغدر، واتوسمکم (1)بحلیة المغترین (2)» . فقد روی أنّه لما بویع علیّ علیه السلام کتب إلی معاویة: أمّا بعد فإنّ الناس قتلوا عثمان عن غیر مشورة منّی وبایعونی عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاک کتابی فبایع لی، وأوفد إلیّ أشراف أهل الشام قبلک.

فلما قدم رسوله علی معاویة، وقرأ کتابه، بعث رجلاً من بنی عمیس، وکتب معه کتاباً إلی الزبیر بن العوام، وفیه:

بسم الله الرحمن الرحیم، لعبد الله الزبیر أمیرالمؤمنین من معاویة بن أبی سفیان:

سلام علیک، أمّا بعد، فإنّی قد بایعت لک أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا، کما یستوسق الجلب، فدونک الکوفة والبصرة، لا یسبقک إلیها ابن أبی طالب، فإنّه لا شیء بعد هذین

ص:275


1- 1) «أتوسمکم» من مادة «وسم» علی وزن ولم أتفرس فیکم، الأثر والعلّامة؛ أی کنت أری فیکم علائم الغدر منذ البدایة.
2- 2) «مغترین» من مادة «غرور» بمعنی مخدوعین.

المصرین، وقد بایعت لطلحة بن عبیدالله من بعدک، فأظهر الطلب بدم ثمان، وادْعُوا الناس إلی ذلک، ولیکن منکما الجدّ والتشمیر، أظفرکما الله، وخذل مناوئکما! فلما وصل هذا الکتاب إلی الزبیر سُرّ به، وأعلم به طلحة وأقرأه إیاه، فلم یشکاً فی النصح لهما من قبل معاویة، وأجمعا عند ذلک علی خلاف علی علیه السلام.

جاء الزبیر وطلحة إلی علی علیه السلام بعد البیعة بأیام، فقالا له: یا أمیرالمؤمنین، قد رأیت ما کنّا فیه من الجفوة فی ولایة عثمان کلّها، وعلمت رأی عثمان کان فی بنی أمیة، وقد ولّاک اللّه الخلافة من بعده، فولّنا بعض أعمالک، فقال لهما: ارضیا بقسْم الله لکما، حتی أری رأیی، واعلما أنّی لا أشرک فی أمانتی إلّامن أرضی بدینه وأمانته من أصحابی، ومن قد عرفت دخیلته، فانصرفا عنه وقد دخلهما الیأس، فاستأذناه فی العمرة.

طلب طلحة والزبیر من علی علیه السلام أن یولِّیهما المصرین: البصرة والکوفة، فقال حتی أنظر. ثم استشار المغیرة بن شعبة، فقال له: أری أن تولِّیَهما إلی أن یستقیم لک أمر الناس. فخلا بابن عباس، وقال: ماتری؟ قال: یا أمیرالمؤمنین، إنّ الکوفة والبصرة عَیْن الخلافة، وبهما کنوز الرجال، ومکان طلحة والزبیر من الإسلام ما قد علمت، ولستُ آمنهما إن ولّیتَهُما أن یُحْدِثا أمراً. فأخذ علی علیه السلام برأی ابن عباس.

لما خرج الزبیر وطلحة من المدینة إلی مکّة لم یلقیا أحدا إلّاوقالا له: لیس لعلی فی أعناقنا بیعة، وإنّما بایعناه مکرَهین. فبلغ علیاً علیه السلام قولهما، فقال: أبعدهما اللّه وأغرب دارهما، امّا واللّه لقد علمتُ أنّهما سیقتُلان أنفسهما أخبث مقتل، ویأتیان من وردا علیه بأشأم یوم، واللّه ما العُمرةَ یریدان، ولقد أتیانی بوجهی فاجریْن، ورجعا بوجهی غادرین ناکثین، واللّه لا یلقیاننی بعد الیوم إلّافی کتیبة خشناء، یقتلان فیها أنفسهما، فبُعْداً لهما وسحقاً. (1)

ثم أضاف علیه السلام أنّ لباس الدین وجلبابه هو الذی یجعلنی أغض الطرف عنکم (ولا أهتک سریرتکم) : «حتی سترنی عنکم جلباب (2)الدین، وبصرنیکم صدق النیّة» . والواقع هو أنّ عبارة الإمام علیه السلام إجابة عن سؤالین هما: أولاً: لو کان الإمام علیه السلام یتوقع نقضهم للعهد ویتوسم

ص:276


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 230 و 231. [1]
2- 2) «جلباب» بمعنی الثوب والستر.

ذلک فیهم فلم لم یعلن ذلک علی الملأ؟ وثانیاً: من أین له هذا العلم بباطن هؤلاء؟ فقد رد الإمام علیه السلام علی السؤال بقوله: «سترنی عنکم جلباب الدین» ورد علی السؤال الثانی بقوله «وبصرنیکم صدق النیة» . بینما ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی تفسیر العبارة الاولی بانّکم لم تعرفونی، وما ذلک إلّالسوء فهمکم للدین، أو أن تدینی منعکم من معرفتی؛ إلّاأنّ هذا المعنی یبدو مستبعداً لما ینطوی علیه من تکلف إلی جانب عدم إنسجامه والعبارات السابقة، فالمعنی الأول هو الأنسب. ثم إختتم کلامه علیه السلام بالقول: «أقمت لکم علی سنن الحق فی جواد (1)المضلة (2)حیث تلتقون ولادلیل، وتحتقرون ولاتمیهون» (3)یشبه الإمام علی علیه السلام الناس فی عصر عثمان ولا سیما أواخر عمره بالرحالة الذین ضلوا الطریق وساروا علی غیر هدی فهم یتضوون عطشاً وهم یحفرون الأرض موضعاً موضعاً من أجل الوصول إلی الماء فلا یحصلون علیه؛ فیهب الإمام علیه السلام لنجدتهم فیهدیهم إلی الصراط المستقیم فینتهلون من منهله العذب. ثم یلفت إنتباههم إلی عظم الفتن الدینیة والدنیویة التی کانت ستلتهمهم فی ذلک العصر المظلم لولا وجوده علیه السلام.

تأمّلان

1 - البصیرة

لقد أشار الإمام علیه السلام إلی قضیة مهمّة وهی أنّ صفاء النفس وصدق النیة من العناصر التی تکمن وراء البصیرة والفراسة. فالمؤمنون الأصفیاء الباطن یرون ما لایری غیرهم، وهی الحقیقة التی صرّح بها القرآن الکریم وأکدتها الروایات الإسلامیة. فقد جاء فی القرآن: «ان تتقوا اللّه یجعل لکم فرقاناً» (4). وورد فی الحدیث المعروف عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «إتقوا فراسة المؤمن فانّه ینظر بنور اللّه» (5)وقال الإمام الرضا علیه السلام: «ما من مؤمن إلّاوله فراسة ینظر

ص:277


1- 1) «جواد» جمع «جادة» بمعنی الطرق الکبیرة و الواسعة.
2- 2) «مضلة» من مادة «ضلال» الموضع الذی یضل سالکه وعلیه فمعنی جواد المضلة طرق الضلال.
3- 3) «تمیهون» من مادة «موه» علی وزن نوع بمعنی تجدون ماءاً، ومنه أخذت مفردة الماء وأماه بمعنی بلغ الماء. علیه فمعنی لاتمیهون لا تبلغون الماء (و إن أجهدتم أنفسکم فی حفر الأبار) .
4- 4) سورة الانفال / 29. [1]
5- 5) اصول الکافی 1 / 218. [2]

بنور اللّه علی قدر إیمانه ومبلغ إستبصاره وعلمه وقد جمع اللّه للائمة منّا ما فرقه فی جمیع المؤمنین وقال عز وجل فی کتابه: إن فی ذلک لآیات للمتوسمین. وإن أول المتوسمین رسول اللّه صلی الله علیه و آله ثم أمیرالمؤمنین علیه السلام وبعده الحسن والحسین علیهما السلام والائمة علیهم السلام من ولد الحسین إلی یوم القیامة» (1)جدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام أورد هذا الکلام جواباً لمن سأله: کیف تعلمون بباطن الناس وتخبرون عمّا فی أنفسهم. والحق لیس هنالک من حجاب مضروب علی حقائق العالم، ولیس ذلک سوی حجاب الهوی والهوس الشیطانی الذی یغشی بصیرتنا فیحول دون رؤیتنا للحقائق، ولو إستشعرنا قلوبنا الورع والتقوی والإیمان والیقین فان هذه الحجب سترفع ونری کل شیء علی حقیقته، فقد ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لولا أنّ الشیاطین یحومون إلی قلوب بنی آدم لنظروا إلی الملکوت» (2).

2 - ستر عیوب الناس

غالبا ما یتصف الأفراد بالعیوب الخفیة التی قد یطلع علیها الإنسان من خلال الطرق العادیة أو إستناداً إلی الفراسة والإیمان؛ فاذا إطلع علیها فانّ الواجب یحتم علیه - ولاسیما إذا إطلع ذلک ولاة الاُمّة وقادة المجتمع - أن یسعی جاهداً لسترها وعدم هتک حجابها مادامت لاتشکل خطرا یتهدد المجتمع؛ وذلک لأن هتک سریرة الآخرین وکشف عیوبهم یجردهم من حرمتهم من جانب ویفسح المجال أمامهم لارتکاب المعاصی والجرأة علی مقارفتها من جانب آخر؛ فالفرد یبقی محتاطاً مادام عیبه مستور، فانّ هتک وافتضح أمره فلا یراع شیئاً، وناهیک عن کل ذلک فان هتک العیوب مدعاة لاشاعة الفاحشة فی المجتمع وتلوث الآخرین بارتکاب الذنب. ومن هنا ورد التأکید فی الروایات والأحادیث علی کتم السر علی أنّه حق من حقوق المؤمنین علی بعضهم البعض الآخر. فقد جاء فی الحدیث: «واکتم سره وعیبه واظهر منه الحسن» (3). وعن الإمام الصادق علیه السلام انّه قال: «من ستر علی مؤمن عورة یخافها ستر اللّه

ص:278


1- 1) بحارالانوار 24 / 128 ح 13. [1]
2- 2) بحارالانوار 67 / 59 (باب القلب وصلاحه) . [2]
3- 3) أصول الکافی 2 / 249 ح 3 (باب ان المؤمن صنفان) . [3]

علیه سبعین عورة من عورات الدنیا والآخرة» (1)فقد أشار الإمام علی علیه السلام إلی هذه الوصیة الإسلامیة وأعلن طاعته وامتثاله لها، وبالطبع فقد قلنا إنّما یکون ذلک مالم تقود تلک العیوب التی یراد سترها إلی بعض المشاکل الاجتماعیة التی تهدد کیان المجتمع، وإلّا فالوظیفة تقتضی إعلان الحقائق. ولکن لاینبغی التذرع بهذا الاستثناء من أجل هتک عیوب الناس وأسرارهم.

ص:279


1- 1) اصول الکافی 2 / 200، ح 5. [1]

ص:280

القسم الثالث: الیوم أکشف الحجاب

اشارة

«الْیَوْمَ أُنْطِقُ لَکُمُ الْعَجْماءَ ذاتَ الْبَیانِ! عَزَبَ رَأْیُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّی! مَا شَکَکْتُ فِی الْحَقِّ مُذْ أُرِیتُهُ! لَمْ یُوجِسْ مُوسَی علیه السلام خِیفَةً عَلَی نَفْسِهِ، بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهّالِ وَدُوَلِ الضَّلالِ الْیَوْمَ تَواقَفْنا عَلَی سَبِیلِ الْحَقِّ وَالْباطِلِ. مَنْ وَثِقَ بِماءٍ لَمْ یَظْمَأْ» .

الشرح والتفسیر

لقد تضمن هذا القسم من الخطبة عدّة عبارات أشارت لعدة اُمور مهمّة، ویبدو أنّ هنالک عدّة جمل تخللت هذه العبارات قد أسقطها السید الرضی رحمه الله حین التلخیص، فقد کانت عادة السید فی إختیار مقتطفات من الخطب وحذف بعض العبارات، علی کل حال فانّ الأمر الذی أشار إلیه الإمام علیه السلام هنا هو قوله: «الیوم أنطق لکم العجماء ذات البیان» . والعجماء البهیمة التی لانطق لها، إلّاأنّها تطلق أحیانا علی الحوادث والقضایا الصماء التی لیست لها قابلیة علی النطق. ومن هنا یری أغلب شرّاح نهج البلاغة أنّ المراد بالعجماء الحوادث التی تنطوی علی العبر والدروس التی حدثث علی عهد الإمام علیه السلام أو العهود الماضیة وکل حادثة مع غموضها وخفائها فکأنّها تنطق لأولی الألباب. فالإمام علیه السلام یتعرض لبیان عبرها ودروسها التی ینبغی أن یتعظ بها المسلمون. کما ذهب البعض إلی أنّ المرادبها صفاته الکمالیة علیه السلام أو الأوامر الإلهیة فکأنّها هی الاُخری صامتة والإمام علیه السلام یکشف عن منطقها. ثم قال علیه السلام فی العبارة الثانیة: «عزب رأی إمرئ تخلف عنی، ما شککت فی الحق مذ اُریته» فی الواقع یبدو صدر وذیل هذه العبارة من قبیل العلة والمعلول أو الدلیل والمدعی، وإذا أخذ بنظر الاعتبار تربیة الإمام علیه السلام فی

ص:281

حضن النبی صلی الله علیه و آله علی الحق والاستقامة وبفضله کاتب الوحی وشاهد المعاجز والأعظم من ذلک کونه باب مدینة علم رسول الله صلی الله علیه و آله إلی جانب علمه بالشهود إضافة لعلمه بالظاهر فانّ کلامه علیه السلام لایعرف معنی للاغراق والمبالغة قط. واحتمل بعض الشرّاح أنّ جملة «عزب رأی إمرئ. . .» من قبیل الدعاء؛ أی بعدا وترحا لمن تخلف عن أوامری. ویبدو المعنی الأول أنسب، أمّا العبارة الثالثة فقد أورد فیها الإمام علیه السلام رداً علی سؤال قد یقتدح فی ذهن البعض بعد موقعة الجمل وهو: لم کان الإمام علیه السلام قلقاً من أحداث تلک الموقعة؟ فالإمام علیه السلام یجیب بانّ هذا القلق لیس علی نفسه قط، بل خشیة من تسرب الشک والریب إلی قلوب عوام الناس بفعل إقتحام المیدان من قبل زوج النبی صلی الله علیه و آله وبعض الصحابة من قبیل طلحة والزبیر وارتفاع الأصوات المطالبة بدم عثمان؛ کالقلق الذی عاشه موسی علیه السلام حین واجهه السحرة بسحرهم خشیة غلبتهم واضلال الناس «لم یوجس موسی علیه السلام خیفة علی نفسه بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال» . وهی إشارة إلی الآیات التی وردت فی سورة طه بشأن موسی علیه السلام والسحرة «قالُوا یا مُوسی إِمّا أَنْ تُلْقِیَ وَ إِمّا أَنْ نَکُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقی * قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِیُّهُمْ یُخُیَّلُ إِلَیْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَ نَّها تَسْعی* فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُوسی» (1). أمّا فی العبارة الرابعة فیحذر من تبقی من مثیری فتنة الجمل فی أننا وإیّاکم قد وقفنا علی مفترق طرق نتجه فیه إلی الحق بینما تتجهون نحو الباطل «الیوم توافقنا (2)علی سبیل الحق والباطل» . کأنّ الإمام علیه السلام یقول لهم، افتحوا أعینکم وانظروا إلی ما أنتم علیه فانکم إنّما خرجتم علی إمام زمانکم! لقد نکثتم البیعة ولم تقیموا حرمة للمواثیق! لقد شققتم عصا المسلمین وفرقتم صفوفهم! وسفکتم دماءاً غزیرة! وقلدتم أنفسکم مسؤولیة کبری ستطیل وقوفکم أمام اللّه یوم القیامة! ارجعوا إلی رشدکم واعیدوا النظرا فی أوضاعکم! . وأخیراً یختتم الإمام علیه السلام خطبته بقوله: «من وثق بماء لم یظلمأ» مراده علیه السلام أنّ من کان له واعظ وقائد موثوق لایتسلل إلیه الشک والتردید والوساوس الشیطانیة والقلق والاضطراب وإنعدام الثقة؛ وذلک لأنه یری نفسه علی جرف ماء المعرفة الفرات العذب ویلوذ بامامه عند الفزع فیأتمر بأوامره

ص:282


1- 1) سورة طه / 65 - 67. [1]
2- 2) «توافقنا» من مادة «الوقوف» والقاف مقدمة علی الفاء.

والاستضاءة بنور علمه. وأنتم کذلک لو عرفتم زعیمکم ووثقتم به فاعلموا أنّکم سائرون علی الحق وآمنون من کافة أشکال الشکوک و الأهواء النفسیة والوساوس الشیطانیة.

الصراع بین الحق والباطل

لقد شبه الإمام علیه السلام الحق والباطل بطریقین سلک فریق أحدهما والآخر الثانی، وإذا أردنا تفسیر هاتین المفردتین باختصار، فلابدّ أن نقول بانّ الحق هو الواقع والباطل هو الخیال والسراب الذی یحسبه الظمآن ماء. ومن هنا فان الذات الإلهیة المقدسة التی تعدّ أعظم من کل واقع اکتسبت أول اسم وهو الحق، وغیره علی الحق بقدر إرتباطه به وکلما ابتعد عنه فهو علی الباطل. فعالم الإمکان لانتمائه للّه فهو حق، وهو باطل لامتزاجه ببعض جوانب العدم. فالعالم میدان لصراع الحق والباطل وقد صور القرآن الکریم أبعاد هذا الصراع وعاقبته نتائجه بمثال رائع فی سورة الرعد حیث قال: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءاً فَسالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَداً رابِیاً وَ مِمّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النّارِ ابْتِغاءَ حِلْیَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ کَذ لِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالباطِلَ فَأَمّا الزَّبَدُ فَیَذهَبُ جُفاءاً وَأَمّا ما یَنْفَعُ النّاسَ فَیَمْکُثُ فِی الأَرضِ کَذ لِکَ یَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثالَ» (1).

ص:283


1- 1) سورة الرعد / 17. [1] للوقوف علی تفاصیل هذا المثل القرآنی راجع تفسیر الأمثل / 10 [2] ذیل هذه الآیة.

ص:284

الخطبة الخامسة

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

لما قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله وسلم وخاطبه العباس وابوسفیان بن حرب فی أن یبایعا له بالخلافة (و ذلک بعد أن تمت البیعة لأبی بکر فی السقیفة وفیها ینهی عن الفتنة ویبین عن خُلقه وعلمه) (1).

نظرة إلی الخطبة

هذه واحدة من الخطب التی نقلت عن الإمام علیه السلام فی أنّها خطبها قبل خلافته. والذی یستفاد من هذه الخطبة والمقدمة التی أوردها الشریف الرضی (ره) علیها أن أباسفیان والعباس إنطلقا إلی علی علیه السلام بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله (و لعل أباسفیان دفع العباس إلی ذلک) واقترحا علی الإمام علیه السلام النهوض بالأمر والبیعة له علی أنه خلیفة رسول الله صلی الله علیه و آله. إلّاأنّ الإمام علیه السلام الذی کان یحرص علی بیضة الإسلام واستناداً إلی علمه التام بالظروف التی کانت تهدد الدین آنذاک وضرورة قبر المؤ امرات والفتن فی مهدها لیس فقط لم یجبهم لتلک البیعة نحسب، بل حذرهما بکل صرامة من مغبة هذا العمل ونصحهما بالابتعاد عنه. ولما کان علیه السلام

ص:285


1- 1) لقد نقلت هذه الخطیة من سائر المصادر الاُخری غیر نهج البلاغة. [1] ومن بین مصادر نهج البلاغة ماروی عن کتاب المحاسن والمساوئ للبیهقی، 2 / 139، تذکرة الخواص للسبط الجوزی والاحتجاج للطبرسی 1/127 [2] کما یستفاد من کلمات ابن أبی الحدید أنّه نقل هذه الخطیة من طرق اُخری.

عالما ببعض المغرضین أو الجهال الذین قد یشکلون علی سکوته فقد رد علیه السلام علی هذا الإشکال، ثم إختتم کلامه ببیان مدی عشقه للموت وانطوائه علی العلم الذی لایسع الآخرین سماعه فضلا عن احتماله. ولم یأذن له فی الکشف عن أسراره.

ص:286

القسم الأول: احذروا مثیری الفتن

اشارة

«أَیُّها النّاسُ شُقُّوا أَمْواجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَرِیقِ الْمُنافَرَةِ، وَضَعُوا تِیجانَ الْمُفاخَرَةِ. أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَناحٍ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ. هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ یَغَصُّ بِهَا آکِلُهَا. وَمُجْتَنِی الثَّمَرَةِ لِغَیْرِ وَقْتِ إِیناعِها کالزّارِعِ بِغَیْرِ أَرْضِهِ» .

الشرح والتفسیر

إنّ سبب هذه الخطبة هو: لما قبض رسول اللّه صلی الله علیه و آله واشتغل علی علیه السلام بغسله ودفنه وبویع أبوبکر فی سقیفة بنی ساعدّة، خلا الزبیر وأبوسفیان بالعباس عم النبی صلی الله علیه و آله وقال: امّا واللّه إنی لأری عجاجة لایطفئها إلّاالدم، یا لعبد مناف، فیم أبوبکر من أمرکم، مابال هذا فی أقل حی من قریش. ثم قال لعلی علیه السلام أبسط یدک أبایعک، فو اللّه إن شئت لأملأنها علی أبی فضیل - یعنی أبابکر - خیلاً ورجلاً، فامتنع علی علیه السلام حیث کان یعلم الإمام علیه السلام بأنّه لاینشد سوی الفساد والفتنة ومن هنا خطب هذه الخطبة. (1)واورد المؤرخ المعروف ابن أثیر فی کتابه الکامل أنّ علیاً علیه السلام ردّ علی أبی سفیان بانّک ترید الفتنة ولاتضمر للإسلام سوی الشر فلا حاجة لنا بنصحک. (2)ومن هنا تتضح أجواء الخطبة وسهولة تفسیر ماورد فیها من عبارات. فقد أشار علیه السلام فی القسم الأول من هذه الخطبة إلی أربعة مواضیع مهمّة. فقال علیه السلام: «أیّها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة وعرجوا (3)عن طریق المنافرة (4)، وضعوا تیجان المفاخرة» .

ص:287


1- 1) شرح نهج البلاغة لإبن میثم 1 / 276.
2- 2) الکامل لابن أثیر 2 / 326. [1]
3- 3) «عرجوا» من مادة «تعریج» بمعنی الرغبة أو الترغیب وهی هنا بمعنی الاعتزال.
4- 4) «المنافرة» حسب قول صاحب مقاییس اللغة تعنی التحاکم لدی القاضی ومن لوازمها النزاع والمخاصمة.

قوله علیه السلام أیّها الناس یفید حضور عدد کبیر من الناس فضلاً عن ذانک الفردین. ویؤید هذا المعنی بعض الروایات الواردة بهذا الشأن. والنقطة الجدیرة بالذکر أنّ الإمام علیه السلام شبه الفتن بالأمواج العاتیة الکاسحة والتی یوصی بمجابهتها من خلال الاعتصام بسفن النجاة. والمراد بسفن النجاة تلک السفن العملاقة التی تشق عباب البحر ولاتصمد أمامها الریاح العواتی فتبلغ برکابها شاطئ الأمان، ویراد بهم هنا الزعماء الربانیین ولاسیما أهل بیت النبی صلی الله علیه و آله (1)، أی إسمعوا وأطیعوا لما نقول لا لما تریدون، وللتأکید علی هذا المعنی فقد شبه علیه السلام التفاخر القبلی والفئوی بالطریق الخطیر المرعب الذی ینبغی إجتنابه (لابدّ من الالتفات هنا إلی أنّ المعنی الأصلی للمنافرة هو أن یذکر کل واحد من الرجلین مفاخره وفضائله، ثم یتحاکما إلی ثالث) - فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أراد بهذا الکلام القیم أن یرکز علی العامل الأصلی لآلام البشریة ومعاناتها، التی تفرزها علی الدوام الحروب الدمویة والاختلافات والنزاعات والاقتتالات التی تستند إلی التفاخر؛ فاذا ما حطم هذا الصنم أمکن حل کافة مشاکل المجتمعات البشریة وعاد إلی الدنیا الأمن والصلح والسلام. طبعا صحیح أنّ طلاب القدرة والمنصب إنّما یتقنعون بالدفاع عن حقوق المجتمع وحفظ القیم والمثل، ولکن لیس هنا لک من یشک فی أنّهم إنّما یتظاهرون بهذه الشعارات من أجل تحقیق أغراضهم ومآربهم بغیة التفاخر علی الآخرین. ثم قال علیه السلام: «أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فاراح» (2). فالإمام علیه السلام أشار إلی نقطة أساسیة هی أنّ القیام بالحق تتطلب بعض الشرائط؛ فلو توفرت هذه الشرائط لما ترددت فی القیام بالأمر، أمّا إذا لم تتوفر فالعقل والمنطق والدین لایحکم بأنّ القیام لیس بمجدٍ فحسب، بل من شأنه أن یثیر الفرقه والاختلاف والاذی والمعاناة للآخرین کما یؤدی إلی القضاء علی القوی الناهضة بالحق، وهذا أصل من الاُصول الثابتة التی ینبغی رعایتها فی کافة الانشطة الاجتماعیة ولاسیما فی النهضات والثورات السیاسیة. أمّا النقطة الاُخری التی تطرق إلیها الإمام علیه السلام فانّما تکمن فی

ص:288


1- 1) جاء فی الروایة المشهورة عن النبی صلی الله علیه و آله: «مثل أهل بیتی کسفینة نوح من رکبها نجی ومن تخلف عنها غرق» . امّا قول ابن أبی الحدید أن هذا الحدیث صحیح الا ان أهل البیت علیه السلام لم یرادوا بهذه اللفظة فهو خاطئ. فقد أراد الإمام علیه السلام بهذه العبارة أن اسمعوا لما آمرکم به واَطیعوا ولاتتبعوا ما تملیه علیه إرادتکم.
2- 2) لابدّ من الالتفات هنا ألی الفعل (أراح) قد یأتی لازما أحیانا ومتعدیا أحیانا اُخری، ومفهومه علی ضوء المعنی الأول أراح نفسه بینما معناه أراح الآخرین متعدیا.

مسألة الخلافة والأخذ بزمام اُمور الاُمّة التی جعلها البعضی شماعة لیجیزوا حتی الوسائل غیر المشروعة من أجل الوصول إلیها فقال علیه السلام: «هذا ماء آجن (1)، ولقمة یغص (2)بها آکلها» . فحیاة الإنسان متقومة بالماء والغذاء، ولکن أی ماء وغذاء؟ طبعا الماء النقی والغذاء الزکی، فالإمام علیه السلام شبه هنا طبیعة الحکومة بالماء المتعفن والغذاء الغصة. والحق کما صوره الإمام علیه السلام، فالإنسان کلما إقترب من حیاة الحکام والساسة إکتشف مدی عظم مشاکلهم وشدة إستیائهم ووخامة أوضاعهم، فلیس لهم من هدوء ولاسکینة کما لیس لهم من أمن أو إستقرار. ولیس لهم سوی المظاهر الکاذبة الفارغة التی لاتنطلی سوی علی بعض السذج. وبالطبع فان أولیاء اللّه یسارعون لاحتواء هذه المشاکل ویتحملون کافة الصعاب والمعضلات کما یضحون بهدوءهم واستقرارهم خدمة لدین اللّه وعباده. کما ذهب البعض إلی أنّ اسم الإشارة (هذا) یشیر إلی نوع الحکومة التی إقترحها أبوسفیان. علی کل حال صحیح أن الحکومة کالماء الذی یعدّ قوام حیاة الامم، إلّاأنّها کانت ومازالت مطمع أهل الدنیا الذین هبوا بکل قوة لمنازعة أولیاء اللّه علی تلک الحکومة فلوثوا هذا الماء کما جعلوا طعام الحیاة غصصاً؛ الأمر الذی جعل الأولیاء یترفعون عنها ویعلنوها صراحة «لولا حضور الحاضر وقیام الحجة. . . لألقیت حبلها علی غاربها ولألفیتم دنیاکم هذه أهون عندی من عفطة عنز» . امّا فی النقطة الرابعة فیشیر إلی أحد أبعاد هذه المسألة وهو أن من أراد القیام بالأمر لتشکیل الحکومة الإسلامیة فلابدّ أن تکون المقدمات والظروف معدة لذلک أو أن یتولی هو تهیئة هذه الظروف وإلّا فلیست هنالک من قیمة أو أثر لهذا القیام ولایتمخض سوی عن الهزیمة والفشل - فقد قال الإمام علیه السلام بهذا الشأن: «و مجتنی الثمرة لغیر وقت إیناعها (3)کالزارع بغیر ارضه» . وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ الضمیر فی (بغیر أرضه) یعود إلی الزارع ومفهوم العبارة: کمن زرع فی غیر أرضه ولاینتفع بذلک الزرع بل یعود ثمره علی الآخرین؛ إلّاأنّ

ص:289


1- 1) «آجن» من مادة «أجن» علی وزن ضرب واجون المتعفن المتغیر اللون والطعم وقد وردت هنا کإشارة للخلافة.
2- 2) «یغص» من مادة «غصص» علی وزن هوس بمعنی صعبة الابتلاع.
3- 3) «ایناع» من مادة «ینع» علی وزن منع بمعنی النضج والبلوغ، وعادة ما تستعمل هذه المفردة بشان نضج الثمار، کما تأتی بهذا المعنی أیضاً إذا جاءت من باب الافعال.

ضعف هذا التفسیر یبدو واضحاً من خلال کلام الإمام علیه السلام الذی قرن ذلک بجنی الثمار غیر الناضجة. وهنا لابدّ من القول بانّ هذه العبارات قد تناولت الاُصول الأساسیة والدروس القیمة المعتمدة فی تشکیل الحکومات الإلهیة؛ الأمر الذی یدعو دعاة الحق وعشاق العدالة لعدم الانفعال بالعواطف والاحاسیس العابرة والاقتصار علی الدراسات المحدودة من أجل ممارسة أنشطتهم وعلیهم أن یتربصوا بکل اُناة وتحسب للوقوف علی توقر الشروط وتأهب القوی وإن إحتاج هذا الأمر لمدّة من الزمان، علی غرار المزارعین الذین لایقصدون قطف الثمار غیر الناضجة رغم حاجته القصوی لهذه الثمار من أجل توفیر قوته أو تسویقها وبیعها بغیة تغطیة حاجاته الأساسیة، أضف إلی ذلک فانّ المزارع الماهر لایغرس بذوره فی أرض لیست خصبة أبدا، بل یتأنی قبل ذلک بحرث الأرض وسقیها بالماء ثم ینثر بذره.

سکوت الإمام علیه السلام بعد النبی صلی الله علیه و آله

یتساءل الکثیرون لماذا لم ینهض الإمام علی علیه السلام بالأمر بدلاً من السکوت رغم کونه الأجدر والأحق بخلافة رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی جانب تأکیدات النبی صلی الله علیه و آله علی إستخلافه بما یثبت أنّ الخلافة من حقوقه المسلمة بل من حقوق الاُمّة الإسلامیة؟

و یبدو أنّ الإجابة علی هذا السؤال قد وردت فی العبارات القصیرة البعیدة المعنی فی هذه الخطبة، حیث ذکر بعض الأسباب التی دعته لعدم القیام والنهوض بالأمر. أولها عدم إنطواء الأفراد - کابی سفیان - علی حسن النیة فی اقتراح النهوض بالأمر والتصدی للخلافة، أو أنّهم - کالعباس - کانوا ممن دفعوا من أصحاب الاغراض السیئة؛ الأمر الذی جعل الإمام علیه السلام یتعامل مع هذه الاقتراحات کفتن وبلا بل تستهدف القضاء علی المسیرة ولم یکن معه الا القلیل، وهذا ما صرّح به الإمام علیه السلام: «فنظرت فاذا لیس لی معین إلّاأهل بیتی، فضننت بهم عن الموت، وأغضیت علی القذی. وشربت علی الشجا، وصبرت علی أخذ الکظم، وعلی أمر أمرّ من طعم العلقم» (1)وناهیک عن کل ذلک فانّ الخلافة والحکومة لم تکن هدفا بالنسبة

ص:290


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 26. [1]

للإمام علیه السلام حیث کان یراها الإمام علیه السلام کالماء الآسن المتعفن والطعام المنغص؛ بل یراها وسیلة لاحقاق الحق وإبطال الباطل «قال عبداللّه بن عباس: دخلت علی أمیرالمؤمنین علیه السلام بذی قار وهو یخصف نعله. فقال لی: ما قیمة هذا النعل؟ فقلت: لا قیمة لها! فقال علیه السلام: واللّه لهی أحب إلی من إمرتکم، إلّاأن اُقیم حقا، أو أدفع باطلاً» (1). إلّاأنّ الإمام علیه السلام حین یری هذا القیام لایؤدی إلی تحقیق الهدف، بل بالعکس إنّما یثیر الخلاف والشقاق والفرقة فی صفوف المسلمین ولعله یتیح الفرصة للمنافقین الذین یتربصون بالاسلام الدوائر فلا یری هناک من سبیل سوی الصمت والسکوت. وقد أورد ابن أبی الحدید أن فاطمة علیها السلام حدثت الإمام علیه السلام بالنهوض بالأمر، فلما ارتفع صوت المؤذن «أشهد أنّ محمداً رسول اللّه» إلتفت إلیها قائلاً: أیسرک زوال هذا النداء من الأرض؟ قالت: لا. قال: فلابدّ من الصبر والسکوت (2). وبغض النظر عمّا تقدم فان کل عمل - ولاسیما النهضات الاجتماعیة الإسلامیة - یتطلب بعض المقدمات ولابدّ من توفر کافة الشروط اللازمة، وإلّا فلیست هنالک من نتیجة سوی الهزیمة والفشل والخذلان وهدر طاقات الاُمّة وتبدید قواها، وهذا الأمر أشبه بقطف الثمار غیر الناضجة أو نثر البذور فی الأرض المالحة. ومن هنا کان الإمام علیه السلام قیامه یکمن فی السکوت والصمت.

ص:291


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 33. [1]
2- 2) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 11 / 113. [2]

ص:292

القسم الثانی: تری ماالعمل مع المتربصین؟ !

اشارة

«فَإِنْ أَقُلْ یَقُولُوا: حَرَصَ عَلَی الْمُلْکِ، وَإِنْ أَسْکُتْ یَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ! هَیْهاتَ بَعْدَ اللَّتَیّا وَالَّتِی! وَاللّهِ لابْنُ أَبِی طالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْیِ أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَی مَکْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاضْطَرَبْتُمْ اضْطِرابَ الْأَرْشِیَةِ فِی الطَّوِیِّ الْبَعِیدَةِ» .

الشرح والتفسیر

یتعرض الإمام علیه السلام فی هذا المقطع من الخطبة إلی الحجج والذرائع الواهیة المتضاربة التی یردها الجهال والحساد علی الإمام علیه السلام. فیقول الإمام علیه السلام إنّ هذه القلوب العمی والبصائر الخافتة لا تنفک تعترض علی فی کل موقف اتخذه، فان اتحدث عن أحقیتی بالخلافة وعدم صلاحیة الآخرین لها، فالبی دعوة الاُمّة یتخرصون بأنّی حریص علی الحکومة، وأنّ آثرت الصمت والسکوت صوروه خوفا من الموت: «فان أقل یقولوا: حرص علی الملک وإن أسکت یقولوا: جزع من الموت» . نعم فهذا هو الاسلوب الرخیص الذی ینتهجه الجهال والمتخرصین لیعترضوا علی أولیاء اللّه فی کل حرکة وسکنة وموقف یمارسونه، وهم لایتحفظون حتی عن التناقض والتضارب فی هذا المجال، فان قاموا أشکلوا علیهم وإن قعدوا أشکلوا کذلک. ومن هنا فان المؤمنین لایعیرون هذه التناقضات أیة آذان صاغیة. ویبدو أنّ هذا هو الأمر الذی أشار إلیه الإمام الصادق علیه السلام فی الحدیث المروی عنه أنّه قال: «إنّ رضی الناس لا یملک

ص:293

وألسنتهم لا تضبط» (1). کما ورد شبیه هذا المعنی فی الخطبة 172 من نهج البلاغة: «و قد قال قائل: إنّک علی هذا الأمر یابن أبی طالب حریص، فقلت: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، أنا أخص وأقرب، وإنّما حلیت حقاً لی وأنتم تحولون بینی وبینه، وتضربون وجهی دونه، فلما قرعته بالحجة فی أعلا الحاضرین هب کأنّه بهت لایدری ما یجیبنی به» ثم یواصل کلامه علیه السلام فی إطار ردّه علی من فسّر سکوته بالخوف من الموت متعجباً من ذلک وهو الذی ثبت حین نکصت الأبطال فی بدر وأحد وحنین والاحزاب وخیبر التی أثبتت مدی ولهه وشغفه بالشهادة وله الرضیع بثدی اُمه: «هیهات بعد اللتیا والتی! واللّه لابن أبی طالب آنس بالموت من الطفل بثدی اُمه» . غیر أن سکوتی یستند إلی علم بخفایا الاُمور لاتطیقون سماعه «بل إندمجت (2)علی مکنون علم لو بحت (3)به لاضطربتم إضطراب الارشیة (4)فی الطوی (5)البعیدة» .

تأمّلات

1 - سوابق الإمام علیه السلام

یشیر الإمام علیه السلام باختصار إلی الشجاعة والبسالة التی أبداها فی الغزوات والمعارک الإسلامیة وفی بعض المواضع الخطیرة کمبیته علی فراش رسول اللّه صلی الله علیه و آله وما إلی ذلک لیذکر أولئک المرضی الذین یشکلون علیه بأنّه لایخشی أیة حادثة مروعة وقدخرج مرفوع الرأس من کل تلک الاختیارات والتمحیصات، وعلیه فسکوتی لایقوی دلیلاً علی ضعفی قط؛ ولیس

ص:294


1- 1) بحارالانوار 67 / 2؛ [1]تفسیر نور الثقلین 1 / 405. [2]
2- 2) «اندمجت» من مادة «اندماج» الانطواء وهی هنا إشارة للاسرار المودعة قلب الإمام علیه السلام.
3- 3) «بحت» من مادة «بوح» علی وزن لوح بمعنی الاعلان وترک الکتمان ومن هنا یطلق «الباحة» علی المحیط الواسع و «المباح» علی الأعمال الجائزة.
4- 4) «أرشیة» جمع «رشاء» علی وزن رضاء بمعنی الحبل الطویل، ومن هنا سمیت الرشوة لأنّها کالحبال التی تتصل بالدلو لیسحب الماء من البئر.
5- 5) «طوی» من مادة «طی» و هی البئر العمیقة البعیدة.

وراء هذا السکوت سوی مصالح الإسلام والمسلمین، ثم یستشهد علی ذلک بالمثل العربی المعروف فیقول «بعد اللتیا والتی» .

و قصة هذا المثل أنّ رجلاً تزوج من إمرأة کانت قصیرة القامة وصغیرة وسیئة الخلق فذاق منها الأمرین حتی طلقها. ثم تزوج من إمرأة طویلة القامة فآذته کسابقتها حتی اضطر لطلاقها، فلما عرضی علیه الزواج قال: «بعد اللتیا والتی لا أتزوج أبداً» فصار ذلک مثلاً یضرب من أجل الحوادث الکبیرة والصغیرة، فالإمام علیه السلام یشیر إلی أنّه إجتاز کل تلک الحوادث والخطوب فهل من سبیل إلی الخوف والخشیة.

2 - لم أخاف الموت؟ !

القضیة الاُخری التی أشار إلیها الإمام علیه السلام قوله: «لابن أبی طالب آنس بالموت من الطفل بثدی اُمه» . فالثدی ولبن الاُم أساس حیاة الطفل، ومن هنا فان هذا الطفل یعیش حالة من الجزع والانین والصراخ إذا ما جرد من هذا الثدی وکأنّه سلب الدنیا برمتها، فاذا عاد إلیه سکن وقر وشعر بالفرح والسرور وکأنّه نال الدنیا بما فیها؛ إلّاأنّ هذه العلاقة مهما کانت فهی تستند إلی الغریزة؛ أمّا علاقة الإمام علیه السلام والعرفاء بالموت ولقاء اللّه (و لا سیما الشهادة فی سبیل اللّه) فهی علاقة قائمة علی أساس العقل والمنطق والعشق. فهم لایرون الموت سوی إنطلاقة الحیاة الجدیدة فی ذلک العالم الأوسع والأشمل. یرون الموت نافذة علی عالم البقاء والخلود والخلاص من هذا السجن وتحطیم قیوده وأغلاله والتحلیق نحو العالم العلوی ومجاورة الرحمن. فهل من عاقل یتردد فی التحرر من قضیان السجن والخلاص من هذه القیود والانحلال (1). نعم إنّما یخشی الموت من یراه فاتحة لکل شیء وبدایة للعذاب الذی ینتظره بفعل ما قارفه من رذائل وفواحش. فأنی للإمام علیه السلام بالخوف من الموت وهو ما علیه من المعارف والعلوم والسمو والرفعة؟ ومن هنا یقسم علیه السلام بانّه آنس بالموت من الطفل بثدی اُمه. کما قال فی موضع آخر: «فواللّه ما اُبالی دخلت إلی الموت أو خرج الموت إلی» (2). بل هذا ماجسده عملیا حین ضربه ابن ملجم بالسیف علی رأسه فصرخ قائلاً: «فزت وربّ الکعبة» (3).

ص:295


1- 1) لقد تناول أحد الشعراء المعروفین هذه الحالة لیشبهها بنوعین من الأفراد، طائفة قلیلة المعرفة فهی کالثمار الخام التی تلتصق بشدة فی الشجرة، واُخری عارفة وهی کالثمار الناضجة التی تتساقط بیسر وسهولة من الشجرة.
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 55. [1]
3- 3) بحارالانوار 42 / 239. [2]
3 - لم السکوت؟

قال الإمام علیه السلام: «بل انطویت علی مکنون علم لو بحت به لاضطربتم إضطراب الارشیة فی الطوی البعیدة» . ومن الواضح أنّ الآبار کلما کانت أعمق کان اضطراب الحبال فیها أکثر. ولکن ماهو المراد بهذه الأسرار والعلم الذی إنطوی علیه الإمام علیه السلام؟ یبدو أنّ هنالک احتمالات کثیرة أوردها شرّاح نهج البلاغة بهذا الشأن. فمنهم من فسّره بوصیة النبی صلی الله علیه و آله له بالسکوت وعدم النهوض بالأمر والاشتباک مع الجماعة. ومنهم من فسّره بعلمه علیه السلام بعواقب الاُمور ومصالح ومفاسد المجتمع الإسلامی والذی دعاه لاتخاذ موقف السکوت. ومنهم من فسّره بعلمه علیه السلام بعالم الآخرة؛ أی أنی لأعلم بمسائل الآخرة بما لو بحت لکم به لما وسعکم الاستقرار ولعشتم الاضطراب. وهناک من فسّره بالقضاء والقدر الذی قدر لهذه الاُمّة. ولکن لایبدو أی من هذه التفاسیر منسجم ومضامین الخطبة وماورد قبلها وبعدها من عبارات، ونری الصحیح بأن تفسر هذه العبارة بالأحداث والتغییرات التی وقعت إبان الصحابة وادعیاء الإسلام بعد وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله واُولئک الذین کانت تراهم الاُمّة علی الحق وهم باطل وضلال، واُولئک الذین اندفعوا بالأمس خلف رسول اللّه صلی الله علیه و آله وشهروا سیوفهم بوجه الکفر والشرک بینما تخندقوا الیوم فی صفوف المنافقین وقد باعوا دینهم بدنیاهم ولو عرفهم الناس لتعجبوا وذهلوا. «بل اندمجت علی مکنون علم لوبحت به لاضطریتم اضطراب الارشیة فی الطوی البعیدة» . فمن یصدق أنّ طلحة والزبیر الذین قاتلا فی رکاب رسول اللّه صلی الله علیه و آله سیشعلان یوما نار حرب الجمل؟ ومن یصدق أن أحد أزواج النبی صلی الله علیه و آله وأم المؤمنین - عائشة - ستکون یوماً وسیلة بید المنافقین فتقود معرکة یروح ضحیتها أکثر من عشرة آلاف شخص؟ وعدد لا یحصی من قبیل هذه الأسئله. فإذا کان الأمر کذلک فکیف استند إلی مثل هؤلاء الأفراد وأنهض بالأمر.

ص:296

الخطبة السادسة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

لما أشیر علیه بَالاّ یتبع طلحة والزبیر ولا یرصد لهما القتال

وفیه یبیّن عن صفته بأنّه علیه السلام لا یخدع (1).

نظرة إلی الخطبة

حین نکث طلحة والزبیر البیعة وقصدا عائشة فی البصرة واستولیا علیها، إعتقد البعض بأنّ الإمام علیه السلام لن یصطدم بهما وسیترکهما ریثماً یوطد دعائم خلافته فلا تمرّ مدّة حتی یعلنا إستسلامها. فالإمام علیه السلام یستهل خطبته بأنّ هذا الکلام خطأ محض وأنی لن أقف مکتوف الایدی لتشتد قوة العدو فیباغتنی. ثم یبیّن علیه السلام عزمه الراسخ علی مقاتلة هؤلاء والزحف إلیهم بجنده المطیع، ثم یعلن أنّ هذا هو الاسلوب الذی سیتبعه إلی آخر حیاته. وأخیراً یختتم الخطبة بالإشارة إلی هذه الحقیقة فی أنّ هذه المخالفة والاعتراض لیست بالشیء الجدید وأنّ جذورها تمتد إلی زمان رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومازالت مستمرة لیومنا هذا.

«وَاللّه لا أکُونُ کَالضبع تنام علی طول اللدم، حتی یصل إلیها طالبها، ویختلها راصدها، ولکنی أضرب بالمقبل إلی الحق المدبر عنه، وبالسامع المطیع العاصی

ص:297


1- 1) کثر الکلام بین الشرّاح والمفسرین بشأن من أشار بهذا علی الإمام علیه السلام. فقد نسبه المرحوم الشیخ المفید فی کتاب الجمل إلی إسامة بن زید، بینما نسبه بعض المؤرخین والشرّاح من غیر الإمامیة للإمام الحسن علیه السلام، ولکن لایبدو هذا التفسیر صحیحاً بالاستناد إلی الرابطة التی کانت قائمة بین الإمام الحسن علیه السلام وأبیه علیه السلام. الاحتمال الأخیر فهو أنّ هذه الإشارة لم تکن من قبل فرد بل من قبل طائفة ضالة خلدت إلی الراحة والدعة.

المریب أبدا، حتی یأتی علی یومی. فواللّه مازلت مدفوعا عن حقی، مستأثرا علیّ، منذ قبض اللّه نبیه صلی اللّه علیه وآله وسلم حتی یوم الناس هذا.» (1)

الشرح والتفسیر

الحیطة والحذر تجاه الأعداء

لقد رد الإمام علیه السلام علی اُولئک الذین یقترحون عدم مطاردة طلحة والزبیر الذین نقضا بیعتهما، فقال علیه السلام: «واللّه لاأکون کالضبع (2)تنام علی طول اللدم (3)حتی یصل إلیها طالبها، ویختلها (4)راصدها (5)ویبدو أنّ المثل یضرب بالضبع علی أنّه حیوان أبله یمکن صیده بکل سهولة؛ حیث یقوم الصیاد بدق قطعة من الحجر أو العصا أمام عش الضبع فاذا نام تقدم إلیه الصیاد لیصیده بسهولة. وقد سطرت الخرافات والأساطیر بهذا الشأن ومن ذلک أن یخاطب الصیاد الضبع فیقول له: یا ضبع نم فی عشک، ثم یکرر ذلک عدّة مرات، فیتجه الضبع إلی أقصی غاره وینام. فینادی الصیاد: الضبع لیس فی العش، الضبع نائم، ثم یدخل علیه العش فیربطه بحبل ویخرجه من عشه ومن هنا شبه الأفراد الذین یعیشون الغفلة تجاه العدو بالضبع. أمّا الوقائع التأریخیة آنداک فهی تشیر إلی سذاجة الاقتراح القاضی بعدم مطاردة طلحة والزبیر؛ وذلک لأن خطتهما کانت تستهدف السیطرة علی البصرة والکوفة ثم یبایعهما معاویة ویأخذ لهما البیعة من أهل الشام فتخضع أغلب المناطق الإسلامیة لسیطرتهما فلایبقی لعلی علیه السلام سوی المدینة. أضف إلی ذلک فان هؤلاء إستطاعوا أن یؤلبوا أکثر عدد ممکن من الناس من خلال

ص:298


1- 1) أشار مؤلف کتاب «مصادر نهج البلاغة» [1] إلی المصادر الاُخری التی نقلت هذه الخطبة ومنها «تأریخ الطبری، أمالی الشیخ الطوسی، [2] صحاح اللغة وغریب الحدیث لأبی عبید القاسم بن سلام» .
2- 2) «ضبع» علی وزن سبع، یطلق أحیانا علی القحط والجفاف لأنّه یأکل کل شییء ویقضی علیه.
3- 3) «اللدم» حسب ما صرّح به بعضی أرباب اللغة هو صوت الحجر أو العصا أو غیرهما، تضرب به الأرض ضرباً غیر شدید، ومن الطبیعی أنّ مثل هذا الصوت إذا تکرر یمکنه أن یؤدی إلی النوم.
4- 4) «یختلها» من مادة «ختل» علی وزن ختم بمعنی الخداع والمخاتلة بمعنی المشی بهدوء نحو الصید بحیث لایهرب.
5- 5) «الراصد» من مادة «الرصد» بمعنی المترقب ومن هنا یطلق علی مراقبة المنجمین اسم الرصد کما یطلق علی موضع الرصد اسم المرصد.

الشعار الذی یطالب بدم عثمان حتی رسخ فی أذهان الناس أنّ قاتل عثمان هو علی علیه السلام. ومن الواضح أنّ تلک الخطة کادت أن ترد المیدان عملیا لولا مبادرة الإمام علیه السلام وتسریعه بمواجهة الفتنة حتی استطاع أن یقبر تلک المؤامرة فی مهدها فتمکن من إنقاذ البصرة والکوفة بل والعراق بأجمعه، ولولا المعارضة التی أبداها الجهال تجاه الإمام علیه السلام فی إطار تعامله مع ظلمة الشام لاراح المسلمین وإلی الأبد من شرهم ولعاد العالم الإسلامی برمته وحدة واحدة؛ غیر أنّ المؤسف له - وکما أشیر إلی ذلک فی ذیل الخطبة الشقشقیة - تعالت أصوات الجهال المغرضین الذین انطلت علیهم الدعایات لیوقفوا تلک المعرکة التی کان النصر فیها للإمام علیه السلام قاب قوسین أو أدنی. ثم یواصل الإمام علیه السلام کلامه لیقول: «ولکنی أضرب بالمقبل إلی الحق المدبر عنه، وبالسامع المطیع العاصی المریب أبداً، حتی یأتی علی یومی» .

طبیعی أنّ المجتمع لایتبنی الحق بجمیع أفراده؛ فهناک ضعاف الإیمان وعبدة الاهواء وأصحاب الجاه والمناصب الذین لایروق لهم إمام عادل حیث یهدد منافعهم اللامشروعة فیلجأون إلی أسالیب الدعایة والخداع والکذب والزیف وإثارة الشائعات؛ الأمر الذی یدعو الساسة والحکام إلی الاجهاض علی هذه العناصر الفاسدة وإجتثاثها من المجتمع بصفتها غدة سرطانیة یمکنها أن تلوث المجتمع، أو السعی للحد من نشاطهم وفعالیتهم ألم تکن مخاطرهم شدیدة، کما ینبغی علی دعاة الحق أن یکونوا علی أهبة الاستعداد علی الدوام للانقضاض علی هذه العناصر والقضاء علیها. وأخیراً یصف الإمام علیه السلام هذه المعوقات بأنّها لیست جدیدة وإنّما لها جذورها التی تمتد إلی زمان رحیل رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «فو اللّه مازلت مدفوعاً عن حقی، مستأثراً علیّ، منذ قبض اللّه نبیّه صلی اللّه علیه وآله وسلم حتی یوم الناس هذا» فی إشارة إلی قضیة طلحة والزبیر فی إنّها تأتی فی إطار حلقة مستمرة منذ وفاة رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومازالت قائمة حتی الیوم. امّا تعبیره بمدفوعاً ومستأثراً فهی إشارة إلی المقاومة التی أبداها الأعداء حیال الإمام علیه السلام لزحز حته عن حقّه وتقدیم الآخرین علیه، لأنهم لایطیقون عدله وشدته. أمّا قوله علیه السلام: «حتی یوم الناس هذا» - بالالتفات إلی إضافة الیوم إلی الناس - یمکن أن یکون إشارة إلی ذلک الیوم الذی کنت فیه وحیدا وقد غصبوا حقی، والیوم قدهب البعض لمخافتی رغم وجود هذه الاُمّة التی بایعتنی. والجدیر بالذکر أن المرحوم الشیخ المفید أورد فی إرشاده

ص:299

عن الإمام علی علیه السلام أنّه قال: « هذا طلحة والزبیر لیسا من أهل النبوة ولا من ذریة رسول اللّه صلی الله علیه و آله حین رأیا أنّ اللّه قد رد علینا حقنا بعد أعصر فلم یصبرا حولاً واحداً ولا شهراً کاملاً حتی وثبا علی دأب الماضین قبلهما لیذهبا بحقی ویفرقا جماعة المسلمین عنّی» (1).

تأمّل: رسالة إلی جمیع المسؤولین

لقد لقّن الإمام علیه السلام بهذه العبارات التأریخیة کافة الزعماء من أهل الیقظة والإیمان وساسة البلدان الإسلامیة درساً بلیغاً فی التأهب لمواجهة الأعداء، ولاینبغی التخلی عن الفرصة بکل سهولة وعدم الاستسلام للحلول والاقتراحات التی یتقدم بها من یؤثر السکون ویخلد إلی الراحة والدعة. فقد شبه الإمام علیه السلام من ینخدع بهذه الاقتراحات ویفقد زمام المبادرة فی تلک اللحظات الحساسة بالضبع، ویکمن وجه الشبه فی عدّة اُمور منها:

1 - أنّ الضبع یشعر بوجود العدو إلّاأنّه ینام لسماع بعضی الأصوات التی یرددها؛ النوم الذی یؤدی به فی خاتمة المطاف إلی الأسر والموت.

2 - أنّ الضبع یصطاد فی غاره.

3 - لایبدی الضبع أدنی مقاومة للذب عن نفسه وإنّما یقع فی مخالبه بکل سهولة.

فالأفراد الذین لایتعاملون بحزم تجاه العدو ویبدون حالة من الضعف والوهن إزائه فهم کالضباع التی تنام فی مخادعها وتستسلم للقتل دون مقاومة.

و أخیراً فلایعنی هذا أن یقدم الإنسان علی عمل دون التأنی والتامل والاستشارة والوقوف علی کافة جوانبه؛ بل لابدّ من إستشارة ذوی الحجی والشجاعة واتخاذ القرار قبل فوات الأوان والأقدام فی الوقت المناسب.

ص:300


1- 1) إرشاد المفید 1 / 243، طبع دار [1]النشر العلمیة الإسلامیة.

الخطبة السابعة

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام یذم فیها اتباع الشیطان

أتباع الشیطان

«اتَّخَذُوا الشَّیْطانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاکاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْراکاً، فَباضَ وَفَرَّخَ فِی صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِی حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْیُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَکِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ، وَزَیَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِکَهُ الشَّیْطانُ فِی سُلْطانِهِ وَنَطَقَ بِالْباطِلِ عَلَی لِسانِهِ» . (1)

الشرح والتفسیر

إنّ الخطبة رغم قصرها تصور بدقة أتباع الشیطان وکیفیة نفوذهم إلیهم، ومن ثم تبین الآثار الوخیمة والعواقب المشئوومة والطرق التی یسلکها الشیطان فی التغلغل إلی الإنسان والالقاء به فی شباکه وحبائله، فیتلاعب به کیفما یشاء. والحق أنّها تخدیر جدی لاتباع الحق فی ضرورة توفی الحیطة والحذر من تسلل الشیطان والوقوف بوجهه حال الشعور بأدنی آثاره. والخطبة وإن تحدثت عن بعض الأفراد من قبیل طلحة والزبیر أو معاویة وأهل الشام

ص:301


1- 1) جاء فی «مصادر نهج البلاغة» [1] أن هذه الخطبة وردت فی ربیع الأبرار للزمخشری، 1 / 109 والنهایة لابن أثیر فی غریب الحدیث 2 / 50.

أو أصحاب النهروان الذین سقطوا فی فخ الشیطان، إلّاأنّها لاتقتصر علیهم البتة، بل هی رسالة واضحة (لکافة الأفراد من أجل مراقبة الشیطان وعدم فسح المجال أمامه.

فقد تکفّلت الخطبة بتبیین المراحل التی یعقبها تسلل الشیطان فی أتباعه، حیث شرحها الإمام علیه السلام بما عرف عنه من فصاحة وبلاغة وتشبیه رائع بحیث لایمکن تقدیم صورة فنیة أروع من تلک التی رسمها الإمام علیه السلام. فقد أشار فی المرحلة الاولی إلی أنّ هذا التسلل والنفوذ إلی الإنسان إختیاری ولایمت بصلة إلی الاجبار. فالإنسان هو الذی یعطیه الضوء الأخضر ویدعه یلجه ویتصرف بوجوده حتی یجعله ملاکاً ومعیاراً لنشاطاته وفعالیاته «إتخذوا الشیطان لأمرهم ملاکاً» . فملاک من مادة ملک بمعنی أساس الشیء ودعامته، کأن یقال القلب ملاک البدن، أی أن أساس وقوام البدن هو القلب وهذا هو الأمر الذی أشار إلیه القرآن الکریم بوضوح علی لسان آیاته «إِنَّهُ لَیْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلی الَّذِینَ آمَنُوا وَعَلی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ *إِنَّما سُلْطانُهُ عَلی الَّذِینَ یَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِینَ هُمْ بِهِ مُشْرِکُونَ» (1). بناءاً علی هذا فالعبارة المذکورة کالآیات القرآنیة بمثابة رد علی أولئک الذین یتساءلون عن سلطة الشیطان علی بنی آدم فیقولون: کیف سلط اللّه سبحانه هذا المخلوق الخطیر علی الإنسان ثم طالبه بعدم إتباعه. فالعبارة تقول أنّ الشیطان لایخترق الجدران غیلة، بل یأتی من الباب ویطرقها فان فتح له ولج وإلّا عاد من حیث أتی. صحیح أنّه یصر علی طرق الباب دون الشعور بالکلل والملل، لکن بالمقابل هنالک الملائکة الذین یهبون لنجدة الإنسان ویحذروه من مغبة فتح الباب. ثم أشار فی المرحلة الثانیة إلی الانتخاب الذی یتولاه الشیطان بعد ذلک الانتخاب حیث یصطفی هؤلاء کاعوان وشرکاء «واتخذهم له اشراکاً» (2)ثم وضح علیه السلام ذلک بقوله: «فباض وفرخ فی صدورهم» (3). فالإمام علیه السلام یشبه صدور تبعة الشیطان بعش إبلیس الذی یبیض فیه ویفرخ. ثم قال علیه السلام: «و دب ودرج فی حجورهم» . صرّح بعض شرّاح نهج البلاغة بان دب من مادة الدبیب بمعنی الحرکة البطیئة الضعیفة، والدرج الحرکة الأقوی منها کحرکات الطفل فی حضن

ص:302


1- 1) سورة النحل / 99 - 100. [1]
2- 2) «اشراک» جمع «شریک» و «شَرَک» بمعنی افتح ویحتمل المعنیان فی العبارة المذکورة، وقد اختار کل شارح من شرّاح نهج البلاغة أحد هذین المعنیین.
3- 3) لقد استهلت العبارة بفاء التفریع لبیان شرحها للعبارة السابقة.

اُمه. ولعل التعبیر بدرج إشارة إلی حقیقة وهی أنّ الأفکار والعادات الشیطانیة لیست طارئة ومفاجئة علی الإنسان؛ بل تتجذر فیه بصورة تدریجیة؛ کما عبر عنه فی حذر المؤمنین منها حیث یتسنی له اقتیاد الإنسان خطوة خطوة نحو الفساد والضلال والکفر. (1)

فقال: «فنظر باعینهم، ونطق بالسنتهم» . أی أنّ هذه البیوض والفراخ الشیطانیة ستنمو وتترعرع حتی تتبدل إلی شیاطین تتحد معهم بحیث تنفذ فی جمیع أعضائهم وجوارحهم حتی یعیشون الأزدواج فی شخصیاتهم، فهم من جانب إنسان، ومن آخر شیطان، ظاهرهم إنسانی أمّا باطنهم شیطانی. عیونهم وآذانهم وألسنتهم وأیدیهم وأرجلهم أدوات تأتمر بأوامر الشیطان، فمن الطبیعی أن یروا جمیع الاشیاء بصیغة شیطانیة کما أنّ آذانهم تطرب لسماع الانغام الشیطانیة. أمّا فی المرحلة الرابعة فیتناول علیه السلام النتیجة النهائیة لهذه المسیرة التدریجیة المنحرفة فیقول: «فرکب بهم الزلل، وزین لهم الخطل» (2)ویشبه هذا الکلام ما أورده الإمام علیه السلام فی موضع آخر من نهج البلاغة «إلّا وأنّ الخطایا خیل شمس حمل علیها أهلها» (3). ثم قال علیه السلام فی المرحلة الأخیرة «فعل من قد شرکه الشیطان فی سلطانه، ونطق بالباطل علی لسانه» (4). إشارة إلی أنّ أعمال هؤلاء تدل بوضوح علی أنّ الشیطان استحوذ علیهم فتصرف فیهم کیف یشاء. فحدیثهم حدیث الشیطان ونظرهم نظر الشیطان وبالنتیجة فان بصمات الشیطان متجسمة فیهم، والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام أراد فی هذه المرحلة أن یعرف هؤلاء الأفراد من خلال أعمالهم الشیطانیة. ویبدو أنّ مراده علیه السلام بعض الأفراد کطلحة والزبیر وانصارهما وأصحاب معاویة والخوارج ومن کان علی شالکتهم، رغم أنّ الکتب المعروفة لشرح نهج البلاغة وأسانیدها لم تتعرض إلی الأفراد أو الطوائف المرادة بکلام الإمام علیه السلام. مع

ص:303


1- 1) سورة البقرة / 168 و208؛ سورة الانعام / 142؛ سورة النور / 21.
2- 2) هذا التفسیر علی أساس أنّ حرف الباء فی بهم للتعدیة، امّا إذا فسرت بالاستعانة فانّ مفهوم الجملة سیصبح أنّ الشیطان بالاستعانة بهؤلاء سیرکب الخطأ والزلل؟ ولکن بالالتفات إلی العبارة «وزین لهم الخطل» وفاء التفریع فی فرکب یبدو التفسیر الأول أنسب.
3- 3) نهج البلاغة، الخطبة 16. [1]
4- 4) کلمة «فعل» یمکن أن تکون مفعولاً مطلقاً لفعل محذوف تقدیره «فعلوا ذلک فعل. . .» کما یمکن أن تکون مفعولاً مطلقاً لما سبق (نظر، نطق، رکب وزین) وسیصبح مفهوم الجملة أن أفعال هؤلاء أفعال من شرک الشیطان فی عمله.

ذلک فالکلام دقیق وعمیق ولایختص بطائفة معینة، بل یشمل کل من وضع رجله علی مسار الشیطان وخضع لسیطرته وامتثل أوامره.

تأمّل: خطط الشیاطین

شائک وشامل هو البحث بشأن الشیطان وفلسفة خلقه وکیفیة نفوذه إلی الإنسان وطول عمره وقصته مع آدم وجنوده وأعوانّه من الجن والانس وما إلی ذلک من الاُمور التی لایسع المجال شرحها والغوص فی أعماقها. وسنکتفی ببعض الإشارات التی یمکنها أن تغنی البحث بما ینسجم وما ورد فی الخطبة المذکورة.

فالذی تفیده الآیات القرآنیة أنّ الشیطان لم یخلق کموجود شریر منذ بدایة الخلیقة، بل خلق طاهرا حتی اصطف مع الملائکة (و إن لم یکن ملکاً) . غیر أنّ حب الذات والکبر دفعه للتمرد علی أمر اللّه والامتناع عن السجود لآدم علیه السلام، فلم یرتکب المعصیة فحسب، بل إتّهم علم البارئ سبحانه وحکمته لیهوی فی وادی الشرک والضلال. لقد سأل اللّه النظرة إلی یوم القیامة فأجابه اللّه بالنظرة إلی یوم الوقت المعلوم لیتم تمحیص العباد، أو بعبارة اُخری فکما أنّ وجود الشهوات المرکبة فی الإنسان البشریة ومقاومة العقل والإیمان تجاه القوی المخالفة إنّما تضاعف قدرة الإنسان فی مسار الطاعة للّه؛ فانّ الوساوس الشیطانیة الخارجیة ومجابهتها من قبل الإنسان إنّما تقوده إلی السمو والتکامل؛ وذلک لأن وجود العدو إنّما یشکل العامل الذی یقف وراء حرکة الإنسان وقوته وتطوره وتکامله. إلّاأنّ هذا لایعنی أنّ للشیطان نفوذ إجباری فی الإنسان، بل الإنسان هو الذی یمهد لهذا النفوذ، فقد صرّح القرآن الکریم بهذا الشأن قائلاً: «إِنَّ عِبادِی لَیْسَ لَکَ عَلَیْهِمْ سُلْطانٌ» (1)، وقال فی موضع آخر «إِنَّهُ لَیْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلی الَّذِینَ آمَنُوا وَعَلی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ» (2)کما صرّحت إحدی الآیات القرآنیة علی لسان الشیطان أنّه قال: «وَما کانَ لِی عَلَیْکُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلّا أَنْ دَعَوْتُکُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِی فَلا تَلُومُونِی وَلُومُوا أَنْفُسَکُمْ» . (3)

ص:304


1- 1) سورة الاسراء / 65. [1]
2- 2) سورة النحل / 99. [2]
3- 3) سورة إبراهیم / 22. [3]

الجدیر بالذکر أنّ اللّه سبحانه قد خلق جنودا للقضاء علی وساوس الشیطان ومخططاته، ومنها العقل والفطرة والأنبیاء والملائکة التی تتولی حفظ المؤمنین وطرد الوساوس الشیطانیة عنهم. فکل من سار علی درب هذه الجنود حظی بدعمها وإسنادها وأبعد عنه وساوس الشیطان، ومن سار علی درب الشیاطین وأقام علی العناد واللجاجة رفعوا أیدیهم عنه. القضیة الاُخری الجدیرة بالاهتمام هی أنّ الشیطان یسعی للنفوذ فی أعماق النفس البشریة لیؤثر من هناک علی أعماله، کما اُشیر لهذا فی الخطبة المذکورة وکأنه باض وفرخ فی الصدور فتکاملت الفروخ شیاطین إتحدت معه حتی عاد نظره وسمعه وقوله ویده ورجله شیطانیاً. وقد ورد عن أمیرالمؤمنین علیه السلام فی غرر الحکم أنّه قال: «احذروا عدوا نفذ فی الصدور خفیاً ونفث فی الاذان نجیاً» کما ورد شبیه هذا المعنی - مع فارق طفیف - فی الخطبة 83 من نهج البلاغة. کما قال علیه السلام فی الخطبة 121 من نهج البلاغة: «إنّ الشیطان یسنی لکم طرقه ویرید أن یحل لکم دینکم عقدة عقدة» . علی کل حال فان الغرض من الخطبة هو تحذیر الإنسان من عدوره اللدود الشیطان الذی تعود جذور عدائه منذ خلق آدم علیه السلام. وضرورة التوکل علی اللّه والاتکاء علی العقل والفطرة والوجدان والاستضاءة بارشادات الأنبیاء وتعالیمهم والاستمداد من الملائکة بغیة حفظ الإنسان لنفسه من وساوس الشیطان.

وأخیراً فالنقطة التی أری ضرورة التعرض لها وعلی ضوء صریح بعض الآیات القرآنیة أنّ الشیاطین لیست منحصرة بابلیس وجنوده السریین، بل هناک مجموعة من الانس التی تشملها الشیاطین، فأعمالهم هی أعمال الشیاطین بعینها «وَکَذ لِکَ جَعَلْنا لِکُلِّ نَبِیٍّ عَدُوّاً شَیاطِینَ الإِنْسِ وَالجِنِّ یُوحِی بَعْضُهُمْ إِلی بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً» (1).

نعم لابد من الحذار من وساوسهم.

ص:305


1- 1) سورة الانعام / 112. [1]

ص:306

الخطبةالثامنة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

یعنی به الزّبیر فی حال إقتضت ذلک ویدعوه فی الدخول فی البیعة، ثانیا.

نظرة إلی الخطبة

دخل الزبیر وطلحة علی علی علیه السلام، فاستأذناه فی العمرة، فقال: ما العمرة تریدان، فحلفا له باللّه أنّهما ما یریدان غیر العمرة، فقال لهما: ما العمرة تریدان، وإنّما تریدان الغدرة ونکث البیعة، فحلفا باللّه ما الخلاف علیه ولا نکث بیعة یریدان، وما رأیهما غیر العمرة. قال لهما: فأعیدا البیعة لی ثانیة، فأعاداها بأشد مایکون من الإیمان والمواثیق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده، قال لمن کان حاضراً: واللّه لاترونهما إلّافی فتنة یقتتلان فیها. قالوا: یا أمیرالمؤمنین، فمر بردهما علیک، قال: لیقضی اللّه أمراً کان مفعولاً. (1)أمّا الزبیر فقد حاول أن یتذرع بما یبرر له نکث البیعة، ویقول لیس لعلی فی عنقی بیعة حیث بایعته مکرها. فالقی الإمام علیه السلام هذه الخطبة (جدیر بالذکر أنّ البعض قد نسب هذا الکلام للإمام الحسن علیه السلام وقد القاها بأمر من أبیه فی یوم الجمل بعد خطبة عبداللّه بن الزبیر، لکن لایستبعد أن یکون الإمام علیه السلام قد أورده مسبقا رداً علی إدعاءات الزبیر ثم استشهد بها الإمام الحسن علیه السلام فی الجمل. (2)

«یزعم أنّه قد بایع بیده، ولم یبایع بقلبه، فقد أقر بالبیعة، وادعی الولیجة، فلیأت علیها بأمر یعرف، وإلّا فلیدخل فیما خرج منه» .

ص:307


1- 1) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 1 / 232. [1]
2- 2) کتاب مصادر نهج البلاغة 1 / 334 - 335. [2]

الشرح والتفسیر

عذر أقبح من ذنب

کما أوردنا آنفا فانّ الإمام علیه السلام ألقی هذه الخطبة کرد علی الزبیر الذی حاول تبریر نکثه للبیعة بأنّه بایع مکرها بیده دون قلبه؛ لأن معاویة بعث له بکتاب قال فیه: أمّا بعد، فانّی قد بایعت لک أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا، کما یستوسق الجلب فدونک الکوفة والبصرة، لایسبقک إلیها ابن أبی طالب فانه لاشیء بعد هذین المصرین. (1)

فما کان من طلحة والزبیر الذین کانا یطمعان بالمناصب إلّاأنّ نکثا بیعتهما للإمام علی علیه السلام. أمّا الإمام علیه السلام فقد رد علی زعم الزبیر ردّاً حقوقیاً یحظی بکافة التبعات المتعارفة الیوم فی القوانین القضائیة، فقد قال علیه السلام: «یزعم أنّه قد بایع بیده ولم یبایع بقلبه، فقد أقر بالبیعة، وادعی الولیجة» (2)فالواقع أنّ کلامه مرکب من إقرار وإدعاء، فاقراره مسموع ومقبول، أمّا إدعائه فیحتاج إلی إقامة دلیل. ولذلک طالبه الإمام علیه السلام باقامة الدلیل (لیثبت أن بیعته قد حصلت من خلال الاکراه) وإلّا وجب علیه الالتزام بلوازم البیعة: « فلیأت علیها بأمر یعرف، وإلّا فلیدخل فیما خرج منه » لقد رأی أغلب الناس الزبیر وطلحة قد دخلا علی الإمام علیه السلام وبایعاه طائعین؛ فقد کانا من أوائل من بایعه فی المسجد، فالبیعة ملزمة، ومن إدعی خلاف ذلک علیه أن یأتی بالدلیل، أضف إلی ذلک فالکل یعلم بعدم وجود الاکراه والإجبار فی بیعة علی علیه السلام، فقد کان هنالک من لم یبایع، ولم یضطرهم الإمام علیه السلام إلی البیعة، وعلیه فلیس هنالک من مبرر لنکث البیعة. وکما ذکرنا سابقاً فانّ هذا من الاُصول الأساسیة فی کافة المحافل الحقوقیة والقضائیة، فی أنّ من أبرم عقداً راغباً بالظاهر فقد وجب علیه الالتزام به ولایقبل منه إدعاء الاکراه الاجبار وعدم تأیید القلب لما فعله بالید، وإلّا لأمکن لکل واحد أن یقوض ما أبرمه بهذه الذریعة. فالمشتری والبائع والزوج والواقف و. . . إذا أبرم عقدا ولم یری فیه من مصلحة لاحقا أمکنه أن یدعی بأنّه أبرمه لساناً ولم یکن قلباً موافقاً علیه. وإذا کان الأمر

ص:308


1- 1) شرح ابن أبی الحدید 1 / 231. [1]
2- 2) «ولیجة» من مادة «ولوج» بمعنی الدخول، کما تعنی الدخول الخفی ویقال ولیجة لما یضمر فی القلب ویکتم، وقد جاءت هنا بمعنی الأمر الخفی.

کذلک فقد عرضت کافة النظم والعقود والمواثیق الفردیة والدولیة للتصدع والانهیار وهذا مالا یقره عقل أو منطق؛ والحق أنّ الزبیر کان یعلم جیدا بهذا الأمر إلّاأنّه استهدف تضلیل الرأی العام الذی قد یسأله لم نکثت البیعة؟

جدیر بالذکر أنّ کل هذا نابع من کون العرب آنذاک کانت تولی البیعة أهمیة فائقة ولم تکن تتساهل فی نقضها وعدم الالتزام بها، وتری ذلک خطیئة کبیرة.

ص:309

ص:310

الخطبة التاسعة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

فی صِفَته وَصِفَة خُصومه ویقال إنَّها فی أصحاب الْجَمَلْ

«وَقَدْ أَرْعَدُوا وَأَبْرَقُوا وَمَعَ هَذَیْنِ الْأَمْرَیْنِ الْفَشَلُ وَلَسْنا نُرْعِدُ حَتَّی نُوقِعَ وَلا نُسِیلُ حَتَّی نُمْطِرَ» . (1)

الشرح والتفسیر

ضجة فارغة

یستفاد من کلامه علیه السلام أنّه أورده بعد انتهاء معرکة الجمل کاشارة للضجة الفارغة التی إفتعلها طلحة والزبیر ورهطهما فی بدایة موقعة الجمل، غیر أنّه لم یجدهم نفعا حیث هزم «طلحة والزبیر» شر هزیمة حتی قتلا. فقد قال علیه السلام: «و قد ارعدوا وابرقوا، ومع هذین الأمرین الفشل» . فهو تشبیه رائع بالسحب التی تتخللها ظاهرة الرعد والبرق کبشارة للناس بالأمطار التی تجلب علیهم الخیر والبرکة، إلّاأنّها سرعان ما تتبدد دون أن تحمل قطرة من المطر. ثم قال علیه السلام: «ولسنا نرعد حتی نوقع، ولانسیل حتی نمطر» یرید علیه السلام أننا لن نرعد

ص:311


1- 1) قال صاحب «مصادر نهج البلاغة» علاوة علی نقل الشریف الرضی لهذا الکلام فی نهج البلاغة، فقد رواه الواقدی ضمن إحدی خطبه علیه السلام یوم الجمل. کما نقله المرحوم الشیخ المفید فی کتاب الجمل (ص 177) [1] عن کتاب الجمل للواقدی. وأخیراً ذکره ابن عثم الکوفی فی کتاب الفتوحات.

ونزبد مالم نسدد ضربات موجعة إلی العدو، ولسنا من أهل الضجیج حتی نقتحم المیدان ونقهر الخصم. فالواقع هو أنّ العبارتین رغم قصرهما تشیران إلی مدرستین لکل منهما أسسهما فی الأنشطة الاجتماعیة والعسکریة والسیاسیة؛ مدرسة تتبنی الکلام والضجیج حین ترد المیدان؛ إلّا أنّها لاتستبطن سوی الضعف والعجز والفشل حین العمل. أمّا المدرسة الاُخری فهی المعروفة بالسلوک والعمل، قلیل کلامها کثیر عملها. هی مدرسة صامتة هادئة إلّاأنّها بطلة باسلة فی المیدان وبالطبع فانّ الأنبیاء والأولیاء وأتباع الحق ینتمون للمدرسة الثانیة، بینما ینتمی أتباع الباطل وجنود الشیطان إلی المدرسة الاولی.

و هنا نقطة مهمّة یجب الالتفات إلیها وهی أنّ الرعد والبرق قبل المطر ثم یأتی السیل، غیر أنّ هناک البعض الذی یرعد ویبرق دون المطر، والأسوأ من ذلک البعض الآخر الذی یتوعد بالسیول رغم إنعدام قطرة مطر، أی أنّهم یتشدقون بالنصر والغلبة والنجاح حتی بعد الهزائم المنکرة التی یمنون بها، فالطائفة الاولی کاذبة فی مزاعمها وإدعاءاتها، أمّا الثانیة باطلة عدیمة الحیاء. فالذی تفیده بعض الروایات أنّ الإمام علی علیه السلام بعث برسله یدعون إلی الالتزام بالبیعة و عدم شق الصف الإسلامی والعودة إلی إحضان الحکومة الإسلامیة، فعادوا یحملون رسائل الحرب حیث تضمنت رسائلهم التهدید بشن الحرب، فردّ الإمام علیه السلام ذلک الرد الحاسم «فانّ أبوا أعطیتهم حد السیف وکفی به شافیاً من الباطل، وناصرا للحق! ومن العجب بعثهم إلی أن ابرز للطعان وأن أصبر للجلاد، هبلتهم الهبول، لقد کنت وما اُهدد بالحرب، ولا اُرهب بالضرب، وإنی لعلی یقین من ربّی، وغیر شبهة من دینی» (1).

تأمّلان

1 - رجل العمل

ما تضمنه کلامه علیه السلام - کما أشرنا سابقاً - بعض الصفات البارزة لأسالیب الإدارة لأولیاء اللّه، فهم لیسوا من أهل الکلام والضجیج، بل بالعکس کلامهم العمل والتنفیذ. وقد تجسد

ص:312


1- 1) بحارالانوار 32 / 60 - 188. [1]

نموذج ذلک فی معرکة بدر حین ذهل أبوسفیان للنفر القلیل الذی کان مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله فبعث عمیر لیری هل هناک من جند خلف المیدان، فعاد إلی أبی سفیان وقال له: «مالهم من کمین ولامدد ولکن نواضح یثرب قد حملت الموت النافع امّا ترونهم خرساً لایتکلمون، یتلمظون تلمظ الأفاعی، مالهم ملجأ إلّاسیوفهم، ما أراهم یولون حتی یقتلوا ولایقتلون حتی یقتلوا بعددهم فار تأوا رأیکم. فقال له أبوجهل: کذبت وجبنت.» (1)

بالتالی أتبتت موقعة بدر أنّ الحق ماذهب إلیه عمیر لا ما قاله أبوجهل. وبالطبع فلیس هناک من منافاة بین هذا الکلام والاستفادة من الأسالیب النفسیة فی میدان الحرب والرجز وممارسة الحماس وامطار العدو بوابل التبلیغات وزرع الرعب فی صفوفه. فالمشکلة إنّما تکمن فی خلاصة کل شیء فی الکلام والتهدید والوعید. فالعمل هو الأساس والمحور والکلام ترجمة لذلک العمل. فنموذج الفریق الأول طلحة والزبیر ورهطهما، ونموذج الفریق الثانی علی علیه السلام واتباعه. فقد وردت عبارات واضحة للإمام علیه السلام - فی الخطبة 124 من نهج البلاغة - بهذا الشأن، ففی الوقت الذی یحث اتباعه وجنده علی الثبات فی المیدان والشدة فی الضرب یوصیهم قائلاً: «اَمیتوا الاصوات فانه أطرد للفشل» .

2 - الفارق بین الدعایة والاعلام الفعال

لعل الفارق بین هذین الأمرین صعب التمییز علی البعض، حیث ورد النهی عن القول بلاعمل واتخاذ الصمت والهدوء کمفهوم صحیح من جانب: ومن جانب آخر فانّ الأحادیث التی تستبطن الأسالیب التبلیغیة التی تشد قوی الحق من الناحیة النفسیة وتضعف معنویات العدو قد عدت من الوسائل الحربیة اللازمة، إلی جانب الحث علی الرجز والحماس فی میدان المعرکة والذی تجسد فی غزوات رسول اللّه صلی الله علیه و آله ومعارک أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وسائر الأئمّة المعصومین علیه السلام کالرجز الذی شهدته کربلاء، فکیف یمکن التوفیق بین هذین الأمرین؟

الواقع هنالک فارق واضح بین هذین الأمرین. فالنهی إنّما جاء بشأن الکلام الفارغ الذی

ص:313


1- 1) بحارالأنوار 19 / 224. [1]

ینطوی علی الرعد والبرق الکاذب والذی تصطلح علیه بالبلف حیث تفید القرائن والشواهد بعدم وجود أی عمل خلف ذلک الکلام. ولا شک أنّ مثل هذا البلف والکلام الفارغ أنّما هو دیدن الشیطان واتباعه من الأفراد عدیمی المنطق. أمّا الترغیب والترهیب الذی یتبع ذلک والعمل والنشاط الذی یخرج الکلام من دائرته لیزج به فی میدان العمل الذی ینتهجه الفریق الثانی فانّه لیس فقط غیر مذموم فحسب، بل إنّما یأتی فی نطاق الحرب النفسیة التی تفعل فعلها فی الواقع. وبالطبع فان التذکیر بهذه النقطة ضروری وهی أنّ الانهماک بالرجز والخطابة أثناء المعرکة إنّما یشغل قسما من طاقات الإنسان ویحد من الأثر المطلوب لصولاته وحملاته، ومن هنا ورد النهی عن ذلک.

ص:314

الخطبة العاشرة

اشارة

ومن خطبة له علیه السلام

یرید الشیطان أو یکنی به عن قوم

نظرة إلی الخطبة

تشیر هذه الخطبة إلی موقعة الجمل والحوادث الالیمة التی تخللتها؛ حیث یصف الإمام علیه السلام اعوان طلحة والزبیر بانهم جنود الشیطان، ثم یشیر إلی خصائصه فی المیدان، کما یتطرق إلی تبیین خطته المستقبلیة بهذا الشأن فی عبارات قصیرة وقارعة مشوبة بتوعد العدو مع تکهن بما ستؤول إلیه هذه المعرکة.

«أَلا وَإِنَّ الشَّیْطانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ خَیْلَهُ وَرَجِلَهُ وَإِنَّ مَعِی لَبَصِیرَتِی: ما لَبَّسْتُ عَلَی نَفْسِی، وَلا لُبِّسَ عَلَیَّ. وَایْمُ اللّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنا ماتِحُهُ! لا یَصْدُرُونَ عَنْهُ وَلا یَعُودُونَ إِلَیْهِ» . (1)

الشرح والتفسیر

تحذیر المسلمین ثانیة

کما ذکرنا سابقاً فانّ خطبة الإمام علیه السلام تعالج القضایا المرتبطة بموقعة الجمل، واستنادا إلی

ص:315


1- 1) جاء فی مصادر نهج البلاغة [1]أنّ المرحوم المفید نقل هذه الخطبة فی الإرشاد / 188.

العلاقة الوثیقة بین هذه الخطبة والخطبة الثانیة والعشرین وأبعد من ذلک إرتباطها بالخطبة 173، والواقع هو أنّ هذه الخطبة قد استوعبت فی تلک الخطبة وأصبحت جزءاً منها، فلا یبقی هنالک من مجال للشک والتردید فی أنّ الهدف من هذه الخطبة هو الإشارة لموقعة الجمل، وکأنّی باُولئک الذین فسّروها بالإشارة إلی موقعة صفین وأهل الشام قد أهملوا تلک العلاقة. فالمحور الأول لهذه الخطبة هو تشبیه أعوان طلحة والزبیر بجنود الشیطان فقال علیه السلام: «ألا وان الشیطان قد جمع حزبه، واستجلب خیله ورجله» .

و کیف لایکونوا جنود الشیطان وقد نقضوا عهدهم مع الإمام علیه السلام وقد دفعهم الحرص علی المناصب لبث بذور الفرقة والنفاق بین صفوف الاُمّة الإسلامیة واشعال فتیل الحرب الذی أودی بحیاة الکثیرین حتی احترقوا بتلک النیران. امّا التعبیر بالحزب فهو إشارة إلی الانسجام بین أهداف هؤلاء وأهداف الشیطان، وأمّا التعبیر بالخیل والرجل فهو إشارة لتنوع الجنود. القرآن الکریم من جانبه أشار إلی حزب الشیطان بقوله: « إِنَّما یَدْعُو حِزْبَهُ لِیَکُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِیر» (1)، ویشیر فی موضع آخر إلی حزبه من الراجلة والخیالة الذین یختبر بهم بنی آدم «وَأَجْلِبْ عَلَیْهِمْ بِخَیْلِکَ وَرَجِلِکَ» (2). ولاشک أن تتابع هذه التنبیهات إنّما تستهدف تحلی المؤمنین بالیقظة والوعی والحذار من الوقوع فی حبائل الشیطان والانضمام إلی حزبه والالتحاق بجنوده، غیر أنّ هذا المصیر المشؤوم قد طال طلحة والزبیر وأعوانها ومن سار علی نهجهما قد دفعهم حب الجاه والمنصب لأن یکون لقمة سائغة للشیطان.

ثم تناول علیه السلام المحور الثانی الذی بین فیه سماته وعمق بصیرته بما لایجعل للشبهة والشک من سبیل إلیه «و إنّ معی لبصیرتی ما لبست علی نفسی، ولا لبس علی» . الحق أنّ مصدر ضلال أی فرد إنّما یمکن فی أحد ثلاث: الأول ألا یمتلک البصیرة والمعرفة اللازمة بالعمل الذی یقدم علیه، فیرد المیدان جهلا فیتصرف بما لایرضی اللّه. والثانی قد یتمتع بالمعرفة إلّاأنّ حجب هوی النفس وحب الذات إنّما تحول دون رؤیته للحق وتسوقه للخطأ والزلل، وما أکثر الأفراد الذین یعلمون ببشاعة الذنب إلّاأنّهم یصطنعون لأنفسهم الاعذار الناشئة من

ص:316


1- 1) سورة فاطر / 6. [1]
2- 2) سورة الاسراء / 64. [2]

وساوس النفس والدوافع الشیطانیة التی تسول لأنفسهم عد تلک الذنوب من الفرائض، وکما صورهم القرآن الکریم «وَهُمْ یَحْسَبُونَ أَ نَّهُمْ یُحْسِنُونَ صُنْعاً» (1). والثالث أن یمنع شیاطین الجن والانس الاذن بالنفوذ إلی قلبه ویشوهوا علیه الحقیقة. ولم یکن لأی من هذه المحاور الثلاث من سبیل إلی الإمام علیه السلام؛ وذلک لأنّه أوصد کافة الأبواب الباطنیة والظاهریة للخطأ والانحراف بوجه الوساوس والأهواء وتحلی بتقوی وورع وبصیرة جعلته یری الحقیقة کما هی.

ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أنّ المراد یقول علیه السلام: «إنّ معی لبصیرتی» ، أنّ البصیرة التی کانت معی فی زمن رسول اللّه صلی الله علیه و آله فی کافة الأحداث المهمّة التی وقعت علی عهده مازالت معی ولم تتغیر. والعبارة إشارة إلی الآیة الشریفة «قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلی اللّهِ عَلی بَصِیرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِی» (2). بینما یری البعض الآخر أن قوله علیه السلام: «ما لبست علی نفسی، ولا لبس علی» هو تفسیر لقوله «و إنّ معی لبصیرتی» إلّاأنّ ما ذکر سابقاً أنسب.

الجدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام قال: ما لبست علی نفسی، ثم قال: ولا لبس علی؛ الأمر الذی یکشف عن ترتیب طبیعی ینبغی فیه ألا یخدع الإنسان من قبل نفسه أولاً ثم یأمن مکر الآخرین وخداعهم. ثم خاض فی المحور الثالث لیکشف عمّا ستؤول إلیه نتیجة موقعة الجمل محذرا خصومه بشدة «و آیم (3)اللّه لاُفرطن (4)لهم حوضا أنا ماتحه (5)! لایصدرون عنه ولا یعودون إلیه» . والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام شبه میدان القتال بالحوض الذی یرید ملأه بالماء بحیث لایبقی معه من مجال؛ أراد علیه السلام لأملأن لهم حیاض الحرب التی هی دربتی وأنا مجرب لها، ثم یشیر علیه السلام إلی النتیجة التی سیؤول إلیها أهل الجمل وهی لن تکون سوی القتل وإزهاق

ص:317


1- 1) سورة الکهف / 104. [1]
2- 2) سورة یوسف / 108. [2]
3- 3) یری بعض أرباب اللغة أن «آیم» جمع «یمین» بمعنی القسم وقد سقطت النون وهی مبتدأ لخبر محذوف تقدیره (و ایمن اللّه قسمی) .
4- 4) «اُفرطن» من مادة «إفراط» بمعنی تجاوز الحد (ما یقابل التقریط) ، کما تأتی بمعنی ملأ الشیء حتی یفیض، وقد جاءت بهذا المعنی فی العبارة.
5- 5) «ماتح» بمعنی امتداد الشیء ثم اطلقت علی المستسقی الذی یدلی بدلوه لاستخراج الماء من البئر. وقیل إنّ الماتح لمن یستسقی الماء من أعلی البئر، بینما المایح من تحته.

الأنفس، وإن کان هنالک من سبیل إلی الفرار فانّ الفار لن یعود إلی المیدان ثانیة.

و هنا لابدّ من الالتفات إلی أنّ قوله علیه السلام: «لأفرطن» لا تعنی أنّی سأفرط فی هذا السبیل، بل المراد أنّی سأبذل قصاری جهدی لسد جمیع الطرق علی العدو (لابدّ من الدقة هنا) . وهذا بعینه ما جعل عائشة تعتبر من تلک المعرکة ولم تشترک فی المعارک اللاحقة.

تأمّل: جند الشیطان

ما نستفیده من الخطبة المذکورة أنّ الشیطان لایمارس وظیفته فی الاغواء والاضلال لوحده؛ بل له جنوده وأعوانه والذین عبر عنهم فی الخطبة بالخیالة والرجالة (خیل ورجل) کماله اتباعه وانصاره الذین عبر عنهم بالحزب، وکما ذکرنا فان القرآن هو الذی أورد هذین التعبیرین (لابدّ من الالتفات إلی الخیل تعنی أحیانا الفارس وهذا هو المراد فی العبارة لأنفس الفرس) . وبالطبع لایراد بحزب الشیطان ورجالته ما یتعارف الیوم فی المجتمعات المعاصرة وتشکیلات الجیوش؛ إلّاأننا نعلم بأنّ له مساعدوه من بنی جنسه ومن جنس بنی آدم الذین ینشطون فی إغواء الناس وإضلالهم، بل حتی الأحزاب القائمة الیوم والجنود الذین أصجوا آلة بید السلطان الظالمة والمستبدة إنّما هی جنود الشیطان وأحزابه. فما کان من الجنود أشد وأقوی فهو من خیله وما کان أضعف وأصغر فهو من رجله. بل هناک من یری نفسه فی صفوف حزب اللّه وهو فی زمرة حزب الشیطان. امّا أتباع الحق فان علیهم أن یتکلوا علی اللّه وینضووا تحت ولایته لیکونوا مصداقا لقوله: «اللّهُ وَلِیُّ الَّذِینَ آمَنُوا یُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلی النُّورِ» لیحظوا بعنایة اللّه ولطفه ویفوزوا بمضمون «إلهی لاتکلنی إلی نفسی طرفة عین أبداً» . أمّا شرط الوصول إلی هذا المقام فهو ما ذکره الإمام علیه السلام فی الخطبة المذکورة، أی لابدّ من التحلی بالبصیرة والمعرفة والحذر من خداع النفس، إلی جانب الحذر من الوقوع فریسة لحبائل خداع الآخرین ومکرهم.

ص:318

الخطبة الحادیة عشر

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

لابنه محمد بن الحنفیة لما أعطاه الرایة یوم الجمل

«تَزُولُ الْجِبالُ وَلا تَزُلْ! عَضَّ عَلَی ناجِذِکَ. أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَکَ. تِدْ فِی الْأَرْضِ قَدَمَکَ. ارْمِ بِبَصَرِک أَقْصَی الْقَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَکَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ سُبْحانَهُ» .

نظرة إلی الخطبة

ما تفیده الروایات هو أنّ أمیرالمؤمنین علی علیه السلام کان شدید الحرص علی عدم نشوب معرکة الجمل بغیة الحیلولة دون سفک دماء المسلمین، کما ورد أنّه سلم الرایة یوم الجمل ابنه محمد بن الحنفیة، فاستغل الفرصة من الصباح حتی الظهر لیدعوهم إلی الصلح والصلاح والالتزام بالبیعة، ثم خاطب عائشة قائلاً: اتق اللّه وعود إلی بیتک فقد أمرکن اللّه سبحانه «وَقَرْنَ فِی بُیُوتِکُنَّ» . ثم التفت إلی طلحة والزبیر وقال لهم: صنتم نسائکم وابرزتم زوج رسول اللّه صلی الله علیه و آله، ثم خرجتم تطالبون بدم عثمان بعد أن آلت الخلافة إلی الشوری (و قد انتخب الناس أمیرالمؤمنین وقد مددتما إلیه ید البیعة) . ثم قال للزبیر أتذکر کنّا نتحدث یوما فی المدینة فسألک رسول اللّه صلی الله علیه و آله: أتحب علی؟ فقلت: کیف لاأحبه وهو قرابتی وإنّی لأحبه فی اللّه. فقال لک رسول اللّه صلی الله علیه و آله فاعلم إنّک ستقاتله وأنت له ظالم! فقلت أعوذ باللّه من ذلک الیوم. ثم واصل

ص:319

الإمام علی علیه السلام نصحهم ووعظهم حتی قال اللّهم إشهد أنّی نصحت لهم وأمهلتهم، ثم تناول القرآن وقال من یحاججهم بالقرآن فیقرأ علیهم الآیة «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُما» (1)وهو مقطوع یمینه وشماله ومقتول؟ فتناوله مسلم المجاشعی فاقترب من العدو وحمل القرآن بیمینه وتلی علیهم الآیة، فحملوا علیه وقطعوا یمینه، فتناول القرآن بشماله فقطعوها أیضاً، فاخذ القرآن بأسنانه فقتلوه. فقال علی علیه السلام: اُحل لی الآن قتالهم عن آخرهم. ثم إلتفت إلی محمد بن الحنفیة وخاطبه بتلک الکلمات. (2)علی کل حال فان الإمام علیه السلام یسلط الضوء علی الفنون القتالیة المهمّة والمسائل ذات الاثر من الناحیة النفسیة والجسدیة فی الجندی المسلم والتی تعده للتأهب والاستبسال فی ساحة المعرکة. والکلام یشتمل علی سبع جمل: تضمنت الجملة الاولی الأوامر الکلیة بشأن المقاومة والصمود فی میدان الحرب، بینما أشارت الجمل الخمس الاُخری إلی الجزئیات والاُمور التی تلعب دوراً فی الصمود وتحقیق النصر. أمّا الجملة السابعة والأخیرة فهی تؤکد علی الإتکال علی اللّه وأنّ النصر من عنده سبحانه لیمکن من خلال ذلک وبقوة الإیمان تحمل المشاق والصعاب والتحلی بالروحیة العالیة من أجل الصمود أمام العدو ومقاتلته.

الشرح والتفسیر

کن کالجبل

کما اُشرنا سابقاً فانّ الخطبة تعالج مجریات موقعة الجمل حیث أعطی الإمام علیه السلام الرایة ولده الشجاع محمد بن الحنفیة، وقد أوصاه عدّة وصایا مهمّة بشأن القتال وتحقیق النصر منها:

أنّه قال: «تزول الجبال ولا تزل» (3). فالواقع إنّ أهم مسألة فی میدان القتال هی الاستقامة والصمود التی لایمکن تحقیق النصر بدونها، وهذا ما أکده الإمام علیه السلام فی بدایة الأمر. ویمکن أن تکون هذه العبارة إشارة لمضمون الروایة المعروفة «المؤمن کالجبل الراسخ لاتحرکه

ص:320


1- 1) سورة الحجرات / 9. [1]
2- 2) منهاج البراعة للخوئی 3 / 167 - 169.
3- 3) قال بعض شرّاح نهج البلاغة أن هذه العبارة جملة شرطیة من حیث المعنی، تقد یرها لوزالت الجبال لاتزل (شرح ابن میثم 1 / 287) . [2]

العواصف» کما ورد عن النبی الاکرم صلی الله علیه و آله انّه قال: «المؤمن أشد فی دینه من الجبال الراسیة وذلک انّ الجبل قد ینحت منه والمؤمن لایقدر أحد علی أن ینحت من دینه شیئا» (1)، ثم تناول علیه السلام ما من شأنه أن یؤثر فی مسیرة المعرکة فقال: «عض علی ناجذک» . فالناجذ قد یعنی أقصی الضرس، کما فسّر بسن العقل، وقیل بل جمیع الإنسان. وقیل أنّ العض علی النواجذ یتضمن فائدتین: الاولی أنّه یزیل الخوف والقلق والاضطراب ومن هنا یعض الإنسان علی أسنانه فی مواطن الخوف لیهدأ وتسکن فورته، والثانیة أنّهم ذکروا أنّ العاض علی نواجذه ینبو السیف عن دماغه، لأنّ عظام الرأس تشتد وتصلب؛ وقد جاء فی کلامه علیه السلام هذا مشروحاً فی موضع آخر وهو قوله علیه السلام: «وعضوا علی النواجذ، فإنّه أنبی للصوارم عن الهام» (2). أمّا فی الجملة الثالثة فقد قال علیه السلام: «أعر اللّه جمجمتک» تعنی إستعد للتضحیة والفداء والشهادة فی سبیل اللّه فان هذا الاستعداد أساس الشجاعة والاستبسال. هذا وقد ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ فی العبارة إشعار له أنّه لایقتل فی تلک الحرب، لأنّ العاریة مردودة، ولو قال له: بع اللّه جمجمتک، لکان ذلک إشعار له بالشهادة. ثم قال علیه السلام فی الجملة الرابعة: «تد فی الأرض قدمک» . فی إشارة واضحة إلی الثبات فی المعرکة ورباطة الجأش فی مقابل العدو وعدم التفکیر قط بالانسحاب أو الفرار من المیدان؛ الأمر الذی أوصی به القرآن الکریم المؤمنین من قبل: «یا أَیُّها الَّذِینَ آمَنُوا إِذا لَقِیتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» (3). ولعل الفارق بین هذه العبارة والعبارة الاولی، هو أنّ الجملة الاولی تحدثت عن عدم التزلزل فی الفکر والمعنویات بینما أشارت العبارة الأخیرة إلی عدم التزلزل الظاهری والبدنی وعدم الانسحاب والتراجع وفی الجملة الخامسة قال علیه السلام: «ارم ببصرک أقصی القوم» فمثل هذه النظرة تجعله یحیط بالمیدان والعدو والسیطرة علی حرکة الجنود بحیث یتعرف علی نقاط الضعف والقوة فیصیب فی الدفاع والهجوم والکر والفر. ثم قال علیه السلام: «و غض بصرک» . لیس هنالک من تناقض بین قوله «ارم ببصرک» قوله «غض بصرک» وذلک لأنه فی الاولی أمره أن یفتح عینه ویرفع طرفه، ویحدق إلی أقاصی القوم

ص:321


1- 1) سفینة البحار، [1] مادة أمن.
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 124. [2]
3- 3) سورة الانفال / 45. [3]

ببصره، فعل الشجاع المقدام غیر المکترث ولاالمبالی، لأن الجبان تضعف نفسه ویخفق قلبه فیقصر بصره ولا یرتفع طرفه ولا یمتد عنقه، ویکون ناکس الرأس، غضیض الطرف. وفی الثانیة أمره أن یغض بصره عن بریق سیوفهم ولمعان دروعهم، لئلا یبرق بصره ویدهش ویستشعر خوفا. والشاهد علی ذلک ما أورده علیه السلام فی موضع آخر من نهج البلاغة بهذا الشأن إذ قال: «و غضوا الأبصار فانه أربط للجأش واَسکن للقلوب» (1). أمّا فی الجملة السابعة والأخیرة فقد أشار علیه السلام إلی نقطة مهمّة وأساسیة تنطوی علی أبعاد روحیة معنویة تطمئن النفوس وتحدوها بالتطلع إلی اللّه «و اعلم أن النصر من عند اللّه سبحانه» فالنصر لایستند إلی الأسباب والمقدمات الظاهریة، بل المهم إرادة اللّه سبحانه ونصره، فتوکل علی اللّه وثق به واسأله الغلبة فهو القادر علی کل شیء وهو الرحمن الرحیم بعباده المؤمنین المجاهدین «وَما النَّصْرُ إِلّا مِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ» (2). والطریف فی الأمر أن القرآن الکریم تحدث عن نصرة الملائکة إلّاأنّه حث المؤمنین بالتضرع إلی اللّه بنزول النصر لا الملائکة «بلی ان تصبروا وتتقوا ویأتوکم من فورهم هذا یمددکم ربکم بخمسة آلاف من الملائکة مسومین وماجعله اللّه إلا بشری لکم وتطمئن قلوبکم به وما النصر إلّامن عند اللّه العزیز الحکیم» .

تأمّلان

1 - محمد بن الحنفیة ونسبه وبعض أخباره

هو أحد أبناء أمیرالمؤمنین علی علیه السلام و «حنفیة» لقب أمه واسمها خولة بنت أحد أشراف قبیلة «بنی حنیفة» وقد اسرت فی أحد المعارک الإسلامیة وأرادوا بیعها، فأعتقها علیه السلام وتزوجها. ورث محمد الشجاعة من علی علیه السلام وقیل کان یشق الدرع بیده لقوته. ومن هنا سلمه علیه السلام الرایة یوم الجمل، کما أسند إلیه مع محمد بن أبی بکر وهاشم المرقال میسرة جیشه فی صفین. وکان شدید التواضع للحسن والحسین علیهما السلام.

ص:322


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 124. [1]
2- 2) سورة آل عمران / 126. [2]

دفع أمیرالمؤمنین علیه السلام یوم الجمل رایته إلی محمد ابنه علیه السلام، وقد استوت الصفوف، وقال له: احمل، فتوقّف قلیلاً، فقال له: احمل، فقال یا أمیرالمؤمنین، أماتری السّهام کأنّها شابیبُ المطر! فدفع فی صدره، فقال: أدرکک عِرْق من أمّک، ثم حمل وحمل الناس خلفه، فطحن عسکر البصره. قیل لمحمد لِمَ یُغرِّرُ بک أبوک فی الحرب ولا یغرّر بالحسن والحسین علیهما السلام؟ فقال: إنّهما عیناه وأنا یمینه، فهو یدفع عن عینیْه بیمینه.

إتهم البعض محمد بن الحنفیة بأنه إدعی الإمامة بعد الإمام الحسین علیه السلام، بل قیل إدعی المهدویة، إلا أن الشیخ المفید أبطل ذلک وقال لم یدع الإمامة (بل نسب الآخرون ذلک إلیه وهم من إدعی الإمامة والمهدویة من الکیسانیة. توفی بن الحنفیة عام 81 ه - و اختلف فی محل دفنه، فقیل توفی فی الطائف ودفن فیها. وقیل فی البقیع، کما قیل فی الجبل الرضوی قرب المدینة.

أمّا إحد الشواهد الحیة علی رفعة مکانته وعلو منزلته فهو أنّ الإمام الحسین علیه السلام حین أراد الخروج من المدینة إلی مکة جعله خلیفته ووصیه فی المدینة لیطلعه علی الأخبار، کما أودعه وصیته طبق لنقل أرباب المقاتل.

2 - الشرط المهم فی النصر علی الأعداء

تفید الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة أنّ العنصر الرئیسی الذی یقف وراء النصر والغلبة إنّما یکمن فی الصبر والمقاومة والثبات. فالقرآن یصف الفئة القلیلة الصابرة بانها هی المنتصرة فی مقابل الفئة المعادیة الکثیرة العدد والعدة: «إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ یَغْلِبُوا مِئَتَیْنِ وَ إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ مِئَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِأَ نَّهُمْ قَوْمٌ لا یَفْقَهُونَ» (1). کما ورد تأکیده علیه السلام علی الصبر فی سائر خطبه فی نهج البلاغة ومن ذلک قوله علیه السلام: «و علیکم بالصبر فان الصبر من الإیمان کالرأس من الجسد ولا خیر فی جسد لا رأس معه ولا فی إیمان لا صبر معه» (2).

ص:323


1- 1) سورة الانفال / 65. [1]
2- 2) نهج البلاغة، [2]الکلمات قصار / 82. [3]

و هو المعنی الذی ورد التأکید علیه کرارا فی الخطبة التی نحن بصددها، فقد قال علیه السلام کإشارة لمواطن الصبر «تزول الجبال ولا تزل» وقال: «تد فی الأرض قدمک» ، وهکذا سائر عباراته من قبیل العض علی النواجذ واعارة اللّه الجمجمة والإیمان بانّ النصرة والغلبة من اللّه سبحانه، حیث من شأن کل هذه الاُمور أن تلهم الإنسان الصمود والثبات والمقاومة التی تستبطن النصر، وهذا بعینه ما جعل المسلمین ینتصرون علی خصومهم حتی فی المعارک التی لم تکن متکافئة، وهذا ما ینبغی أن یؤمن به ویستشعره جیلنا الإسلامی الجدید لیحقق الانتصارات الباهرة علی الأعداء.

ص:324

الخطبة الثانیة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

لما أظفره الله بأصحاب الجمل وَقَدْ قالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحابِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ أَخِی فُلاناً کانَ شاهِدَنا لِیَرَی ما نَصَرَک اللّهُ بِهِ عَلَی أَعْدائِک «فَقالَ علیه السلام: لَهُ أَهَوَی أَخِیک مَعَنا؟ فَقالَ: نَعَمْ. قالَ فَقَدْ شَهِدَنا، وَلَقَدْ شَهِدَنا فِی عَسْکَرِنا هَذا أَقْوامٌ فِی أَصْلابِ الرِّجالِ وَأَرْحامِ النِّساءِ، سَیَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمانُ وَیَقْوَی بِهِمُ الْإِیمانُ» . (1)

نظرة إلی الخطبة

یتضح ممّا قاله السید الرضی بشأن الخطبة أنّها متعلقة باحداث الجمل والنصر المبین الذی حققه الإمام علیه السلام حیث إلتفت إلیه أحد أصحابه وکان شدید الحب لأخیه فقال له: لیت أخی کان معنا لیشهد ما نحن فیه من النصر والغلبة علی هؤلاء البغاة. فاورد الإمام علیه السلام هذه الکلمات الرائعة لیطمئنه بالحضور المعنوی لأخیه وکل من سار علی نهجه علیه السلام من حماة العقیدة، فالإسلام یری الرابطة الدینیة تفوق کافة الروابط العرقیة والسیاسیة والاقتصادیة وما إلی ذلک. فقد تظافرت الروایات الإسلامیة التی صرّحت بأنّ من أحبّ عمل قوم حشر فیه معهم

ص:325


1- 1) سند هذه الخطبة هو ماورد فی کلام الشریف الرضی، وقد ورد شبیه هذا الکلام فی کتاب مصابیح الظلم من کتب المحاسن البرقی. أنّ أحد أصحاب الإمام علیه السلام قال بعد أنّ أظفر اللّه الإمام علیه السلام بالخوارج فی النهروان، طوبی لنا قاتلنا بین یدیک فقتلنا الخوارج، فرد الإمام علیه السلام بعبارات شبیهة بما ورد فی هذه الخطبة (مصادر نهج البلاغة 1 / 339) . [1]

و الراضی بفعل قوم کالداخل فیه معهم. وبعبارة اُخری فان الإمام علیه السلام أشار فی هذه الخطبة إلی أنّه قد شهده فی عسکره وشرکه فی نصره کافة الأفراد الذین یقیمون الیوم فی کافة أصقاع العالم والذین لم یشهدوا - لأسباب - میادین القتال إلّاأنّهم وبسبب تعاطفهم العقائدی وکذلک الأفراد الذین مازالوا نطف فی أصلاب الرجال وقرارات الفساد.

الشرح والتفسیر

اللحمة العقائدیة

یتضح ممّا مر معنا أنّ الإمام علیه السلام اورد هذا الکلام فی إطار ردّه علی أحد أصحابه الذی أعرب عن تمنیه فی أن یکون أخیه قد حضر معه فی تلک المعرکة ویشهد النصر المؤزر الذی من اللّه به علی جیش الإمام علیه السلام فالتفت إلیه الإمام علیه السلام: «فقال له: أهوی أخیک معنا؟» ، «فقال: نعم» ، فرد علیه الإمام علیه السلام: «فقد شهدنا، ولقد شهدنا فی عسکرنا هذا أقوام فی اصلاب الرجال وارحام النساء، سیرعف بهم الزمان، ویقوی بهم الإیمان» . (1)

أجل من کان علی عقیدتنا أینما کان فهو معنا وإن لم یکتب لهم اللّه الحضور الفعلی فی المیدان. أمّا قوله علیه السلام سیرعف بهم الزمان فهی إشارة إلی أنّ الدم وان جری مستتراً فی عروق الإنسان إلّا أنّه یظهر فی أیة لحظة وینتشر بکل سهولة، فهؤلاء مستترون فی باطن هذا العالم إلّاأنّهم سیظهرون تدریجیا طبق التصنیف الزمانی الإلهی ومن خصائصهم «و یقوی بهم الإیمان» فهم یتحرکون باتجاه الحق؛ الأمر الذی یسهم فی تقویة أواصر الدین والإیمان. هذا وقد کثر الکلام بین شرّاح نهج البلاغة بشأن طریقة هذا الشهود والحضور للغائبین فهل هو حضور روحی؟ أی هل أرواحهم حاضرة فی ذلک المکان قبل أن تخلق الأبدان، أم هو حضور بالقوة؟ أی هم حاضرون وان غابوا عن المیدان ظاهریا؟ یبدو أنّ مراد الإمام علیه السلام بهذا الحضور هو شرکتهم فی الثواب والحسنات والنتائج؛ أی أنّ هؤلاء الذین قلوبهم معنا وهم علی خطتا وحرکتنا (حزب اللّه) فهم شرکاءنا فی الأجر والثواب، وعلیه فلهم حضورهم الروحی الفعلی فی کافة میادین صراع الحق ضد الباطل. فالواقع هو أنّ المسار واحد والحرکة واحدة والجمیع کتلة

ص:326


1- 1) «الرعاف» خروج الدم من الأنف.

واحدة إن تعا نقت عقائدهم وأهدافهم ولیس للزمان أن یفصل بعضهم عن البعض الآخر. وهذا یصدق أیضاً علی خط الباطل، فالکل سائر علی طریق الشیطان ویحمل نفس العقائد الفاسدة ویعیش حالة الظلم والعدوان ومقارفة الذنوب والمعاصی فالمتأخر شریک للمتقدم فی الجزاء والعقاب.

تأمّل: الرابطة الحق

ما ورد فی الخطبة یکشف عن حقیقة معنویة لیس للمعادلات الدنیویة المادیة من سبیل إلی الوقوف علی کنهها والاحاطة بها. فالإمام علیه السلام یری أنّ أهم رابطة تحکم المؤمنین هی رابطة الدین والعقیدة التی لاتضاهیها رابطة (من قبیل رابطة الدم والجنس واللون والعرق واللغة والحزب والطائفة والقبیلة وما إلی ذلک) فهی أروع وأقوی وأعظم، ومن شأن هذه الرابطة أن تشمل کافة الأزمنة والأمکنة وجمیع أفراد البشر فی الماضی والحاضر والمستقبل لیصهرها فی بوتقة الهیة واحدة. فقد قال علیه السلام «لقد شهدنا، ولقد شهدنا فی عسکرنا هذا أقوام فی أصلاب الرجال وارحام النساء، سیرعف بهم الزمان، ویقوی بهم الإیمان» فالمعرکة لیست صراع شخصی من أجل السیطرة، بل هی معرکة بین الحق والباطل، وهما صفان متقابلان خالدان حتی ینفخ فی الصور، وأنّ المؤمنین سیهبون لمجابهة الباطل والذود عن الحق مازالت هنالک آثار للباطل، وکل من کان علی الحق فهو شریک فی کل ما یترتب علی هذه المجابهة من أجر وثواب. والدلیل واضح علی ذلک حیث الحقیقة واحدة لاینشد أتباع الحق سواها فهم یتحرکون بهذا الاتجاه ویشهرون سیوفهم من أجل تحقیق هذا الهدف. وعلی أساس هذا الاصل الأساسی تکون قد حلت أکثر المسائل الواردة فی القرآن والأحادیث والتی قد تبدو مستغربة للبعض. فقد صرّح القرآن الکریم بشأن قوم ثمود قائلاً: «فَکَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَیْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوّئها» (1). بینما صرّحت التواریخ أنّ الذی عقر الناقة کان واحداً منهم، فی حین نسب اللّه العقر للجمیع بفعل تضامنهم العقائدی معه فشملوا جمیعاً بالعذاب. وهذا هو

ص:327


1- 1) سورة الشمس / 14. [1]

المفهوم الذی أوضحه الإمام علیه السلام بقوله: «أیّها الناس انّما یجمع الناس الرضی والسخط وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد منهم فعمهم اللّه بالعذاب لما عموه بالرضا» (1)وقوله علیه السلام: «الراضی بفعل قوم کالداخل فیه معهم وعلی کل راض بالاثم ذنبان؛ ذنب الرضی به وذنب العمل به» . وورد فی زیارة الأربعین لجابر بن عبداللّه الانصاری أنّه انکب علی قبر الحسین علیه السلام وجعل یزوره بهذه العبارت: «أشهد أنّک أقمت الصلاة وآتیت الزکاة وأمرت بالمعروف نهیت عن المنکر وجاهدت فی اللّه حق جهاده حتی أتاک الیقین، والذی بعث محمداً بالحق لقد شارکناکم فیما دختلم فیه» فلما سمعه صاحبه عطیة تعجب من قوله قائلا: کیف ذاک ولم نهیط وادیاً وقد قاتل القوم دون الحسین علیه السلام فطاحت رؤوسهم وترملت نسائهم ویتمت أولادهم فقال جابر: سمعت حبیبی رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: من أحبّ قوماً حشر معهم ومن أحبً عمل قوم اُشرک فی عملهم، أمّا والذی بعث محمدا صلی الله علیه و آله بالنبوة لنیتنا نیة الحسین علیه السلام وأصحابه» (2)القرآن من جانبه خاطب کراراً یهود المدینة علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله ووبخهم علی الأعمال التی أتی به أصحابهم علی عهد نبی اللّه موسی علیه السلام؛ بینما کانت هنالک عدّة قرون بین القومین، فجعلهم القرآن کاُولئک لانتهاجهم مسیرتهم ورضاهم باعمالهم، ومن ذلک قوله «قُلْ قَدْ جاءَکُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِی بِالبَیِّناتِ وَبِالَّذِی قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ کُنْتُمْ صادِقِینَ» (3). وهذا ما أشار إلیه الإمام الصادق علیه السلام فی ذیل هذه الآیة أن اللّه إعتبر هؤلاء - ممن عاصر النبی صلی الله علیه و آله من الیهود - قتلة الأنبیاء السابقین رغم عدم ارتکابهم لجریمة القتل ولکن حیث کانوا علی عقیدة أولئک القتلة وراضین بفعلهم فقد عدهم قتلة» (4). وقد روی المحدث الکبیر عدّة روایات فی المجلد الحادی عشر من وسائل الشیعة بهذا المضمون فی کتاب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. (5)

ومن شأن هذا اللون من التفکیر أن یفتح أمامنا آفاقا واسعه ویجعلنا نقف علی مضمون الآیات والروایات ویساعدنا فی سلوک طریق الحق.

ص:328


1- 1) نهج البلاغة، الخطبة 201. [1]
2- 2) بحارالانوار 65 / 131. [2]
3- 3) سورة آل عمران / 183. [3]
4- 4) بحارالانوار 97 / 94. [4]
5- 5) وسائل الشیعة / 11، کتاب الأمر بالمعروف، الباب 5.

الخطبة الثالثة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

فی ذم أهل البصرة بعد وقعة الجمل.

«کُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْباعَ الْبَهِیمَةِ؛ رَغا فَأَجَبْتُمْ، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ. أَخْلاقُکُمْ دِقاقٌ، وَعَهْدُکُمْ شِقاقٌ، وَدِینُکُمْ نِفاقٌ، وَماؤُکُمْ زُعاقٌ، وَالْمُقِیمُ بَیْنَ أَظْهُرِکُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشّاخِصُ عَنْکُمْ مُتَدارَک بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ. کَأَنِّی بِمَسْجِدِکُمْ کَجُؤْجُؤِ سَفِینَةٍ قَدْ بَعَثَ اللّهُ عَلَیْها الْعَذابَ مِنْ فَوْقِها وَمِنْ تَحْتِها، وَغَرِقَ مَنْ فِی ضِمْنِها» . (1)

نظرة إلی الخطبة

الخطبة کبعض الخطب السابقة واللاحقة واردة بشأن موقعة الجمل، وقد ذم الإمام علی علیه السلام أهل البصرة الذین أسلسلوا قیادهم لطلحة والزبیر وفرقوا صفوف المسلمین، ثم توعدهم بعذاب اللّه سبحانه، لیعتبر من إعتبر فلا یقارف أعمالهم.

ص:329


1- 1) قال المرحوم المحقق الخوئی أنّ الإمام علیه السلام خطب هذه الخطبة بعد انتهاء معرکة الجمل، ورواها - مع بعض الاختلاف - المرحوم الطبرسی فی الاحتجاج وعلی بن إبراهیم القمی والمحدث البحرانی، کما نقلها - حسب کتاب مصادر نهج البلاغة - [1] عدد من العلماء من عاشوا قبل الشریف الرضی کالدینوری فی الأخبار الطوال والمسعودی فی مروج الذهب وابن قتیبة فی عیون الأخبار وابن عبد ربه فی العقد الفرید (مصادر نهج البلاغة 1 / 344) . [2]

الشرح والتفسیر

خصائص أهل الجمل

لقد أشار علیه السلام فی هذه الخطبة إلی الصفات الذمیمة التی إتصف بها مؤججی البصرة لیجمعها فی سبع صفات. فقد قال علیه السلام فی البدایة «کنتم جند المرأة» . صحیح أن مؤججی نار الجمل هما طلحة والزبیر، کما تشیر الشواهد التأریخیة إلی الدور المشبوه الذی لعبه معاویة فی هذا الشأن، ولکن الذی لاشک فیه أنّ حضور عائشة وکونها زوج النبی صلی الله علیه و آله کان الدافع الأعظم الذی ساق الناس لقتال الإمام علیه السلام والانخراط فی صفوف أصحاب الجمل، ولا سیما أن کنیتها بأم المؤمنین کان له أبلغ الأثر فی نخوة الناس للدفاع عن اُمهم، ومن هنا خاطب الإمام علیه السلام أهل البصرة. بجند المرأة. الصفة الثانیة لهم: «و اتباع البهیمة» ، ثم یوضح علیه السلام سبب استحقاقهم لهذه الصفة إثر تحزبهم واجابتهم حین کانت ترغی وهروبهم وتشتتهم حین عقرت «رغا (1)فاجبتم، وعقر (2)فهربتم» . فقد صرّح بعض المؤرخین أنّ جمل عائشة - فی معرکة الجمل - کان بمثابة رایة عسکر البصرة، حیث کان الجنود یلتفون حوله ویضربون دونه حتی قتلوا کما تقتل الرجال تحت رایاتها. وجاء فی بعض الروایات أن سبعین ألفاقد أخذوا بزمام الجمل وکانوا یقتلون الواحد تلو الآخر، وکان أکثر من إلتف حول الجمل والدفاع عنه من قبیلتی بنی ضبة والأزد، لقد کانت الرؤوس تندر عن الکواهل، والایدی تطیح من المعاصم وأفتاب البطن تند لق من الاجواف وهم حول الجمل کالجراد الثابتة لاتتحلحل ولا تتزلزل، حتی لقد صرخ علی علیه السلام بأعلی صوته: «ویلکم أعقروا الجمل، فانه شیطان» ثم قال: إعقروه والا فنیت العرب. لایزال السیف قائما وراکعا حتی یهوی هذا البصیر إلی الأرض، فعمدوا له حتی عقروه فسقط و له رغاء شدید، فلما برک کانت الهزیمة. کما ورد فی بعض الروایات أنّ أمیرالمؤمنین أمر بحرق الجمل وذر رماده فی الریاح وقال: لعنه اللّه من دابة ما أشبهه بعجل السامری، ثم تلی «وَانْظُرْ إِلی إِلهِکَ الَّذِی ظَلْتَ عَلَیْهِ عاکِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِی الیَمِّ نَسْفاً» (3)والطریف فی

ص:330


1- 1) «رغا» من مادة «رغاء» علی وزن دعاء صوت الجمل کما یطلق علی صوت الضبع أیضاً.
2- 2) «عقر» من مادة «عقر» علی وزن فقر بمعنی الأصل والجذر، وتعنی الجرح والقطع اِذا استعملت للناقة کما تأتی بمعنی الهلاک.
3- 3) سورة طه / 97. [1]

موقعة الجمل أن عائشة أخذت کفا من حصی، فحصبت به أصحاب الإمام علیه السلام وصاحت بأعلی صوتها: شاهت الوجوه کما صنع رسول اللّه صلی الله علیه و آله یوم بدر. فقال لها قائل: ومارمیت إذ رمیت ولکن الشیطان رمی. (1)فقد کان حصب رسول اللّه صلی الله علیه و آله للمشرکین أحد العوامل الاعجازیة التی أدت إلی إنهیار عسکر الکفر، بینما انتهت معرکة الجمل بهزیمة منکرة منی بها أعداء الإمام علیه السلام. أمّا الصفة الثالثة والرابعة والخامسة فهی تعالج أوضاعهم الأخلاقیة حیث قال علیه السلام: «أخلاقکم دقاق، وعهدکم شقاق، ودینکم نفاق» دقاق من مادة دقت بمعنی الدنیئة هنا، یصف بها أهل البصرة من عبدة الأهواء الذین نکثوا البیعة والتحقوا بصفوف الأعداء، أمّا نفاقهم فهو ناشئ من کون ظاهرهم هو الإسلام والدفاع عن زوج النبی صلی الله علیه و آله وباطنهم القیام ضد الحکومة الإسلامیة ووصی رسول اللّه صلی الله علیه و آله و التخندق فی صفوف أهل الشام. ثم أشار علیه السلام إلی صفتهم السادسة «و ماؤکم زعاق» . ومن المعلوم إن مثل هذا الماء وإضافة إلی ملوحته ومرارته فانه ینطوی علی کل عناصر التلوث بسبب مجاورته لشاطئ البحر؛ فهو مضر بالنسبة لسلامة البدن، وهو یا لتالی مضر بروح الإنسان وفکره بفعل الرابطة القائمة بین الروح والبدن. وعلیه فان ذم ماؤهم هو فی الواقع نوع ذم لأخلاقهم. ثم تطرق إلی صفتهم السابعة فقال: «و المقیم بین أظهرکم (2)مرتهن بذنبه والشاخص (3)عنکم متدارک برحمة من ربّه» . والعبارة إشارة إلی ما ورد فی عدّة روایات، ومنها الحدیث المعروف الذی نقله المرحوم الکلینی فی الکافی عن أبی الحسن الإمام الهادی علیه السلام حین قال لأحد أصحابه ویدعی جعفر: مالی أراک تغشی عبدالرحمن بن یعقوب (و کان منحرفاً فی عقائده) ، ألا تعلم أنّه ینسب اللّه إلی صفات المخلوقین ثم نصحه علیه السلام بترکهم ومجالسة أعدائهم أو العکس، فرد جعفر علی الإمام علیه السلام

ص:331


1- 1) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 1 / 252 - 266 [1] إلّاأنّه کتب حنین خطأ بدلاً من بدر.
2- 2) «بین أظهرکم» بمعنی بینکم، وأظهر جمع ظهر بمعنی الخلف وهو خلاف الباطن، ویستعمل هذا اللفظ للشخص الذی یعیش بین مجموعة تسانده و تحمیه، و أحیانا یستعمل هذا اللفظ للعیش فی مجموعة یؤیدونه ویحمونه أو لا یحمونه. «لسان العرب، منقول عن الکامل فی التاریخ أولا یحمونه. «لسان العرب، منقول عن الکامل فی التاریخ لابن الاثیر» .
3- 3) «شاخص» من مادة «شخص» بمعنی المرتفع واطلقت علی قامة الإنسان حین تلوح من بعید، ومن هنا اطلق علی الشخص المسافر اسم الشاخص، وقد وردت بهذا المعنی فی العبارة المذکورة.

فلیقل ما یقل فی إشارة إلی أنّه لا یتفق معه فی العقیدة فلا یضره. فقال علیه السلام: «أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصیبکم جمیعا» (1)ومن هنا وجبت الهجرة علی المسلمین فی صدر الإسلام حین عم الفساد کل شیء - ولا سیما الفساد العقائدی - ولم یسعهم القضاء علیه، بل کان یخشی تأثرهم به. وقوله علیه السلام: «مرتهن بذنبه» إشارة إلی أنّ الذنب یأسر الإنسان وکأنه یجعله رهینة فلا یطلقه، وهو مستوحی من قول القرآن الکریم «کل نفس بما کسبت رهینة» (2)والذی نخلص إلیه من هذه العبارة هو التأثیر الذی یلعبه المحیط والوسط علی أخلاق الناس، فاما یغیر هذا الإنسان المحیط الفاسد والملوت أو یهجره. ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی العذاب الدنیوی الذی ینتظر أهل البصرة فقال: «کانی بمسجدکم کجؤجؤ سفینة قد بعث اللّه علیها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من فی ضمنها» . وأمّا إخباره علیه السلام أنّ البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، «فقد رأیت من یذکر أن کتب الملاحم تدل علی أنّ البصرة تهلک بالماء الأسود ینفجر من أرضها، فتغرق ویبقی مسجدها. والصحیح أنّ المخبر به قد وقع، فان البصرة غرقت مرتین، مرة فی أیّام القادر باللّه (3)ومرة فی أیام القائم بأمر اللّه (4)غرقت بأجمعها ولم یبق منها إلّامسجدها الجامع بارزاً بعضه کجؤجؤ الطائر، حسب ما أخیر به أمیرالمؤمنین علیه السلام، جاءها الماء من بحر فارس (5)من جهة الموضع المعروف الآن بجزیرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخربت دورها وغرق کل ما فی ضمنها، وهلک کثیر من أهلها» (6)أخبارهاتین الحادتثین معروفة عند أهل البصرة یتناقله خلفهم عن سلفهم.

ثم نقل السید الرضی آخر هذه الخطبة ثلاث روایات بشأن العبارات الواردة فی آخرها:

الروایة الاولی: «و آیم اللّه لتغرقن بلدتکم حتی کأنی انظر إلی مسجدها کجؤجؤ سفینة أو نعامة جاثمة» .

ص:332


1- 1) اصول الکافی 2 / 375، باب مجالسة أهل المعاصی، [1] وقد وردت فی هذا الباب عدّة روایات بهذا المضمون.
2- 2) سورة المدثر / 38. [2]
3- 3) الذی تولی الخلافة عام 381 ه (الکامل فی التأریخ 1/80) . [3]
4- 4) «القائم بأمر الله» ، من خلفاء الدولة العباسیة، اصبح خلیفة عام 422 هجری «الکامل فی التاریخ 9/417» . [4]
5- 5) من النقاط التی تسترعی الانتباه إن إبن أبی الحدید کان من الذین عاشوا فی القرن السابع الهجری وکان یُطلق علی الخلیج الفارسی اسم «بحر الفرس» .
6- 6) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 253. [5]

الروایة الثانیة: «کجؤجؤ طیر فی لجة بحر» .

الروایة الثالثة: «بلادکم أنتن بلاد اللّه تربة: أقربها من الماء، وأبعدها من السماء، وبها تسعةأعشار الشر، المحتبس فیها بذنبه، والخارج بعفو اللّه. کأنّی أنظر إلی قریتکم هذه قد طبقها الماء، حتی ما یری منها الاشرف المسجد، کانه جؤجؤ طیر فی لجة بحر» .

لابدّ من الالتفات إلی عدم وجود تفاوت یذکر بین ماورد فی الخطبة المذکورة والروایة الاولی. فکلاهما قد استهلت بالقسم وتحدثتا علانیة عن غرق هذه المدینة، ثم اضافت تشبیه آخر لماورد سابقاً بشأن المسجد بالقول «و ایم اللّه لتغرقن بلد تکم حتی کانّی انظر إلی مسجدها کجؤجؤ سفینة أو نعامة جاثمة» (1).

أمّا فی الروایة الثانیة فهناک تفاوت طفیف جداً حیث استبدل تشبیه جؤجؤ السفینه بقولها «کجؤجؤ طیر فی لجة (2)بحر» .

بینما هنالک تفاوت کبیر بین الخطبة الثالثة والخطبة الأصلیة. فقد أشیر فی هذه الروایة إلی ثلاث اُمور فی ذم أهل البصرة «بلادکم أنتن بلاد اللّه تربة اقربها من الماء، وأبعدها من السماء» والصفة الثانیة «و بها تسعة أعشار الشر» ولعل هذا الأمر ینبع من الخصائص الأخلافیة لناس تلک المنطقة أو بسبب کونها میناءاً یکون مرکزاً لتردد مختلف الأفراد وهجوم الثقافات الأجنبیة والتلوث الخلقی الذی یفرض علیها من الخارج. ولذلک کانت هذه المنطقة مسرحاً للأحداث الألیمة للقرون الإسلامیة الاولی. أمّا الصفة الثالثة فهی «المحتبس فیها بذنبه، الخارج بعفو اللّه» . (3)ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی شبیه ماورد فی الروایات المذکورة بقوله:

ص:333


1- 1) «جاثمة» من مادة «جثوم» بمعنی الجمع والجثم بالصدر علی الأرض، وتطلق هذه المفردة علی الأفراد الذین یخلدون إلی الأرض ولیس لهم من حرکة سوی الکسل والنعاس.
2- 2) «لجة» بمعنی الموجة والماء الواسع العمیق، وتعنی فی الأصل ذهاب وایاب الشیء ومن هنا یطلق لجة علی البحر المائج، کما یطلق اللجوح علی الأفراد الذین یصرون علی شیء، کما تطلق علی موج البحر.
3- 3) هذا التفسیر یصدق فی حال کون الباء فی «بذنبه» والباء فی «بعفوالله» باء السببیة، ولکن اذا کانت الباء للالصاق فیکون مفهوم الجملة: الشخص الذی تلوث وابتلی بالذنوب، وبقی بعیداً عن الناجین، ولکن العفو الالهی یشمل هذا الشخص فیصبح من الناجین. لکن المعنی الأول هو الارجح طبق المقاییس الأدبیة.

«کانّی انظر إلی قریتکم هذه قد طبقها الماء، حتی ما یری منها الاشرف (1)المسجد، کانه جؤجؤ طیر فی لجة بحر» . ویبدو أن اختلاف العبارات یستند إلی رواة الحدیث الذین قد نقلوا بعضها من حیث المعنی، أو أنّهم أخطأوا فی تدوین الحدیث، ویبعد الاحتمال علی أنّ الإمام علیه السلام قد کرر هذا الکلام فی أکثر من موضع وقال فیه ما یناسبه.

تأمّلات

1 - نبوءة النبی صلی الله علیه و آله بشأن موقعة الجمل

الجدیر بالذکر أن عدة روایات صرحت بإخبار النبی صلی الله علیه و آله عن یوم الجمل وخروج عائشة وتحذیره لها. ومن ذلک لما عزمت عائشة علی الخروج إلی البصرة طلبوا لها بعیراً أیّداً یحمل هَوْدَجها، فجاءهم یعلَی بن أمیة ببعیره المسمی عَسْکراً، وکان عظیم الخلق شدیداً، فلما رأتْه أعجبها، وأنشأ الجمَّال یحدّثها بقوته وشدته، ویقول فی أثناء کلامه: «عسکر» ، فلما سمعت هذه اللفظة، واسترجعتْ، وقالت: ردّوه لا حاجة لی فیه، وذکرت حیث سئلت أن رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله ذکر لها هذا الاسم، ونهاها عن رکوبه، وأمرَت أن یطلب لها غیرهُ فلم یوجد لها ما یشبهه، فغیِّر لها بجلال غیر جلاله، وقیل لها: قد أصبْنا لک أعظم منه خلقا، وأشدّ قوة، وأتیتْ به فرضیت.

وأرسلت إلی حفصة تسألها الخروج والمسیر معها، فبلغ ذلک عبداللّه بن عمر، فأنّی أخته فعزم علیها فأقامت وحطَّتِ الرّحال بعد ما همّت.

کتب الأشتر من المدینة إلی عائشة وهی بمکة، أمّا بعد: فإنّک ظعینة رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، وقد أمرک أن تقرِّی فی بیتک، فإنْ فعلتِ فهو خیر لک، فإن أبیتِ إلّاأن تأخذی مِنْسأتک، وتُلقی جلبابک، وتبدی للناس شعیراتک، قاتلتک حتی أردک إلی بیتک، والموضع الذی یرضاه لک ربّک.

فکتبت إلیه فی الجواب: أمّا بعد، فإنّک أول العرب شَبّ الفتنة، ودعا إلی الفرقة وخالف

ص:334


1- 1) «شرف» علی وزن هدف بمعنی الموضع المرتفع.

الأئمة، وسعی فی قتل الخلیفة، وقد علمت أنّک لن تعجز اللّه حتی یصیبک منه بنقمة ینتصر بها منک للخلیفة المظلوم، وقد جاءنی کتابُک، وفهمت ما فیه؛ وسیکفینیک اللّه؛ وکلّ من أصبح مماثلاً لک فی ضلالک وغیّک، إن شاء اللّه.

وقال أبومحنف: لما انتهت عائشة فی مسیرها إلی الحوأب، وهو ماء لبنی عامر بن صعصعة، نبحتها الکلاب؛ حتی نفرت صِعاب إبلها، فقال قائل من أصحابها: ألا ترون، ما أکثر کلاب الحوأب، وما أشد نُباحها! فأمسکت زمام بعیرها، وقالت: وإنّها لکلاب الحوأب! ردّونی ردّونی؛ فإنی سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه یقول. . . وذکرت الخبر، فقال لها قائل: مهلاً یرحمک اللّه! فقد جُزْنا ماء الحوأب؛ فقالت: فهل من شاهد؟ فلفّقوا لها خمسین أعرابیاً، جعلوا لهم جُعْلا، فحلفوا لها: إن هذا لیس بماء الحوأب، فسارت لوجهها. (1)

والعجیب أن مثل هذه الروایات کانت سببا لتردد عائشة، بینما لم تکن کل تلک الروایات الصحاح عن رسول الله صلی الله علیه و آله وقد روت أکثرها سببا لترددها وإنصرافها. وهذا لعمری من العجائب. کما یفهم من هذه الحکایات أنها سرعان ما کانت تخدع وتغیر رأیها.

2- ذم أهل البصرة

ما ورد من ذم للبصرة فی الخطبة المذکورة یتعلق بعضه بتأثیر المناخ وموقع المدینة وأوضاعها الإجتماعیة (حیث کانت میناءا وموضعا لإستقطاب أنواع الثقافات والأفکار والأخلاق الملوثة والتی کانت هناک ومازالت فی مثیلاتها) إلا أنّ البعض الآخر یرتبط بروحیة وصفات سکنتها، والذی لا یلزم أن یکون کذلک فی کل عصر ومصر، بل هو إشارة لاولئک الناس فی ذلک العصر والزمان والذین کانوا یستسلمون لمحظطات طلحة والزبیر القبیحة فینقضوا البیعة ویریقوا تلک الدماء. وعلیه فلا منع من أن یسود تلک المنطقة الأخیار فی سائر العصور. ولذلک وردت بعض الأخیار التی تقید مدح هذه المنطقة، ومن ذلک ما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام حین إخباره منه. . . فقرّاؤهم أفضل القرّاء وزهّادهم أفضل الزّهاد وعیّادهم

ص:335


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 6/225. [1]

أفضل العبّاد وتجارهم أصدق التجار. . . ونساؤهم خیر النساء. (1)

فلا منافاة أبدا أن یجد قوم ویجتهدوا فی طریق تهذیب النفس وتزکیتها فیتطهروا من الرذائل الأخلاقیة وینطلقوا صوب السمو والکمال، سیما إن کانت رذائلهم الأخلاقیة من قبیل معرکة الجمل وما ترتب علیها من نتائج هزّتهم وأعادتهم إلی رشدهم.

3 - المحیط والاخلاق

تتضح مسألتان من عبارات الإمام علیه السلام فی هذه الخطبة:

الاولی الأثر الذی بلعبه المحیط الطبیعی والجغرافی فی خلق ومزاج الإنسان، حیث قال علیه السلام: «ماؤکم زعاق. . . بلادکم انتن بلاداللّه تربة أقربها من الماء واَبعدها من السماء» . والاُخری تأثیر المحیط الاجتماعی فی أخلاق الناس: «و المقیم بین أظهرکم مرتهن بذنبه» .

ولکن من المسلم به أنّ هذا التأثیر یقتصر علی تمهید السبیل وتوفیر الأرضیة ولا یرقی لأن یکون علة تامة قط؛ ولذلک هناک الأفراد الأخیار الذین یعیشون فی هذه الأوساط. بل علی العکس فهنا لک الأفراد المعروفون بالفساد والانحراف والسیرة الخبیثة والشریرة وهم یعیشون فی المناطق التی تتمتع بالمناخ المناسب من أجل تعالی الأخلاق وبلورة المزاج.

ص:336


1- 1) بحارالأنوار 32 / 256 (مضمون الروایة) .

الخطبة الرابعة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام فی مثل ذلک

«أَرْضُکُمْ قَرِیبَةٌ مِنَ الْماءِ، بَعِیدَةٌ مِنَ السَّماءِ، خَفَّتْ عُقُولُکُمْ، وَسَفِهَتْ حُلُومُکُمْ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ، وَأُکْلَةٌ لِآکِلٍ، وَفَرِیسَةٌ لِصَائِلٍ» . (1)

نظرة إلی الخطبة

هذه خطبة اُخری أوردها الإمام علیه السلام بعد الجمل ولعلها تشکل مع سابقتها خطبة واحدة ثم فصلها الشریف الرضی رحمه الله. علی کل حال فانّ الإمام علیه السلام یعرض بالذم ثانیة لأهل البصرة ویتحدث عن خوائهم الفکری الذی جعلهم یتحولون إلی إلعوبة بید المنافقین من اَصحاب المطامع، وأخیراً یحذرهم علیه السلام من مغبة مواصلة هذا الطریق الضال.

الشرح والتفسیر

ذم أهل البصرة ثانیة

کما أشرنا سابقاً فان هذا الکلام هو قسم آخر من تلک الخطبة التی أوردها الإمام علیه السلام فی ذم

ص:337


1- 1) جاء فی مصادر نهج البلاغة [1]أن المرحوم الشیخ المفید تقل فی کتاب الجمل / 217 [2] عن الواقدی أنّ علیاً علیه السلام حین انتصر فی المعرکة ووزع الغنائم علی الجنود ألقی هذه الخطبة: کما وردت مع إختلاف طفیف فی کتاب الأخبار الطوال لأبی حنیفة الدینوری وکتاب عیون الأخبار لابن قتیبة (مصادر نهج البلاغة، 1 / 348) . [3]

أهل البصرة بعد موقعة الجمل حیث ضمته علیه السلام سبع صفات قبیحة إتصفوا بها. فقد وصفهم فی العبارة الاولی والثانیة «أرضکم قریبة من الماء، بعیدة من السماء» . یمکن أن تکون العبارتان إشارة إلی الجوانب المادیة فی أنّ هذه المنطقة قریبة من ماء البحر والشط وهی بعیدة عن السماء، أو إشارة إلی الجوانب المعنویة کأن یکون المراد أن أرض قلوبکم ورغم قربها من ماء الحیاة بفعل وجود الإمام، إلّاأنّها بعیدة عن سماء رحمة اللّه ومغفرته. أو أن تکون هذه العبارة واردة فی المسائل المادیة والعبارة الاُخری فی المسائل المعنویة هناک نقاش وبحث بین الشرّاح فی هذا الشأن، غیر أنّ ظاهر العبارة - بالالتفات إلی المعنی الحقیقی للأرض والسماء - فانّ المراد المعنی الأول، فلیس هنالک من خلاف فی أنّ أرضهم قریبة من الماء ولها المشاکل التی تنطوی علیها الحیاة عند ساحل البحر، ولا سیما البصرة التی یمر بها ذلک الشط الکبیر ویصب فی البحر ممّا یجعلها عرضة لظاهرة المد والجزر؛ أمّا کیفیة إبتعادها عن السماء، فقد ذکر بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ أرباب علم الهیئة وصناعة التنجیم یذکرون أن أبعد موضع فی الأرض عن السماء «الابلة» وذلک موافق لقوله علیه السلام - ومعنی البعد عن السماء ها هنا هو بعد تلک الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع، والبلاد تختلف فی ذلک. وقد دلت الارصاد والآلات النجومیة علی أنّ أبعد موضع فی المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الابلة والابلة هی قصبة البصرة. وهذا الموضع من خصائص أمیرالمؤمنین علیه السلام لأنّه أخبر عن أمر لاتعرفه العرب، لاتهتدی إلیه، وهو مخصوص بالمدققین من الحکماء، وهذا من أسراره وغرائبه البدیعة.

ولکن لایبدو هذا الکلام مقبولا لدی العلماء المعاصرین، لأن البصرة کسائر الموانئ العالمیة المساویة لسطح ماء البحر، ونعلم أنّ میاه بحیرات العالم متصلة مع بعضها وتقع فی مستوی واحد؛ والحال هنالک عدّة مناطق علی سطح الکرة الأرضیة وهی أوطئ من سطح البحار. لکن یحتمل ألا تکون المقارنة بالنسبة لجمیع المناطق علی سطح الکرة الأرضیة، بل مع بعض البلدان والمناطق الإسلامیة المتعارفة آنذاک.

ثم قال علیه السلام فی العبارة الثالثة والرابعة «خفت عقولکم، وسفهت حلومکم» والدلیل الواضح علی هذا ما أورده الإمام علیه السلام فی الخطب السابقة من انقیادهم السهل واستسلامهم لأهواء

ص:338

طلحة والزبیر وتقدیمهم التضحیات الجسام ذودا عن جمل عائشة وبالتالی هزیمتهم وفضیحتهم المنکرة التی جرت علیهم الندم والحسرة. عقول جمع عقل وحلوم جمع حلم، ویبدو أن (الحُلُم والحِلم) من آثار العقل بعبارة اُخری فانّ العقل هو القوة المدرکة لدی الإنسان والفکر واعلم واجالة الرأی فی الأعمال من نتائجه، ولما کانت عقول أهل البصرة خفیفة فانّ أفکارهم کانت ضعیفة تثار بسرعة إثر الدعایات السیئة التی یمارسها ذوی الأهواء والمطامع. ومن هنا قال الإمام علیه السلام فی العبارة الخامسة والسادسة والسابعة: «فأنتم غرض (1)لنا بل (2)، واُکلة لأکل، وفریسة (3)لصائل (4)» .

و من البد یهی أن یقع الأفراد السذج من ذوی الأفکار السطحیة الهشة لقمة سائغة فی شباک صیادی الدین والإیمان والمتعطشین إلی الشراء والمال والجاه والمنصب؛ ومن هنا فانّ العنصر الذی یمکنه ضمان المجتمعات الإنسانیة إزاء هؤلاء المکرة المخادعین، إنّما یکمن فی رفع المستوی الثقافی لدی الرأی العام وایقاف الاُمّة علی مختلف القضایا الاجتماعیة والسیاسیة؛ الأمر الذی أکده الإسلام، وهذا هو أحد الأهداف التی تستبطنها خطب صلاة الجمعة. فلو إستدرک أهل البصرة وعادوا إلی أنفسهم وأفکارهم وألموا بشرائط الزمان والمکان لما أصبحوا العوبة بید طلحة والزبیر الذین نقضنا بیعة الإمام علیه السلام وتظاهرا علیه وألبوا الناس علی قتاله فسالت تلک الدماء وحتی إنتهی الأمر إلی قتلهما. والسؤال المطروح هنا: هل هناک معنی واحد للعبارات الثلاث «فأنتم غرض لنابل» «و اکلة لآکل» «و فریسة لصائل» أم لها معانی متعددة؟ لایبعد أن تکون کل عبارة إشارة إلی جانب من جوانب المسألة. فالعبارة الاولی تبیّن الاستهداف من بعید فی أنّ الساسة یسعون لرمیکم بسهامکم وایقاعکم فی شباکهم ولو من بعید. والعبارة الثالثة تبیّن هذا الاستهداف من قریب بینما تبین العبارة الثانیة النتیجة

ص:339


1- 1) «غرض» بمعنی الهدف وهو ما ینصب لیرمی بالسهام، ثم اطلق علی کل هدف، کما ذکر له معان اُخری من قبیل الملل والشوق.
2- 2) «نابل» من مادة «نبل» بمعنی الضارب بالنبل.
3- 3) «فریسة» من مادة «فرس» علی وزن فرض بمعنی الضرب، ولما کان الحیوان الوحشی یضرب فریسة بالأرض اِطلق علیه المفترس، کما اطلق اسم الفرس علی الحصان لضربه الأرض برجله.
4- 4) «صائل» من مادة «صول» و «صولة» بمعنی الحملة والقهر والغلبة.

النهائیة لهذا الاستهداف والصید. وهنا لابدّ من الالتفات إلی أنّ هذا الذم إنّما یرد بشأن اُولئک الذین أصبحوا آلة رخیصة بید المنافقین، وإلّا فالبصرة آنداک وما تبعه من أزمان قد حفلت بالأفراد الأخیار الذین أثنی علیهم الإمام علیه السلام کما ورد فی شرح الخطبة السابقة.

ص:340

الخطبة الخامسة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

فیما رده علی المسلمین من قطائع (1)عثمان

«وَاللّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ وَمُلِک بِهِ الْإِماءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِی الْعَدْلِ سَعَةً. وَمَنْ ضاقَ عَلَیْهِ الْعَدْلُ فالْجَوْرُ عَلَیْهِ أَضْیَقُ» . (2)

نظرة إلی الخطبة

هذه من الخطب التی أوردها الإمام علیه السلام بعد أن بایعه الناس فی المدینة حیث توعد فیها کافة الأفراد الذین تطاولوا علی بیت المال إبان عهد عثمان إلی جانب بطانته وقرابته ممن حذا حذوهم، ویطالبهم باعادتها إلی بیت المال وإلّا سیقف بوجههم بکل قوة. وهکذا یضع الإمام علیه السلام حداً لأطماع الطامعین، ثم یختتمها بعبارات قصیرة بعیدة المعنی بشأن العدالة وقیمتها فی المجتمع.

ص:341


1- 1) «القطائع» ما یقطعه الإمام بعض الرعیة من أرض بیت المال ذات الخراج، ویسقط عنه خراجه، ویجعل علیه ضریبة یسیرة عوضا عن الخراج، وقد کان عثمان أقطع کثیراً من بنی اُمیة وغیر هم من أولیائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج علی هذه الصورة، وقد کان عمر أقطع قطائع، ولکن لأرباب الغناء فی الحرب والآثار المشهورة فی الجهاد؛ عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه ومیلا إلی أصحابه من غیر عناء فی الحرب ولا أثر.
2- 2) جاء فی مصادر نهج البلاغة [1]أن هذه الخطبة قد ذکرت فی کتاب الاوائل لأبی هلال العسکری وکذلک کتاب دعائم الإسلام للقاضی النعمان المصری وإثبات الوصیة للمسعودی مع بعض الاختلاف (مصادر نهج البلاغة 1 / 350) . [2]

الشرح والتفسیر

القسم علی إعادة الأموال المغصوبة

کما یفهم من مضمون الخطبة فانّها وردت فی بدایة الخلافة الظاهریة لأمیرالمؤمنین علی علیه السلام. وقال ابن أبی الحدید إنّ هذه الخطبة ذکرها الکلبی مرویة مرفوعة إلی أبی صالح عن ابن عباس رحمه الله أنّ علیاً علیه السلام خطبها فی الیوم الثانی من بیعته بالمدینة. والحق أنّ هذه الکلمات کانت کالماء البارد الذی سکب علی ألسنة اللهب والنار المتقدة فی صدور الاُمّة؛ فقد سادت السکینة والهدوء قلوب أولئک الذین کانوا یأنون من إنعدام العدالة علی زمن عثمان إلی جانب اُولئک الذین شعروا بها جس القلق علی النظام الإسلامی وقوانینه الحقة، فاستبشروا بعودة الإسلام الأصیل والحکومة الإسلامیة التی کانت تتطلع لها الفطرة الإسلامیة، ولولا هذه السیاسة التی أعلنها الإمام علیه السلام بهذه العبارات لما هدأت المدینة ولتکررت هجمات أبناء الاُمّة علی دار عثمان ولسفکت الدماء واهدرت الأموال. فقد إستهل الإمام علیه السلام کلامه بالقسم بارجاع کافة الأموال التی نهبت من بیت المال مهما فعل بها «و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء، ملک به الاماء، لرددته» . ثم أضاف علیه السلام مذکرا بأنّ إجراء العدالة قد یثیر غضب البعض إلّا أنّ ذلک خطأ فادح، لأن العدل أساس راحة المجتمع ومن ضاق صدره من العدل فانّه سیکون أضیق إذا ماساد الجور والظلم «فان فی العدل سعة ومن ضاق علیه العدل، فالجور علیه أضیق» . فقد بیّن الإمام علیه السلام فی البدایة عزمه الراسخ علی إعادة الأموال التی اُخذت ظلماً وعدواناً من بیت المال وإن تزوج بتلک الأموال أو تملک بها الإماء، فلابدّ أن تعاد إلی بیت مال المسلمین، لتعلم الاُمّة بأنّ القانون الذی سادها سابقاً لم یکن قانون الإسلام فهو لیس النموذج الإسلامی الذی یحتذی به فی المسیرة السیاسیة. ثم عزز هذا العزم بالمنطق والدلیل «فانّ فی العدل سعة» . و أخیراً یعرض بالنصح لاُولئک الذین مد أیدیهم إلی بیت المال وظنوا بأنّ عزم الإمام علیه السلام هذا سیتضمن ضررهم، فی أنّ الأمر بالعکس سیکون بنفعهم؛ لأن من ضاق علیه العدل فالظلم علیه أضیق، فالعدالة تمنحه الأموال الحلال ولا تسلبه سوی الأموال المحرمة اللامشروعة، ولکن إذا لم یستجب للعدل وعاش الظلم والجور، فانّه سیخاطر بجمیع أمواله المحللة منهاالمحرمة. صحیح أنّ الظلم ممکن أن یجر نفعاً علی الظالم خلال مدّة قصیرة، إلّاأنّه

ص:342

لیس کذلک علی المدی البعید، وقد أثبت التأریخ کیفیة تحطم الظلمة بنفس هذه القوانین الظالمة التی شرعوها وفرضوها علی الناس بقوة الحدید والنار؛ حتی خانهم أقرب مقربیهم وطعنوهم من خلفهم. قال الکلبی: ثم أمر علیه السلام بکل سلاح وجد لعثمان فی داره؛ تقوی به علی المسلمین فقبض، و أمر بقبض نجائب کانت فی داره من إبل الصدقة، فقبضت، وأمر بقبض سیفه ودرعه، وأمر ألا یعرض لسلاح وجد له لم یقاتل به المسلمین، وبالکف عن جمیع أمواله التی وجدت فی داره وفی غیر داره، وأمر أن ترتجع الأموال التی أجاز بها عثمان حیث اُصیبت أو أصیب أصحابها. فبلغ ذلک عمرو بن العاص، وکان بأیلة من أرض الشام، أتاها حیث وثب الناس علی عثمان، فنزلها فکتب إلی معاویة: ما کنت صانع فاصنع، إذ قشرک ابن أبی طالب من کل مال تملکه کما تقشر عن العصا لحاها. هذا وقد إختلفت أقوال المفسرین وشرّاح نهج البلاغة بشأن مراده بقوله «من ضاق علیه العدل فالجور علیه أضیق» وأحد التفاسیر هو ما ذکرناه سابقاً. التفسیر الآخر هو أن بسط العدالة فیه رضی اللّه وخلقه والانسجام مع نظام الوجود، بینما یوجب الظلم غضب اللّه وخلقه ویؤدی إلی ضیق الدنیا والآخرة. وتفسیر آخر هو أنّ سلب الإنسان شیء بالعدل قد یشق علیه، إلّاأنّ سلبه ظلماً سیکون علیه أشق وأصعب. وأخیراً أنّ الوالی إذا ضاقت علیه تدبیرات اُموره فی مظنة أن یمنع ویصد عن جوره. وإذا لم یطق الإنسان العدل والانصاف فأنّی له بتحمل الظلم والجور. ولانری من ضیر فی جمع کل هذه التفاسیر کمراد لمفهوم تلک العبارة.

تأمّلات

1 - معطیات العدالة فی المجتمعات البشریة

لقد ورد التأکید کراراً فی نهج البلاغة علی مسألة العدل والانصاف، بل المعروف أنّ الإمام علی علیه السلام من کبار باسطی العدل فی المجتمع الإنسانی، حتی أسماه المفکر المسیحی المشهور جورج جرداق الإمام علی صوت العدالة الإنسانیة. وقد تظافرت الروایات الإسلامیة - وعلی غرار کلمات الإمام علی علیه السلام فی نهج البلاغة - الواردة بهذا الشأن وبعبارات غایة فی الروعة واللطافة، منها ما ورد عن الإمام السجاد علی بن الحسین علیه السلام أنّه قال: «العدل أحلی من

ص:343

الماء یصیبه الظمآن» (1). وعن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «العدل أحلی من الشهد وألین من الزبد وأطیب ریحاً من المسک» (2). وقال أمیر المؤمنین علی علیه السلام: «العدل أساس به قوام العالم» (3)، کما قال علیه السلام: «ما عمرت البلدان بمثل العدل» (4). فالحق أنّ أساس العالم قد شید علی العدل، والعدل بمفهومه الجامع یعنی وضع الأشیاء فی مواضعها، فالسماء والأرض والمجرات والمنظومات الشمسیة إنّما تتحرک حسب القانون والنظام والمواضع المخصصة لها، کما أن الالکترونات والبروتونات وسائر أجزاء الذرة ومداراتها إنّما تتحرک هی الاُخری ضمن مواقعها المحددة لها. وإنّ أدنی خروج عن حالة الاعتدال والاتزان فی بنیة الإنسان أو أی من أجهزته فان ذلک سیؤدی إلی مرضه أو موته، وهذا ما یصدق تماماً علی عالم الحیوان والنبات، وقد أثبت العلماء أن استقرار الحیاة علی وجه الکرة الأرضیة إنّما هو نتیجة لمجموعة معقدة من الأنظمة التی تحکمها بحیث تضعف هذه الحیاة وربما تضمحل وتنهار إذا ما تغیرت هذه الأنظمة، وهذا ما أشار إلیه الحدیث النبوی المعروف «بالعدل قامت السموات والأرض» (5). وهنا نتساءل هل یسع الإنسان الذی یعدّ جزءاً صغیراً من هذا العالم العملاق أن یمارس حیاته بعیداً عن النظام والعدالة؟ وهل یسعه أن ینشق عن هذه المسیرة ویواصل حیاته بمعزل عن الآخرین؟ نعم قد یستطیع الظلم تلبیة مصالح فرد أو بلد خلال مدّة قصیرة، إلّاأنّ آثاره الممیتة علی المدی البعید لیست بخافیة علی أحد.

2 - اسراف عثمان

ورد فی التواریخ أنّه أعاد الحکم بن أبی العاص، بعد أن کان رسول اللّه صلی الله علیه وآله، قد سَیَّره ثم لم یرده أبوبکر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم.

وأقطع مروان فدک، وقد کانت فاطمة علیها السلام طلبتْها بعد وفاة أبیها صلوات اللّه

ص:344


1- 1) بحار الأنوار 72 / 36. [1]
2- 2) بحار الأنوار 72 / 39. [2]
3- 3) بحار الأنوار 75 / 83. [3]
4- 4) مستدرک الوسائل 11 / 320. [4]
5- 5) تفسیر الصافی، سورة الرحمن / 7.

علیه، تارةً بالمیراث، وتارة بالنِّحْلة فدُفِعت عنها.

وأعطی عبدالله بن أبی سرْح جمیع ما جمیع ما أفاء الله علیه من فتح إفریقیّة بالمغرب؛ وهی من طرابلس الغرب إلی طنجة من غیر أنْ یَشْرَکه فیه أحد من المسلمین.

وأعطی أباسفیان بن حرب مائتی ألف من بیت المال، فی المال، فی الیوم الذی أمر فیه لمروان بن الحکم بمائة ألف من بیت المال، وقد کان زوّجه ابنته أم أبان، فجاء زید بن أرقم صاحب بیت المال بالمفاتیح، فوضعها بین یدی عثمان وبکی فقال عثمان: أتبکی أن وصلت رحمی! وأتاه أبو موسی بأموال من العراق جلیلة، فقسَّمها کلَّها فی بنی أمیّة. وأنکح الحارث ابن الحکم ابنته عائشة، فأعطاه مائة ألف من بیت المال أیضا بعد صَرْه زید بن أرقم عن خزنه.

وانضم إلی هذه الاُمور اُخری نقمها علیه المسلمون، کتسییر أبی ذر رحمه اللّه تعالی إلی الرّبذة؛ وضَرَب عبدالله بن مسعود حتی کسر أضلاعه، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طریقة عمر فی إقامة الحدود، وردّ المظالم، وکفّ الأیدی العادیة والانتصاب لسیاسة الرعیّة، وختم ذلک ما وجدوه من کتابه إلی معاویة یأمره فیه بقتل قوم من المسلمین. (1)

ومن هنا یتضح أمران: الأول: علة قیام الناس ضد عثمان، والثانی السبب الذی دفع ببعض الأفراد من قبیل طلحة والزبیر ومعاویة وسائر کبار مکة والمدینة. أو لایمکن خلاصة ذلک فیما ورد فی خطبته علیه السلام من قوله: «واللّه لو وجدته قد تزوج به النساء، وملک به الاماء، لرددته، فان فی العدل سعة - ومن ضاق علیه العدل، فالجور علیه أضیق» .

3 - الإجابة عن سؤال مهم

یتساءل البعض ألم یکن من الأفضل أن یتجاوز الإمام علیه السلام الماضی - عفا اللّه عمّا سلف - ویستأنف فی زمان خلافته مسیرة العدالة لیجتث جذور الحقد والبغضاء من صدور العناصر الانتهازیة والنفعیة؟ ویمکن العثور علی جواب هذا السؤال فی کلمات أمیر المؤمنین علیه السلام، فقد

ص:345


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 199. [1]

ورد فی بعض الروایات والقسم الآخر من هذه الخطبة أنّه قال علیه السلام: «الا أن کل قطیعة أقطعها عثمان وکل مال اعطاه من مال اللّه فهو مردود فی بیت المال فان الحق القدیم لا یبطله شیء ولو وجدته. . .» (1).

ومن البدیهی أنّ الناس لو رأوا ناهبی بیت المال یتقلبون فی البلاد بکل حریة ویسخرون عملیاً من جرحهم لمشاعر الآخرین وأنّ العدالة لیست بصدد الماضی فانّهم لن یطیقوا مثل هذه العدالة ولا یرونها تنسجم وأی منطق وعقل حیث ینعم لصوص الأمس بالحریة والراحة بینما لا تطال العدالة سوی لصوص الیوم؛ فهذا الازدواج من شأنه أن یدخل الیأس فی قلوب الناس من بسط العدالة. الفقه الإسلامی هو الآخر نص علی وجوب عودة الأموال المغصوبة إلی أصحابها ولیس هنالک من فارق بین الأمس والیوم، أمّا مسألة تقادم الزمان المطروحة هذا الیوم فبغض النظر عن اهمالها فی الفقه الإسلامی، فانّها إنّما ترتبط بالدعاوی لا بالأموال المغصوبة.

ص:346


1- 1) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 269. [1]

الخطبة السادسة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

لما بویع فی المدینة وفیها یخبر الناس بعلمه بما تؤول إلیه أحوالهم وفیها یقسمهم إلی اقسام

القسم الأول

اشارة

«ذِمَّتِی بِما أَقُولُ رَهِینَةٌ. وَأَنا بِهِ زَعِیمٌ إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمّا بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْمَثُلاتِ، حَجَزَتْهُ التَّقْوَی عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهاتِ أَلا وَإِنَّ بَلِیَّتَکُمْ قَدْ عادَتْ کَهَیْئَتِها یَوْمَ بَعَثَ اللّهُ نَبِیَّهُ صلی الله علیه و آله. وَالَّذِی بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَلَتُساطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ، حَتَّی یَعُودَ أَسْفَلُکُمْ أَعْلاکُمْ وَأَعْلاکُمْ، أَسْفَلَکُمْ وَلَیَسْبِقَنَّ سابِقُونَ کانُوا قَصَّرُوا، وَلَیُقَصِّرَنَّ سَبّاقُونَ کانُوا سَبَقُوا. وَاللّهِ ما کَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلا کَذَبْتُ کِذْبَةً وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذا الْمَقامِ وَهَذا الْیَوْمِ» . (1)

نظرة إلی الخطبة

الخطبة من اُولی خطبه علیه السلام بعد مقتل عثمان وتولیه علیه السلام الخلافة فی المدینة، ویبدو تفسیرها

ص:347


1- 1) لقد نقلت هذه الخطبة فی عدّة کتب منها: 1- الشیخ الطوسی، تلخیص الشافی 3 / 53، 2- الجاحظ، البیان والتبیین 3 / 44، 3- العقد الفرید 4 / 132، 4- إرشاد المفید، 5- کتاب الجمل، 6- عیون الأخبار، 7- المسعودی، اثبات الوصیة، 8- کنز العمال، 9- الکلینی، روضة الکافی / 67، 10- تاریخ الیعقوبی، ج 11- المجلسی، بحار الأنوار. [1]

سهلاً بالالتفات إلی موقعها وزمان صدورها، وهی تدور حول أربعة محاور:

المحور الأول: الفات انتباه الاُمّة إلی الامتحان الذی ستمر به وتشبیه ذلک الزمان بزمان رسول اللّه صلی الله علیه و آله واننهضته کنهضة النبی صلی الله علیه و آله التی طفرت بالاُمّة من عصر الجاهلیة والظلمة إلی عصر الهدایة والنور، وإن کان إحتمال هذه النهضة صعب ثقیل علی البعض وکون الامتحان شاق. فالانحرافات التی أعقبت رحیل النبی صلی الله علیه و آله والتی أدت إلی التمییز فی عطاء بیت المال وسلب ونهب ثروات الاُمّة واغداق المناصب الحساسة علی من تبقی من رجالات الجاهلیة إنّما تتطلب ثورة إصلاحیة قام بها الإمام علی علیه السلام. ثم یذکر الإمام علیه السلام الناس بضرورة العودة إلی الإسلام الأصیل والاعتبار بعاقبة ومصیر الأقوام الماضیة.

المحور الثانی: یقارن علیه السلام بین المعصیة والذنب والورع والتقوی ثم یبیّن کل منهما وکیف تصعب السیطرة علی المعاصی بینما یتیسر نهج التقوی ویحذر الاُمّة من المخاطر التی تتربص بمصیرها.

المحور الثالث: إشارة مقتضبة عمیقة المعنی لمسألة الحق والباطل محذراً الاُمّة من عدم الاستیحاش من الحق رغم قلة سالکیه والاستئناس بالباطل لکثرة سالکیه، والعمل بالحق الذی لا یقود سوی للغلبة والنصرة الإلهیة.

المحور الرابع: الذی یشمل سلسلة من النصائح والمواعظ التی تعدّ کل واحدة منها رکن مهم من الأرکان التی ینبغی الالتفات إلیها فی الحیاة من قبیل الوعظ بالابتعاد عن الإفراط والتفریط والتمسک بالقرآن والسنّة وضرورة معرفة الذات والدعوة إلی الآخاء والاتحاد وإصلاح ذات البین والتوبة من المعاصی والوثوق بأنّ البرکة والخیر منه سبحانه.

الشرح والتفسیر

الیقظة والوعی فی الامتحان

تعتبر هذه الخطبة - کما أشرنا سابقاً وعلی ضوء ما صرّح به بعض شرّاح نهج البلاغة مثل ابن أبی الحدید - من الخطب المهمّة التی أوردها علیه السلام لما تمت له البیعة بالخلافة، فحذر الاُمّة ممّا ینتظرها وأبان لها المخاطر والانحرافات التی تتربص بها.

ص:348

فقد قال بادئ ذی بدء: «ذمتی بما أقول رهینة وأنابه زعیم» (1)فی إشارة إلی صدق القول وحقانیته ووجود الضمانات القائمة علیه، ولذلک ینبغی علیکم تلقیه دون نقاش إلی جانب الالتزام به والعمل بمقتضاه. امّا المغزی الذی ینطوی علیه هذا التعبیر فإنّما یکمن فی إلفات نظر السامع إلی أهمیة وخطورة المضمون الذی یختزنه الکلام والتعامل مع أهدافه.

ثم خاض الإمام علیه السلام فی تفاصیل هذا المضمون فی أن من استشعر الورع والتقوی وخشی العواقب نأی بنفسه بعیداً عن الشبهات ومامن شأنه تعریضه لتلک العواقب «ان من صرّحت له العبر عمّا بین یدیه من المثلات (2)حجزته (3)التقوی عن تقحم الشبهات» . ارجعوا إلی التأریخ وتأملوا ما أصاب الأقوام الماضیة من عقوبات بفعل الانحراف عن الحق والتلوث بالمعاصی والذنوب واستفحال الهوی والشهوات وحب الذات! ارجعوا إلی زمان انبثاق الدعوة وقیام النبی صلی الله علیه و آله وتدارسوا المؤامرات التی حاکتها الأقوام الجاهلیة ضده ثم انظروا کیف کانت عواقبهم ومصائرهم لتتضح لکم معالم الطریق فتجوبوا الظلمة بنور التقوی والهدایة؛ الکهف الحصین الذی یأمنکم من الضربات الموجعة التی یمکن أن تسددها لکم النفس الامارة وتزینها الشیاطین. ثم یکشف الإمام علیه السلام النقاب عن الواقع الخطیر الذی یعیشونه ویطلعهم علی صعوبة الامتحان «ألا وإن بلیتکم قد عادت کهیئتها یوم بعث اللّه نبیه صلی الله علیه و آله» . اعلموا أنّ أمامکم امتحان لا ینحج فیه سوی من استشعر نفسه کمال التقوی والاخلاص. فالإمام علیه السلام یمیط اللثام عن هذه الحقیقة فی أنّ الاُمّة فی عصر الخلیفة الثالث ولا سیما أواخر عمره قد عاشت البذخ فی بیت المال والمناصب التی فوضت لغیر أهلها من الأفراد الصالحین والمفاسد التی اجتاحت المجتمع الإسلامی والاختلافات التی عصفت بوحدتها وکأنّها عادت القهقری إلی عهد الجاهلیة وکأن بیعته کبیعة رسول اللّه صلی الله علیه و آله التی تطالبه بنهضة تجدیدة کتلک التی أسسها النبی صلی الله علیه و آله؛ تلک النهضة المعطاء التی صهرت الاُمّة فی الإسلام الأصیل.

ص:349


1- 1) «زعیم» من مادة «زعم» بمعنی بیان الکلام الذی یحتمل فیه الخلاف، ثم أطلق الزعیم علی من یکفل شخصاً ویضمنه لأنّه یکون عرضة للتهمة، وقد جاءت هذه المفردة فی العبارة بمعنی الضامن والکفیل، کما یطلق الزعیم علی القائد الذی یتولی زمام الاُمور لأنّه یتکفل بالأعمال المهمّة.
2- 2) «مثلات» جمع «مثلة» علی وزن عضلة بمعنی مقارنة شیء بآخر، ثم اُطلقت علی العذاب الإلهی والعقوبة التی تحذر الإنسان من ارتکاب ما یوجبها.
3- 3) «حجز» من «حجز» علی وزن عجز بمعنی الحائل بین شیئین وقد وردت بهذا المعنی فی العبارة، فالتقوی تحول دون الوقوع فی الشبهات.

ومن الطبیعی أن تهب بعض الفئات التی تعرض مصالحهم اللامشروعة للخطر لابداء ردود الفعل واظهار المقاومة؛ الأمر الذی یعقد الامتحان بما یجعل الحاکم الخبیر کالإمام علی علیه السلام یوقظ الاُمّة وینبهها إلی الأخطار المتربصة بها وهنا لابدّ من الالتفات إلی أنّ البعض فسّر البلیة بالبلاء والمشاکل، فی حین نراها تعنی الامتحان والاختبار ویؤید ذلک سائر عباراته الواردة فی الخطبة. ثم خاض علیه السلام فی تفاصیل هذا الامتحان الإلهی الکبیر لیوضحه بمثالین، فقد ذکر أولاً «والذی بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة (1)ولتغربلن غربلة» (2)وهذه هی الطبیعة التی تسود کل نهضة ربانیة فی غربلة المجتمع حین تتویج مسیرتها بالنصر. فهناک إقصاء لأصحاب السطوة الخونة واستبدالهم بالمجموعة الصالحة المستضعفة، وهذا بعینه ما مارسه رسول اللّه صلی الله علیه و آله بعید انتصار ثورته المبارکة. فقد نحی أبو سفیان ومن لف لفه من طغمة الفساد لیفسح المجال لصهیب والخباب وبلال. أضف إلی ذلک فقد نحیت الشخصیات المستبدة التی استندت إلی منطق القوة علی عهد عثمان بعد بیعة أمیر المؤمنین علی علیه السلام لتخلفها القوی الشعبیة المخلصة.

وثانیاً «ولتساطن سوط (3)القدر حتی یعود أسفلکم أعلاکم، وأعلاکم أسفلکم» . نعم فطبیعة کل ثورة أن تضع فی النهضات الربانیة التی تنبثق فی المجتمعات الفاسدة فانّها تطیح بالمفسدین وترفع المستضعفین لیمارسوا دورهم فی السلطة.

ثم یواصل الإمام علیه السلام کلامه بالقول: «ولیسبقن سابقون کانوا قصروا، ولیقصرن سباقون کانوا سبقوا» والعبارة الثانیة إشارة إلی بعض الأفراد کطلحة والزبیر الذین کانا یوماً فی الصفوف الاولی بینما دفعتهم بعض العوامل للتراجع عن تلک الصفوف، بینما تشیر العبارة الاولی إلی بعض الأفراد کصحب الإمام علیه السلام وأتباعه الذین أصبحوا یوماً جلساء الدار، بینما سنحت لهم الفرصة علی عهد الإمام لیتقدموا ویسبقوا کما احتمل البعض أن یکون المراد المستقبل الذی سیشهد تردی الأوضاع فیتقدم بنو أمیة ویتصدرون الاُمور ویتأخر السابقون

ص:350


1- 1) «بلبلة،» ذکر أرباب اللغة عدّة معان لهذه المفردة منها الاختلاط وهذا هو المعنی المناسب لها فی هذه العبارة.
2- 2) «غربلة،» لها معنیان أحدهما فصل الخبیث من الطیب بالغربال (بکسر الغین وضمها) والآخر القطع والفصل.
3- 3) «سوط» أی کما تختلط الابزار ونحوها فی القدر عند غلیانه فینقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، وکل ذلک حکایة عمّا یؤولون إلیه من الاختلاف وتقطع الأرحام وفساد النظام.

فی الإسلام فتعود الجاهلیة بأقطابها لیتسلموا زمام الامور، ولکن لما کانت هذه الخطبة قد أوردت إثر مبایعة الإمام علیه السلام مباشرة فان المعنی الأول یبدو هو الأنسب. ثم یؤکد الإمام علیه السلام هذا الأمر بقسم آخر «واللّه ما کتمت وشمة (1)ولا کذبت کذبة، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا الیوم» .

وما کل هذه الاُمور إلّالیفیق الناس ولا یستسلمون للمؤامرات کمؤامرة الجمل وصفین والنهروان ویعلموا أنّهم أمام امتحان صعب فیلتفتوا إلی أنفسهم، إلّاأنّ المؤسف له هو أنّهم لم یعیروا نصح الإمام علیه السلام أیة آذان صاغیة ولم یتدبروا الأمر فکان من ذلک أن فشلوا فی الامتحان أیما فشل.

یبدو أنّ مراد الإمام علیه السلام من هذه العبارة هو المغیبات التی أطلعه علیها رسول اللّه صلی الله علیه و آله، وکما ذکرنا فی حینه - فی مبحث علم غیب النبی صلی الله علیه و آله والإمام - أنّ الأئمة المعصومین هم قادة الاُمّة علی مدی العصور والدهور ولا یمکن لهذه القیادة إلّاتنطوی علی علم الغیب والاحاطة بأسرار الماضی والمستقبل؛ وذلک لأنّ هناک رابطة وثیقة بین حوادث الیوم والأمس والغد، ومن هنا کانوا یطلعون أصحابهم علی جانب ممّا ینتظرهم فی المستقبل أو یعلنوا ذلک للناس لیکونوا أکثر حزماً ووعیاً فی التعامل مع الأحداث وینأوا بأنفسهم بعیداً عن حبال الشیطان وشراکه. وهذا ما نلمسه بوضوح کراراً ومراراً فی سیرة الإمام علی علیه السلام وکیف أنّه حذر الاُمّة ولفت انتباهها إلی الأخطار التی تتربص بها. ومن الطبیعی أن یتعظ البعض ویتمرد البعض الآخر.

تأمّلان

1 - التأریخ یعید نفسه

من المعروف أن الأحداث التأریخیة سلسلة من الوقائع المتکررة التی تتخذ أشکال مختلفة، ومن هنا فان الأفراد الذین یتأملون بعمق الماضی التأریخی یتمکنون من التعامل بمعرفة أفضل مع الحوادث الراهنة والآتیة، ومن هنا رأینا القرآن الکریم مشحوناً بقصص

ص:351


1- 1) «الوشمة» فی الأصل بمعنی الخال الذی یوخز بالابرة ثم یطلی بمادة ملونة تحت الجلد، کما أطلقت علی الأشیاء الصغیرة کقطرة ماء المطر أو الحدیث القصیر، وقد وردت هنا بالمعنی الأخیر.

الأنبیاء والأقوام السالفة التی تعکس بجلاء أحداث الیوم والمستقبل. الإمام علیه السلام - فی هذا المقطع من الخطبة - أشار إلی هذه النقطة المهمّة: «ان من صرّحت له العبر عمّا بین یدیه من المثلات، حجزته التقوی عن تقحم الشبهات» ثم قال علیه السلام: «الا وان بلیتکم قد عادت کهیئتها یوم بعث اللّه نبیه صلی الله علیه و آله» . ذات الفئات المناهضة للحق، والانحرافات والضلال والمؤامرات والفتن. فافیقوا وانطلقوا خلف إمامکم مخافة ان تضلوا - ولو أمعنا النظر وقارنا حوادث عصر الإمام علیه السلام بعصر النبی صلی الله علیه و آله لوجدنا شبهاً کبیراً، ولیس هذا إلّاأنّ المنافقین ومن تبقی من عصر الجاهلیة سعوا وبشتی الطرق للقضاء تدریجیاً علی تعالیم النبی صلی الله علیه و آله؛ ولا سیما أنّهم سعوا لاختراق مراکز القوة لممارسة دور أکبر فی تشویه الثقافة الإسلامیة واستبدالها بثقافة جاهلیة؛ الأمر الذی لمسنا آثاره بوضوح فی العصر الأموی.

فالحق أنّ بعض الظواهر الإسلامیة کانت قائمة فی عصر الخلیفة الثالث، إلّاأنّ هذه الظواهر لم یبقی منها إلّاقشورها فی العصر الاموی. علی غرار الشعائر الإسلامیة کالصوم والصلاة والحج التی کانت سائدة علی عهد بنی اُمیة ولکن أیة صلاة وصوم وحج؟ !

2 - بیان الحقیقة أم رعایة المصلحة

کثیر هم الذین یعتقدون بأنّ المصلحة تکمن فی کتمان الحقائق عن الناس، حذراً من ابداء ردود الفعل الطائشة، والحال لیست مصلحة الزعماء ومصالح عموم الاُمّة - باستثناء بعض الحالات الخاصة - سوی اطلاع الناس علی الحقائق وفسح المجال أمامهم لاقتحام المیدان عن علم ومعرفة. فالتعتیم الخبری وتغییب الاُمّة عن الأحداث یمثل الاسلوب الذی یعتمده الطغاة والجبابرة الذین لا یفکرون سوی فی تحقیق أطماعهم ومآربهم، علی العکس من الزعماء الربانیین وأئمة المسلمین الذین یکرسون جهودهم لنجاة الاُمّة من مشاکلها المادیة والمعنویة، فهم یسعون باخلاص لکشف الحقائق والواقعیات لأنّهم یستنصرون الاُمّة ویرومون دعمها واسنادها. والطریف فی الأمر أنّ الإمام علیه السلام لا یکتم الوقائع عن الاُمّة - کما ورد فی هذه الخطبة وسائر خطب نهج البلاغة - فحسب، بل یطلعها حتی علی الحوادث المستقبلیة التی سمعها من النبی الأکرم صلی الله علیه و آله فیقول لهم لا أبخل علیکم حتی بالأخبار عن الکلمة الواحدة التی من شأنها أن تنبهکم إلی الأخطار المحدقة بکم حرصاً علی عدم الاغترار بوساوس الشیطان والوقوع فی شباکه.

ص:352

القسم الثانی: الذنوب شماس کالخیل

«أَلا وَإِنَّ الْخَطایا خَیْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَیْها أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُها، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِی النّارِ، أَلا وَإِنَّ التَّقْوَی مَطایا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَیْها أَهْلُها وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ. حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِکُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْباطِلُ لَقَدِیماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّما وَلَعَلَّ، وَلَقَلَّما أَدْبَرَ شَیْءٌ فَأَقْبَلَ» .

قال السید الشریف: وأقول: إنّ فی هذا الکلام الأدنی من مواقع الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظ العجب منه أکثر من حظ العجب به. وفیه - مع الحال التی وصفنا - زوائد من الفصاحة لا یقوم بها لسان، ولا یطلع فجها إنسان، ولا یعرف ما أقول إلّامن ضرب فی هذه الصناعة بحق، وجری فیها علی عرق «وما یعقلها إلّاالعالمون» .

الشرح والتفسیر

یواصل الإمام علیه السلام البحث السابق بشأن الأوضاع المتأزمة بعد بیعة الإمام علیه السلام والتی تمثل ثورة تصحیحیة فی العالم الإسلامی، حیث یتطرق إلی نقطة غایة فی الأهمیة من خلال تشبیه رائع، وهی ضرورة السیطرة علی الذنب منذ بدایته حیث إذا ترک له العنان وتمادی فی مقارفة شبیهه، جذبه إلیه وسیطر علی کیانه وسلبه زمام المبادرة وأوقعه فی واد سحیق فقد وصف علیه السلام الذنوب والمعاصی بالخیول الجامحة التی یصعب السیطرة علیها «ألا وإن الخطایا خیل شمس (1)

ص:353


1- 1) «شمس» من مادة «شموس» و «شماس» علی وزن فتوح وکتاب بمعنی التغییر وعدم الاستقرار ومن هنا اطلق اسم الشمس، حیث تتحرک علی الدوام، وشمس التی وردت فی العبارة جمع شموس بمعنی الفرس الجموح الذی یمنع ظهره من الرکوب.

حمل علیها أهلها، وخلعت نجمها، فتقحمت بهم فی النار» یاله من تشبیه رائع، فرکوب الفرس الجامح خطیر، وتشتد الخطورة إذا فقد لجامها الذی یلجم عنانها، ثم تتضاعف هذه الخطورة أکثر من ذی قبل إذا کان هذا الجموح فی أرض تشتمل علی بعض المطیات. وهذا هو التصویر الواقعی للذنب، فارتکاب الذنب یقود الإنسان إلی ذنب آخر وهکذا، علی سبیل المثال قد یرتکب الإنسان خیانة فیکتمها، وإذا استجوب حال مالا یحصی من الأکاذیب للتغطیة علی خیانته کما یقسم کاذباً أو یلجأ إلی اتهام الآخرین، فاذا لم یجد ذلک نفعاً ربما لا یتورع عن سفک دم من یعلم بخیانته، بغیة عدم افتضاح أمره وهکذا یصبح أرضیة خصبة لمقارفة ما شاء من الذنوب؛ ولا غرو فقد أصبح کالخیل الشموس التی خلع لجامها فهی تقذف بصاحبها إلی الهاویة.

ثم ذهب علیه السلام إلی الصورة المعاکسة التی شبه فیها التقوی بالخیل الذلول فأوصلت راکبهاالموضع الذی یرید «ألا وإن التقوی مطایا ذلل (1)حمل علیها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنّة» نعم فالأعمال الصالحة سلسلة متعاقبة الحلقات، فالعمل الصالح یکون سبباً لآخر وهکذا الإتیان بسائر الأعمال الصالحة. علی سبیل المثال إذا ربّی أحدهم ولده تربیة صالحة فسیعده للإتیان بالخیرات والبرکات، وسیکون له تأثیره البالغ فی وسطه بما یحث رفاقه وأصحابه علی القیام بمثل هذه الأعمال، وهکذا یسیر المجتمع نحو السعادة والصلاح والفلاح. جدیر بالذکر أنّ الإمام علیه السلام عبر عن الذنوب بالخیل الشمس وعن التقوی بالمطایا الذل، فالخیل من مادة خیال، فیطلق «المختال» علی الفرد المغرور والمتکبر الذی یعیش الخیالات، ومن هنا اصطلح علی الفرس بالخیل لأنّه عادة ما یدعو راکبه إلی الغرور والفخر. علی العکس من المطایا جمع مطیة من مادة المطو علی وزن العطف بمعنی الجد والنجاة فی السیر؛ وبناءً عی هذا فان المطیة دابة هنیئة سریعة تسیر قدماً نحو الإمام علیه السلام بکل هدوء دون أن تجمح بصاحبها وتقحمه فی المتاهات - ومن هنا تتضح ذروة فصاحته وبلاغته فی کلماته علیه السلام

ص:354


1- 1) «ذلل» جمع «ذلول» وهی المروضة الطائعة.

حتی تلک الکلمات القصیرة والعبارات الصغیرة. ثم یحذر الإمام علیه السلام من صعوبة الامتحان الإلهی فی ظل حکومته وطیلة حیاتهم مواصلاً البحث السابق بشأن الذنب والتقوی فقال علیه السلام: «حق وباطل، ولکل أهل» .

أجل فالحیاة البشریة ومنذ بدء الخلیقة کانت وما زالت مسرحاً للصراع بین هذین الاتجاهین ویختصر الإمام علیه السلام کلامه بالإشارة إلی مسألة حساسة وهی أنّ الباطل إذا قدر له أن یحکم فلا عجب فی ذلک فهذا ما حصل منذ قدیم الزمان: «فلئن أمر الباطل لقدیماً فعل» . وإن قل الحق وأتباعه فلا داعی للقلق ولعله یزداد فیهزم الکفر فی عقر داره «ولئن قل الحق فلربما ولعل» أنّ قصة الصراع بین الحق والباطل وما تخلله من وسائل وأدوات وما تمخض عنه من نتائج طیلة التأریخ الإنسانی قصة ذات شجون وسنتطرق إلی هذه التفاصیل فی الأبحاث القادمة بما یتناسب وسائر الخطب الواردة بهذا المجال.

أمّا القضیة الجدیرة بالذکر والتی حظت باهتمام الإمام علیه السلام هی ضرورة عدم الاستیحاش من الحق لقلة سالکیه والاستئناس بالباطل لکثرة سالکیه؛ لأنّ التأریخ یشهد علی الدوام بکثرة أتباع الباطل وقلة أتباع الحق، وکثیراً ما کانت تحسم المعارک والصراعات لصالح الحق؛ وهذا ما صرّح به القرآن الکریم علی لسان طالوت: «کَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِیلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً کَثِیرَةً بِإِذنِ اللّهِ» (1). وهو المعنی الذی أشارت إلیه الآیة القرآنیة الکریمة بالقول: «قُلْ لا یَسْتَوِی الخَبِیثُ وَالطَّیِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَکَ کَثْرَةُ الخَبِیثِ» (2). کما ورد هذا المعنی فی الخطبة 1 - 2 من نهج البلاغة «أیّها الناس لا تستوحشوا فی طریق الهدی لقلة أهله» . امّا المسألة التی ینبغی الالتفات إلیها هی أنّ هذه الکثرة لیست دلیلاً علی الأحقیة ولا النصر، بل یری المنطق القرآنی والروائی بل ومنطق الربانیین أنّ الملاک إنّما یکمن فی الکیفیة لا الکمیة، ومن هنا فان زوال حکومات الباطل یستتبع زوال کافة آثارها فلا یبقی لها سوی الخزی والعار، بینما تبقی آثار حکومات الحق باقیة خالدة.

علی کل حال فان الصراع بین الحق والباطل وکثرة جند الباطل إنّما هی فی الواقع امتحان إلهی یهدف إلی تمحیص طلاب الحق.

ص:355


1- 1) سورة البقرة / 249. [1]
2- 2) سورة المائدة / 100. [2]

والنقطة الثانیة التی یؤکد علیها الإمام علیه السلام قوله: «ولقلما أدبر شیء فاقبل» . طبعاً یؤمن جمیع المسلمین - من سنّة وشیعة وسائرالفرق - أنّ الحق سینتصر یوماً حین ظهور المهدی الموعود (عج) وسیدحر الباطل وإلی الأبد وستسود العالم برمته حکومة العدل الإلهی.

وعلی ضوء بعض الروایات فقد نقلت ذیل هذه الخطبة عبارة عن الإمام الصادق علیه السلام عن الإمام علی علیه السلام انّه قال: «وبنا فتح لا بکم ومنا نختم لا بکم» . وقد صرّح ابن أبی الحدید بعد ذکره لهذه العبارة قائلاً: إشارة إلی المهدی الذی یظهر فی آخر الزمان، وأکثر المحدثین علی أنّه من ولد فاطمة علیها السلام وأصحابنا المعتزلة لا ینکرونه» (1).

نعم العبارة ترشد إلی عدم فقدان الفرصة والآن وقد تمهدت جمیع السبل من أجل بسط العدالة وإقامة حکومة الحق فی ربوع المجتمع الإسلامی فالحذار من وساوس شیاطین الانس والجن ومؤامرات اُولئک الذین تبددت مصالحهم اللامشروعة وخابت ظنونهم وآمالهم، فاذا ضاعت هذه الفرصة فان عودتها لا تبدو سهلة، وهذا مادلت علیه حیاة الإمام علیه السلام حیث لم تتعظ الاُمّة بوصایاه ومواعظه ففقدت زمام المبادرة وأضاعت الفرصة؛ فقد أوشک جیش الشام علی الانهیار المطلق وأصبح القضاء علی طاغیة بنی أمیة یکون قاب قوسین أو أدنی فعمد ابن العاص لتلک الخدعة التی انطلقت علی الاُمّة، فأبقت علی تلک الحکومة الجائرة لتخلف من بعدها بنی مروان وبنی العباس والحجاج و. . .

الطریف فی الأمر ما أورده السید الرضی بشأن الخطبة إذ قال: إنّ فی هذا الکلام الأدنی من مواقع الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإنّ حظ العجب منه أکثر من حظ العجب به. وفیه - مع الحال التی وصفنا - زوائد من الفصاحة لا یقوم بها لسان، ولا یطلع فجها إنسان، ولا یعرف ما أقول إلّامن ضرب فی هذه الصناعة بحق، وجری فیها علی عرق «وما یعقلها إلّا العالمون» .

ص:356


1- 1) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 1 / 281. [1]

القسم الثالث: سبیل النجاة

اشارة

«شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَالنّارُ أَمامَهُ! ساعٍ سَرِیعٌ نَجا، وَطالِبٌ بَطِیءٌ رَجا، وَمُقَصِّرٌ فِی النّارِ هَوَی. الْیَمِینُ وَالشِّمالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِیقُ الْوُسْطَی هِیَ الْجادَّةُ، عَلَیْها باقِی الْکِتابِ وَآثارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْها مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَإِلَیْها مَصِیرُ الْعاقِبَةِ هَلَکَ. مَنِ ادَّعَی، وَخابَ مَنِ افْتَری. مَنْ أَبْدَی صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَکَ. کَفَی بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ یَعْرِفَ قَدْرَهُ. لا یَهْلِک عَلَی التَّقْوَی سِنْخُ أَصْلٍ، وَلا یَظْمَأُ عَلَیْهَا زَرْعُ قَوْمٍ. فَاسْتَتِرُوا فِی بُیُوتِکُمْ، وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَیْنِکُمْ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ وَرائِکُمْ، وَ لا یَحْمَدْ حامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ، وَلا یَلُمْ لائِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ» .

الشرح والتفسیر

لما فرغ الإمام علیه السلام من التحدث عن صعوبة الامتحان بعد بیعته وحذر الاُمّة من وبال الذنوب والمعاصی مشیراً إلی الحق والباطل، عرج هنا بالإشارة إلی سبیل النجاة من مخالب الهوی والهوس وبلوغ السعادة ونیل الفلاح، لیکشف عن الحقائق الواردة بهذا المجال. فقد صنف الناس فی مسیرتهم إلی السعادة والنجاة إلی ثلاث طوائف، فمن شغل بالجنّة والنار «وآمن بهما اعتزل کل ما یصده عن ذلک» وانهمک بالتفکیر بالعاقبة (علی ثلاث) ، منهم من حث السیر وبلغ الهدف سریعاً فهو ناجی. ومنهم من تباطأ فی السیر فهو مؤمل للنجاة أیضاً. أمّا الأخیر من قصر فی السیر فهوی فی النار «شغل من الجنّة والنار أمامه! ساع سریع نجا، وطالب بطیء رجا، ومقصر فی النار هوی» .

یری البعض أنّ هذه الطوائف هی تلک التی أشار إلیها القرآن الکریم فی سورة فاطر بقوله:

ص:357

«ثُمَّ أَوْرَثْنا الکِتابَ الَّذِینَ اصْطَفَیْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالخَیْراتِ بِإِذنِ اللّهِ» (1). وقیل بل هم من أشارت لهم الآیة القرآنیة الشریفة فی سورة الواقعة: «وَکُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً * فَأَصْحابُ المَیْمَنَةِ * ما أَصْحابُ المَیْمَنَةِ وَأَصْحابُ المَشْأَمَةِ ما أَصْحابُ المَشْأَمَةِ * وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ * أُولئِکَ المُقَرَّبُونَ» (2). علی کل حال فان هذه الطوائف الثلاث مطروحة علی الدوام فی المجتمع الإنسانی وإذا ما اشتد الامتحان (کالذی علیه الحال إبان خلافة الإمام علی علیه السلام) تمایزت هذه الطوائف عن بعضها البعض؛ فهناک طائفة (وإن کانت غالباً قلیلة) تتبع الحق دون أدنی تردید أو تراجع وهی تحث الخطی سریعة نحو الهدف. وطائفة اُخری أضعف ایماناً من سابقتها فهی تقدم رجلاً وتؤخر اُخری فأحیاناً تحث الخطی وتسیر بوثوق نحو الهدف فتعمل الصالحات بینما تتأخر أحیاناً فتقارف الطالحات فتخلط العمل الصالح بالسیء إلّاأنّها تؤمل بأن یشملها لطف اللّه وفضله فیبلغ بها الهدف المطلوب.

وأخیراً الطائفة الثالثة التی فارقت الإیمان والتقوی وغلبت علیها الشقوة وهوی النفس فضاعوا وضیّعوا أنفسهم حتی وقعوا فی الهاویة. فالعبارة المذکورة تبیّن بوضوح أنّ الإیمان بالمعاد فقط من شأنه أن یصون الإنسان من الفساد والانحراف والذنب. وتتناسب هذه الصیانة والحصانة من الذنب طردیاً ودرجة الإیمان. وقد ذهب البعض إلی أنّ العبارة: «شغل من الجنّة والنار أمامه» جملة خیریة تفید معنی الإنشاء؛ أی أنّ من یری الجنّة والنار أمامه علیه أن یغض الطرف عن زخارف الدنیا وزبرجها! ولکن لیس هنالک من ضیر فی تفسیر هذه الجملة بصورة الأخبار - علی نحو الجملة الخیریة - أی أن مثل هؤلاء المؤمنون سیغضون طرفهم عن زخارف الدنیا. ولما فرغ الإمام علیه السلام من بیان خصائص الطوائف الثلاث، أخذ یدعو الاُمّة إلی انتهاج السبیل القویم والابتعاد عن سبل الانحراف مبیناً علامات کل منهما فقال: «الیمین والشمال مضلة (3)والطرق الوسطی هی الجادة» .

ص:358


1- 1) سورة فاطر / 32. [1]
2- 2) سورة الواقعة / 7 - 11. [2]
3- 3) «مضلة» علی وزن «مفعلة،» قال أرباب اللغة انّها تعنی کثرة وجود الشیء فی المکان وعلیه فمفهوم العبارة أنّ الانحراف إلی الیمین والیسار یدعو إلی ضلال عظیم.

فالعبارة إشارة للمسألة المعروفة لدینا بأنّ السبل المنحرفة التی تقود الإنسان إلی الضلال. ولعل المراد بالیمین والشمال هو الإفراط والتفریط الذین لا یوصلان إلی الهدف الذی لا سبیل إلیه سوی الصراط المستقیم الذی یمثل الاعتدال بین الإفراط والتفریط، ومن هنا صرّح القرآن الکریم بقوله: «وَکَذ لِکَ جَعَلْناکُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (1). وقد صرّح کبار علماء الأخلاق بأن کافة الصفات الفضلی إنّما هی الاعتدال بین الصفات الرذیلة التی تقع علی طرفی الإفراط والتفریط.

وذهب بعض مفسّری نهج البلاغة إلی أنّ المراد بالطریق الوسطی مسألة الإمامة وولایة الأئمة المعصومین التی یقود الإفراط والتفریط فیها إلی الضلال. ولا نری من ضیر فی ان تختزن هذه العبارة کافة المعانی فتشمل قضیة الولایة کما تشمل سائر المسائل العقائدیة والعملیة والأخلاقیة.

أمّا بشأن معرفة اللّه فقد وقعت طائفة فی مصیدة التشبیه فتشبهت الخالق بمخلوقاته، بینما ذهبت اُخری إلی تعطیل معرفته علی أن ذات الخالق وصفاته متعذرة علی البشر حتی المعرفة الإجمالیة، وهناک الحد الوسط بین التشبیه والتعطیل والذی یعنی معرفة اللّه عن طریق أفعاله دون کنه الذات. وبالنسبة لأفعال العباد فلیس الجبر صحیحاً ولا التفویض، والطریق الوسط هو الأمر بین الأمرین، وهکذا القول بشأن الولایة لا الغلو صحیح ولا التقصیر، وهذا ما یصدق علی الأخلاقیات والأعمال، فمثلاً فی الانفاق الصحیح هو الحد الوسط بین البخل والاسراف.

والطریف أنّ الفرق التی وقفت بوجه الإمام علیه السلام لم تخرج من تلک الحالتین، ففرقة الخوارج سلکت الافراط، بینما انتهج أهل الشام التفریط، وقد ضلت الفئتان فی معرفة الإمام علیه السلام. ثم خاض علیه السلام فی خصائص الجادة الوسطی المعتدلة «علیها باقی الکتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنّة، وإلیها مصیر العاقبة» . هناک تفسیران لقوله علیه السلام: «علیها باقی الکتاب» : أحدهما المراد القرآن الکریم؛ الکتاب الخالد والذی انفرد بالمعارف والقوانین والأحکام التی

ص:359


1- 1) سورة البقرة / 143. [1]

یتعذر العثور علیها فی ما سواه. والآخر المراد بالکتاب الخالد الإمام المعصوم الحافظ لکتاب اللّه، وهو عدل القرآن کما صرّح بذلک حدیث الثقلین المعروف، ولکن یبدو المعنی الأول أنسب، ولا سیما أن آثار النبوة التی أعقبت العبارة یمکن تفسیرها بالآثار الباقیة لدی الأئمة.

کما أوردت عدّة تفاسیر بهذا الشأن لا تبدو صائبة.

وقوله علیه السلام: «منها منفذ السنّة» فبالالتفات إلی کلمة منفذ یبدو أنّ المراد هو أنّ الطریق الوسطی فقط التی یمکن من خلالها الوقوف علی السنة النبویة والتعرف علی جوهر الدعوة، ومن هنا یتضح الفارق فی هذه الملل الاربعة.

فقد أشار علیه السلام إلی أنّ الکتاب علی هذه الجادة، ثم قال علیه السلام وعلیها آثار النبوة، ثم أضاف ومنها منفذ السنة، وأخیراً قال وإلیها مصیر العاقبة من خلال هذه الجادة لا غیر؛ کما أشار إلی ذلک القرآن الکریم «وَالعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ» (1).

ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی مصیر من یزعم الإمامة وولایة الناس بالباطل، حیث یصفهم فی أربع عبارات: الاولی هلاک من یدعی الإمامة بغیر حق فهو ضال مضل «هلک من ادعی» والثانیة أنّ من یطلب هذا المقام کذباً وافتراءً علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله لم یظفر بما طلب «وخاب (2)من افتری» .

والثالثة هلاک من یقف بوجه الحق: «من أبدی صفحته (3)للحق هلک» .

والأخیرة یکفی الإنسان جهل أنّه لا یعرف قدره فیتمدد أکثر من حجمه «وکفی بالمرء جهلاً الا یعرف قدره» . طبعاً هناک إحتمال قائم فی ألا تکون هذه العبارات الأربع تعالج مسألة الإمامة التی تعرضت لها هذه الخطبة؛ بل تشمل معنا أوسع وهو کل ادعاء باطل سواء فی مجال الإمامة أو سائر المجالات.

فالواقع هی تحذیر لأهل الباطل من مغبة التمادی فی غیهم بما لا یجلب علیهم سوی البؤس والشقاء والهلاک.

ص:360


1- 1) سورة الأعراف / 128. [1]
2- 2) «خاب» من مادة «خیبة» بمعنی الفشل والحرمان وعدم الظفر بالشیء.
3- 3) «صفحة» بمعنی عرض الشیء وقد یراد بها الوجه ومنها المصافحة.

أمّا قوله علیه السلام: «من أبدی صفحته للحق هلک» فقد فسره بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ من أبدی صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل، لأنّهم العامة، وفیهم الکثرة، فهلک.

فهذا الکلام وان کان واقعیاً إلّاأنّه لا یمکن أن یکون تفسیراً للعبارة المذکورة وذلک لأنّه لا ینسجم والعبارات السابقة بشأن أدعیاء الباطل، کما لا یتفق والعبارة اللاحقة بشأن الأفراد الجهال الذین لا یعرفون قدر أنفسهم. وأخیراً یختتم الإمام علیه السلام هذه العبارات یعرض بالنصح والموعظة التی من شأنها تخلیصهم من مخالب المنافقین وأدعیاء الباطل، فقد دعاهم فی البدایة إلی التحلی بالورع والتقوی التی تعدّ الرکن الرکین لکل حرکة وعمل صالح، فقال علیه السلام: «لا یهلک علی التقوی سنخ (1)اصل، ولا یظمأ علیها زرع قوم» فالواقع هو أنّ الإمام علیه السلام قد شبه - بهذه العبارة العمیقة المعنی - التقوی بالأرض الخصبة ذات المناخ المناسب التی لا تجف فیها جذور الأشجار ولا یموت فیها الزرع من قلة الماء؛ أرض خصبة صالحة للزراعة ذات أنهار وآبار تمد الزرع بما یحتاج، ففی الحقیقة أنّ کافة الأعمال کالبذور والحبوب التی ینبغی أن تنثر فی أرض خصبة وتسقی بالمیاه؛ ولیست هذه الأرض والمیاه سوی التقوی، ثم قال فی الموعظة الثانیة: «فاستتروا فی بیوتکم» فالإمام علیه السلام وبنظرته الثاقبة یعلم بأنّ حکومته ستضیق الخناق علی اُولئک الذین عملوا إبان عهد عثمان علی سلب ونهب بیت مال المسلمین ونشروا الظلم فی ربوع المجتمع الإسلامی، وعلیه فهم سوف لن یسکتوا وسیسعون إلی تألیب الناس واستقطاب الجهال، وهذا هو الوقت الذی یتطلب من الإنسان أن یلزم بیته لا حین العمل والجهاد.

وعلی حد قول بعض شرّاح نهج البلاغة فان أفضل حرکة فی المجتمع الذی یضره العدل والحق هی السکون والصمت والسکوت.

والموعظة الثالثة بشأن الأخاء والوحدة بین صفوف أتباع الحق ونبذ کافة مظاهر الفرقة والشقاق بهدف ملاحقة الباطل والقضاء علیه، فقد قال علیه السلام: «وأصلحوا ذات بینکم» . وأخیراً

ص:361


1- 1) «سنخ» بمعنی الأصل والجذر، وکذلک محل غرس الشجر، وهو المکان الذی تَثبت فیه جذور وأصل الشجرة. ویستعمل هذا اللفظ أحیانا بمعنی الرسوخ فی شیء، وکل هذه المعانی مقاربة لبعضها، وفی العبارة أعلاه تشیر إلی جذور العلوم والمعارف والاعمال الصالحة والتی رسخت فی أرضیة التقوی والتی لایمکن أن تُجتّثَ جذورها.

یعرض بالنصح لمن اتسخ قلبه بالذنوب علی عهد الحکومة السابقة أن یغسلها بماء التوبة «والتوبة من وراءکم (1)» .

ثم یقول علیه السلام: «ولا یحمد حامد إلّاربّه ولا یلم لائم إلّانفسه» إشارة إلی أنّ کافة النعم من عند اللّه وما یصیب الإنسان من توفیق وسعادة فبلطفه وفضله، وعلیه فلا ینبغی الاغترار بالطاعة، کما أنّ مرجع الذنوب والمعاصی تقصیر الإنسان فلا ینبغی أن یلوم الإنسان إلّانفسه ولا ینسب أخطائه إلی الآخرین أو یبررها بالقضاء والقدر، بل علیه أن یسارع إلی التوبة.

تأمّلان

1 - الجاهل من جهل قدر نفسه

إنّ أغلب المشاکل الاجتماعیة إنّما تنبع من الطموحات الطائشة، أو تجاوز الإنسان لحدوده الطبیعیة والطمع بالمنصب الذی لا یستحقه أو لا یمتلک الجدارة اللازمة للنهوض به؛ ولا شک أنّ کل هذا إنّما تفرزه قضیة مهمّة تکمن فی جهل الإنسان بقدره وعدم تقییمه له بصورة صحیحة، وما ذلک إلّالحب الذات والمبالغة فی نقاط القوة وعدم الالتفات إلی نقاط الضعف. ولا شک أنّ اضرار هذا الأمر لا تقتصر علی الإنسان لوحده فحسب، بل تنسحب علی المجتمع بأسره، ولربما استطاع الفرد أن یشغل منصباً فیقوم بوظیفته علی أحسن وجه بما یضمن له السعادة وإلی المجتمع الرفاه والأمن، غیر أنّه وإثر جهله بنفسه وطمعه بما لا یستحقه یبدد طاقاته عبثاً ویکبد نفسه والمجتمع مالا یحصی من الخسائر والأضرار. ویالیت الجمیع کبیرهم وصغیرهم وعالمهم وجاهلهم أعادوا النظر فی هذا الأمر الحیوی واقصوا عن أنفسهم الحجب التی تحول دون معرفتهم لذواتهم لیجدوا من أجل تحقیق أهدافهم وسعادة مجتمعاتهم. ومن هنا ورد التأکید کراراً فی نهج البلاغة علی هذه المسألة، ومن ذلک ما ورد فی الخطبة 103 «العالم من عرف قدره وکفی بالمرء جهلاً الا یعرف قدره» . کما ورد فی الرسالة 31 من نهج

ص:362


1- 1) «وراء» من مادة «وری» علی وزن «وزن» وفی الأصل بمعنی الاستتار، وأحیانا یطلق علی الشیء الذی حُجب عن الانظار بواسطة حاجز فاصبح غیر منظور باعتباره خلف الشیء أو وراءه. وفی العبارة أعلاه جاءت هذه الکلمة بمعنی، الخلف أو الوراء.

البلاغة التی یعظ فیها ولده الحسن علیه السلام أنّه قال: «ومن اقتصر علی قدره کان ابقی له» وجاء فی الکلمة 149 من قصار الحکم «هلک امرء لم یعرف قدره» . کما ورد فی الروایة أنّ شخصاً قال للإمام الکاظم علیه السلام مررت بالسوق فاذا هو یقول أنا من شیعة محمد وآل محمد صلی الله علیه و آله وهو یبیع الثیاب بأکثر من ثمنها. فقال الإمام علیه السلام: «ما جهل ولا ضاع امرء عرف قدر نفسه» . (1)

هناک إحتمال آخر بالمراد من معرفد قدر النفس فی العبارة المذکورة وهو ألا ینسی الإنسان طبیعة خلقته فیقتصر بها علی الجانب المادی المتعلق بالجسم دون الاهتمام بالمسائل المعنویة فیبیع نفسه ببعض الاُمور المادیة التی تفتقر إلی القیمة الحقیقیة. فالإنسان یتمتع بالروح التی تنتمی إلی عالم السمو والرفعة، أنّه خلیفة اللّه فی الأرض. أنّه کائن ملکوتی لا موجود ترأبی وإن تقولب مدّة معینة فی هذا القفص المادی من أجل نیل الکمال. وعلیه فالعالم من عرف نفسه ووقف علی قدرها ومنزلتها، ویلتفت إلی تکریم اللّه سبحانه له علی من سواه، والجاهل من جهل قدر نفسه فقذف بها فی مستنقع الأهواء والشهوات. بالکن بالالتفات إلی قوله «من اقتصر علی قدره کان ابقی له» وکذلک العبارة المعروفة لدی العلماء استنباطاً من الأحادیث المشهورة «العالم من عرف قدره ولم یتجاوز حده» یبدو أنّ الأنسب هو المعنی الأول، ویؤیده مضمون الخطبة الذی یتناول قصة طلحة والزبیر وآمالهم الزائفة.

2 - الاعتدال هو الصراط المستقیم

إنّ أدنی نظرة إلی عالم الخلقة تفید أنّ بقاء العالم إنّما یستند إلی مسألة الاعتدال والتوازن فی القوی. فالمنظومات السماویة العظیمة إنّما حفظت بتوازن القوة الجاذبة مع القوة الدافعة، فلو تقدمت أحداهما علی الاُخری أو ابتعدت لما بقی أثر لتلک المنظومات، ولو اقتربتا وتصادمتا لأدّیا إلی انفجار هائل یقود إلی إنعدامها. والقانون المذکور الذی یحکم ذلک العالم الکبیر کما یصدق علی العالم الصغیر أی عالم الإنسان، حیث تکون سلامة حیاته ورمز بقائها مرهونة بحالة الاتزان التی تسود مختلف قواه الروحیة والجسدیة، من قبیل العناصر الداخلة فی

ص:363


1- 1) بحارالأنوار 65/157 « [1]مع قلیل من التخلیص والإیجاز» .

ترکیب الدم وتوازن حرکات الأعصاب السمبثاویة والباراسمبثاویة وضربات القلب ووزن الجسم وضغط الدم وتوازن أجهزة الجسم کالجهاز التنفسی والجهاز الهضمی وبالتالی فانّ کافة أجهزته تمارس وظائفها بکل اعتدال واتزان بما یحفظ سلامة الإنسان ویکفل بقائه، ولو انحرفت هذه الأجهزة ذرة عن خط الاتزان وجنحت نحو الإفراط او التفریط لانعکس ذلک سلباً علی سلامة جسم الإنسان وروحه.

القرآن من جانبه أثنی علی الاُمّة الإسلامیة بصفتها الاُمّة الوسط، ومن هنا جعلها حجة علی سائر الاُمم. وهذه هی المسألة التی أکدها الإمام علیه السلام فی أنّ الجادة الوسطی هی الطریق وعلیها باقی الکتاب وآثار النبوة ومنها منفذ السنّة. وإلیها مصیر العاقبة. أمّا فی المجال الاقتصادی فانّ الإفراط والتفریط قد أدی إلی ظهور النزعة الرأسمالیة المقیتة التی بالغت فی الملکیة الشخصیة بینما بالغت النزعة الاشتراکیة فی الملکیة العامة لیعیش المجتمع ذلک التمایز الطبقی الفاحش بوجود الطبقات المرفهة الثریة والاُخری المعدمة الفقیرة.

وأمّا علی المستویات الاُخری - العقائدیة والسیاسیة والاجتماعیة - فانّ الإفراط والتفریط هو الذی یقف وراء کل هذا البؤس والشقاء الذی تعیشه البشریة.

ص:364

الخطبة السابعة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

فی صفة من یتصدی للحکم بین الاُمّة ولیس لذلک بأهل وفیها:

أبغض الخلائق إلی اللّه صنفان:

القسم الأول

اشارة

«الصنف الأول: إنَّ أَبْغَضَ الْخَلائِقِ إِلَی اللّهِ رَجُلانِ: رَجُلٌ وَکَلَهُ اللّهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِیلِ، مَشْغُوفٌ بِکَلامِ بِدْعَةٍ، وَدُعاءِ ضَلالَةٍ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، ضالٌّ عَنْ هَدْیِ مَنْ کانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَی بِهِ فِی حَیاتِهِ وَبَعْدَ وَفاتِهِ، حَمّالٌ خَطایا غَیْرِهِ، رَهْنٌ بِخَطِیئَتِهِ» . (1)

نظرة إلی الخطبة

وردت الخطبة - کما یتضح من عنوانها - فی صفات من یتصدی للقضاء وهو لیس له بأهل

ص:365


1- 1) نقل صاحب کتاب «مصادر نهج البلاغة» [1] هذه الخطبة عن طائفة من العلماء ممن عاشوا قبل السید الرضی ومنهم: 1 - الکلینی فی الکافی [2]بطریقین 2 - ابن قتیبة فی کتاب غریب الحدیث 3 - أبو طالب المکی فی قوت القلوب 4 - الهروی فی الجمع بین الغریبین 5 - القاضی النعمان فی کتاب اصول المذهب. کما نقلها عن طائفة اُخری من العلماء بعد السید الرضی کالطوسی فی الأمالی [3]والطبرسی فی الاحتجاج [4]والمفید فی الإرشاد. [5]

فیسوق الاُمّة إلی الضلال والهاویة.

فقد صنف الإمام علیه السلام هؤلاء الأفراد إلی صنفین:

الصنف الأول: من یشق طریق الضلال عن علم ویحکم هوی النفس ویبتدع فی الدین فهو ضال لنفسه مضل لغیره.

الصنف الثانی: الجاهل المتشبه بالعالم ویجهل بجهله فهو یعیش الجهل المرکب؛ ولیس له ذرة مما یؤهله للتصدی للقضاء، فهو فریسة للخطأ والزلل والشبهات، یخرج الحق بالباطل ویریق دماء الأبریاء بغیر حلها ویهدر الأموال لغیر أصحابها. ویحتمل أن یکون المراد بالصنف الأول حکام الظلم والجور والبدعة والضلالة، والصنف الثانی القضاة الجهال. وعلیه فکلمة الحکم الواردة فی الخطبة ذات معنی عام واسع تشمل القضاء والحکومة.

ویختتم الإمام علیه السلام خطبته بالشکوی إلی اللّه من هؤلاء الأفراد الذین ولوا ظهورهم للقرآن وحسبوا المعروف منکراً والمنکر معروفاً. وبناءً علی ما تقدم فالخطبة علی ثلاثة أقسام، یختص الأول والثانی منها بوصف هذین الصنفین والثالث بالشکوی إلی اللّه منهم ومن کان علی شاکلتهم.

الشرح والتفسیر

أبغض الخلائق

استهل الإمام علیه السلام کلامه بتصنیف أبغض الخلائق إلی صنفین «إنّ أبغض الخلائق إلی اللّه رجلان» ومن البدیهی أنّ للحب والبغض بالنسبة للّه مفهوم یختلف عمّا هو علیه بالنسبة للانسان؛ لأنّ الحب والبغض من قبیل الحالات والتغیرات التی تطرأ علی روح الإنسان إثر رغبته واشمئزازه تجاه بعض الأشیاء؛ بینما یکتسب الحب بالنسبة للّه معنی الشمول بالرحمة والبغض معنی الطرد منها. ثم یخوض الإمام علیه السلام فی صفات الصنف الأول؛ أی أصحاب الأهواء من الحکام، فیشیر قبل أی شیء إلی أصل بؤسهم وشقائهم، فقال علیه السلام: «رجل وکله اللّه إلی نفسه» . فروح الإنسان حیة بالتوکل علی اللّه والوثوق بما عنده؛ أی أنّه یسعی سعیه ویبذل

ص:366

قصاری جهده من أجل النهوض بعمله وتطویر حیاته، مع ذلک لابدّ أن یعلم بأنّ الذات الإلهیة هی مصدر کل خیر وبرکة ونعمة وعطاء. إلّاأنّ الغرور والکبر وحب الذات قد یجعل الإنسان غافلاً عن هذه الحقیقة فیری نفسه مستقلاً فی مقابل اللّه فتتشوه بنظره جمیع الأشیاء. هذا الانقطاع عن اللّه هو ایکال الإنسان إلی نفسه؛ وهو أساس بؤس الإنسان وشقائه. ومن هنا تری رسول اللّه صلی الله علیه و آله لا ینفک عن التضرع إلی ربّه منادیاً:

«اللّهم. . . لاتکلنی إلی نفسی طرفة عین أبداً» (1)وهو ذات المعنی الذی صرّح به أمیرالمؤمنین علی علیه السلام: «إلهی کفی بی عزا أن أکون لک عبداً، وکفی بی فخراً أن تکون لی ربّاً» (2)کما ورد ذلک عن المعصوم علیه السلام قوله: «إنّک ان وکّلتنی إلی نفسی تقربنی من الشر وتباعدنی من الخیر» (3).

وما أن یفرغ الإمام علیه السلام من بیان السبب الرئیسی لشقوة هؤلاء حتی یتطرق إلی افرازات ذلک الشقاء لیوجزها فی ثمانیة ارتبطت مع بعضها برباط العلة والمعلول فقال علیه السلام: «فهو حائر عن قصد السبیل» والمراد بقصد السبیل هو الحد الوسط الفاصل بین الإفراط والتفریط والذی یوصل الإنسان إلی اللّه؛ الأمر الذی أشار له القرآن الکریم بالقول «وَعلی اللّهِ قَصْدُ السَّبِیلِ» (4)ومن البدیهی أنّ الإنسان إنّما یستطیع تمییز السبیل - الذی صورته الروایات بأنّه أرفع من الشعرة وأحد من السیف - من بین آلاف السبل الانحرافیة إذا شملته الألطاف والعنایات الإلهیة؛ امّا إذا انفصل عن اللّه ووکل إلی نفسه فانه سیعیش الحیرة والقلق التی تنتهی به إلی الضلال والسقوط فی الهاویة.

الافراز الثانی «مشغوف بکلام بدعة» ومن هنا ینطلق نحو الافراز الثالث «ودعاء ضلالة» . شغف من مادة شغاف علی وزن کلاف بمعنی المولع بالشیء حتی بلغ حبه شغاف قلبه، وهو غلافه؛ وهو التعبیر الذی أورده القرآن الکریم بشأن حب زلیخا لنبی اللّه یوسف علیه السلام علی لسان طائفة من نساء مصر «قد شغفها حباً» ، فالعبارة إشارة إلی أنّ مثل هؤلاء الأفراد

ص:367


1- 1) بحار الأنوار 83 / 153.
2- 2) بحار الأنوار 91 / 94. [1]
3- 3) بحار الأنوار 83 / 152. [2]
4- 4) سورة النحل / 9. [3]

من ذوی حبّ الذات یتعلقون بشدة بأحادیثهم المبتدعة؛ التعلق الذی یؤدی إلی دعوة الآخرین إلی الضلال والانحراف.

القرآن أیضاً یقول: «وَما دُعاءُ الکافِرِینَ إِلّا فِی ضَلالٍ» (1)، وسنتطرق فی الأبحاث القادمة - تأملات - إلی حقیقة البدعة ودوافعها ونتائجها. أمّا الوصف الرابع «فهو فتنة لمن افتتن به» .

وفی الصفة الخامسة والسادسة «ضال عن هدی من کان قبله، مضل لمن اقتدی به فی حیاته وبعد وفاته» . المراد بمن کان قبله الأنبیاء وأوصیائهم بالحق؛ فی إشارة إلی اتضاح سبیل الهدایة مسبقاً بما لا یدع من مجال لسلوک طریق الضلال؛ مع ذلک فقد ولی ظهره لسبیل الهدایة والقی بنفسه فی ظلمات الضلال. والأنکی من ذلک أنّ اضلال هؤلاء الأفراد للآخرین لا یقتصر علی حیاتهم فهم مدعاة للضلالة حتی بعد وفاتهم، فهم شرکاء فی هذه الضلالة، حیث ورد فی الحدیث النبوی المشهور: «من سنّ سنّة حسنة عمل بها من بعده کان له أجره ومثل اُجورهم من غیر أن ینقص من اُجورهم شیئاً، ومن سنّ سنّة سیئة فعمل بها بعده کان علیه وزره ومثل أوزارهم من غیر ان ینقص من اوزراهم شیئاً» (2).

فالعبارة تحذیر حاد لاُولئک الذین یحثون الخطی نحو البدع ویشیدون صروح الضلالة، فی أنّ شقائهم وبؤسهم سوف لن یقتصر علی حیاتهم بل قد یتجاوز حتی مماتهم بآلاف السنین وعلیهم أن یدفعوا کفارة تلک البدع ویستعدوا لتحمل تبعاتها. کما ورد عن الإمام علی علیه السلام تحذیر شدید آخر فی الخطبة 164 حیث قال: «وإنّ شر الناس عند اللّه إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة مأخوذة واحیی بدعة متروکة» وأمّا الوصفان الأخیران المترتبان علی الصفات السابقة فهما «حمال خطایا غیره، رهن بخطیئته» فالعبارة لیست کلاماً تعبدیاً؛ بل هی منطقیة تماماً. وذلک لأنّ أیة معونة ومساعدّة فی ارتکاب الذنب تعدّ شرکة فیه؛ ولما کان أتباع هؤلاء المضلین یقارفون الذنوب بمحض إرادتهم فلا ینقص من ذنبهم شیئاً، وهذا ما أشار له القرآن الکریم صراحة فی الآیة 25 من سورة النحل إذ قال «لِیَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ کامِلَةً

ص:368


1- 1) سورة رعد / 14. [1]
2- 2) میزان الحکمة 4 / 566، کما ورد مضمون هذا الحدیث فی عدّة روایات نقلتها أغلب الکتب.

یَوْمَ القِیامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُمْ بِغَیْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما یَزِرُونَ» . (1)والتعبیر الآخر الذی اعتمده القرآن بشأن ارتهان الإنسان بذنبه هو تعبیر غایة فی الروعة والدقة «کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ رَهِینَةٌ» (2).

فکما أنّ المحجوز لا یطلق من العذاب مالم یکفر عن ذنوبه؛ کما أنّ التعبیر باکمال بالنسبة لذنوب الآخرین هو الآخر تعبیر عمیق، کأن الذنوب (کما یفهم من کلمة وزر) حمل عظیم بثقل صاحبها ومن أسس لها وتصده عن القرب الإلهی وتلقی به فی قعر جهنم. ومن هنا تتضح مدی خطورة الوادی الذی یسقط فیه من وکله اللّه إلی نفسه، وأی مصیر مشؤوم ینتظره.

تأمّلان

1 - ما البدعة ومن المبتدع؟

لقد ورد الذم فی هذه الخطبة للبدعة والمبتدع الذی یسوق الناس إلی الضلال؛ کما تضافرت الروایات الإسلامیة - إلی جانب سائر خطب نهج البلاغة - التی تذم البدعة وأصحابها، ومن ذلک ما روی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله انّه قال: «کل بدعة ضلالة وکل ضلالة فی النار» (3). کما ورد عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «أبی اللّه لصاحب البدعة بالتوبة قیل یا رسول اللّه وکیف ذاک؟ قال: إنّه قد اُشرب قلبه حینها» (4).

والبدعة فی اللغة بمعنی الإتیان بشیء لا سابقة له، امّا فقهاء الإسلام فقد عرفوها باضافة شیء إلی الدین أو نقصانه دون قیام دلیل معتبر علی ذلک؛ ولما کانت المعارف والأحکام الإلهیة واجبة الثبوت عن طریق الوحی والأدلة المعتبرة، فان البدعة من الکبائر، وهی أساس

ص:369


1- 1) سورة نحل / 25. [1]
2- 2) سورة المدثر / 38. [2]
3- 3) شرح نهج البلاغة للمحقق الخوئی 3 / 251.
4- 4) اصول الکافی 1 / 54، باب البدع. [3]

الفساد والانحراف، ولو لم تمنع البدع لأضاف الأفراد بعقولهم القاصرة إلی الدین ما شاءوا وانقصوا منه ما أرادوا، فلا یبقی من الدین شیئاً وتمحی آثاره؛ ولا شک أنّ قانون تحریم البدع هو الذی صان القرآن والإسلام وحفظه من تلاعب الجهال وأصحاب الأهواء. والذی ینبغی أن نخلص إلیه ممّا سبق وعلی ضوء التعاریف الفهقیة هو أنّ البدعة لا تشمل الاختراعات والابداعات العلمیة والفنون الطبیعیة والطبیة والصناعیة، کما لا تشمل التجدید فی الثقافة والأدب والسنن والعادات والتقالید. فالبدعة ما أحلت حراماً أو حرمت حلالاً وأضافت دین اللّه أو انقصت منه ممّا لیس فیه دون قیام دلیل معتبر علی تلک الاضافة أو النقصان، أو الإتیان بدین جدید ودعوة الناس إلیه دون الاستناد إلی الوحی أو الدلیل، هذه هی البدعة، وهی من الکبائر التی توعد اللّه علیها بالعذاب. ومن هنا نقف علی خواء الوهابیة التی اعترضت حتی علی رکوب الدراجة علی أنّها مرکب الشیطان أو ما قام به بعض الاتباع ممن عمد إلی خطوط الهواتف فقطعها علی أنّها بدعة فمما لاشک فیه أنّ مثل هذه الأعمال تعدّ ممارسات حمقاء لیس لها أدنی صلة بمفهوم البدعة کما صورها الفقهاء، ومما یؤسف له أنّ تأریخ هذه الحرکة ملیء بمثل هذه الممارسات الشائتة. ویماثلهم اُولئک الذین سلکوا سبیل الإفراط تجاه هذه الحرکة لیقولوا بعدم وجود أیة ثوابت فی الدین؛ الأمر الذی یهدد کافة قیم الدین ومثله ویعرضها للزوال، حیث یمهدون السبیل أمام هذا وذلک للدس فی الدین ما شاءوا. ونختتم بحثنا هذا بما قاله أمیر المؤمنین علیه السلام - فی کلماته القصار، الکلمة 123: «طوبی لمن ذل فی نفسه. . . وعزل عن الناس شره ووسعته السنة ولم ینسب إلی البدعة» . فقد ورد السنة فی الإمام مقابل البدعة، فمن أطاع اللّه واستن بسنة رسوله صلی الله علیه و آله فارق البدعة، أمّا من عصی اللّه وفارق سنة نبیّه صلی الله علیه و آله فهو علی البدعة، وهو ضال لنفسه مضل لغیره.

2 - أخطر الذنوب، حمل ذنوب الآخرین

تقتصر أغلب الذنوب علی المسؤولیة الفردیة وإن کانت من قبیل الکبائر کالأفعال المنافیة للعفة وشرب الخمر وسائر المحرمات، غیر أنّ أخطر الذنوب هی تلک التی تدعو الآخرین لمقارفتها بحیث یبوء صاحبها بوزر تلک الذنوب من دون أن ینقص من أوزار اُولئک شیئاً، وهذا ما یصدق علی أئمة الظلم والفساد من أهل البدع الآمرون بالمنکر والناهون عن المعروف. وأحیاناً تطالهم تبعة الذنب بل وتطال نسلهم لقرون بعد مماتهم، وعلی الآثم أن یدفع

ص:370

ثمن ذنوب هؤلاء بأجمعها (کما أنّ العمل الصالح کذلک قد تشمله برکاته لقرون) .

وقد صور القرآن الکریم وضع هؤلاء الاثمة بقوله «وَلَیَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَیُسْأَلُنَّ یَوْمَ القِیامَةِ عَمّا کانُوا یَفْتَرُونَ» (1). وأعظم خطر تختزنه هذه الذنوب فی الغالب عدم صدق التوبة علیها؛ وذلک لأنّ من شروط التوبة إزالة آثار الذنب؛ فأنی للإنسان بإزالة آثار مثل هذه الذنوب التی قد تتخذ أبعاداً واسعة لتشمل منطقة بأکملها، أو موت الکثیر من الأفراد علی هذه الذنوب التی ساقهم لارتکابها، أو ظهور الجیل الجدید الذی یعمل بهذه الذنوب بعد وفاته؟

بالتالی لابدّ لهذا الإنسان من التأنی فی حرکته، حذراًمن مقارفة مثل هذه الذنوب التی لا سبیل للتخلص من تبعاتها «حمال خطایا غیره، رهن بخطیئته» .

ص:371


1- 1) سورة العنکبوت / 13. [1]

ص:372

القسم الثانی: الجاهل المتشبه بالعالم

اشارة

«الصنف الثانی: وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً، مُوضِعٌ فِی جُهّالِ الْأُمَّةِ، عادٍ فِی أَغْباشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِما فِی عَقْدِ الْهُدْنَةِ؛ قَدْ سَمّاهُ أَشْباهُ النّاسِ عالِماً وَلَیْسَ بِهِ، بَکَّرَ فاسْتَکْثَرَ مِنْ جَمْعٍ؛ ما قَلَّ مِنْهُ خَیْرٌ مِمّا کَثُرَ، حَتَّی إِذا ارْتَوَی مِنْ ماءٍ آجِنٍ، وَاکْتَثَرَ مِنْ غَیْرِ طائِلٍ، جَلَسَ بَیْنَ النّاسِ قاضِیاً ضامِناً لِتَخْلِیصِ ما الْتَبَسَ عَلَی غَیْرِهِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَی الْمُبْهَمَاتِ هَیَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْیِهِ، ثُمَّ قَطَعَ بِهِ، فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهاتِ فِی مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْکَبُوتِ: لا یَدْرِی أَصابَ أَمْ أَخْطَأَ: فَإِنْ أَصابَ خافَ أَنْ یَکُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ یَکُونَ قَدْ أَصَابَ - جَاهِلٌ خَبّاطُ جَهالاتٍ، عاشٍ رَکّابُ عَشَواتٍ، لَمْ یَعَضَّ عَلَی الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قاطِعٍ، یَذْرُو الرِّوایاتِ ذَرْوَ الرِّیحِ الْهَشِیمَ. لا مَلِیٌّ وَاللّهِ بِإِصْدارِ ما وَرَدَ عَلَیْهِ وَلا أَهْلٌ لِما قُرِّظَ بِهِ، لا یَحْسَبُ الْعِلْمَ فِی شَیْءٍ مِمّا أَنْکَرَهُ، وَلا یَرَی أَنَّ مِنْ وَراءِ ما بَلَغَ مَذْهَباً لِغَیْرِهِ، وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَیْهِ أَمْرٌ اکْتَتَمَ بِهِ لِما یَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضائِهِ الدِّماءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ الْمَوارِیثُ» .

الشرح والتفسیر

بعد أن فرغ الإمام علیه السلام من بیان الصنف الأول بشکل جامع، تطرق إلی صفات الصنف الثانی لیتحدث عن ذلک الشخص الذی یغط فی هالة من الجهل والتخبط فی حین یری نفسه عالماً دون الاستناد إلی رکن وثیق من علم أو عالم. فیبین بادئ ذی بدء خمس صفات لمثل هؤلاء الأفراد. الاولی «ورجل قمش جهلاً» فاستناداً إلی ما أورده أرباب اللغة بشأن مفردة

ص:373

القمش التی تعنی جمع الأشیاء المتناثرة دون تناسب وکذلک بمعنی الأشیاء التی لا قیمة لها، فان الذی یفهم من کلام الإمام علیه السلام أنّ هؤلاء الجهال المتشبهون بالعلماء إنّما یتجهون صوب خواء من العلم الذی یفتقر إلی القیمة کما یفتقر إلی النسبة المنطقیة. وقد علق المرحوم العلّامة الخوئی فی شرحه لهذا الکلام علی أنّهم یحصلون علی المعلومات من فم هذا وذاک ومن الروایات الضعیفة غیر المعتبرة وعن طریق القیاس والاستحسان والمصادر من هذا القبیل (ذات الحجم الکبیر والقیمة القلیلة أو المعدومة) .

الصفة الثانیة أنّه یهرع بسرعة فی أوساط الجهال من عوام الاُمّة لیجمع له بعض الأنصار: «موضع (1)فی جهال الأمة» ومن الطبیعی ألا یهب لنصرة هؤلاء ویتمحور حولهم سوی تلک الطائفة من الجهال، ولیس لهؤلاء من مکان بین العقال. فهدفهم هو لفت انتباه الجهال إلیهم والنفوذ فی أوساطهم لأنّهم یعیشون الیأس من اقتحام دنیا العقلاء.

الصفة الثالثة «عاد (2)فی أغباش الفتنة» بالالتفات إلی أنّ بعض أرباب اللغة (3)قد عنی غبش من مادة أغباش بشدّة الظلمة أو ظلمة آخر اللیل التی تعتبر أفضل فترة للسارقین واللصوص، یتضح أنّ مثل هؤلاء الأفراد یفکرون دائماً فی الاصطیاد من ماء الفتن. فهم یهربون دائماً من النور والضیاء ویلوذون بالظلمة وعتمة اللیل کفرصة مناسبة من أجل خداع الجهال؛ ولا غرو فلو تبددت ظلمة الفتنة وبزغت شمس العلم والمعرفة لانکشف النقاب عن صورتهم الحقیقیة ولافتضحوا أمام القاصی والدانی.

وأشار علیه السلام إلی الصفة الرابعة من صفات تعاسة هؤلاء الأفراد «عم بما فی عقد الهدنة» (4). ومن الواضح أنّه لیس المراد بالهدنة هنا الصلح بین المسلمین وغیر المسلمین، لأنّ الکلام وبشهادة العبارات اللاحقة وارد بشأن القاضی بین الناس. وبناءً علی هذا فالمراد بالهدنة الصلح بین الناس وحل المنازعات بالطرق السلمیة؛ وبعبارة اُخری فانّ الهدنة هنا تقابل

ص:374


1- 1) «موضع» من مادة «ایضاع» بمعنی السرعة فی الحرکة (وهو یعطی معنی اللازم لا المتعدی رغم أنّه من باب الافعال) وهو هنا إشارة لحرکة الجهال المتشبهین بالعلماء السریعة بین الجهال.
2- 2) «عاد» من مادة «العدو» بمعنی الرکض.
3- 3) مقاییس اللغة، الجوهری، لسان العرب.
4- 4) «هدنة» بمعنی الصلح والمسالمة بین الناس.

الفتنة التی ذکرت فی العبارة السابقة. وبصورة عامة فانّ مثل هؤلاء الأفراد إنّما ینشدون تعمیق هوة الاختلافات وتشدیها لیتسنی لهم تحقیق أطماعهم ومآربهم الخبیثة، والحال لو علموا أنّ الصلح والسلام بین الناس إنّما یعود بالنفع علی جمیع الأفراد، ولیس هنالک من ینتفع بالنزاع والشقاق، لما اتجهوا إلی مثل هذه الامور. نعم ان هؤلاء الأفراد عمی عن مشاهدة الحقیقة فضلاً عن ادراکها.

وقال علیه السلام فی صفتهم الخامسة «قد سماه اشباه الناس عالماً ولیس به» یبدو أنّ قوة الجاذبیة التی تربط ذرات هذا العالم فی الأرض والسماء بحیث یمیل کل موجود وینجذب إلی شبهه، فانّ هذه القوة تحکم هذه الفئات والأفراد أیضاً. وما أروع تعبیره علیه السلام عن أتباع من تشبه بالعلماء بأشباه الناس، فی إشارة واضحة إلی أنّ أشباه الناس هم خدمة أشباه العلماء. ومن البدیهی أنّ شباهة هؤلاء بالناس کشباهة أئمتهم الجهال بالعلماء إنّما هی شباهة صوریة لیس أکثر، وغالباً ما یستعمل هذا التعبیر بشأن الموارد ذات الشبه الصوری کقوله علیه السلام فی الخطبة 27 من نهج البلاغة «یا أشباه الرجال ولا رجال» .

وما أن فرغ الإمام علیه السلام من بیان صفاتهم حتی تطرق إلی جانب من أفعالهم القبیحة النابعة بصورة مباشرة من تلک الصفات ونقاط الضعف التی تحکم کیانهم، فقال علیه السلام: «بکر (1)فاستکثر من جمع؛ ما قل منه خیر ممّا کثر» (2). یمکن ان تکون هذه العبارة إشارة إلی الإمکانات المادیة والدنیویة التی تؤدی کثرتها إلی الغفلة والتکبر والانهماک الدائم بالمادیات والابتعاد عن المعنویات؛ وغلباً مایکون قلیلها أفضل من کثیرها وأنّ الکفاف والعفاف أقرب إلی السعادة والفلاح من التکاثر والتفاخر. أو إشارة إلی فضول الکلام والمسائل العلمیة التی لا طائل من وراءها علی حساب الاُصول والمبادئ وذهب البعض إلی أنّ المراد بها الآراء الباطلة والعقائد الفاسدة، ولکن یبدو هذا الاحتمال مستبعداً؛ لأنّ القلیل من هذه الآراء والعقائد فیه الضرر

ص:375


1- 1) «بکر» من مادة «» بکرة علی وزن لقمة بمعنی أول النهار ثم أطلقت علی کل بدایة وانطلاقة، وهی هنا إشارة إلی أنّ الجهال المتشبهین بالعلماء إنّما یلهثون خلف الأعمال العابثة من أول النهار حتی اللیل.
2- 2) یمکن أن تکون الجملة (ما قل منه خیر ممّا کثر) صفة لجمع مفهومه: یجمع شیئاً قلیله خیر من کثیره، کما قیل یمکن أن تکون مضافة، وفی هذه الحالة تتطلب تقدیراً؛ أی من جمع شیء ما قل منه خیر ممّا کثر، ولکن لیس هنالک من فارق فی المعنی.

أیضاً، وإن کان هذا التفسیر لا ینسجم وبعض العبارات القادمة. ثم قال علیه السلام: «حتی إذا ارتوی من ماء آجن (1)واکتثر من غیر طائل (2)، جلس بین الناس قاضیاً ضامناً لتخلیص ما التبس علی غیره» .

أجل أنّ هذا الفرد الجاهل والضال المتشبه بالعالم الذی یتمتع برصید علمی مشوه مفعم بالأخطاء وله روح ونفس ولعة بعالم المادة شغفة بزخارف الدنیا وزبرجها، إنّما وضع نفسه فی موضع لا یتصدره سوی نبی أو وصی، کما ورد ذلک فی الحدیث المعروف عن الإمام علی علیه السلام حین خاطب شریح القاضی قائلاً: «یا شریح قد جلست مجلساً لا یجلسه إلّانبی أو وصی نبی أو شقی» (3)، والأدهی من ذلک یزعم أنّ هنالک حقائق، ولا غرو فهذه هی المزاعم والادعاءات الفارغة التی یتشدق بها کافة الجهال المتشبهین بالعلماء.

والآن بعد أن تصدی هذا الجاهل للقضاء فما عساه أن یفعل، قال الإمام علیه السلام بهذا الشأن: «فان نزلت به احدی المبهمات هیا لها حشوا رثامن رأیه، ثم قطع به» .

الحشو بمعنی الکلام الزائد الذی لا فائدة فیه، والرث بمعنی الخلق القدیم ضد الجدید، فقوله علیه السلام: «حشوا رثامن رأیه» کأنّها إشارة إلی أنّه لیس من أهل الخلاقیة والمبادرة، کما لیس له ذهنیة متفتحة، وأخیراً لایمکنه أن یجمع الأدلة المقیدة التی تعینه علی اصدار الحکم. فلیس له رصید سوی حفنة من الأفکار الزائدة التی لا طائل من وراءها وهی رثة قدیمة أکل الدهر علیها وشرب، وهذا هو اسلوبه ودیدنه ویقینه فی الحکم.

ومن الطبیعی أن لا تؤدی هذه المقدمات الباطلة والفاسدة إلی أی یقین، فهو یخدع الناس متظاهراً لهم بالیقین، وعلی فرض کونه وصل إلی الیقین فانه لیس معذوراً عند اللّه لأنّه سلک الخطأ والتقصیر فی المقدمات. فالمشاکل القضائیة کسائر المشاکل العلمیة والاجتماعیة والسیاسیة إنّما تعالج دائماً عن طریق دراسة المقدمات الصحیحة والمنطقیة؛ فذلک الذی لیست لدیه أدنی معرفة بهذه المقدمات الصحیحة وقد تعلقت أفکاره بالمسائل الباطلة فانّه لیس

ص:376


1- 1) «آجن» بمعنی الماء العفن.
2- 2) «طائل» من مادة «طول» علی وزن قول بمعنی الفائدة والامتداد، ومن غیر طائل تعنی دون فائدة.
3- 3) الوسائل الشیعه 17 / 37 ( [1]واضح أن وصی النبی هنا تنطوی علی مفهوم واسع یشمل العلماء العدول من أتباع النبی) .

فقط لا یتوصل إلی النتیجة الصائبة فحسب، بل سیغط فی هالة من الحیرة والتخبط والضلال کما سیسوق الآخرین إلی الضلال؛ والانکی من ذلک أنّه کلما تقدم أکثر فی هذا المجال ابتعد اکثر عن الوقائع والحقائق.

ثم یواصل الإمام علیه السلام کلامه «فهو من لبس الشبهات فی مثل نسج العنکبوت (1)» . وقد اختلفت أقوال الشرّاح بشأن التشبیه الذی استعمله الإمام علیه السلام فی هذه العبارة، فاوردوا بعض التفاسیر التی لا تخلو من التکلف والتقدیر والتغییر فی العبارة - أمّا التفسیر الذی یبدو مناسباً هو أنّ الإمام علیه السلام شبه هؤلاء الأفراد الجهال المغرورین ضعیفی الفکر بالعنکبوت حیث ینسج لنفسه خیوطاً تکون حرزاً لبیته کما تکون فخاً لصیده، امّا بیته فهو أوهن البیوت ولا یمکن الوثوق به أبداً، کما أنّ فخه لا یطیل سوی الحشرات الضعیفة العاجزة.

نعم هذا الجاهل أیضاً لیس لفخه من دور سوی صید أمثاله من الجهال الحمقی. وعلیه فهو کالعنکبوت وأفکاره کخیوطه وهمیة ضعیفة وحیدة یقتصر علی المغفلین عدیمی العلم والمعرفة. «لا یدری أصاب أم أخطأ، فان أصاب خاف أن یکون قد أخطأ، وان أخطأ رجا أن یکون قد أصاب» . هذا هو حال الأفراد الجهال الذین یتصدون إلی المناصب الهامّة التی لا یمتلکون الجدارة لممارستها. فهم علی شک وتردید دائماً، حتی أنّ اتجهة صوب الصواب فحیث لا یؤمن بذلک فهو متزلزل یطلق سهمه فی الظلام دائماً عله یصیب الهدف. ویتصور بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ الجملة الأخیرة تتناقض والعبارة «ثم قطع به» لأنّ تلک العبارة تحدثت عن القطع والیقین بینما تتحدث هذه العبارة عن الشک والتردید. والحال أنّ العبارة «ثم قطع به» تعنی الحکم القاطع لا قطع القاضی ویقینه، فالواقع أنّه یحکم فقط ویتخذ لنفسه صیغة القطع، بینما یفیض باطنه بعاصفة من الشک والتردید. نعم مصیبته الکبری فی دینه، فان أصاب الواقع مصادفة شعر بالتزلزل لأنّه لا یملک الإیمان والیقین، وان هذا التزلزل یؤرقه ولا یجعله قادراً علی اتخاذ القرار؛ وان أخطأ فان سبیل الرجوع مغلق بوجهه لأنّه لیس واقفاً علی خطأه. ثم انتقل الإمام علیه السلام إلی صفة اُخری لیصور حال هؤلاء الأفراد بتعبیرات قارعة

ص:377


1- 1) «العنکبوت» هی الحشرة المعروفة، وهناک اختلاف فی أصلها من مادة عکب أن عنکب، وقیل اقتبست من مادة «عکوب» بمعنی الغبار لأنّ خیوطه تشبه الغبار.

وتشبیهات غایة فی البلاغة والجمال فقال علیه السلام: «جاهل خباط (1)جهالات» ، فهو کالأعمی فی الظلمات الملیئة بالمخاطر «عاش رکاب عشوات» (2)فالإمام علیه السلام لا یکتفی بوصفه بالجاهل، بل یؤکد ذلک لیصفه بأنّه یغط دائماً فی هالة من الجهل، کما لا یکتفی الإمام علیه السلام بعشوته وعماه بل یصوره بانه یمتطی الظلمة والعتمة ویحث السیر دون أن یعلم أین یسیر وإلی أین سینتهی به هذا المسیر. المفردة عاش من مادة عشا، فسرت بالعمی المطلق، کما فسرت یضعف الرؤیة وقیل أیضا یراد به عشوة اللیل، ومهما کانت فانّ المراد هو أن صاحبها لا یستطیع رؤیة ما حوله من الأشیاء، فاذا ما تحرک سقط فی الهاویة، بل قادته حرکته إلی الجحیم، وهذا هو حال من یتصدی للقضاء بین الناس دون الاستناد إلی العلم والمعرفة ویزج بنفسه فی هذا الطریق الشائک الملیء بالمخاطر، فکلما مر علیه یوم من حیاته کثر بؤسه وشقائه لنفسه وللناس حتی ینتهی به المطاف إلی السقوط فی وادی الکفر والضلال، والأنکی من کل ذلک أنّ مثل هذا الفرد یری نفسه عالماً ضالعاً بموازین القضاء والحق والعدل فلا یسع أحد احصاء خطایاه وذنوبه!

ثم ینتقل الإمام علیه السلام لبیان صفة اُخری من صفات هذا الجاهل المتخبط «لم یعض علی العلم بضرس قاطع» ، فقد شبهه الإمام علیه السلام بمن یتناول الطعام دون المضغ بحیث لا یسع الجسم هضمه. ذهب بعض شرّاح نهج البلاغة إلی أن المراد بالضرس هنا سن العقل الذی یظهر فی مرحلة تکامل العقل، وکأن هؤلاء الجهال لیس لهم سن عقل، فهم لا یقیمون القضایا بشکل سلیم، وبالمقابل هنالک الأفراد العلماء الحلماء الذین یتحدثون بالضرس القاطع؛ أی أنّ حدیثهم یستند إلی أسس العقل والمنطق السلیم.

وقال علیه السلام فی صفتهم الثالثة أنّهم کالریح العاصف التی تهلک الحرث والزرع فهی تهب هوجاء دون هدف وهذا حال تعامل الجاهل مع الروایات الإسلامیة «یذرو (3)الروایات ذرو الریح الهشیم (4)» . إشارة إلی أنّه یطالع ظاهریاً الموضوعات التی تصدت لبیانها الروایات

ص:378


1- 1) «خباط» من مادة «خبط» ، صیغة مبالغة من خبط اللیل إذ سار فیه علی غیر هدی، ومن هنا یطلق خابط أو ضابط علی الفرد المجنون او الذی لا یستطیع توازنه.
2- 2) «عشوات» جمع «عشوة» بمعنی الظلمة.
3- 3) «یذرو» من مادة «ذرو» علی وزن ضرب بمعنی ینثر (وقد وردت هذه المفرة بهیئة ناقص واوی وناقص یائی) .
4- 4) «هشیم» من مادة «هشم» بمعنی ما یبس من النبات وتهشم وتفتت.

والسنّة النبویة، ولکن ما جدوی ذلک وهو یفتقر إلی تقییمها الصحیح، فهو لا یمتلک العلم بمضمونها ولا بقوة سندها من ضعفه، کما لا یعرف الجمع بین الروایات المتعارضة ولا یمیز المحکمة من المتشابهة. فهو بالضبط کالریح الهشیم التی تذرو النباتات هنا وهناک. فالنباتات الجافة (الهشیم) قد لا تکون لها أیة فائدة، بینما قد تفید إذا جمعت، أمّا الریح الهوجاء تزیل حتی هذه الفائدة الضئیلة من خلال ذروها وتفریقها، وهذا ما علیه الحال بالنسبة للأفراد الجهال الذین یتعاملون مع الروایات دوتن أن تکون لهم معرفة صحیحة بغشها من سمینها وصحیحها من سقیمها.

ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی صفتهم الرابعة، لیقسم بأنّ هؤلاء الجهال لیسوا حریین بحل ما ترد علیهم من قضایا ولا جدیرین بأدنی مدح واطراء یمارسه المتلمقون تجاههم «لاملی - واللّه - باصدار (1)ما ورد علیه، ولا أهل لما قرظ (2)به» .

ممّا لا شک فیه أنّ الفصل فی الخصومات القضائیة والذی یصطلح علیه الفقهاء برد الفروع إلی الأصول إنّما یتطلب رصیداً علمیاً ثراً لا یتحلی به هؤلاء الجهال المغرورون، وهذه الضحالة العلمیة تفحمهم وتجعلهم یضلون سبل التعامل مع القضایا فلا یمیزوا کیفیة الدخول فیها أو الخروج منها (المراد بالدخول والخروج هنا ما تعارف بشأن الموضوعات المطروحة علی العلماء فیقال أن فلاناً یعلم کیف یرد هذه المسائل وکیف یخرج منها، والفرد الجاهل یفتقر بالمرة لهذه المسألة) .

أمّا إحدی مشاکل هؤلاء الأفراد هی إطاحتهم بثلة من المتملقین الذین یهدفون إلی تحقیق مطامعهم الدنیویة فیطرونهم بمختلف ألوان المدح والثناء ویضفون علیهم ما لا یستحقونه من الصفات، فیطرب هؤلاء الجهال لمثل هذه الأکاذیب والنعوت الفارغة رغم علمهم بکذبها وزیفها إلّاأنّهم وبمرور الزمان یظنون أنّهم کذلک وهذه قمة البؤس والشقاء التی یبلغونها بحیث تغلق أمامهم کافة سبل النجاة. (3)

ص:379


1- 1) «اصدار» من مادة «صدور» ضد الدخول.
2- 2) «قرظ» بمنی مدح.
3- 3) ذکر بعض شراح نهج البلاغة [1]هنا المفردة «فرط» من مادة التفریط و «فوض» من مادة التفویض بدلاد من «قرظ» من مادة «التقریظ» بمعنی المدح و الثناء. و حیث آلینا علی أنفسنا ألانجری خلف اختلاف نسخ نهج البلاغة و [2]نکتفی بالنسخة المعروفة المتداولة الیوم، لذلک نغض الطرف عن الخوض فی ما ذکروه.

وقال علیه السلام فی صفتهم الخامسة «لا یحسب العلم فی شیء ممّا أنکره، ولا یری أنّ من وراء ما بلغ مذهباً لغیره» . والواقع أنّ هذا من لوازم الضحالة الفکریة وضیق العلم والمعرفة حیث یری الإنسان نفسه هو العلم الکامل فینکر کل ما ورائه فلا یری من حرمة لأفکار الآخرین وعلومهم، بینما لا یری العالم الحق فی العلم والمعرفة سوی الاعتراف بالجهل، فیسوقه ذلک إلی التواضع للآخرین والاستماع إلی أقوالهم «فَبَشِّرْ عِبادِالَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (1)فهم یستمعون إلی الآخرین ویصطفون أحسن مایرد فی کلامهم، فی حین یطالعک الجاهل المغرور الذی یتحدث علی سبیل القطع وهو لیس علی شیء.

وصفته السادسة التی ذکرها الإمام علیه السلام: «وان أظلم علیه أمر اکتتم به لما یعلم من جهل نفسه» هذا هو الفارق والحد الفاصل بین العالم والجاهل، فالعالم إذا عرض له أمر مبهم کرس له اهتمامه فان صعب علیه حله وإزالة ابهامه استشار من حوله واستفاد من أفکارهم وانفتح علی تجاربهم، بینما یهمله الجاهل ویمر علیه مروراً عابراً، لأنّ یعلم بأن التعامل معه والتفکیر فیه لا تزیده سوی فضیحة. وزبدة الکلام فهو یعمل علی الخلاف ممّا ورد فی الروایات الإسلامیة بعدم الحیاء من قول لا أدری إذا عرض علیه ما لا یعلمه ولا ینبغی أن یستنکف عن تعلمه «ولایستحین أحد منکم إذا سئل عمّا لا یعلم أن یقول: لا أعلم، ولا یستحین أحد إذا لم یعلم الشیء أن یتعلمه» (2). والواقع هو أنّ عدم الالتزام بمضمون هذه الروایة إنّما یقود إلی اضرار فادحة تطیل الشخص والمجتمع الذی یعیش کواحد من أفراده.

ثم أشار الإمام علیه السلام إلی حصیلة عمل هؤلاء القضاة الجهال عدیمی الورع والتقوی بقوله: «تصرخ من جور قضائه الدما، وتعج (3)منه المواریث» . أجل فما أکثر الدماء التی تسفک والأموال التی تهدر وهی تضج بصراخها من الأحکام المجحفة التی یصدرها هؤلاء القضاة الجهال، فیطرق هذا الصراخ ضمیر السامع فیهز أعماقه، بینما یعیش هذا الجاهل نشوة الغرور

ص:380


1- 1) سورة الزمر / 17 - 18. [1]
2- 2) نهج البلاغة، [2] الکلمات قصار، الکلمة 82.
3- 3) «تعج» من مادة «عج» و «عجیج» بمعنی ارتفاع الصوت وهنا بمعنی الصراخ.

فلا یسمع ولا یری ما حوله. امّا تعبیره علیه السلام ب «تصرخ» و «تعج» فهو تعبیر فی منتهی الروعة والجمال، حیث عبر عن الدماء التی تراق من غیر حلها بالصراخ وکأن لهذه الدماء علم وشعور وإدراک، فی حین لیس لهذا الجاهل المغرور مثل هذه المعانی فهو یعیش فی جهل مطلق. ومن هنا نعتقد بأنّ ما ذکره بعض الشرّاح من أنّ فی الجملة تقدیر ینسبون من خلاله هذه الصراخ إلی أولیاء الدم وأصحاب الأموال إنّما یقضی علی هذه اللطافة والروعة فی التعبیر. علی کل حال فان رسالة القضاء والقضاة التی تهدف إلی حفظ دماء الناس وأموالهم إنّما تضیع فی ظل تصدی هؤلاء الجهال لمسند القضاء؛ الأمر الذی یقود بالتالی إلی تغییب أمن المجتمع وسیادة الفوضی.

والکلام شبیه ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام فی روایة «أبو ولاد» حین سمع علیه السلام اصدار بعض الأحکام القضائیة الظالمة فقال: «فی مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها وتمنع الأرض برکاتها» (1).

تأمّلات

1 - آفات علماء السوء

لقد أشار الإمام علیه السلام فی الخطبة إلی الآفات الخطیرة للجهال المتشبهین بالعلماء وعلماء السوء الذین یشقون أنفسهم وقومهم. وقد تتسبب بعض هذه الأخطار والآفات فی سفک دماء الأبریاء وهضم حقوق المظلومین المستضعفین، فتصرخ تلک الدماء من الأحکام الظالمة کما فأن الأموال المهدروة من القضاء الجائر. فقد جاء عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله: «من عمل علی غیر علم کان ما یفسد أکثر ممّا یصلح» (2)کما قال صلی الله علیه و آله: «من أفتی الناس بغیر علم وهو لا یعلم الناسخ من المنسوخ والمحکم من المتشابه فقد هلک وأهلک» (3).

والعجیب أن هؤلاء الأفراد کلما عملوا أکثر کان ضررهم أعظم، وهذا ما أشار إلیه الإمام

ص:381


1- 1) وسائل الشیعة 13 / 256. [1]
2- 2) اصول الکافی 1 / 44. [2]
3- 3) اصول الکافی 1 / 43. [3]

الصادق علیه السلام: «العالم علی غیر بصیرة کالسائر علی غیر الطریق لا یزیده سرعة السیر إلّا بعداً» (1).

2 - علم کخیط العنکبوت

لقد شبه علیه السلام علم هؤلاء الجهال المتلبسین بزی العلماء بخیوط العنکبوت؛ وهو التشبیه الذی اقتبس فی الواقع من القرآن الکریم - سورة العنکبوت - الذی شبه أولیاء المشرکین ببیت العنکبوت «مَثَلُ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْلِیاءَ کَمَثَلِ العَنْکَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَیْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ البُیُوتِ لَبَیْتُ العَنْکَبُوتِ لَوْ کانُوا یَعْلَمُونَ» . والعنکبوت ینطوی علی بعض خصائص العجائب فی الخلقة. فالعنکبوت تنسج خیوطها من قطرة لزجة غایة فی الصغر فی بطنها تلصقها فی الخارج بمساعدّة مخلبها؛ حیث لهذا المائع ترکیب خاص یتصلب وینجمد بمجرد ملامسته للهواء، ویعتقد بعض العلماء أن للعنکبوت القدرة علی نسج ما یعادل خمسمئة متر من هذه الخیوط بالاستفادة من تلک المادة اللزجة الصغیرة. وهذه الخیوط هی التی تشکل بیت العنکبوت وفخه، إلّاأنّ القرآن أشار إلی أنّ أوهن البیوت هو بیت العنکبوت، فأیة ریح مهما کانت خفیفة تحطم هذا البیت، کما أنّ قطرة الماء تخترقه، وأدنی شعلة نار تخربه، بل لیس له قابیلة استقطاب التراب والغبار فهی الاُخری تقضی علیه، وهذه هی الصورة الحقیقیة لأولیاء الشرک وعلم الجهال. فالعلماء الذین یستندون فی علمهم إلی القیاس والاستحسان وما إلی ذلک إنّما علمهم کبیت العنکبوت أجوف هزیل لا یصمد أمام شیء ولیس من شأنه فعل شیء.

کما یفهم من هذا التشبیه بشأن هؤلاء الجهال المتشبهین بالعلماء أنّ فرائسهم کفرائس العنکبوت حیث ینحصر فی الأفراد الضحلین الذین لا قیمة لهم کفرائس العنکبوت من الحشرات التافهة.

3 - اطراء المتملقین

لقد تطرق الإمام علیه السلام فی الخطبة إلی عدم استحقاق هؤلاء إلی المدح والثناء الذی یکیله لهم

ص:382


1- 1) اصول الکافی 1 / 43. [1]

المتملقون من أشباه الرجال؛ وهو الأمر الذی یستبطن البلاء الذی یعود علی هؤلاء الجهال إلی الاعتقاد بالتدریج أنّ لدیهم العلم والمعرفة والجدارة والأهلیة، فیرون فی أنفسهم الکفاءة فی التصدی لهذا المنصب الخطیر الذی یؤدی بالتالی إلی هلاکهم واهلاکهم. فضرر هؤلاء المتملقین الذین یحیطون بهؤلاء الجهال ویسوقونهم للتصدی للقضاء لا یقل عن خطر هؤلاء الجهال فی التصدی إن لم یکن أعظم وأفدح؟ الأمر الذی ذمه القرآن الکریم إلی جانب الروایات الإسلامیة. ومن ذلک أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال: «إذا مدح الفاجر اهتز العرش وغضب الرب» (1)وقال صلی الله علیه و آله: «من مدح سلطاناً جائراً وتخفف وتضعضع له طمعاً فیه کان قرینه إلی النار» (2). ومن هنا ورد التحذیر من مطلق المدح والاطراء لتنبه إلی ذلک حتی الأفراد من أهل الورع والتقوی إلی الأخطار التی ینطوی علیها هذا المدیح، فقد ورد عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «احثوا فی وجوه المداحین التراب» (3)وهذا ما حذر منه أمیر المؤمنین علیه السلام مالک الأشتر فی عهده الذی عهده إلیه حین ولاه مصر بعد أن دعاه إلی مجالسة أهل الورع والتقوی والصدق: «ثم رضهم علی ألا یطروک ولا یبجحوک بباطل لم تفعله فان کثرة الاطراء تحدث الزهو وتدنی من العزة» (4).

ص:383


1- 1) بحار الأنوار 74 / 150. [1]
2- 2) بحار الأنوار 72 / 369. [2]
3- 3) بحار الأنوار 70 / 294. [3]
4- 4) نهج البلاغة، الرسالة 53. [4]

ص:384

القسم الثالث

اشارة

«إلَی اللّه أشْکُو مِنْ مَعْشَرِ یَعیشونَ جُهّالاً، وَیَمُوتُونَ ضُلاَّلاً، لَیْسَ فِیهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْکِتابِ إِذا تُلِیَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَیْعاً وَلا أَغْلَی ثَمَناً مِنَ الْکِتابِ إِذا حُرِّفَ عَنْ مَواضِعِهِ وَلا عِنْدَهُمْ أَنْکَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْکَرِ!» .

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام خطبته بالشکوی إلی اللّه بقلب کسیر وأنین متواصل من مثل هؤلاء الجهال المتشبهین بالعلماء والقضاة من عبدة الأهواء والشهوات الذین مردوا علی الغرور وحب الذات، فقال علیه السلام: «إلی اللّه أشکو من معشر یعیشون جهالاً، ویموتون ضلالاً» . والواقع هو أنّ الإمام علیه السلام ینعتهم بصفات اُخری استمراراً لما وصفهم به فی السابق، فحیاتهم بأکملها جهل فی جهل فلم یکن موتهم سوی ضلال فی ضلال (ففی الحقیقة ان العبارة الثانیة نتیجة حتمیة للعبارة الاولی) فکیف لا یموت علی الضلال من یفنی عمره فی الجهل.

أمّا الصفة الاُخری لهم والتی تعدّ علامة فارقة للتعرف علیهم هی: «لیس فیهم سلعة (1)أبور (2)من الکتاب إذا تلی حق تلاوته، ولا سلعة أنفق (3)بیعاً ولا أغلی ثمناً من الکتاب إذا

ص:385


1- 1) «سلعة» علی وزن فرقة، المتاع والبضائع التجاریة، وفی الأصل جاءت من مادة «سَلْع» بمعنی الفتحة أو الفُرجة أو الشق، وتطلق علی ثغرة الجبل أو شق الجبل، وبما أن البضائع التجاریة توضع بشکل علنی فی منظر ومرآی العیون، لذلک سمیت «سلعة» .
2- 2) «أبور» من مادة «بَوْر» علی وزن غَوْر بمعنی الهلاک والفساد، ومن هنا یطلق هذا اللفظ علی الرکود فی السوق لانه یتسبب فی أضرارٍ لرؤوس المال.
3- 3) «أنفق» من مادة «نفاق ونفوق» ، وفی الأصل بمعنی الزوال والانعدام، ومن هنا یقال للعطاء والصرف «انفاق» ، والظاهر بان ذلک یطلق علی الاموال التی تصرف أو تنفق، أی التی تخرج من الید، واذا استفید من اللفظ فی موضوع الانفاق والعطاء فیکون معناها، البذل والمساعدة، حیث یقصد بها الأموال التی یتم انفاقها. ویطلق أیضا علی رواج الأمتعة فی السوق «نَفاق» علی وزن «طلاق» وذلک لانها تُسْتری بسرعة من قبل الناس، وبذلک تخرج من السوق.

صرف عن مواضعه» . إنّهم یریدون قرآناً ینسجم مع أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ونیاتهم السیئة، ولما کان القرآن بتفسیره الحق لا ینسجم مع تطلعاتهم، فهم ینبذوه ویعمدون إلی تحریفه وتفسیره برأیهم وما تملیه علیهم خیالاتهم.

والنقطة الجدیرة بالذکر هنا هی أنّهم یعیشون فی وسط یکن للقرآن منتهی القدسیة والاجلال والاکبار علی أنّه وحی اللّه الذی أوحاه إلی نبیّه صلی الله علیه و آله؛ الأمر الذی یدفع بهم ولتحقیق أغراضهم ومآربهم إلی التظاهر بالانضواء تحت رایته فیسعون جاهدین لاضفاء الصیغة القرآنیة علی تحریفاتهم وتفسیراتهم الخاطئة، فیعود هذا الکتاب السماوی الذی یفیض نوراً وهدایة إلی وسیلة لاضلال الناس.

أمّا الصفة الأخیرة التی ینعتها بهم الإمام علیه السلام فهی «ولا عندهم أنکر من المعروف، ولا أعرف من المنکر» .

ملاحظة

التفسیر بالرأی وقلب الحقائق

إنّ أعظم فارق بین المؤمنین المتقین وعدیمی التقوی إنّما یکمن فی کون الفریق الأول یتعامل مع القرآن الکریم والأحکام الشرعیة کأصل ثابت ویسعی لتکییف إرادته وشؤونه علی ضوئه، فان شعروا بأنّهم أخطأوا أو خرجوا من دائرة تلک الأحکام ندموا وتضرعوا إلی اللّه وطلبوا منه العفو والمغفرة «إِنَّ الَّذِینَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّیْطانِ تَذَکَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .

أمّا الفریق الثانی الأنانی المغرور فهو یمنح هذه الأصالة لإرادته وأهوائه الطائشة التی لا تعرف القیود والحدود، فهو یسعی لتکییف الآیات القرآنیة مع أهوائه ورغباته؛ ولا عجب

ص:386

فهو یری نفسه الأصل والقرآن الفرع، فالأحکام الإلهیة محترمة لدیه ما کانت منسجمة مع هواه وهوسه، فان لم تکن کذلک ضربها عرض الجدار. ومن هنا وصفه القرآن بالازدواج فی التعامل مع الآیات القرآنیة «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَکْفُرُ بِبَعْضٍ» فهو مصداق بارز لقوله سبحانه «أَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ» . امّا الاسلوب الآخر الذی درج علیه هذا الفریق فانّما یکمن فی التحریف المعنوی للقرآن وتفسیره برأیه، ولا ینشد من ذلک سوی خداع الناس أحیاناً أو خداع نفسه أحیاناً اُخری، وهذا ما ذمته بشدة الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة. فقد أشار القرآن الکریم إلی الیهود التی مارست هذا الاسلوب بالقول: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ یُؤْمِنُوا لَکُمْ وَقَدْ کانَ فَرِیقٌ مِنْهُمْ یَسْمَعُونَ کَلامَ اللّهِ ثُمَّ یُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ یَعْلَمُونَ» (1)ومن المسلم به أنّ مثل هؤلاء الأفراد لا یسلمون لأیة حقیقة تطرح علیهم، أنّهم کخفافیش اللیل التی تعادی الشمس الحقة، وفوق ذلک أنّهم لم یؤمنوا باللّه طرفة عین؛ ولذلک ورد فی الحدیث النبوی الشریف عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله انّه قال: «قال اللّه جل جلاله: ما آمن بی من فسر برأیه کلامی» (2).

کما قال صلی الله علیه و آله: «أشد ما یتخوف علی اُمتی ثلاث: زلة عالم، أو جدال منافق بالقرآن، أو دنیا تقطع رقابکم» (3).

أمّا الحدیث عن التفسیر بالرأی ومفهومه والأخطار المترتبة علیه فهذا ما سنعرض له فی محله فی الأبحاث القادمة إن شاء اللّه.

ص:387


1- 1) سورة البقرة / 75. [1]
2- 2) بحار الأنوار 89 / 107. [2]
3- 3) بحار الأنوار 89 / 108. [3]

ص:388

الخطبة الثامنة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

فی ذم اختلاف العلماء فی الفتیا وفیه یذم أهل الرأی ویکل أمر الحکم فی اُمور الدین للقرآن. (1)

القسم الأول

اشارة

«تَرِدُ عَلَی أَحَدِهِمُ الْقَضِیَّةُ فِی حُکْمٍ مِنَ الْأَحْکامِ فَیَحْکُمُ فِیها بِرَأْیِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْک الْقَضِیَّةُ بِعَیْنِها عَلَی غَیْرِهِ فَیَحْکُمُ فِیها بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ یَجْتَمِعُ الْقُضاةُ بِذَلِک عِنْدَ الْإِمامِ الَّذِی اسْتَقْضاهُمْ فَیُصَوِّبُ آراءَهُمْ جَمِیعاً، وَإِلَهُهُمْ واحِدٌ! وَنَبِیُّهُمْ واحِدٌ! وَکِتابُهُمْ واحِدٌ!» .

ص:389


1- 1) طبق ماورد فی مصادر نهج البلاغة [1]بشأن سند الخطبة، رواها محمد بن طلحة الشافعی فی کتاب مطالب السؤال 1 / 141 وصرح بأن محمد بن طلحة وان عاش بعد الشریف الرضی إلّاأنّ روایة هذه الخطبة مع بعض الاختلاف الطفیف دلیل علی وجود مصدر آخر لدیه غیر نهج البلاغة، [2] ثم أضاف: یستفاد من روایة القاضی نعمان المصری فی «دعائم الإسلام» الذی عاش قبل الشریف الرضی أنّ هذه الخطبة کانت معروفة عند الشیعة. والذی یستفاد من کلام محمد بن طلحة أنّ هذا الکلام هو جزء من الخطبة السابقة، والواقع أنّهما خطبة واحدة مع سابقتها فهی مرتبطة بها تماماً، ولذلک یبرز هنا هذا السؤال: لم فصلهما الشریف الرضی عن بعضهما؟ ذهب صاحب مصادر نهج البلاغة [3]إلی احتمالین: الأول أن یکون الشریف الرضی نقلهما من مصدرین، والآخر أنّه کتب حقاً: ومن هذا الکلام؛ أی أنّ هذا الکلام جزء من الخطبة السابقة، إلّاأنّ نساخ نهج البلاغة [4]التبس علیهم الأمر فکتبوا «ومن کلام له علیه السلام الذی یفید کونه کلاماً مستقلاً» . (مصادر نهج البلاغة 1 / 362 [5] مع شیء من التوضیح) . [6]

نظرة إلی الخطبة

یعتقد بعض المحققین - کما ذکرنا سابقاً - أنّ هذه الخطبة هی جزء من الخطبة السابقة وقد فککها الشریف الرضی (ره) ؛ الأمر الذی یؤیده مضمون الخطبة ومحتواها؛ فالخطبة السابقة تحدثت عن القضاة والجهال المنحرفین الذین یصدرون الأحکام الجائرة فی قضائهم بما یهدد بالصمیم أمن الاُمّة وصیانة عرضها وأموالها وأنفسها وبالتالی استشراء الفوضی والفساد فی صفوف المجتمع.

کما تحدثت هذه الخطبة هی الاُخری عن القضاة الذین یستندون فی أحکامهم إلی الأدلة الواهیة الضعیفة من قبیل القیاس والرأی والاستحسان فتوصلهم إلی نتائج خاطئة، والأنکی من ذلک یصوب رئیسهم کل هذه الأحکام المتناقضة ویری فیها أحکام اللّه المطابقة للواقع. ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی ابطال نظریة التصویب (النظریة التی تری أن آراء القضاة وفتیا الفقهاء تمثل الأحکام الإلهیة الواقعیة رغم تضادها وتضاربها مع بعضها) ، علی أساس الأدلة المنطقیة التی تفند مثل هذه العقیدة، ثم یکشف النقاب عن السبیل الذی یقود إلی الحق فی هذه القضایا الإسلامیة التی ضل فیها الکثیرون.

والخطبة علی ثلاثة أقسام:

القسم الأول: فی الحدیث عن الاسلوب الذی اعتمده القضاة فی تعاملهم مع القضایا والتی تستبطن الأحکام المتناقضة التی تخالف أحکام اللّه.

والقسم الثانی: فی ابطال النظریة التی تصرح بصواب الجمیع.

وأخیراً القسم الثالث الذی یتحدث فی الإمام علیه السلام عن عظمة القرآن وکونه المرجع الفصل فی حل جمیع الاختلافات.

الشرح والتفسیر

ما علّة کل هذا الاختلاف؟

یستهل الإمام علیه السلام کلامه بالقول: «ترد علی أحدهم القضیة فی حکم من الأحکام فیحکم

ص:390

فیها برأیه، ثم ترد تلک القضیة بعینها علی غیره فیحکم فیها بخلاف قوله» ثم أردفه علیه السلام بالقول «ثم یجتمع القضاة بذلک عند الإمام الذی استقضاهم فیصوب آراءهم جمیعاً، وإلههم واحد أو نییهم واحد! وکتابهم واحد» .

ولعل هذه المسألة تبدو عیجبة للأعم الأغلب من الناس صعبة التصدیق لدیهم فی أنّ تصادق جمیع الآراء المتضاربة والمتناقضة علی أنّها أحکام اللّه؛ إلّاأنّها واقع قائم تبلور بشکل عقیدة لدی طائفة إسلامیة من أبناء العامة. ولو تأملنا العلل والدوافع التی ساقت هذه الطائفة إلی هذا الاعتقاد - والذی سنتطرق إلی تفاصیله فی الأبحاث القادمة - سنکتشف أنّهم جعلوا أنفسهم فی زاویة ضیقة حرجة لم یبق أمامهم من سبیل للخروج من هذا المأزق سوی اللجوء إلی عقیدة التصویب.

إلّا أنّ الإمام علیه السلام یوجه ضربة قاصمة إلی دعائم هذه العقیدة المنحرفة بقوله «والههم واحد ونبیهم واحد وکتابهم واحد» .

فمما لاشک فیه لا یصدر من اللّه الواحد فی مسألة واحدة سوی حکم واحد، فهو العالم بکافة الحقائق المحیط بجمیع الأشیاء فیحکم فیها بحکم واحد علی ضوء المصالح والمفاسد.

فلا یخطئ فی هذا الحکم ولا من سبیل للنسیان إلی ذاته المقدسة لیختلف الحکم ولا یندم ولا ینکشف له بمرور الزمان ما کان مجهولاً - إذن فلا یمکن تصور الاختلاف من جانب اللّه أبداً.

أضف إلی ذلک فانّ نبیّهم واحد، وهو معصوم فی اصدار الأحکام، فیبیّن الحکم الإلهی دون زیادة أو نقیصة، وعلیه فلیس هنالک اختلافاً من جانبه أیضاً. وأخیراً کتابهم واحد؛ الکتاب الذی لا یأتیه الباطل من بین یدیه ولا من خلفه، ولیس للتحریف من سبیل إلیه، فهو یستند إلی الوحی الإلهی الذی یأبی الاختلاف والتضاد؛ فهو کتاب اللّه «وَلَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً» (1).

إذن فلیس هنالک اختلافاً من جانب الکتاب. فهذه العبارات فی الواقع مقدمة لما سیأتی

ص:391


1- 1) سورة النساء / 82. [1]

من کلام فی أنّ هذا الاختلاف انّما ینبع من أفکارهم القاصرة وعجزهم العلمی، وبعبارة اُخری فانّ هذه العبارات اجابة ورد علی مسألة التصویب التی تعرض لها الإمام علیه السلام بصورة مفصلة لاحقاً.

والواقع هو أنّ الاعتقاد بالتصویب وصحة الآراء المتناقضة إنّما هو انحراف عن أصل التوحید ونزوع نحو نوع من الشرک. فالتوحید الإلهی یعنی أنّ اللّه واحد، وتوحید النبوة یری أنّ نبوة اُولی العزم واحدة فی کل عصر، وتوحید الشریعة فی أن الکتاب السماوی واحد.

وعلیه فالمیل نحو تعدد الأحکام الواقعیة لیس سوی الشرک الذی یتقاطع صراحة وأصل التوحید.

تأمّلات

1 - مسألة التصویب ونشأتها

تعتبر هذه المسألة من أهم المسائل الإسلامیة ذات الصلة الحمیمة بمسألة «الاجتهاد» و «الرأی» و «القیاس» و «الاستحسان» وما إلی ذلک، کما ترتبط بالأحداث السیاسیة والتأریخیة التی أعقبت وفاة النبی صلی الله علیه و آله. وإلیک شرحها باختصار بعیداً عن الاطالة والخروج عن اُسلوب البحث:

1 - أنّ عصر الرسالة کان مفعماً بالأحداث المعقدة الاجتماعیة والسیاسیة والعسکریة بحیث لم تدع للمسلمین من مجال للوقوف علی کافة الأحکام، وإن بینت اصولها الاساسیة فی القرآن.

2 - لقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامیة بعد النبی صلی الله علیه و آله بحیث کانت تظهر مسائل جدیدة کل یوم فی الأحکام الفقهیة الإسلامیة حتی رأی المسلمون أنفسهم أمام کم هائل من المسائل المستحدثة ولم یروا أجوبتها فی الأحادیث النبویة الشریفة.

أضف إلی ذلک منع بعض الخلفاء (عمر) الصحابة من تدوین السنّة (1)مخافة أن تختلط

ص:392


1- 1) المرحوم العلّامة الأمینی ذکر فی المجلد السادس من الغدیر الأدلة علی هذه المسألة من أهم مصادر العامة من قبیل سنن ابن ماجة وسنن الدارمی ومستدرک الحاکم فی تذکرة الحفاظ وکنز العمال وغیرها تحت عنوان «نهی الخلیفة عن الحدیث» وبیّن کیف ان عمر نهی عن تدوین أحادیث رسول اللّه صلی الله علیه و آله وهدد بالحبس والنفی کل من رواها.

بالقرآن، حتی اندثرت أغلب أحادیث رسول اللّه صلی الله علیه و آله، فأصبح هناک نقصاً حاداً فی المصادر الإسلامیة، حتی رأی الفقهاء ولا سیما الخلفاء الذین کانوا یشهدون کل یوم هجوم المسائل الفقهیة الجدیدة أنّهم یعیشون حرجاً شدیداً، بحیث إذا زعموا أنّ الإسلام لا یمتلک الردود تجاه مختلف القضایا الحقوقیة والجزائیة والفردیة والاجتماعیة، فند زعمهم بالآیة القرآنیة «الیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلامَ دِیناً» (1).

فالدین الخاتم الذی لا یعرف معنی للمکان والزمان بل یتصف بالعالمیة والخلود لابدّ أن یلبی کافة الحاجات علی مدی الدهور والعصور إلی نهایة الدنیا، ولکن کیف بذلک مع هذه الأحادیث القلیلة التی نقلت عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله. وهنا لا ینبغی أن ننسی بأنّ هذا المأزق الحرج إنّما نشأ من تجاهل وصیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وحدیثه المعروف بحدیث الثقلین الذی قرن فیه العترة الطاهرة من أهل بیته بالقرآن الکریم وأنّ الاُمّة ان تمسکت بهما معاً فانّها لن تضل بعده أبداً (2). فلو عمل المسلمون بهذه الوصیة وتلقوا أحادیث الأئمة المعصومین التی تمثل الامتداد الطبیعی لأحادیث رسول اللّه صلی الله علیه و آله فانّ مشکلة لم تکن لتحدث قط ولم یشهد المسلمون هذه المعضلة التی عصفت بالفرق الإسلامیة، وهذا بعینه ما جعل أتباع مدرسة أهل البیت علیهم السلام لا یشعرون بنقص تجاه أیة مسألة من المسائل الفقهیة، وقد نقلت الآلاف المؤلفة من أحادیث هذه العترة لتمکن فقهاء الإمامیة من التعامل مع کافة القضایا الفقهیة علی ضوء النظرة الإسلامیة.

3 - أخیراً وبهدف خروج فقهاء العامة من هذا المأزق والطریق المسدود لم یکن لهم من سبیل سواء اللجوء إلی القیاس والاستحسان والاجتهاد بالمعنی الأخص وتشریع القوانین والأحکام من الفقهاء - فانبروا لیقسموا المسائل إلی قمسین: مسائل منصوصة ومسائل لا نص فیها (أی المسائل التی ورد بشأنها حکم فی الکتاب والسنّة والمسائل التی لم یرد فیها نص فی

ص:393


1- 1) سورة المائدة / 3. [1]
2- 2) لقد تحدثنا بالتفصیل فی کتاب نفحات القرآن ج 9 بحث «الولایة والإمامة العامة فی السنّة» عن حدیث الثقلین وتواتره فی المصادر الروائیة للفریقین ومصادره المعروفة فی صحیح مسلم والترمذی والدارمی ومسند أحمد وخصائص النسائی ومستدرک الصحیحین وسنن البیهقی وغیرها من المصادر.

الکتاب ولا السنّة) . فافتوا فی المسائل المنصوصة طبق ماورد فی النص. وأمّا المسائل التی لم یرد فیها نص فقالوا: حل المشکلة یکمن فی أنّه إن کان له شبیه ونظیر فی الأحکام الإسلامیة قاسوا علیه، مثلاً إذا ورد فی باب الصلاة حکم قاسوا الصوم بذلک الحکم، ان ورد حکم فی الحج قاسوا علیه أحکام العمرة، وإذا لم یکن هناک من شبیه فی الأحکام الإسلامیة یجتمع الفقهاء ویتدارسوا مصالح ومفاسد ذلک الأمر ثم یتخذوا بشأنه حکماً وهذا ما أسموه بالاجتهاد (بالمعنی الأخص) .

وبعبارة اُخری فان هناک من قال صراحة: مالم یرد فیه النص لیس له فی الإسلام قانون خاص، وهذه وظیفة الفقهاء فی أن یضعوا له حکماً من خلال الظن وتخفیف ثقل المصالح والمفاسد وما یرونه أقرب إلی المصلحة. وهکذا أصبح الاجتهاد بمعنی حق الفقیه فی التشریع متداولاً بینهم. (1)

وهنا لابدّ من الالتفات إلی أنّ للاجتهاد معنیان مختلفان إذا لم یمیز بینهما فان ذلک یؤدی إلی عدّة نتائج سیئة:

المعنی الأول للاجتهاد هو الاجتهاد العام والذی یعنی استنباط الأحکام من الکتاب والسنة وسائر الأدلة الشرعیة. وهذا هو الاجتهاد الذی یعتقد به کافة علماء الشیعة، وهو الاجتهاد الذی أنکره الأخباریون قولاً واعتقدوا به عملاً، لأنّ کبار الأخباریین یستدلون بالکتاب والسنة لاثبات الأحکام الشرعیة کما یراعون أحکام العام والخاص والمطلق والمقید وأمثال ذلک.

المعنی الثانی للاجتهاد هو الاجتهاد الخاص وهو الاجتهاد فی المسائل التی لم یرد فیها نص فی الکتاب أو السنة، فیلجأ علی ضوئه إلی التشریع وسن الأحکام مع الأخذ بنظر الاعتبار المصالح والمفاسد والتشابه والتناظر. وهذا النوع من الاجتهاد یختص بجمع کثیر من علماء العامة وهو ما یصطلحون علیه بالاجتهاد بالمعنی الأخص. وأمّا ما ذکرنا آنفاً بعدم وجود مثل هذا الاجتهاد لدی علماء الشیعة إنّما یعزی إلی الثر الهائل الذی لدیهم من أحادیث الأئمة

ص:394


1- 1) الاصول العامة للفقه المقارن / 617.

المعصومین علیهم السلام کما یرون أنّ الموارد التی لا نص فیها قلیلة جداً ولا تتطلب الاجتهاد بالمعنی الثانی، وذلک لأنّهم یلجأون فی مثل هذه الحالات إلی القواعد الکلیة أو ما اصطلحوا علیه ب «الاصول اللفظیة» و «العملیة» التی تبیّن حکم المسألة والعجیب أن طائفة من علماء العامة تعتقد بأنّ الموارد التی لانص فیها انّه لا حکم لها «مالا نص فیه لا حکم فیه» وهذه وظیفة العلماء فی وضع الأحکام لمثل هذه الحوادث (والالتفات إلی هذه المسألة یعدّ ضرورة لفهم الکلمات القادمة فی الخطبة) ؛ الأمر الذی یتنافی تماماً وإکمال الشریعة.

4 - إذا ما اعطی حق التشریع ووضع الأحکام فی «ما لا نص فیه» للفقیه وبالالتفات إلی کثرة عدد الفقهاء ولکل منهم الحق فی التشریع، ولیس هنالک من الزام فی جمعهم فی شوری لتصوب حکماً واحداً فانّ ذلک سیؤدی إلی اختلاف الآراء وربما تناقضها فی المسألة الواحدة وهنا یبرز مأزقاً آخر وهو: هل یمکن قبول جمیع هذه الآراء المختلفة علی أنّها حکم اللّه، أم هناک حکم واحد حق والبقیة باطل؟ ولما لم یکن هناک من تفاوت بین هذه الآراء لأنّها صادرة من الفقهاء؛ ولیس هنالک من حکم واقعی للّه لیکون معیاراً فی تمییز الصحیح من السقیم فسوف لن یبقی هنالک من سبیل سوی التمسک بعقیدة التصویب، أو بعبارة أفضل فقد سقطوا فی وادی التصویب وقالوا کل هذه الآراء تمثل الحکم الواقعی! ویعزز ذلک أنّهم یقولون بعدالة الصحابة وأحیاناً عدم خطأهم فی الرأی، ومن هنا کانت هناک آراء متعددة بعدد المجتهدین فی الموضوع الواحد، وکلها تعتبر الحکم الواقعی للمسألة.

فهم حین اعتقدوا بأنّ المرجع فی تعیین الخلافة رغم خطورتها إنّما وکل إلی أهل الحل والعقد (العلماء) فما المانع فی أن یوکل للعلماء الحق فی سن القوانین والأحکام فی المسائل الفرعیة التی لم یرد نص بحقها - ومن هنا ظهرت عقیدة التصویب بکل نتائجها وأخطارها بین طائفة من المسلمین إثر عدم العمل بوصیة الرسول صلی الله علیه و آله والالتزام بحدیث الثقلین.

5 - غلق باب الاجتهاد: فقد أدت هذه المسألة إلی تنامی الآراء والعقائد المختلفة والمتضاربة فی المجتمع الإسلامی وبین فقهاء المسلمین، لتتخذ صبغة خطیرة، کما کانت السبب فی تردید الاُمّة فی مسائلها الدینیة واتاحة الفرصة لأعداء الإسلام بالتفوه ضد الإسلام والمسلمین والأحکام الإسلامیة وهنا انبرت طائفة من المسلمین لتوضع حداً لهذا الوضع

ص:395

المؤسف فارتکبت عملاً قبیحاً تجسد فی غلق باب الاجتهاد. فقد صرحوا بأن هذا الحد یکفی ولا یحق لأحد بعد هذا ممارسة الاجتهاد! وحیث اختلفت الاُمّة طوائف فی الأحکام الشرعیة وذهبت کل طائفة لاتباع عالم. فاختاروا أربعة من هؤلاء الفقهاء ممن لهم أتباع کثیرون (وهم أبو حنیفة ومالک ومحمد بن ادریس الشافعی وأحمد بن حنبل) ثم الزموا الناس بتقلید أحد هؤلاء الأربعة وأبطلوا سائر الآراء والعقائد للحیلولة دون الاختلاف والتمزق؛ بینما لا نری هنالک من دلیل فی الکتاب أو السنّة علی إمامة هؤلاء الفقهاء الأربعة، ولیس لهم أدنی امتیاز علی من سواهم سوی کثرة أتباعهم، کما لم یقم الدلیل علی غلق باب الاجتهاد وحصره بهؤلاء الأربعة لکل عصر ومصر! وکما أشار الإمام علیه السلام فی الخطبة رقم 16 «ألا وأنّ الخطایا خیل شمس حمل علیها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم فی النار» . فانّ هذه الهفوات العظیمة إنّما افرزتها الزلات الاولی حتی تبلورت کسلسلة ارتبطت حلقاتها لتؤدی بالتالی بأصحابها إلی النار. لقد خلق غلق باب الاجتهاد الیوم مشاکل عویصة لفقهاء العامة وعلمائهم؛ وذلک لأنّهم یرون أنفسهم الیوم أمام سیل جارف من المسائل المستحدثة التی لیس لها من حکم فی المذاهب الأربعة؛ ومن هنا انبرت جماعة منهم علانیة واُخری خفیة تطالب بفتح باب الاجتهاد بوجه الفقهاء والخروج من حالة التقوقع والانطواء علی المذاهب الأربعة، کما خاضوا فی ضرورة الافتاء فی المسائل المستحدثة وإعادة النظر فی المسائل السابقة وهم یتساءلون عن علیة حصر الاجتهاد فی المذاهب المذکورة، مع العلم قد ظهر العلماء الذین فاقوهم، وحتی علی فرض عدم تفوقهم علی أسلافهم، فمثل هذا السؤال یبقی مطروحاً، إذا اُغلق باب الاجتهاد فمن یتصدی للإجابة علی المسائل المطروحة الیوم؟

أمّا أتباع أهل البیت علیهم السلام فقد بقوا فی أمان من هذه العاصفة الهوجاء، فهم لم یعتقدوا بغلق باب الاجتهاد (طبعاً الاجتهاد بالمعنی الأول لا الثانی) طرفة عین أبداً، وقد منحوا فقهائهم وعلمائهم حق استنباط الأحکام الشرعیة من أدلتها المعروفة، فی ذات الوقت الذی حظروا فیه الاجتهاد بالمعنی الثانی علی کائن من کان.

سؤال:

هنا سؤال یطرح نفسه: الاجتهاد بالمعنی الأول هو الآخر یقود إلی الاختلاف وعلیه

ص:396

فلیس هنالک من فارق بین الاجتهاد بالمعنی الأول أو الثانی؟

جواب:

إنّ الالتفات إلی نقطة قد یوضح الجواب علی السؤال المذکور، وهی أنّ الاجتهاد بالمعنی الأول یعنی استنباط الأحکام من الکتاب والسنّة، وعلیه فالمحور الأصلی للاجتهاد هو نصوص الکتاب والسنّة التی یجمع علیها الفقهاء، فهناک الوحدة التی تجمع هؤلاء الفقهاء، وإن کان هنالک بعض الاختلاف فی الاستنتاجات؛ إلّاانّ هذه الاختلافات طفیفة عادة، ومن هنا نری وحدة آراء الفقهاء فی غالبیة المسائل المشهورة، ولا یوجد سوی اختلاف بسیط فی بعض تفاصیل المسائل.

أمّا الاجتهاد بالمعنی الثانی فهو لا ینطوی علی محور معین یجتمع حوله الفقهاء، بل المعیار لدی کل فقیه فکره ورأیه، ومن هنا کانت الخلافات لاتعد ولا تحصی، فقد تطالعنا عدّة آراء فی المسألة الواحدة؛ الأمر الذی یشوه سمعة الشریعة الإسلامیة ویسیء إلی کیانها. أضف إلی ذلک فانّ أنصار الاجتهاد بالمعنی الأول الذی یعنی استنباط الحکم من القرآن والسنّة یقولون: إنّ دین اللّه لم ولن یکون ناقصاً، ولیس هنالک من واقعة - بالأمس والیوم والغد - ألا وللّه فیها حکم قد ورد فی العمومات والاطلاقات أو الأدلة الخاصة للکتاب والسنّة وهی واضحة لدی أئمة العصمة علیهم السلام. فمن بلغ باجتهاده ذلک الحکم فقد أصاب، ومن لم یبلغه فقد أخطأ، فان لم یقصر فی مقدمات الاجتهاد واستفرغ مافی وسعه کان معذوراً عند اللّه ومأجوراً. وهذا هو الاعتقاد بالتخطئة فی مقابل الاعتقاد بالتصویب ولذلک یقول أصحاب هذا الاعتقاد «للمصیب أجران وللمخطئ أجر واحد» بینما زعم أنصار الاجتهاد بالمعنی الثانی أن «کل مجتهد مصیب» أی أنّ کافة الأحکام المتناقضة للمجتهدین والتی تمثل آرائهم هی أحکام إلهیة واقعیة حقة (لابدّ من الالتفات والتأمل فی هذا الأمر) .

2 - نتائج القول بالتصویب وغلق باب الاجتهاد

نشیر بصورة مختصرة إلی المفاسد التی ترتبت علی القول بالتصویب وغلق باب الاجتهاد:

ص:397

1 - الاعتراف بنقصان الدین (والعیاذ باللّه) من حیث الأحکام والاعتماد علی آراء الفقهاء وأفکار الأفراد غیر المعصومین من الخطأ فی إکمال أحکام الشریعة وسد النقص.

2 - غلق باب الاجتهاد یعنی الاعتقاد بعدم أحقیة أی فرد فی الاجتهاد بعد الفقهاء الأربعة من العامة! لأنّ فتح هذا الباب قد یؤدی أحیاناً إلی ظهور عشرات الآراء والفتاوی المختلفة فی المسألة الواحدة؛ کما نعلم أنّ غلق باب الاجتهاد، یغلق الطریق علی فقهاء الإسلام فی التصدی للرد علی المسائل المستحدثة فیزج بمسلمی العالم بمأزق خانق لا یمکنه النجاة منه بالنسبة للأحکام الشرعیة.

فالاقتصار علی المذاهب بأربعة تأریخ خطیر ذا شجون، کما دل علی أنّ هذه البدعة فی الإسلام وبسلبها لاستقلالیة الفقهاء قد جرت الویلات. وعلی ضوء ما أورده المقریزی فی کتاب الخطط المقریزیة وکذلک ابن الفوطی وآخرین أنّه لم تکن هناک من ضابطة معینة فی انتخاب هذه المذاهب الأربعة سوی أنّ کثرة المذاهب قد ارعبت ولاة البلدان الإسلامیة المختلفة وأدت إلی ظهور موجة من الفوضی والهرج والمرج من جانب، ومن جانب آخر أنّ العلل السیاسیة والاجتماعیة هی التی أدت إلی انتشار هذه المذاهب فی کافة بلدان العالم الإسلامی؛ وعلیه فلم یکن بالإمکان اسقاطها. ولذلک تواطئ الفقهاء والحکام آنذاک بالوقوف بحزم بوجه کل من یتفوه بما لم یرد فی المذاهب الأربعة المذکورة، والعجیب أنّ هذه المسألة قد حدثت فی القرن السابع عشر. فقد انطلقت فی مصر عام 665 وفی بغداد 631 بحیث قرر أساتذة المدرسة المستنصریة المعروفة فی عام 645 عدم قبول أی طالب ینتمی إلی غیر هذه المذاهب.

وهکذا فقد اغلق باب الاجتهاد بعد مرور سبعة قرون علی ظهور الإسلام وبلوغ الاجتهاد ذروته، لیصبح کافة الفقهاء مقلدین لهؤلاء الأئمة الأربع ففقدوا استقلالیتهم الفقهیة. وما هذا إلّانتیجة طبیعیة لذلک الانحراف الذی وقع فی القرن الأول. فقد اُقصیت العترة الطاهرة عدل القرآن الکریم وأحد الثقلین وفتح باب القیاس والاستحسان والاجتهاد بالرأی وظهرت هذه الآراء المتناقضة التی جرت الفوضی، فکان کل رأی حکم اللّه، والمؤسف له هو

ص:398

أنّ مدرسة أهل البیت علیهم السلام لم تتخذ مکانها حتی فی مصاف المذاهب الأربعة. (1)

فالحق أنّ ذلک الانحراف الأول هو سبب ظهور هذه البدعة، البدعة التی لم یکن هنالک من سبیل سواها.

3-الهرج والمرج الفقهی والقضائی

الذی أفرزته الآراء المتعددة والمتناقضة التی قد یصل عددها أحیاناً إلی عدد المجتهدین؛ ومما لاشک فیه أنّ المشاکل آنذاک تفوق مشاکل المجالس التشریعیة فی عصرنا الحاضر بکثیر، وذلک لأنّ مجالس العصر تشهد علی الأقل حضور الوکلاء لبلد أو منطقة من العالم فی مکان واحد فیتخذ القرارات علی أساس أکثریة الآراء التی تتمتع بالوحدة کحد أدنی بالنسبة لمنطقة معینة؛ أمّا الاجتهاد بالرأی والتصویب فهو یسمح لکل مجتهد من المجتهدین أن یشرع بمفرده، والأعجب من ذلک کل ما یتوصل إلیه من حکم فهو حکم اللّه الواقعی، وخلافاً لمجالسنا المعاصرة التی تکون أحکامها أحکاماً وضعیة بشریة، فانّ أحکام المجتهدین آنذاک تمثل الأحکام الإلهیة التی یلزم الناس بأتباعها.

وأخیراً لا نروم الخروج من بحثنا فی الشرح والتفسیر ولذلک نوکل من أراد المزید بهذا الشأن إلی المصادر المعروفة. (2)

ص:399


1- 1) للوقوف علی التفاصیل انظر کتاب «توضیح الرشاد فی تأریخ عصر الاجتهاد» للمحدث المحقق المرحوم الحاج الشیخ آقا بزرک الطهرانی.
2- 2) أنوار الاُصول 2 / 519 - 543 و3 / 632 - 658، المستصفی للغزالی 2 / 234، الاُصول العامة للفقه المقارن / 305 و617.

ص:400

القسم الثانی: الاختلافات غیر المبررة

اشارة

«أَفَاَمَرَهُمُ اللّهُ سُبْحانَهُ بِالاِاخْتِلافِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحانَهُ دِیناً ناقِصاً فاسْتَعانَ بِهِمْ عَلَی إِتْمامِهِ! أَمْ کانُوا شُرَکاءَ لَهُ، فَلَهُمْ أَنْ یَقُولُوا، وَعَلَیْهِ أَنْ یَرْضَی؟ أَمْ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحانَهُ دِیناً تامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ صَلَّی اللّهُ عَلَیْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَبْلِیغِهِ وَأَدائِهِ، وَاللّهُ سُبْحانَهُ یَقُولُ: «ما فَرَّطْنا فِی الْکِتابِ مِنْ شَیْءٍ» وَفِیهِ تِبْیانٌ لِکُلِّ شَیْءٍ، وَذَکَرَ أَنَّ الْکِتابَ یُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لا اخْتِلافَ فِیهِ فَقالَ سُبْحانَهُ: «وَلَوْ کانَ مِنْ عِنْدِ غَیْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلافاً کَثِیراً» .

الشرح والتفسیر

یفند الإمام علیه السلام فی هذا الکلام بالأدلة المحکمة مسألة الاجتهاد بالرأی وتصویب آراء المجتهدین وبالتالی حق الفقهاء فی اصدار الأحکام، ثم یصنف الإمام علیه السلام ذلک إلی خمسة اُسس ویغلق کافة الطرق علی هولاء، ثم یبین بجلاء تام خطأ هذا اللون من التفکیر.

فقد قال علیه السلام بعد أن تساءل علی نحو الاستنکار عن السب الذی یقف وراء هذا الاختلاف فی المسائل الفقهیة «أفامرهم الله سبحانه بالاختلاف فاطاعوه» .

حقا لا یمکن قبول هذا الامر، فالله واحد أحد یدعو إلی الوحدة ویحذر من الاختلاف والفرق فهو القائل: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَلا تَفَرَّقُوا» (1)وبناءا علی هذا فان

ص:401


1- 1) سورة آل عمران / 103. [1]

الاختلاف تابع من موضع آخر، رام الإمام علیه السلام الإشارة إلیه «أم نهاهم عنه فعصوه» فالحق أنّ هذا الأمر یشکل أحد مصادر الاختلاف؛ غیر أن القضاة الذین یوردون عدّة آراء بشأن مسألة واحدة لایسعهم الاقرار بمثل هذا الاحتمال!

و علیه فان ردّهم علی هذا السؤال سیکون بالسلب. ثم تطرق الإمام علیه السلام إلی الاحتمال الثالث فقال علیه السلام: «اَم انزل الله سبحانه دینا ناقصا فاستعان بهم علی إتمامه» . من المسلم به أنّه لیس هنالک مسلم یقول بنقصان دین الله وإن الله استعان بالعباد لا کماله، بل بالعکس قد صرحت الآیات القرآنیة باکمال هذا الدین من جمیع الجهات «الیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیْکُمْ نِعْمَتِی وَرَضِیتُ لَکُمُ الإِسْلامَ دِیناً» (1).

ثم یورد الإمام علیه السلام الاحتمال الآخر الذی یبدو بطلانه واضحا وضوح الشمس فی رابعة النهار لا أم کانوا شرکاء له، قلهم أن یقولوا، وعلیه أن یرضی» فمن البداهة أنّ من قال یتعدد الآلهة فانّه علیه أن یؤمن بانّ لکل منهم سهم فی التشریع واصدار الأحکام؛ فهل للمسلم الذی ینطلق فی عقیدته من التوحید أن یعتقد بوجود الشرکاء ویری فی الفقهاء والقضاة شرکاء لله؟ وبعبارة اُخری فان أحد فروع التوحید (بعد توحید الذات والصفات) هو توحید الأفعال، أحد تفرعات توحید الأفعال هو توحید الحاکمیة والتشریع؛ وعلی ضوء ذلک فانّ الحکومة لله وحده وتنتهی إلیه، فلا حکم إلّاحکمه ولا أمر إلّاأمره!

و لو لم یکن الأمر کذلک لاختفی الحق سبحانه بقسم من التشریع ثم یفوض القسم الآخر منه للعقول البشریة العاخرة.

و هل لغیره من إحاطة قامة بمصالح الأحکام ومفاسدها! أو یجوز علی الله أن یفوض زمام اُمور عباه لمشرعین یصدر کل منهم حکماً وقانوناً علی ضوء ظنه ورأیه القاصر بحیث یعیش العباد فی هالة من الفوضی والقلق والحیرة فی ظل الآراء المتناقضة المتضاربة!

ثم یتطرق الإمام علیه السلام إلی آخر احتمال فیقول: «أم أنزل الله سبحانه دیناً تاماً فقصر الرسول صلی الله علیه وآله وسلم عن تبلیغه وأدائه» . لا شک ولا شبهة أنّه لیس هنالک من ینسب

ص:402


1- 1) سورة المائدة / 3. [1]

مثل هذا القول إلی النبی صلی الله علیه و آله؛ وذلک لأنّ حتی اُولئک الذین لایقرون بمسألة العصمة بصورة مطلقة ویظنون بعدم وجود الدلیل علی عصمة النبی صلی الله علیه و آله فی کافة المیادین، فانّ الحد الأدنی أنّهم یسلمون بعصمته فی التبلیغ وأداء الوحی، حیث لا یبقی من مفهوم للنبوة والرسالة دون الاعتقاد بالمعنی المذکور.

آنذاک یعود الإمام علیه السلام إلی أصل المسألة فیکشف النقاب عن هذه الحقیقة وهی أنّ الإسلام قد شرع کل ما من شأنه تلبیة حاجات البشریة ومتطلیاتها، وعلیه فالإمام علیه السلام یصادر ما أوردوه من قولهم «ما لا نص فیه لاحکم فیه» بالاستناد إلی قوله «و الله سبحانه یقول: «ما فرطنا فی الکتاب من شیء وفیه تبیان لکل شیء» (1)فالآیتان دلیلان واضحان علی أن الله لم ینزل دیناً ناقصاً عولهم یستعن باحد لا کماله؛ بل جاء فی القرآن کل ما یحتاج إلیه، بعضها فی العمومات وبعضها الآخر فی الأحکام الخاصة التی سیأتی الحدیث عنها إن شاء الله فی مبحث التأملات ولم ینس الإمام علیه السلام أن یسلب حربة التناقض من القضاة الذین یستشهد کل منهم بآیة یتباین مفهوماً وسائر الآیات فقال علیه السلام: «و ذکر أن الکتاب یصدق بعضه بعضا وأنّه لا إختلاف فیه» ثم یعزز الإمام علیه السلام دعوی عدم الاختیارات فی الآیات القرآنیة متشهدا بالقرآن «فقال سبحانه! ولو کان من عند غیر الله لوجدوا فیه إختلافاً کثیراً» (2).

فالواقع أنّ علم الإنسان محدود، وأنّ تقادم الزمان أو تغییر المکان وکشف الظواهر الجدیدة إنّما یدعوه إلی تغییر أفکاره باستمرار، ومن هنا فقد یورد کاتب بعض الموضوعات المتناقضة خلال حیاته، ولیس ذلک بعجیب، هذا من جانب، ومن جانب آخر فان رصید الإنسان النسیان، فلعه یتحدث الیوم عن شیء فینساه بعد شهر أو سنة لیتحدث عن خلافه. إلّا أنّ هذه الاُمور لا تصدق علی الباریء سبحانه العالم بکل شیء «و ما کان وما یکون» والعالم بالمحال لو کان کیف یکون، فلیس لمرور الزمان من أثر علی ذاته المقدسه؛ فهو فوق الزمان والمکان، وناهیک عن هذا فلیس هنالک من مفهوم للنسیان بالنسبة لله سبحانه،

ص:403


1- 1) لابدّ من الالتفات إلی أن قوله «ما فرطنا فی الکتاب من شئی» هو نص الآیة 38 من سورة الانعام، [1] أمّا قوله «فیه تبیان لکل شیء» فهو مضمون الآیة 89 من سورة النحل [2]لا عینها «ونزلنا علیک الکتاب تبیانا لکل شیء» .
2- 2) سورة النساء / 82. [3]

فکیف الحال هذه ان یصدر عنه أدنی إختلاف أو تناقض.

وزیدة الکلام أنّ الإمام علیه السلام قد قند ببیان واضح بلیغ عقیدة التصویب والتمسک بالقیاس والاستمسان والاجتهاد بالرأی، فالله سبحانه أنل دیناً کاملاً وقرآنا جامعا یلبی کافة حاجات البشریة، وإنّ رسول الله صلی الله علیه و آله لم یتوانی فی تبلیغ الرسالة، کما أنّ الله لم یقبل للاُمّة الإسلامیة أی اختلاف ودعا االمة مرارا إلی الاخاء والوحدة. وبناءاً علی ما تقدم فما تفسیر الاعتقاد بصحة الآراء المتناقضة وتصویب الفتاوی المختلفة علی أنّها جمیع حکم الله المطابق للواقع، سوی الانحراف والضلال.

شمولیة القرآن

لقد تضمن القرآن الکریم الآیات الصریحة التی تبیّن کافة اُمور المسلمین ومتطلباتهم وحاجاتهم إلی یوم القیامة. کما صرّحت الروایات الإسلامیة بهذا الأمر، ومن ذلک ما ورد عن الإمام الصادق علیه السلام أنّه قال: «ان الله تبارک وتعالی انزل فی القرآن تبیان کل شیء حتی والله ما ترک شیئاً تحتاج إلیه العباد، حتی لایستطیع عبد یقول لو کان هذا أنزل فی القرآن، إلّاوقد أنزل الله فیه» (1)ولکن هنا یبرز هذا السؤال: إننا نری أحکاماً مختلفة لم ترد فی القرآن الکریم وهذا الأمر لاینسجم وشمولیة القرآن الکریم؛ مثلا لم یرد فی القرآن شیء بشأن عدد رکعات الصلاة والسلع التی تجب علیها الزکاة وتصاب الزکاة وبعض مناسک الحج وعدد اشواط السعی بین الصفا والمروة والطواف ومسائل اُخری فی القصاص والحدود والدیات وآداب القضاء وشرائط المعاملات وأنواع المعاملات المستحدثة وما شاکل ذلک من الموضوعات الشرعیة. وللإجابة علی هذا السؤال لابدّ من الالتفات إلی ثلاثة اُمور:

الأول: أنّ القرآن یشتمل علی الأحکام الکلیة والقواعد العامة والعمومات والاطلاقات التی یتمّ حل أغلب المشکلات علی ضوئها. فمثلاً الآیة «أَوْفُوا بِالعُقُودِ» (2)فی المعاملات والایة

ص:404


1- 1) تفسیر نور الثقلین، 3 / 74، [1]اصول الکافی، 1 / 59 ( [2]هناک احتمالان بشأن هذه الروایة: الأول انّ «لو» شرطیة، والآخر أنّها حرف تمنی و «إلّا» احیاناً للإستثناء واخری للتنبیه، راجع مرآة العقول، 1 / 202. [3]
2- 2) سورة المائدة / 1. [4]

«وَما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ» (1)فی أبواب العبادات و «لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» (2)فی حقوق الو الذین وسائرالآیات من هذا القبیل التی من شأنها الاجابة علی أغلب الأسئلة والمسائل المستحدثة أضف إلی ذلک فان القرآن الکریم صرّح بأنّ السنة النبویة تمثل إحدی المصادر الرئیسیة للأحکام الشرعیة والمعارف الإسلامیة «وَما آتاکُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهیکُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (3)کما وصفة فی آیة اُخری بانّه مبین القرآن ومفسره «وَأَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ لِتُبَیِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَیْهِمْ» (4).

النبی صلی الله علیه و آله من جانبه وعلی ضوء حدیث الثقلین فقد جعل أهل بیته وعترته علیه السلام من مصادر الأحکام الشرعیة والمعارف الإسلامیة، ولو التزم المسلمون بوصیة القرآن والنبی الأکرام صلی الله علیه و آله بما بقی هناک سوال فی مجال الأحکام دون إجابة.

و أخیراً یستفاد من الروایات الإسلامیة المختلفة أنّ للقرآن ظاهر وباطن، وظاهره المعانی والمفاهیم المعلومة لدی الجمیع ویعملون علی ضوئها، أمّا باطنه فهو معانی ومفاهیم اُخری لیس لاحد من سبیل إلیها سوی النبی صلی الله علیه و آله والأئمة المعصومین علیهم السلام، الذین یتعاملون مع الآیات وفق رویة وإدراک آخر.

و بناءاً علی هذا لو إصطف الثقلان (القرآن وأهل البیت) ولم یفصلهما المسلمون عن بعضهما، لا ستفادوا من هذا العدل القرآنی الذی یحل أغلب معضلاتهم.

فقد قال الإمام الصادق علیه السلام: «أنا اعلم کتاب الله وفیه بدء الخلق وما هو کائن إلی یوم القیامة وفیه خیر السماء وخیر الأرض وخیر الجنّة وخبر النار وخبر ما کان وما هو کائن، اعلم ذلک کما أنظر إلی کفی ان الله یقول فیه تبیان کل شیء» (5)وجاء فی نهج البلاغة

ص:405


1- 1) سورة الحج / 78. [1]
2- 2) سورة البقرة / 233. [2]
3- 3) سورة الحشر / 7. [3]
4- 4) سورة النحل / 44. [4]
5- 5) اصول الکافی، 1 / 61 ( [5]کما نقل المرحوم الکلینی فی هذا الباب عدّة روایات) .

«و فی القرآن نبأ ما قبلکم وخیر ما بعدکم وحکم ما بینکم» (1)وقال علیه السلام فی موضع آخر بشأن القرآن «إلّا أنّ فیه علم ما یأتی والحدیث عن الماضی ودواء دائکم ونظم ما بینکم» (2)ولم یقتصر نقل هذه الأحادیث علی أهل البیت علیهم السلام، بل نقلت من طرق العامة أیضا، فقد روی السیوطی فی الدر المنشور عن الصحابی المعروف ابن مسعود «أنّ فیه علم الأولین والاخرین» . وروی عن الاوزاعی فی تفسیر الآیة «و نزلنا علیک الکتاب تبیانا لکل شیء. قال: بالسنة» (3). وقد روی السیوطی فی کتاب الاتقان هذا المعنی عن النبی صلی الله علیه و آله أنّه قال: «فی کتاب الله نبأ ما قبلکم وخبر ما یعدکم وحکم ما بینکم» (4)ثم قال: وقد أورده الترمذی وغیره.

ص:406


1- 1) نهج البلاغة، [1]الکلمات قصار، الحکمة 313. [2]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 158. [3]
3- 3) الدر المنشور 4 / 127 - 128.
4- 4) الاتقان، نوع 65 من العلوم المستفادة من القرآن.

القسم الثالث: أناقة القرآن وعمقه

اشارة

«وَإِنَّ الْقُرْآنَ ظاهِرُهُ أَنِیقٌ وَباطِنُهُ عَمِیقٌ، لا تَفْنَی عَجائِبُهُ، وَلا تَنْقَضِی غَرائِبُهُ، وَلا تُکْشَفُ الظُّلُماتُ إِلاَّ بِهِ» .

الشرح والتفسیر

یختتم الإمام علیه السلام خطیته - فی القسم الثالث - یوصف القرآن الکریم بخمس صفات تنطوی علی حقائق عظیمة بشأن أهمیة القرآن، مشیرا إلی ضرورة عدم غفلة القضاة والفقهاء عن هذا القرآن والاستضاءة بنور حقائقه ومعارفه، إلی جانب الشعور بانّ القرآن یغنیسهم عمّا سواه من المصادر الاُخری سوی السنة التی تستند القرآن یغنیسهم عمّا سواه من المصادر الاُخری سوی السنة التی تستند إلی القرآن وتفسیر مضامینه. فقد قال فی صفته الاولی «و إنّ القرآن ظاهره أنیق» (1).

فالعبارة إشارة إلی فصاحة القرآن وبلاغته، الفاظه موزونة وعباراته رصینه ولآیاته وقع و نغمة خاصة لا تجعل الإنسان یشعر بالکلل أو الملل مهما تلاها، والشواهد علی ذلک أکثر من اَن تحصی نترکها لعدم الخروج من اصل البحث (2).

وأمّا صفته الثانیة «و باطنه عمیق» . غالباً ما یبتعد الإنسان عن رصانة المعنی إذا ما خاض فی جمال الظاهر، والعکس صحیح أیضاً فعادة ما یتعذر علی الإنسان حسن إختیار الألفاظ إذا

ص:407


1- 1) «أنیق» من مادة «انق» علی وزن رمق بمعنی الشیء الجمیل.
2- 2) للوقوف علی المزید راجع کتاب نفحات القرآن، 8 / 114 بحث «اعجاز القرآن من حیث الفصاحة والبلاغة» .

رام الدقة فی أداء المعنی، والخلاصة تبدو عملیة الجمع بین المعنی واللفظ لیست بالهینة؛ الحقیقة التی یمکن مشاهدتها بوضوح فی القرآن الکریم الذی جمع العمق فی المعنی إلی جانب الرصانة والسبک فی اللفظ.

أمّا عمق القرآن فقد تلاشت علی سطحه کافة الأفکار وتصاغرت أمامه جهایذة العقول، و کیف لا یکون کذلک وهو کلام الله الثابع من ذاته المقدسة المطلقة، ولعل المتتبع یشعر بحقیقة هذه الکلمات ارا ما طالع أی من السور القرآنیة لتتجسد أمامه بوضوح الصفتین التین أوردها الإمام علیه السلام بشأن القرآن.

وأمّا الصفة والرابعة للقرآن فهی «لا تفنی عجائبه، ولا تنقضی غرائبه» . ولعل الفارق بین هاتین العبارتین هو أنّ العبارة الاولی تتحدث عن خلود العجائب والحقائق القرآنیة السامیة، و ذلک لأننا الکثیر من الکتب والمؤلفات والمصنفات التی کانت اُعجوبة فی زمانها، إلّاأنّ تقادم الزمان قد سلبها تلک المیزة وجردها من اُعجوبتها، والقرآن لیس کذلک، فلا یزداد قاریء القرآن ومعبده إلّالذة وحلاوة وطلاوة، بل إنّ قراءته قد تشکف له کل یوم ما کان غائباً عنه بالأمس؛ فتظل لألفاظه ومعانیه مواقع السحر فی النفس.

وأمّا العبارة الثانیة فهی تتحدث عن أسرار القرآن التی تتکشف یوما بعد آخر.

أمّا الصفة الأخیرة للقرآن فهی «و لا تکشف الظلمات إلّابه» لیس فقط ظلمة الجهل وظلمة الکفر وإنعدام الإیمان والتقوی، بل لیس لظلمات الحیاة الاجتماعیة والسیاسیة والاقتصادیة دون التعالیم القرآنیة. فالیوم وإن ازدهر العالم من حیث الصناعة وقطع أشواطاً فی الرقی التطور، مع ذلک فهناک الظلمات الهائلة التی ألقت بظلالها المشؤومة علی المجتمعات البشریة التی فأنّ من المعارک والاقتال وسفک الدماء واستضحال أنواع الظلم والجور والاضطهاد والفقر والحرمان، والأنکی من کل ذلک إنعدام الا من والاستقرار وسیادة الفوض والقلق والاضطراب، وما ذلک إلّانتیجة مباشرة لغیاب معانی الإیمان والتقوی والفقر الاخلاقی والمعنوی، ولیس هنالک من سبیل للخروج من هذه المآزق سوی بالتمسک بالقرآن بل الأدهی من ذلک هجر القرآن واللجوء إلی الآراء الظنیة والأفکار البشریة القاصرة علی مستوی الأحکام من قبل قطاعات واسعة من المسلمین.

ص:408

تأمّلان

1- القرآن والمسائل المستحدثة

هنالک سوال یقتدح فی الأذهان وهو: أنّ المجتمع البشری فی حالة حرکة وتطور مستمر بحیث تستجد یومیا عدّة مسائل علی الساحة، فکیف للقرآن أن یواکب هذه الحرکة فی حین تتصف أحکامه بالثبات وعدم التغییر؟ وکیف یسعه الردّ علی المسائل المستحدثة؟

و للإجابة علی هذا السؤال نقول: هنالک نوعان من الأحکام فی القرآن الکریم هما: الأحکام الجزئیة والأحکام الکلّیة. فالاحکام الجزئیة من قبیل الأحکام التی ذکرت للصلاة ککیفیة الوضوء والغسل والتیمم وسائر المسائل کالقبلة وعدد الصلوات وما شابه ذلک.

وأمّا الأحکام الکلّیة فیراد بها القواعد العامة الواردة فی القرآن والتی تتصف بالسعة والشمولیة، کقاعدّة وجوب الوفاء بالعقود والمعاهدات «أَوْفُوا بِالعُقُودِ» (1)وقاعدّة «لا حرج» «و ما جعل علیکم فی الدین من حرج» (2)وقاعدّة «لا ضرر ولا ضرار» التی استفیدت من بعض الآیات القرآنیة، وهی القواعد التی تلبی المتطلبات الإنسانیة فی اضفنا إلی القرآن الاُصول والقواعد الکلیة التی صرّح بها الائمة علیهم السلام فی کلماتهم. بعبارة اُخری: الموضوعات فی حالة تغییر مستمر، أمّا الاُصول الکلیة فهی ثابتة لا یعتربها التغییر، وتغییر الموضوعات لا یعنی سوی تبدل أحکامها حیث تخرج من حکم وتنضوی تحت حکم آخر، وعلیه فاننا نستطیع الیوم وبالاستناد إلی القواعد الکلیة أن نستنبط کافة الإجابات علی المسائل المستحدثة التی لم یرد ذکرها علی وجه الخصوص فی الکتاب والسنة، فجعلها فی کتاب نطلق علیه اسم المسائل المستحدثة، ویقال أن أفضل دلیل علی إمکان الشیء وقوعه (فی إشارة إلی وجود مثل هذه الکتب وبکثرة لاغلب فقهاء الشیعة والتی تصدت للإجابة علی کافة المسائل المسجدة الیوم علی الساحة) .

و من أراد المزید فلیراجع کتب العلماء بشأن المسائل المستحدثة.

ص:409


1- 1) سورة المائدة / 1. [1]
2- 2) سورة الحج / 78. [2]
2- لم لا تنقضی عجائب القرآن

لقد صرّح الإمام علیه السلام فی عبارته الأخیرة بشأن القرآن قائلاً: «لا تفنی عجائبه ولا تنقضی غرائبه» . فکلما تقادم الزمان واجال العلماء والمفکرون أفکارهم فی أسرار القرآن، کشفوا حقائق جدیدة کانت خافیة علیهم، أضف إلی ذلک فانّ حلاوة القرآن وطلاوته حقیقة خالدة لا تعرف معنی للزمان، وهی الحقیقة التی ثبتت لدینا بالتجربة فما أکثر ما قرآنا القرآن وتلوناه و لا نزداد تجاهه سوی حیویة دون أن نشعر بأدنی ملل أو تعب؛ ولا غرو فالقرآن کلام الله، وکلام الله کذاته مطلق لا یقید بالحدود، فهو لیس کلام المخلوق لیکتسب صفات عقله فکره المعروف بالحدود والزمان والمکان، أضف إلی ذلک فانّ الخطاب القرآنی متواصل إلی یوم القیامة، فاودعه الله من الأسرار التی تتجدد علی مدی الزمان.

و نختتم البحث بحدیث الإمام الصادق علیه السلام عن الإمام الرضا علیه السلام أنّ رجلاً سأل الإمام الصادق علیه السلام «ما بال القرآن لایزداد علی الدرس والنشر إلّاغضاضة» فقال الإمام علیه السلام لأنّ الله تبارک وتعالی لم یجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو فی کل زمان جدیدعند کل یوم غض إلی یوم القیامة» . (1)

ص:410


1- 1) میزان الحکمة 8 / 70؛ [1]بحار الانوار 92 / 15. [2]

الخطبة التاسعة عشرة

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

قال للأشعث بن قیس وهو علی منبر الکوفة یخطب فمضی فی بعض کلامه شیء اعترضه الأشعث فیه فقال یا أمیر المؤمنین، هذه علیک لا لک، فخفض علیه السلام إلیه بصره ثم قال:

«ما یُدْرِیک ما عَلَیَّ مِمّا لِی، عَلَیْک لَعْنَةُ اللّهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِینَ! حائِک ابْنُ حائِکٍ! مُنافِقٌ ابْنُ کافِرٍ! وَاللّهِ لَقَدْ أَسَرَک الْکُفْرُ مَرَّةً وَالْإِسْلامُ أُخْرَی! فَما فَداک مِنْ واحِدَةٍ مِنْهُما مالُک وَلا حَسَبُکَ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَی قَوْمِهِ السَّیْفَ، وَسَاقَ إِلَیْهِمُ الْحَتْفَ!

لَحَرِیٌّ أَنْ یَمْقُتَهُ الْأَقْرَبُ، وَلا یَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ» . (1)

قال السید الشریف: یرید علیه السلام انّه اسری الکفر مرة وفی الإسلام مرة واما قوله: دل علی قومه السیف فأراد به حدیثاً کان للأشعث مع خالد بن الولید بالیمامة، غر فیه قومه ومکر بهم حتی أوقع بهم خالد وکان قومه بعد ذلک یسمونه «عرف النار» وهو اسم للغادر عندهم.

ص:411


1- 1) جاء فی کتاب مصادر نهج البلاغة عدم وجود الاختلاف بین العلماء فی نقل هذه الخطبة، قد نقلها من عاش قبل السید الرضی، کأبی الفرج الاصفهانی فی کتاب الاغانی، وقد توفی الاصفهانی قبل نشر نهج البلاغة 44 [1] سنة (مصادر نهج البلاغة،1 / 369) . [2]

الشرح والتفسیر

الاصطدام بمنافق طائش

لابدّ من الإشارة إلی نقطتین قبل الخوض فی شرح هذه الخطبة:

1 - جاء فی التأریخ بشأن الأشعث أنّ أسمه الأشعث معدی کرب، وأبوه قیس الأشجّ سمی الأشجّ؛ لأنّه شُجّ فی بعض حروبهم بن معدی کرب بن معاویة. وأم الأشعث کبشة بنت یزید بن شُرحبیل بن یزید بن امریء القیس بن عمرو المقصور الملک.

کان الأشعث أبداً أشعث الرأس، فسمِّی الأشعث، وغلب علیه حتی نُسی اسمه.

2 - امّا بشأن المناسبة التی دعت الإمام علیه السلام لمخاطبة الأشعث بهذه الکلمات فهناک إختلاف بین العلماء فقد ورد فی روایة أنّ أمیر المؤمنین علیه السلام استوی جالساً علی منبر الکوفة فاخرج کتاباً فیه کلام رسول الله صلی الله علیه و آله أنّه قال: «المسلمون تتکافؤ دماؤهم وهم ید علی من سواهم من أحدث حدثا أو آوی محدثا فعلیه لعنة الله والناس أجمعین» (1).

فانبری الأشعث بن قیس المنافق قائلاً: «هذا والله علیک لا لک» فخفض الإمام علیه السلام إلیه بصره فخاطبه بهذه الکلمات أمام الملأ. ولعل مراد الأشعث بن قیس إذا کانت دماء المسلمین متکافئة وهم ید علی من سواهم، فما معنی قتالک لطائفة من المسلمین؟ (و الحال أن المنافقین الذین أوقدوا نار الجمل وصفین والنهروان کانوا یرون الإمام علیه السلام خلیفة رسول الله صلی الله علیه و آله فبالاضافة إلی نص النبی صلی الله علیه و آله علی خلافته فقد بایعه الناس) .

نعود الآن إلی شرح الخطبة، فقد رد الإمام علیه السلام علی الأشعث بن قیس حین اعترضه بقوله «یا أمیرالمؤمنین هذا علیک لا لک» فقال: «ما یدریک ما علی ممّا لی» .

حیث أراد الإمام علیه السلام أنّک لم تفهم کلامی وما أرید أن أقول. فمرادی هو دعوة المسلمین إلی الوحدة وانبههم إلی خطاهم فی مسألة التحکیم لیرعووا عن تکرار مثل هذه الاخطاء، إلّاأنّک فهمت الکلام بالعکس. ثم اغلظ علیه علیه السلام فقال: «علیک لعنة الله ولعنة اللاعنیین» .

و یشهد تاریخ الأشعث وسیرته الخبیثة أنّه کان مستحقاً لمثل هذه اللعنة وعلی حد قول ابن أبی الحدید فانّ کل فساد فی خلافة علی علیه السلام وکل اضطراب حدث فاصله الأشعث (2)ثم

ص:412


1- 1) ورد فی عدّة روایات ان المراد بقوله «من أحدث حدثا» القتل وسفک الدماء وهو المعنی الانسب لهذه العبارة، راجع وسائل [1]الشعیة، 19 / 11-19 ابواب القصاص، الباب 4و8.
2- 2) شرح نهج البلاغة لإبن أبی الحدید 2 / 279. [2]

قال علیه السلام «حائک بن حائک، منافق بن کافر» .

إختلفت أقول الشرّاح بشأن المراد من «حائک» فقد حملها البعض علی المعنی الظاهری علی أنّ الحیاکة کانت شغلاً للأشعث وأبیه وقد کانت مهنة تمارس من الطبفة الوضیعة فی المجتمع آنذاک البعیدة عن معانی المعارف الدینیة والاداب الاجتماعیة والمدنیة، غیر أنّ هذا المعنی لاینسجم وما ورد فی ترجمة الأشعث وأبیه؛ لأنّهما لم یکونا یعملان بهذه المهنة.

و ذهب البعض الآخر إلی أنّ المراد بها الإنسان المتکبر والأنانی لأنّ احد معانی «حائک» بمعنی الشخص الذی یتبختر فی مشیه ویتکبر (1)وأخیراً قیل بأنّ المراد بها المعنی الکنائی وهو حیاکة الأباطیل والأکاذیب وهذا ما کانت علیه سیرة الأشعث وأبیه؛ ولا تقتصر هذه الکنایة علی اللغة العربیة فحسب بل وردت فی سائر اللغات أیضاً.

والجدیر بالذکر فانّ هناک روایة أشارت بوضوح إلی هذا المعنی، فقد ورد الکلام عن الحائک عند الإمام الصادق علیه السلام فقال علیه السلام: «انّه ملعون، الحائک ملعون» ثم قال علیه السلام فی تفسیر ذلک «إنّما ذلک الذی یحوک الکذب علی الله وعلی رسوله» (2).

إمّا أنّ الإمام علیه السلام عده منافقاً فذلک ممّا لا نقاش فیه لأنّ أفعاله فی زمان حکومة الإمام علیه السلام إنّما تشیر إلی أنّه کان من رؤوس النفاق، فقد کان یشکل أحد العوامل التی أدت إلی شهادة أمیرالمؤمنین علی علیه السلام وفشل المسلمین فی معرکة صفین ونشوب معرکة النهروان وبروز مسألة التحکیم، وقد کان فی أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام کما کان عبد الله بن أبی بن سلول فی أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله کل واحد منهما رأس النفاق فی زمانه. (3)وزیدة الکلام فانّ نفاقه أشهر من نار علی علم، وامّا التعبیر بالکفار عن أبیه فذلک من مسلمات التاریخ حیث کان من المشرکین وقد قتل فی الجاهلیة إثر خلافات قبلیة.

ثم قال علیه السلام: «والله لقد أسرک الکفر مرة والإسلام اُخری! فما فداک من واحدة منهما مالک ولاحسبک» . فقد أورد ابن أبی الحدید: فأمّا الأسر الذی أشار إلیه أمیرالمؤمنین علیه السلام إلیه فی

ص:413


1- 1) «حائک» : وتأتی أحیانا من مادة «حوک» بمعنی الحیاکة والنسیج، وتأتی أحیانا من «حیک» بمعنی التکبر والخیلاء أثناء المشی.
2- 2) وسائل الشیعة، 12 / 101، الباب 23، من أبواب ما یکتسب به، الحدیث 2. [1]
3- 3) شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 1 / 296. [2]

الجاهلیة فقد ذکره ابن الکلبی فی «جهرة النسب» فقال: إنّ مُرادا لما قتلت قیساً الأشجّ، خرج الأشعث طالباً بثأره، فخرجت کِندة مُتساندین علی ثلاثة ألویة: علی أحد الألویة کَبْس ابن هانی بن شُرَحْبیل بن الحارث بن عدیّ بن ربیعة بن معاویة الأکرمین ویعرف هانی بالمطلع، لأنّه کان یغزو فیقول: اطّلعتُ بنی فلان، فسمِّی المُطلِع، وعلی أحدها القشعم أبو جبر بن یزید الأرقم. وعلی أحدها الأشعث أبو جبر، وأسر الأشعث، ففُدی بثلاثة آلاف بعیر، لم یفدَ بها عربی بعده ولا قبله، وأمّا الأسر الثانی فی الإسلام، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله لما قدمت کنده حجّاجاً قبل الهجرة، عرض رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله نفسه علیهم، کما کان یعرض نفسه علی أحیاء العرب، فدفعه بنو وَلیعَةَ، من بنی عمرو بن معاویة ولم یقبلوه، فلما هاجر صلی الله علیه و آله وتمهدت دعوته، وجاءته وفود العرب، جاءه وفد کِندة، فیهم الأشعث وبنو وَلیعةَ فأسلموا فأطعم رسول اللّه صلی الله علیه و آله بنی وَلیعة طُعمة من صدقات حَضْرَ مَوت، وکان قد استعمل علی حَضْرَ موت زیاد بن لبید البیاضیّ الأنصاری، فدفعها زیاد إلیهم، فأبوا أخذها، وقالوا: لا ظهر لنا، فابعث بها إلی بلادنا علی ظهر من عندک، فأبی زیاد، وَحَدَث بینهم وبین زیاد شرّ، کاد یکون حرباً، فرجع منهم قوم إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله، وکتب زیاد إلیه علیه السلام یشکوهم.

وفی هذه الوَقعة کان الخبر المشهور عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله قال لبنی وَلیعةَ: «لَتنَتَهُنّ یا بنی وَلیعة، أولاً بعثَنّ علیکم رجلاً عدیل نفسی، یقتل مُقاتلتکم، وبشیء ذراریکم» . قال عمر بن الخطاب: فما تمنیت الإمارة إلّایومئذ، وجعلت أنصب له صدری رجاء أن یقول: هو هذا، فأخذ بید علی علیه السلام، وقال: «هو هذا» .

ثم کتب لهم رسول اللّه صلی الله علیه و آله إلی زیاد، فوصولا إلیه الکتاب، وقد توفّی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وطار الخبر بموته إلی قبائل العرب، فارتدّت بنو وَلیعة، وغنّتْ بَغایاهم، وخَضَبْنَ له أیدیهُنَّ.

وقال محمد بن حبیب: کان إسلام بنی وَلیعه ضعیفا، وکان رسول اللّه صلی الله علیه و آله یعلم ذلک منهم. ولما حجّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله حجّة الوداع، وانتهی إلی فم الشَّعب دخل أسامة بن زید لیبول، فانتظره رسول اللّه صلی اللّه علیه وآله، وکان أسامة أسوة أفْطس، فقال بنو وَلیعةَ: هذا الحبشی حَبَسنا! فکانت الرّدة فی أنفسهم.

قال أبو جعفر محمد بن جریر: فأمّر أبوبکر زیاداً علی حضر موت، وأمره بأخذ البیعة علی أهلها واستیفاء صدقاتهم، فبایعوه إلّابنی ولیعة، فلما خرج لیقبض الصّدقات من بنی عمرو بن معاویة، أخذ ناقةً لغلام منهم یعرف بشیطان بن حُجر، وکانت صفیّة نفیسة، اسمها شذرة، فمنعه

ص:414

الغلام عنها، وقال: خذ غیرها، فأبی زیاد ذلک ولجّ، فاستغاث شیطان بأخیه العدّاء بن حُجْر، فقال لزیاد: دَعْها وخذ غیرها، فأبی زیاد ذلک، وَلَجّ الغلامان فی أخذها ولجّ زیاد وقال لهما: لا تکونَنّ شذرة علیکما کالبَسوس، فهتف الغلامان: یالعمرو! أُنضام ونُضطهد! إنّ الذلیل مَنْ أکِلَ فی داره. وهتفا بمسروق بن معدی کرب، فقال مسروق لزیاد أطلقها.

ثم قام فأطلقها، فاجتمع إلی زیاد بن لَبید أصحابه، واجتمع بنو وَلیعة، وأظهروا أمرهم، فبیّتهم زیاد وهم غارون، فقتل منهم جمعا کثیر، ونهب وسبی، ولحق فلُّهم بالأشعث بن قیس، فاستنصروه فقال: لا أنصرکم حتی تملِّکونی علیکم. فملّکوه فخرج إلی زیاد فی جمع کثیف، وکتب أبو بکر إلی المهاجر ابن أبی أمیة وهو علی صنعاء، أن یسیر بمن معه إلی زیاد، فاستخلف علی صنعاء، وسار إلی زیاد، فلقواالأشعث فهزموه وقُتِل مسروق، ولجأالأشعث والباقون إلی الحصن المعروف بالنُّجَیْر. فحاصرهم المسلمون حصاراً شدیداً حتی ضعفوا، ونزل لیلا إلی المهاجر وزیاد، فسألهما الأمان علی نفسه، حتی قدما به علی أبی بکر فیری فیه رأیه؛ علی أن یفتح لهم الحصن ویُسْلم إلیهم من فیه. فحملواالأشعث إلی أبی بکر مؤثقاً فی الحدید، فعفی عنه وزوّجه، أخته أمّ فروة بنت أبی قُحافة وکانت عمیاء فولدت للأشعث محمداً وإسمعیل وإسحاق.

تأمّلان

1- علة هذا الاصطدام العنیف

لعل هنالک من یصاب بالذهول ممن لا یعرف مدی نفاق الأشعث بن قیس لهذا الاصطدام العنیف الذی اتبعه الإمام إزائه حتی خاطبه بلعنة الله والناس أجمعین، ثم وصفه بتلک الصفات الشائنة کقوله: «حائک بن حائک، منافق بن کافر، والله لقد أسرک الکفر مرة والإسلام اُخری! فما فداک من واحدة منهما مالک ولا حسبک! وإن إمراً دلّ علی قومه السیف وساق إلیهم الحتف! لحری أن یمقته الأقرب، ولا یأمنه إلأبعد» ألا أنّ أدنی نظرة إلی التاریخ الاسود الذی حفلت به حیاة هذا المنافق لتکشف عن مدی فساده وافساده للوسط الإسلامی، بل کان منقوتا حتی فی الجاهلیة، إلی جانب کونه الید الخبیثه فی تأجیج نار الحروب حتی اشتهر بلقب «عرف النار» .

ص:415

نعم، لیس هنالک ما یثیر الدهشة والعجب فی مخاطبته بهذه الکلمات من قبل الإمام علیه السلام.

والواقع لم یرد فی کلام الإمام علیه السلام سوی بعض صفاته الشنیعة التی تحتم علی القائد الحکیم فی ظل بعض الظروف أن یعری بعض الأفراد المتآمرین أمام أعین الاُمّة وانظارها لکی لا تنطلی علیها حیله والأعیبه، ولا سیما طائفة الشباب من المجتمع التی قد لا تمتلک الاطلاع الکافی عن حیاة وماضی اُولئک الأفراد، اذن فقد کانت کلماته من قبل التعریف به للاُمّة، لأنّها إنطلقت بدافع الإساءة والسب والشتم.

2- کیف صبر الإمام علیه السلام علی هذا المنافق

لعل ما ورد فی الخطبة المذکورة یثیر لدی البعض هذا السؤال:

إذا کانت للأشعث بن قیس مثل هذه السابقة فی الغدر والنفاق واثارة القلاقل والمفاسد، لم صبر علیه الإمام علیه السلام ولم یأمر بقتله؟ والجواب علی هذا السؤال هو أن تعامل أئمة المسلمین مع عناصر النفاق ینطوی علی شیء من التعقبید؛ فقد کانت عناصر النفاق تعیش الازدواج فی تظاهرها بالاسلام وأدائها لشعائره من قبیل الصوم والصلاة وقراءة القرآن، واضمارها للکفر والتآمر والخیانة والفساد وعلیه فالاصطدام بهم قد یؤدی إلی إثارة بعض التوترات وتعالی أصوات الرأی العام فی قتل المسلمین من أهل القبلة دون التورع فی سفک دمائهم، ولا سیما بالنسبة للأشعث الذی کان ینتمی إلی قوم وقبیلة؛ الأمر الذی یصعد من حدة التوتر لا محالة.

و قد شهد الرسول صلی الله علیه و آله مثل هذه المشکلة، بل کانت أعظم حدة ممّا هی علیه فی عهد أمیرالمؤمنین علیه السلام حتی ورد عنه صلی الله علیه و آله أنّه قال: «لولا أنّی أکره أنّ یقال ان محمداً صلی الله علیه و آله استعان بقوم حتی إذا ظفر بعدوه فتلهم لضربت أعناق قوم کثیر» . (1)

أجل فقد کانت هنالک طوائف من المنافقین التی إندست بین صفوف المسلمین، بل کانت تشهد حتی الغزوات إلی جانبهم، ولعل الاصطدام بهم کان یعنی أن الإسلام لایقیم وزنا لدماء المسلمین، ومن هنا لم نسمع بان رسول الله صلی الله علیه و آله أمر بقتل أحدهم طیلة حیاته المبارکة، إلّاأنّ ذلک لم یکن لیمنع الرسول صلی الله علیه و آله بل القرآن فی التصدی لهم وتعریتهم أمام الاُمّة.

ص:416


1- 1) وسائل الشیعة، أبواب حد المرتد / الباب 5 ح 3. [1]

الخطبة العشرون

اشارة

ومن کلام له علیه السلام

وفیه ینفر من الغفلة وینبه إلی الفرار للّه

«فَإِنَّکُمْ لَوْ قَدْ عَایَنْتُمْ مَا قَدْ عَایَنَ مَنْ مَاتَ مِنْکُمْ لَجَزِعْتُمْ وَوَهِلْتُمْ، وَسَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَلَکِنْ مَحْجُوبٌ عَنْکُمْ ما قَدْ عایَنُوا، وَقَرِیبٌ ما یُطْرَحُ الْحِجابُ! وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ، وَهُدِیتُمْ إِنِ اهْتَدَیْتُمْ، وَبِحَقٍّ أَقُولُ لَکُمْ: لَقَدْ جاهَرَتْکُمُ الْعِبَرُ، وَزُجِرْتُمْ بِما فِیهِ مُزْدَجَرٌ، وَما یُبَلِّغُ عَنِ اللّهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّماءِ إِلاَّ الْبَشَرُ» . (1)

الشرح والتفسیر

طرح الحجب قریباً

لقد حذر الإمام علیه السلام الاُمّة من الغفلة ودعاها للتحلی بالیقظة وتدارک ما فاتها من خلال العبودیة والطاعة خشیة من الأحداث التی تتنظرها فی المستقبل القریب. فقد استهل

ص:417


1- 1) أورد المرحوم الکلینی فی کتاب الکافی فی باب «ما یجب من حق الإمام علی الرعیة» بعض هذه الخطبة فی ذیل روایة (راجع کتاب الکافی، 1 / 405 ح 3، باب ما یجب من حق الإمام علی الرعیة) . [1]

کلامه علیه السلام بالقول «فانّکم لو قد عاینتم ما قد عاین من مات منکم لجزعتم ووهلتم (1)وسمعتم واطعتم» .

و الذی یستفاد من الروایات أنّ الإمام علیه السلام قد القی هذه الخطبة فی الجمعة الاولی بعد البیعة، و قد حذر الاُمّة - طبق روایة الکافی - من خیانة ائمتها ودعاها إلی الوحدة ورص الصفوف واجتناب الاختلاف والفرقة، ثم أورد هذه الکلمات لتأکید المعنی المذکور. امّا ما هی المواضیع التی سیشهدها الإنسان فی عالم ما بعد الموت بعد أن تطرح عنه الحجب فیسوده القلق والاضطراب والجزع، فهذا ممّا اختلفت فیه أقوال العلماء، لکن المسلم به أن هناک موضوعین مهمین: أحدهما انّه سیری نتائج أعماله وما ینتظره من جزاء وعقاب علیها، والثانی مدی الحسرة والأسف الذی سیشعر به تجاه تقصیراته التی صدرت منه فی حیاته الدنیا، الإمکانات التی کان من شأن إستثمارها أن تبلغ به السعادة والفلاح والفوز بالقرب الإلهی ومجاورة الرحمن، غیر أنه ضیع کل تلک الفرص، والادهی من ذلک لاسبیل إلی الرجوع إلی الحیاة ثانیة.

ثم قال علیه السلام: «ولکن محجوب عنکم ما قد عاینوا، وقریب ما یطرح الحجاب» نعم أنّ هذه الحجب هی التی جعلتکم تغطون فی هذه الغفلة وتتعلقون بالدنیا وتغترون بها، ولکن اعلموا إنّ هذه الحجب آیلة إلی الزوال وسترون الاشیاء والحقائق کما هی حیث لاینفع حینها القلق والجزع والفزع، کما لیس هنا لک من مجال للتوبة.

وهنا یبرز هذا السؤال: لم لا یطرح الباریء سبحانه هذه الحجب عن الإنسان فی الحیاة الدنیا لینتبه إلی نفسه ولا یعیش السکر والغفلة؟ یبدو أنّ الآیات القرآنیة قد تکفّلت بالإجابة علی هذا السؤال: فلو طرحت هذه الحجب ورأی الناس الحقائق علی صورتها فانّ أدنی تمرد سیؤدی إلی مواجتهم للعذاب الشدید حیث لم یعدّ هنالک من عذر للتقصیر.

فقد صرّحت الآیة الثامنة من سورة الانعام و «ولو أنزلنا ملکاً لقضی الأمر ثم لا ینظرون» .

ص:418


1- 1)«وهلتم» من مادة «وهل» علی وزن «وهب» بمعنی فقد صبره فی مقابل الحوادث الصعبة، وتأتی بمعنی الخوف واحیانا بمعنی التأوه والأنین.

و بغض النظر عن هذا الأمر فانّ الإیمان من جراء مشاهدة الحقائق المترتبة علی ما بعد الموت سوف لن یکون مدعاة للعبودیة والطاعة وسیکون نوعاً من الاجبار والاضطرار، کما نشاهد ذلک فی الأفراد - حتی الصبیة منهم - حین یبدون ردود فعلهم المباشرة إذا ما إقتربت أیدیهم من النار، فاجتناب المعصیة علی هذا الضوء سوف لن یکون بدافع من الورع والتقوی و العبودیة أبداً.

أمّا قوله علیه السلام «قریب ما یطرح الحجاب» فعمر الإنسان مهما کان لیس سوی لحظات عابرة مقارنة بعمر الدنیا وزمان الآخرة. ثم أشار الإمام علیه السلام إلی مسألة مهمّة بهذا الشأن وهی أنّکم وإن لم تروا عالم ما بعد الموت، إلّاأنّ الأدلة علیه قائمة لدیکم ومعالمه واضحة أمامکم «ولقد بصرتم ان ابصرتم، واسمعتم ان سمعتم، وهدیتم إن اهتدیتم» .

وعلیه فلیس هنالک من عذر لمن ضل السبیل وأخطأ المسیرة، فالحقائق المرتبطة بعالم الآخرة وان حجبت عنکم، إلّاأنّکم علی علم بها من خلال ثلاثة طرق: الأول من الاعتبار بما تشاهدونه فی هذا العالم، فاثار الفراعنة وقبور الأسلاف لأدلة واضحة علی العاقبة المریرة التی تنتهی إلیها مسیرة الأقوام الظالمة والتی تشیر إلی أنّ الله بالمرصاد، کما لدیکم الکتب السماویة و الرسالات النبویة، أضف إلی ذلک فانّ الأدلة العقلیة لیست بالقلیلة وهی تقودکم بکل بساطة إلی المعاد والیوم الآخر.

و علیه فعبارته علیه السلام إنّما تشیر إلی الأدلة الحسیة والنقلیة والعقلیة.

کما یحتمل أن تکون الجملة الاولی إشارة إلی الأدلة الحسیة والعقلیة (لأنّ البصیرة تطلق علی الإدراک العقلی أیضا) والجملة الثانیة تلمح إلی الأدلة النقلیة، بینما تشیر الجملة الثالثةالهدایة الناجعة من هذه الادلة. ثم قال علیه السلام: «وبحق أقول لکم: لقد جاهرتکم العبر»

فالعالم ملییء بحوادث العبرة والاعتبار التی لا تخفی علی أحد، فتلک آثار الفراعنة والأقاصرة والأکاسرة التی تخبر عن أحوال من کان من الاُمم السالفة. وهذا ما أشار إلیه القرآن الکریم بقوله: « وَ إِنَّکُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَیْهِمْ مُصْبِحِینَ* وَبِاللَّیْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (1)

و قال ایضا: «کَمْ تَرَکُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُیُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ کَرِیمٍ * وَنَعْمَةٍ کانُوا فِیها فاکِهِینَ* کَذ لِکَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِینَ» . وقال فی موضع آخر «فَما بَکَتْ عَلَیْهِمُ السَّماءُ وَالأَرْضُ وَما کانُوا مُنْظَرِینَ» (2).

ص:419


1- 1) سورة الصافات / 137-138. [1]
2- 2) سورة الدخان / 25-29. [2]

فقد شحن القرآن بهذه الآیات إلی جانب الروایات الإسلامیة التی أکدت هذا المعنی. الاُدباء والشعراء تعرضوا لهذه الحوادث فی نتاجانهم ممّا یثبت حقیقة قوله علیه السلام: «لقد جاهرتکم العبر» . ثم قال علیه السلام: «و زجرتم بما فیه مزدجر» (1). ولعل هذا الزجر یستند إلی لسان التکوین الذی ینطلق من أعماق التاریخ واخبار الماضین کما صور ذلک القرآن الکریم «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الأَنْباءِ ما فِیهِ مُزْدَجَرٌ» (2).

أو عن طریق لسان التشریع والوحی الذی ورد فی الکتب السماویة. وعلیه فقد تمت الحجة تکویناً وتشریعاً ولم یعدّ هنالک من عذر. ثم قال علیه السلام: «و ما یبلغ عن الله بعد رسل السماء إلّا البشر» . فما هذا الانتظار؟ أتتوقعون أن تهیط علیکم الملائکة ویتلون علیکم الآیات؟ فقد تشدق بذلک الکفار علی عهد النبی صلی الله علیه و آله قائلین: «لَوْ ما تَأْتِینا بِالمَلائِکَةِ إِنْ کُنْتَ مِنَ الصّادِقِینَ» (3). فرد علیهم القرآن بالقول: «ما نُنَزِّلُ المَلائِکَةَ إِلّا بِالحَقِّ وَما کانُوا إِذاً مُنْظَرِینَ» (4)وخلاصة القول فان الله قد أتم حجته عن طریق المشاهدات الحسیة لآثار الاُمم السابقة ومن خلال العقل وأخیراً الوحی، ولیس لاحد أن یخرج عن سبیل الطاعة بحجة «لولا أنزل علینا الملائکة» .

ملاحظة: عالم ما بعد الموت

صحیح أنّ هنالک الاغشیة الغلیظة التی تحول بیننا وبین ذلک العالم وأنّ الحجب الظلمانیة لا تدعنا نری حوادث عالم البرزخ (و ینبغی أن یکون الأمر کذلک؛ فلو طرحت الحجب لفقد الامتحان حرارته ولا نطلق الجمیع فی حالة شبه إضطراریة نحو الحق فلم یعدّ هنالک من معیار لتمییز المطیع من العاصی) ، غیر أنّ الآیات القرآنیة والروایات الإسلامیة الواردة عن أئمة

ص:420


1- 1) «زجرتم» و «مزدجر» من مادة «زجر» بمعنی الصدعن عمل بصوت عال، ثم اطلق علی کل منع صدر کما یستعمل فی التهی عن الذنوب.
2- 2) سورة القمر / 4. [1]
3- 3) سورة الحجر / 7. [2]
4- 4) سورة الحجر / 8. [3]

العصمة علیه السلام قد أشارت إلی طبیعة هذا العالم المرعب، کما بینت مدی الهلع الذی یعتری الإنسان حین مشاهدته لملک الموت وحین یری ما عمل حاضرا أمامه، فینطلق صوته «ربّ ارجعون لعلی أعمل صالحا فیما ترکت» (1)فیأتیه الجواب بالسلب، فلیس هنالک من سبیل إلی الرجعة کاستحالة عودة الجنین إلی رحم اُمّه.

و قد أشار الإمام علی علیه السلام فی بعض خطبه فی نهج البلاغة إلی هذا الأمر، من ذلک أنّه قال: «یفکر فیم أفنی عمره وفیم أذهب دهره ویتذکر أموالاً جمعها اغمض فی مطالبها. . . واشرف علی فراقها تبقی لمن ورائه» (2)أجل أنّ کل هذا الجزع والفزع من جراء مشاهدة ذلک العالم الخطیر ورؤیة ملک الموت. وقد أسمعنا أولیاء الله من ائمة الدین ما ینبغی سماعه عن تلک المنازل المرعبة، إن کانت لنا آذانا صاغیة.

«اللّهم رزقنا عیناً بصیرة واذناً سمیعة وقلباً حافظاً، لنتزود لتلک الدار قبل وفاتنا وفوات الأوان، فنحلق إلی ذلک العالم بقلب مطمئن ونفس واثقة ونفوز بقرب اولیائک من الشهداء والصدیقین «و حسن اُولئک رفیقا» .

اللّهم تقبل منّا هذا الجهد المتواضع ومن علینا باکماله بفضلک ورحمتک.

الختام

النصف من شهر رمضان المبارک

الولادة المیمونة للإمام المجتبی علیه السلام

سنة 1416 الموافق 7/3/1995 م

ص:421


1- 1)سورة مؤمنون / 99 - 100. [1]
2- 2) نهج البلاغة، الخطبة 109. [2]

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.